تفسير سورة سورة النازعات من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون
المعروف بـالدر المصون
.
لمؤلفه
السمين الحلبي
.
المتوفي سنة 756 هـ
ﰡ
ﮢﮣ
ﰀ
قوله: ﴿غَرْقاً﴾ : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مصدراً على حَذْفِ الزوائد بمعنى: إغْراقاً، وانتصابُه بما قبلَه لملاقاتِه له في المعنى، وإمَّا على الحالِ، أي: ذواتَ إغْراقٍ. يُقال: أَغْرَقَ في الشيءِ يُغْرِقُ فيه إذا أَوْغَلَ وبَلَغَ أقصى غايتِه. ومنه: أغرقَ النازعُ في القَوْسِ، أي: بلغَ غايةَ المَدِّ.
ونَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلُّها مصادرُ. والنَّشْطُ: الرَّبْطُ، والإِنْشاطُ: الحَلُّ. يقال: نَشَطَ البعيرَ: رَبَطه، وأَنْشَطَه: حَلَّه، ومنه: «كأنما أنشط مِنْ عقال». فالهمزةُ للسَّلْبِ. ونَشِطَ: ذَهَبَ بسُرْعَةٍ. ومنه قيل لبقر الوَحْش: نَواشِط. قال هِمْيان بن قُحافة:
٤٤٨٠ - أرى همومي تَنْشِطُ المَناشِطا | الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسِطا |
٤٤٨١ - إنَّ بني جَحْجَبَى وأُسْرَتَهُمْ | أكبادُنا مِنْ ورائِهم تَجِفُ |
670
قوله: ﴿فِي الحافرة﴾ : الحافِرَة: الطريقةُ التي يَرْجِعُ الإِنسانُ فيها من حيث جاء. يقال: رَجَعَ في حافرتِه، وعلى حافرته. ثم يُعَبَّرُ بها عن الرجوعِ بالأحوال مِنْ آخرِ الأمرِ إلى أوَّلِه. قال:
وأصلُه: أنَّ الإِنسان إذا رَجَعَ في طريقِه أثَّرَتْ قدماه فيها حَفْراً. وقال الراغب: «وقولُه في الحافرة مَثَلٌ لمَنْ يُرَدُّ مِنْ حيث جاء، أي:
٤٤٨٢ - أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ | معاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وعارِ |
670
أنَحْيا بعد أن نموتَ؟ وقيل: الحافرةُ: الأرضُ التي [جُعِلَتْ] قبورُهم فيها ومعناه: أإنَّا لَمَرْدُودون ونحن في الحافِرة؟ أي: في القبور. وقولُه:» في الحافرة «على هذا في موضعِ الحال. وقيل: رَجَع فلانٌ على حافِرَتِه، ورَجَع الشيخُ إلى حافرته، أي: هَرِمَ، كقولِه: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾ [النحل: ٧٠]. وقولُهم:» النَّقْدُ عند الحافِرة «لِما يُباع نَقْداً. وأصلُه في الفرس إذا بِيْع، فيُقال: لا يَزُول حافِرُه أو يُنْقَدَ ثمنُه. والحَفْرُ: تَأَكُّلُ الأسنانِ. وقد حَفَر فُوه، وقد أَحْفَر المُهْرُ للإِثْناءِ والإِرْباع، أي: دنا لأن يكونَ ثَنِيَّاً أو رُباعياً» انتهى. والحافِرَةُ قيل: فاعِلَة بمعنى مَفْعُولة. وقيل: على النَّسَب، أي: ذات حَفْرٍ، والمراد: الأرضُ. والمعنى: إنَّا لمَرْدُودون في قبورنا أحياءً. وقيل: الحافرة: جَمْعُ حافِر بمعنى القَدَم، أي: نمشي أحياءً على أقدامِنا، وَنَطَأُ بها الأرضَ. وقيل: هي أولُ الأمرِ. وتقولُ التجَّار: «النَّقْدُ في الحافِرة»، أي: أوَّلُ السَّوْمِ. وقال الشاعر:
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «في الحَفِرَة» بدون ألف. فقيل: هما بمعنى. وقيل: هي الأرض التي تَغَيَّرَتْ وأنْتَنَتْ بموتاها وأجسادِهم،
٤٤٨٣ - آلَيْتُ لا أَنْساكُمُ فاعْلَموا | حتى تُرَدَّ الناسُ في الحافِرَهْ |
671
مِنْ قولِهم: حَفِرت أسنانُه، أي: تَأَكَّلَتْ وتَغَيَّرَتْ. وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في هذَيْن الاستفهامَيْنِ في سورةِ الرعد. وقوله: «في الحافِرَة» يجوزُ تعلُّقُه بمَرْدُوْدون، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم.
672
قوله: ﴿نَّخِرَةً﴾ : قرأ الأخَوان وأبو بكر «ناخِرَة» بألفٍ، والباقون «نَخِرَة» بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً، أو كالغَريزة. وقيل: ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية. وقيل: ناخِرَة، أي: صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها، أي: تُصَوِّتُ، ونَخِرَة، أي: تَنْخِرُ فيها دائماً. وقيل: ناخِرَة: بالِية، ونَخِرَة: متآكلة. وعن أبي عمروٍ: الناخِرة: التي لم تَنْخَرْ بعدُ، والنَّخِرَةُ: البالية. وقيل: الناخِرَةُ: المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ، والنَّخِرةُ: الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ. قال الزمخشري: «يُقال: نَخِر العظمُ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ، كقولِك: طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل، وقد قُرِىء بها، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير». قلت: ومنه قولُه:
وقال الراجزُ لفَرَسه:
٤٤٨٤ - وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها | قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ |
672
٤٤٨٥ - أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ | ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ |
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ | ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ |
٤٤٨٦ - وساهِرَةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً | لأَقْطارِها قد جُبْتُها مُتَلَثِّما |
٤٤٨٧ - وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ | وما فاهوا لهمْ فيها مُقيمُ |
٤٤٨٨ - يَرْتَدْنَ ساهِرَةً كأنَّ جَميمَها | وعَمِيْمَها أسْدافُ ليلٍ مُظْلِمٍ |
674
التي يَكْثُرُ الوَطْءُ بها، كأنَّها سَهِرَتْ مِنْ ذلك، إشارةً إلى نحوِ قولِ الشاعر:
والأَسْهَران: عِرْقان في الأنفِ» انتهى. والسَّاهُوْر: غلافُ القَمَرِ الذي يَدْخُل فيه عند كُسوفِه. قال:
أي: هذه المرأةُ بمنزلةِ قطعةِ القمر. وقال أميَّةُ:
٤٤٨٩ -.................... | تَحَرَّكَ يَقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ |
٤٤٩٠ -................... | أو شُقَّةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ بَطْنِ ساهُوْرِ |
٤٤٩١ -................... | قَمَرٌ وساهُوْرٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ |
٤٤٩٢ - فهل لكمُ فيها إليَّ فإنَّني | بَصيرٌ بما أَعْيا النِّطاسِيَّ حِذْيَما |
676
تَزَّكَّى «والصادِ مِنْ» تَصَّدَّى «في السورةِ تحتها. والأصلُ: تتزَكَّى وتتصَدَّى، فالحَرَمِيَّان أدغما، والباقون حَذَفُوا نحو: ﴿تَنَزَّلُ﴾ [القدر: ٤]. وتقدَّم الخلافُ في أيَّتِهما المحذوفةِ.
677
ﭮﭯ
ﰖ
قوله: ﴿فَحَشَرَ فنادى﴾ : لم يُذْكَر مفعولاهما؛ إذ المرادُ فَعَلَ ذلك، أو يكونُ التقدير: فَحَشَرَ قومَه فناداهم. وقوله «فقال» تفسيرٌ للنداء.
قوله: ﴿نَكَالَ الآخرة﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل «أَخَذَ»، والتجوُّزُ: إمَّا في الفعل، أي: نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ، وإمَّا في المصدر، أي: أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له، أي: لأجل نَكالِه. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ، أي: نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ، قاله الزمخشري، وجعله ك ﴿وَعْدَ الله﴾ [النساء: ١٢٢] و ﴿صِبْغَةَ الله﴾ [البقرة: ١٣٨]. والنَّكالُ: بمنزلةِ التَّنْكيل، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم. والآخرةُ والأولى: «إمَّا الداران، وإمَّا الكلمتان، فالآخرةُ قولُه: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤]، والأولى: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به.
قوله: ﴿أَمِ السمآء﴾ : عطفٌ على «أنتم» وقوله: «بناها» بيانٌ لكيفيةِ خَلْقِه إياها. فالوقفُ على «السماء»، والابتداءُ بما بعدَها. ونظيرُه ما مرَّ في الزخرف [الآية: ٥٨] ﴿أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾
قوله: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ : جملةٌ مفسِّرةٌ لكيفيةِ البناءِ. والسَّمْكُ: الارتفاعُ. ومعناه في الآيةِ كما قال الزمخشريُّ: «جَعَلَ مقدارَ ذهابِها في سَمْتِ العُلُوِّ مديداً رفعياً». وسَمَكْتُ الشيءَ: رَفَعْتُه في الهواءِ. وسَمَك هو، أي: ارتفعَ سُمُوكاً فهو قاصِرٌ ومتعدٍّ. وسَنامٌ سامِكٌ تامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ. وسِماكُ البيت ما سَمَكْتُه به. والسِّماك: نجمٌ معروفٌ، وهما اثنان: رامحٌ وأَعْزَلُ. قال الشاعر: