ﰡ
وتسمى سورة لم يكن وسورة القيمة، وسورة البرية، وسورة منفكين، مدنية، ثمان آيات، أربع وتسعون كلمة، ثلاثمائة وتسعون حرفا
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي عبدة الأصنام مُنْفَكِّينَ عن كفرهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) وهي الرسول وسمي بالبينة لأن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز أي أن الكفار من الفريقين كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة، والإنجيل وهو محمد عليه السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يعدون اجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، وقيل: إن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإلى أن جاءتهم البينة أي التي كانت ذاته بينة على نبوته، وقيل: المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى أتاهم بيان ما سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى من صفات محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقرئ «والمشركون» عطفا على الموصول رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بالرفع بدل كل من كل من البينة، وقرأ عبد الله «رسولا» بالنصب حالا من «البينة» يَتْلُوا صُحُفاً أي كتبا مُطَهَّرَةً (٢) أي منزهة عن الباطل فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) أي في تلك الكتب أحكام مستقيمة تبين الحق من الباطل، وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) أي وما اختلفوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الموعود في كتابهم دلالة جلية، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و «الواو» للحال و «اللام» بمعنى الباء أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة، والإنجيل إلا بأن يعبدوا الله جاعلين عبادتهم خالصة له تعالى لا يريدون رياء ولا سمعة، وقرأ عبد الله «إلا أن يعبدوا الله» بإبدال «اللام» ب «أن» حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) أي وذلك المذكور من عبادة الله بالإخلاص وإقام الصلاة، وإعطاء الزكاة دين المستقيم و «الهاء» هاهنا قافية السورة، وقرئ الدين القيمة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وبدأ الله بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته صلّى الله عليه وسلّم فجنايتهم أعظم لأنهم أنكروا مع العلم به وأيضا إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقدم حق الله على حق نفسه فكأنه تعالى قال له: كما قدمت حقي على حقك فأنا أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر فأهل الكتاب طعنوا في الرسول والمشركون طعنوا في الله أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) أي الخليقة فهم شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) قرأ نافع، وابن ذكوان «البريئة» بالهمز في الموضعين، والباقون بياء مشددة جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ معدن النبيين والمقربين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي الأربعة وهي الخمر، والماء، والعسل، واللبن خالِدِينَ فِيها أَبَداً و «خالدين» حال من مقدر فعامله
محذوف أي دخلوها، ولا يجوز أن يكون حالا من «هم» في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ حال من «جزاؤهم» أو ظرف له و «أبدا» منصوب ب «خالدين».
لطيفة: قال بعض الفقهاء: لو قال لفلان: علي كذا فهو إقرار بالدين، ولو قال: لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون، وله أن يدعي الوديعة، ولو قال: لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال: لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا إذا عرفت هذا، فقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يفيد انه وديعة والوديعة عين، وهو أشرف من الدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأن يعظمهم ويمدحهم فإن الرضا عن العامل غير الرضا بعمله، وَرَضُوا عَنْهُ أي فرحوا بما جازاهم من الثواب وبما أعطاهم من أنواع الكرامات. ذلِكَ أي المذكور من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨) وصاحب الخشية هو العالم بشئون الله تعالى، فإن الخشية مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية.