ﰡ
في السورة توكيد رباني بتحقيق يوم البعث والحساب وما سوف يستولي على الكفار فيه من خوف وندم. وتذكير برسالة موسى إلى فرعون وموقف فرعون وما في ذلك من عبرة. وتدليل على قدرة الله على البعث والتنكيل بالكفار بما كان من مصير فرعون. وبمشاهد الكون وعظمة الله وبديع صنعه فيه. وتنديد بالكفار لشكهم في الآخرة وبيان إنذاري وتبشيري بمصير كل من المتقين والطاغين فيها.
ونظم السورة وترابط آياتها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ١٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
. (١) النازعات: من النزع. أي التي تنزع شيئا من آخر.
(٢) غرقا: بمعنى الشدّة وبلوغ الغاية بها.
(٣) الناشطات: المتحركات أو المخرجات أو الخارجات بسرعة وسهولة.
(٤) الراجفة: التي تحدث الرجفان والاضطراب.
(٦) واجفة: مضطربة خائفة.
(٧) الحافرة: الطريقة المعتادة المحفورة.
(٨) الساهرة: الفلاة أو منبسط الأرض.
تعددت الأقوال في معاني الآيات الأربع الأولى «١». منها أنها الملائكة في قبضها الأرواح وسبحها بين السماء والأرض لتنفيذ أوامر الله وتسابقها لتدبير الأمور التي تعهد إليها. وقيل إنها صفات الأرواح حين تنزع من الأجساد فأرواح الكفار تنزع بشدّة بينما أرواح المؤمنين تخرج نشيطة مسرعة فتسبح في ملكوت الله وتتسابق إلى الحضرة الإلهية أو إلى مصائرها السعيدة. وقيل إنها صفات النجوم وحركاتها حيث تنزع من أفق إلى أفق وتطلع ثم تغيب وتغرق وتسبح في الفضاء ويسبق بعضها بعضا في السير. وهذه الأقوال تخمينية كما يبدو. والتعدد آت من إطلاق الصفات وعدم وجود أثر نبوي يحدد المدلولات تحديدا لا يبقى معه محل للتخمين.
والمتبادر أن مدلولات هذه الأقسام كانت مفهومة في عهد النبي وأنها كانت ذات خطورة في الأذهان على أن الجملة الآتية الأخيرة أو الخامسة قد تساعد على القول أنها أوصاف الملائكة لأنهم الذين يمكن أن يكون منهم تدبير الأمر بأمر من الله تعالى والله أعلم. أما جواب القسم فهو على قول جمهور المفسرين محذوف مقدر بمعنى توكيد بعث الناس مرة أخرى. والآيات التالية قرائن قوية على ذلك أغنت عن ذكر الجواب. وهو ما تتحمله أساليب النظم العربي. وقد تكرر ذلك في النظم القرآني أيضا.
وقد أعقب آيات القسم توكيد رباني بتحقيق وعد البعث وإشارة إلى بعض ظروفه ومشاهده وأقوال الكفار عند وقوعه: فسوف ترجف الأرض مرة تردفها رجفة أخرى حين حلول اليوم المعين. وسوف يستولي الرعب والاضطراب على
وقد تضمنت الآيتان الأخيرتان بيان سهولة البعث على الله، فالأمر لن يقتضي إلّا صرخة واحدة فلا يلبث الناس أن يروا أنفسهم في صعيد واحد في انتظار قضاء الله وحكمه.
وواضح أن الآيات هي في صدد توكيد البعث والحساب ووصف هول يوم القيامة وأن الذين حكت اضطراب قلوبهم وخشوع أبصارهم وتساؤلهم وأقوالهم هم منكرو البعث. وقد تضمنت الآيات ردّا عليهم وإنذارا لهم. واستهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء بالإضافة إلى المشهد الأخروي الذي يجب الإيمان به وإيكال كنهه وسرّه إلى الله تعالى.
ولقد تكررت حكاية تساؤل الكفار عن بعثهم بعد أن يكونوا عظاما نخرة وتكرر الردّ عليهم ووصف ما سوف يحلّ بهم بما يقارب ما جاء في هذه الآيات حيث كانت تتجدد المواقف فتقضي حكمة التنزيل بتجدد الحكاية والردّ استهدافا للهدف الذي نبهّنا عليه كما هو المتبادر.
وبرغم ما في الآيات من صراحة قطعية إنها في صدد البعث الأخروي وإنذار الكفار فإن المفسّر الشيعي الكارزاني يروي عن المفسر الشيعي القمي عن الصادق عليه السلام أن الراجعة تعني الحسين والرادفة تعني أباه عليا رضي الله عنهما وأن في الآيتين إشارة إلى رجعة الحسين ثم أبيه وما سوف يعتري أعداءهما من خوف وهلع «١». وفي هذا ما هو ظاهر من تعسف وشطط وهوى حزبي.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)
في الآيات سؤال موجه إلى السامع يتضمن معنى التذكير بما كان من أمر رسالة موسى إلى فرعون حيث ناداه ربّه بالوادي المقدس طوى وأمره بالذهاب إلى فرعون الذي طغى ودعوته إلى التطهّر من بغيه وهدايته إلى سبيل ربه، وحيث أرى موسى فرعون آية الله الكبرى التي أظهرها على يده فكذّب وعصى وأخذ يسعى ليحشد الناس ويمنعهم عن الحق ويهتف بهم أنا ربّكم الأعلى، وحيث أخذه الله ونكّل به في الدنيا بالإضافة إلى نكال الآخرة. وانتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة وموعظة لمن يخشى العواقب.
والصلة قائمة بين هذه الآيات وسابقاتها حيث جاءت بعد إنذار الكفار والتنديد بهم جريا على الأسلوب القرآني. وهدف التذكير والإنذار فيها واضح كما هو شأن جميع القصص القرآنية.
وقصة رسالة موسى وموقف فرعون الاستكباري قد حكيت في سور سابقة بأساليب متنوعة، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار. ولقد تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل في تأويل جملة فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فقيل إنها بمعنى عاقبه الله على تكذيبه بدءا وإصراره على التكذيب بعد ظهور معجزات الله ووقوع العذاب عليه. كما قيل إنها بمعنى عاقبه الله في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون من عقابه في الآخرة. وكلا القولين وجيه.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)
وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)
(٢) فسوّاها: جعلها مستوية أو مضبوطة.
(٣) أغطش ليلها: جعله مظلما.
(٤) أخرج ضحاها: كناية عن ضوء النهار.
(٥) دحاها: بسطها.
وفي هذه الآيات التفات إلى السامعين وسؤالهم سؤال المستنكر المندد عما إذا كانوا يرون خلقهم أشدّ وأشقّ على الله من الأكوان التي خلقها: فهو الذي خلق السماء وأعلى سقفها وضبط نواميسها. وقدّر الظلام ليلا والضياء نهارا. وهو الذي مدّ الأرض وبسطها ويسّرها للسير والاستقرار وأرسى فوقها الجبال وأخرج منها الماء والنبات ليكون في ذلك قوام حياتهم وأنعامهم.
والمتبادر أن الجواب على السؤال منطو في الآيات نفسها. فالله الذي خلق السموات والأرض وأودع فيها النواميس اللازمة والتي تفوق في العظمة خلق الناس أهون عليه أن يخلق الناس ثانية بطبيعة الحال. والمتبادر كذلك أن السؤال موجّه إلى الكفار لأنهم هم الذين يجحدون البعث ويستعظمون وقوعه. وهكذا تكون الآيات قد جاءت في صدد توكيد البعث والتدليل على قدرة الله عليه، وهي والحالة هذه متصلة بالسياق السابق على قصة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وتكون الإشارة التذكيرية إلى هذه القصة قد جاءت استطرادا مما هو مألوف في النظم القرآني.
ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة ما احتوته هذه الآيات وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك في سياق
والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. ومهما يكن من أمر فإن حكمة التنزيل اقتضت أن يذكرا للسامعين هنا. وفي المناسبات العديدة السابقة ما للجبال من تأثير في ثبات الأرض اتساقا. مع ما في أذهانهم من ذلك والله أعلم بسبيل التنبيه على كون الله تعالى قد أحسن كل شيء خلقه وإيجاب الإيمان به والاتجاه إليه وحده وشكره على ما يتمتعون به من أفضاله. وإذا صحّ الحديث النبويّ فيكون في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة ما جاء في آخره من تعظيم التصدّق خفية على المستحقين.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٤ الى ٤١]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)
. (١) الطامّة: هي البلاء العام الذي لا يدفع. وهي هنا كناية عن يوم القيامة.
(٢) آثر: فضّل.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وأسلوبها إنذاري وتبشيري معا.
ووصف يوم القيامة بالطامّة الكبرى متناسب مع حقيقتها وخطورتها كما هو المتبادر.
وعطف إيثار الحياة الدنيا على الطغيان قرينة على أن المندّد به ليس الاستمتاع بطيبات الحياة إطلاقا وإنما هو الاستغراق فيها استغراقا يجعل المرء لا يحسب حساب الآخرة ويطغى في الأرض. وهكذا يظل المبدأ القرآني المحكم الذي قررته آية سورة الأعراف [٣٢] وأكّدته آيات عديدة أخرى هو الضابط لهذا الأمر.
وتعبير وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى تعبير قوي نافذ في صدد اجتناب الآثام والموبقات والشهوات من حيث تصوير كون أهمّ ما يورط المرء في ذلك هو اتباع هوى النفس دون وازع ولا زاجر. وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.
وفي الآيات توكيد قويّ للمبدأ القرآني المحكم الذي قررته آيات كثيرة في سور عديدة من كون الإنسان يكسب أعماله باختياره وسعيه وأنه مجزى عليه وفاقا لذلك.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
. في هذه الآيات:
٢- وتنديد بسؤالهم الذي يوردونه من قبيل التحدّي والاستخفاف.
٣- وتقرير بأن موعدها عند الله وفي علمه.
٤- وخطاب للنبي ﷺ بصيغة السؤال التقريري بأنه ليس له عنها علم وبأن قصارى شأنه أنه منذر بها لينتفع بذلك من كان يستشعر بالخوف منها ويريد أن يتحاشى أسبابه بالإيمان وصالح العمل.
٥- وإنذار وتوكيد للكفار بأنهم سيرونها حتما وفي برهة أقرب بكثير مما يظنون وأنهم حينما يرونها سيظنون من شدّة هذا الأمر أنه ما بينها وبين موتهم إلّا مساء أو صباح.
وواضح أن الآيات استمرار مع السياق والموضوع. وقد تكرر مثل هذا السؤال والردّ عليه في مواضع عديدة مرّت أمثلة منها حيث يدل ذلك على تكرر السؤال والتحدي من قبل الكفار واقتضاء حكمة التنزيل بتكرار الردّ عليهم.
ولقد أورد البخاري ومسلم في فصل التفسير من صحيحيهما حديثا مرويا عن سهل بن سعد في سياق هذه الآيات جاء فيه: «رأيت النبيّ ﷺ قال بإصبعيه هكذا بالوسطى وبالتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين» «١». ولقد علقنا على موضوع اقتراب الساعة في سياق تفسير سورة القمر بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات أيضا حديثين أحدهما عن عائشة قالت: «لم يزل النبي ﷺ يسأل عن الساعة حتى أنزل الله عزّ وجلّ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) » وثانيهما عن طارق بن شهاب قال: «كان النبي ﷺ لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها إلى