تفسير سورة البينة

الدر المصون
تفسير سورة سورة البينة من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الكتاب﴾ : متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ مِنْ فاعل «كفروا».
قوله: ﴿والمشركين﴾ : العامَّةُ على قراءةِ «المشركين» بالياء عطفاً على «أهل» قَسَّمَ الكافرين إلى صِنْفَيْن: أهلِ كتابٍ ومشركين. وقرئ «والمشركون» بالواو نَسَقاً على «الذين كفروا».
قوله: ﴿مُنفَكِّينَ﴾ خبرُ يكون. ومُنْفَكِّينَ اسمُ فاعلٍ مِنْ انْفَكَّ. وهي هنا التامَّةُ، فلذلك لم يَحْتَجْ إلى خبرٍ. وزعم بعضُهم أنها هنا ناقصةٌ وأنَّ الخبرَ مقدرٌ تقديره: منفكِّين عارفين أَمْرَ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الشيخ: «وحَذْفُ خبرِ كان [وأخواتِها] لا يجوزُ اقتصاراً ولا اختصاراً، وجعلوا قولَه:
٤٦١ - ٢-.....................
67
يَبْغي جِوارَكِ حينَ ليسَ مُجِيرُ
أي: في الدنيا ضرورةً» قلت: وَجْهُ مَنْ منع ذلك أنه قال: صار الخبرُ مطلوباً من جهتَيْن: مِنْ جهة كونِه مُخْبَراً به فهو أحدُ جُزْأي الإِسناد، ومِنْ حيث كونُه منصوباً بالفعلِ. وهذا مُنْتَقَضٌ بمعفولَيْ «ظنَّ» فإنَّ كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران، ومع ذلك يُحْذَ‍فان - أو أحدُهما - اختصاراً، وأمَّا الاقْتصارُ ففيه خِلافٌ وتفصيلٌ مر‍َّ تفصيلُه في غضونِ هذا التصنيفِ.
قوله: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ﴾ : متعلقةٌ ب «لم يكنْ» أو ب «مُنْفَكِّين».
68
قوله: ﴿رَسُولٌ﴾ : العامَّةُ على رفعِه بدلاً من «البيِّنة» : إمَّا بدلَ اشتمالٍ، وإمَّا كلٍ مِنْ كل على سبيلِ المبالغة، جَعَلَ الرسولَ نفسَ البيِّنة، أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: بَيِّنَةُ رسولٍ. ويجوزُ رَفْعُه على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هي رسولٌ. وقرأ عبد الله وأُبَيّ «رسولاً» على الحالِ من البيِّنة. والكلامُ فيها على ما تقدَّم من المبالغة أو حذف المضافِ.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ يجوزُ تعلُّقُه بنفس «رسولٌ» أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «رسول» وجَوَّز أبو البقاء وجهاً ثالثاً وهو: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «صُحُفاً» والتقدير: يتلُو صُحُفاً مطهَّرة منزَّلةً مِنْ الله، يعني كانت في الأصل صفةً للنكرة فلَّما تقدَّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً.
68
قوله: ﴿يَتْلُو﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل «رسول»، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضمير في الجارِّ قبلَه إذا جَعَلْتَه صفةً ل «رسول».
69
قوله: ﴿فِيهَا كُتُبٌ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً صفةً ل «صُحُفاً»، أو حالاً مِنْ ضمير «مُطَهَّرَة» وأَنْ يكونَ الوصفُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فقط، و «كُتُبٌ» فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.
قوله: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ : العامَّةُ على كَسْرِ اللامِ اسمَ فاعلٍ، وانتصب به «الدّينَ» والحسن بفتحِها على معنى: أنهم يُخْلِصون هم أنفسهم في نياتهم، وانتصب «الدينَ» على أحدِ وجهَيْن: إمَّا إسقاطِ الخافضِ، أي: في الدين، وإمَّا على المصدر من معنى: ليَعْبُدوا، كأنه قيل: ليَدينوا الدينَ، أو ليعبدوا العبادةَ، فالتجوُّز: إمَّا من الفعلِ، وإمَّا في المصدر، وانتصابُ «مُخْلِصِين» على الحال مِنْ فاعل «يعبدون».
قوله: ﴿حُنَفَآءَ﴾ حالٌ ثانيةٌ أو حال من الحالِ قبلَها، أي: من الضمير المستكنِّ فيها. وقوله: ﴿وَمَآ أمروا﴾، أي: وما أُمِروا بما أُمِروا به إلاَّ لكذا وقرأ عبد الله «وما أُمِروا إلاَّ أَنْ يَعْبُدوا» أي: بأَنْ يَعْبدوا. وتحريرُ مثلِها في قوله ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين﴾ [الآية: ٧١] في الأنعام.
وقوله: ﴿وَذَلِكَ دِينُ القيمة﴾ أي: الأمَّةُ أو المِلَّةُ القيمةُ، أي: المستقيمة. وقيل: الكتبُ القَيِّمة؛ لأنها قد تقدَّمَتْ في الذِّكْرِ، قال
69
تعالى: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣]، فلَّما أعادها أعادَها مع أل العهديةِ كقوله: ﴿فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٦] وهو حسنٌ، قاله محمد بن الأشعت الطالقاني وقرأ عبد الله: «وذلك الدِّين القيمةِ»، والتأنيثُ حينئذٍ: إمَّا على تأويلِ الدٍّين بالمِلة كقوله:
٤٦١٣ -.................. سائِلْ بني أسدٍ ما هذه الصَوْتُ
بتأويل الصيحة، وإمَّا على أنها تاءُ المبالغةِ كعَلاَّمة.
70
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ : كما مَرَّ في أول السورة. وقولُه: «في نارِ» هذا هو الخبرُ، و «خالدين» حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر.
قوله: ﴿البرية﴾ : قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان «البَريئة» بالهمزِ في الحرفَيْن، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ. واخْتُلِف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصلُ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى
70
مَفْعولةٌ، وإنما خُفِّفَتْ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ. وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها: النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة. وقيل: بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا، وهو الترابُ، فهي أصلٌ بنفسِها، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال: «وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ» انتهى. يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ، فقيل: مِنْ بَرَأَ، أي: خَلَق، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ، وهو جميعُ الخَلْقِ. ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً.
وقرأ العامَّةُ «خيرُ البَرِيَّة» مقابلاً لشَرّ. وعامر بن عبد الواحد «خِيارُ» وهو جمع خَيِّر نحو: جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب، قاله الزمخشري.
71
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ : حالٌ عاملُه محذوفٌ، أي: دَخَلوها أو أُعْطُوها. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «هم» في «جزاؤهم»
71
لئلا يلزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بأجنبي. على أنَّ بعضَهم أجازه منهم، واعتذروا: بأن المصدرَ هنا غيرُ مقدَّرٍ بحرفٍ مصدري. قال أبو البقاء: «وهو بعيد» وأمَّا «عند» فيجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «جزاؤهم»، وأَنْ يكونَ ظرفاً له. و «أبداً» ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بخالدين.
قوله ﴿رِّضِىَ الله عَنْهُمْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ دعاءً مستأنفاً، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ حالاً بإضمار «قد» عند مَنْ يلتزمُ ذلك.
قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ﴾ : أي: ذلك المذكورُ مِنْ استقرارِ الجنةِ مع الخلودِ ورِضا الله عنه لِمَنْ خَشِيَ به.
72
Icon