ﰡ
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ...﴾ إلى آخر السورة سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم وإبن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله - ﷺ - يسأل عن الساعة، حتى أنزل عليه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢)...﴾ إلخ فانتهى.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن مشركي مكة سألوا النبي - ﷺ -، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ استهزاءً منهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢)...﴾ إلى آخر السورة.
وأخرج الطبراني وابن جرير عن الطارق بن شهاب قال: كان رسول الله - ﷺ - يكثر ذكر الساعة، حتى نزلت: ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤)﴾. وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - افتتح سبحانه وتعالى هذه السورة الكريمة بالقسم ببعض مخلوقاته إظهارًا لعظيم شأنها، وجليل قدرها، وإتقان صنعها ونظامها، وغزارة فوائدها في هذا الكون العظيم الفسيح، وهذه المخلوقات مهما عظمت.. فهي مسخرة ومسيرة لأمر بارئها، خاضعة لسلطانه وجبروته وعظمته وحكمه وعدله وأمره جَلَّ وعلا، والقسم بغير الله لا يجوز لأحد من خلق الله، أما بالنسبة إلى الله تعالى.. فهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته، لحكم عالية ومعان سامية يلفت النظر بها إلى أهمية المقسم به من المخلوقات، لدلالتها على عظمة خالقها وبارئها وموجدها من العدم، وأنها مخلوقة له سبحانه وتعالى، فقال:
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١)﴾: الواو للقسم (١)، والقسم يدل على عظم شأن المقسم به، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته. تنبيهًا على ذلك العظم، كما مر آنفًا. و ﴿النازعات﴾: جمع نازعة، بمعنى طائفة من الملائكة نازعة، فأنث صفة الملائكة باعتبار كونهم طائفة، ثم جمعت تلك الصفة، فقيل: نازعات بمعنى:
فقوله (١): ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١)﴾ إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار بشهادة مدلول اللفظ، وجواب القسم محذوف دل عليه قوله: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١)﴾؛ لأن معناه: أنبعث إذ صرنا كذلك؟ والتقدير: أقسمت لكم أيها العباد بالملائكة التي تنزع وتقبض أرواح الكفار نزعًا شديدًا، أو قبضًا عنيفًا لتبعثنَّ بعد الموت للمجازاة على أعمالكم. قال الإِمام الطبري في "تفسيره" (٢): أقسم ربنا جل وعلا بـ ﴿النازعات﴾، واختلف أهل التأويل فيها، وما هي، وما تنزع، فقال بعضهم: الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، والمنزوع نفوس الآدميين، وقال آخرون: بل هو
(٢) الطبري.
والمعنى: والنازعات إغراقًا، كما يغرق النازع في القوس، أي: والنازعات شدة، كما شدد النازع في القوس.
وقال الشوكاني (١): أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأشياء التي ذكرها، وهي: الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم، كما ينزع النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المد، وكذا المراد بـ ﴿الناشطات﴾، و ﴿السابحات﴾، و ﴿السابقات﴾، و ﴿المدبرات﴾، يعني: الملائكة، والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قول الشاعر:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامْ | وَلَيْثِ الكَتِيْبَةِ فِيْ المُزْدَحَمْ |
وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم: نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم: نزعت بالحبل؛ أي: إنها تغرب وتغيب، وتطلع من أفق آخر، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان، وقال عطاء وعكرمة: ﴿النازعات﴾: القسي، تنزع بالسهام، وإغراق النازع في القوس: أن يمده غاية المد حتى ينتهي به إلى النصل، وقال يحيى بن سلام: الغزال تنزع بين الكلأ وتنفر، وقيل: أراد بالنازعات: الغزاة؛ أي: الرماة. نتهى.
٢ - وقوله: ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢)﴾ قَسَم آخر معنى (٢) بطريق العطف، والنشط: جذب الشيء من مقره برفق ولين، ونصب ﴿نَشْطًا﴾ على المصدرية، أقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة التي تنشط أرواح المؤمنين؛ أي: تخرجها من أبدانهم
(٢) روح البيان.
فقوله: ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢)﴾ إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين بشهادة اللفظ ومدلوله أيضًا.
والمعنى: وأقسمت لكم أيا العباد بالملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين قبضًا برفق ولين.. لتبعثن بعد الموت للمجازاة.
فإن قيل: قد (١) ثبت أن النبي - ﷺ -، أخذ روحه الطيب ببعض شدة حتى قال: "واكرباه"، وقال: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت"؛ أي: غمراته، وكان يدخل يده الشريفة في قدح فيه ماء، ثم يمسح وجهه المنور بالماء، ولما رأته فاطمة - رضي الله عنها - يغشاه الكرب.. قالت: واكرب
أجيب: بأن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة، فأحس بالألم أكثر من غيره، إذ الخفيف على الأخف ثقيل، وأيضًا: يحتمل أن يبتليه الله بذلك ليدعو الله في أن يجعل لأمته سهلًا يسيرًا، وأيضًا قد روي أنه طلب من الله أن يحمل عليه بعض صعوبة الموت تخفيفًا على أمته، فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وأيضًا فيه تسلية أمته إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك الكرب عند الموت، وأيضًا لكي يحصل لمن شاهد من أهله، ومن غيرهم من المسلمين الثواب، لما يلحقهم عليه من المشقة، كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد، وأيضًا راحة الكفيل في الشدة؛ لأنها من باب الترقي في العلوم والدرجات، وأقل الأمر للناقصين كفارة الذنوب، كذا قالوا، ولكن ما فيه نص.
٣ - وقوله: ﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣)﴾ قسم آخر معنى أيضًا بطريق (١) العطف، والسبح: المر السريع، في الماء أو في الهواء، و ﴿سَبْحًا﴾ منصوب على المصدرية بـ ﴿السابحات﴾، أقسم الله سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة التي تسبح في مضيها؛ أي: تسرع فينزلون من السماء إلى الأرض مسرعين، مشبهين في سرعة نزولهم بمن يسبح في الماء، وهذا من قبيل التعميم بعد التخصيص؛ لأن نزول الأولين إنما هو لقبض الأرواح مطلقًا، ونزول هؤلاء لعامة الأمور والأحوال.
والمعنى: وأقسم لكم بالملائكة التي تسبح وتسرع في نزولها إلى الأرض.. لتبعثن بعد الموت.
٤ - وقوله: ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤)﴾ معطوف على ﴿السابحات﴾ بالفاء للدلالة على ترتب السبق على السبح بغير مهلة، فالموصوف واحد، ونصب ﴿سَبْقًا﴾ على المصدرية؛ أي: أقسم لكم بالملائكة التي تسبح وتسرع في النزول إلى الأرض، وتسبق سبقًا إلى ما أمروا به، ووكلوا عليه بلا مهلة؛ أي: يصلون إليه بسرعة، والسبق: كناية عن الإسراع فيما أمروا به؛ لأن السبق، وهو التقدم في السير من
وفي "الشوكاني": ﴿وَالسَّابِحَاتِ﴾: الملائكة، تسبح في الأبدان لإخراج الروح، كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه، وقال مجاهد: ﴿السابحات﴾: الموت يسبح في نفوس بني آدم، وقيل: هي الخيل السابحة في الغزو، ومنه قول عنترة:
وَالْخَيْلُ تُعْلَمُ حِيْنَ تَسْـ | ـبَحُ فِيْ حِيَاضِ الْمَوْتِ سَبْحَا |
٥ - وقوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)﴾ (١) معطوف على ﴿السابقات﴾ بالفاء؛ للدلالة على ترتب التدبير على السبق بغير تراخ، والتدبير: التفكر في دبر الأمور وعواقبها، و ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به لـ ﴿لمدبرات﴾. قال الراغب: يعني: الملائكة الموكلين بتدبير الأمور. انتهى؛ أي: التي تدبر أمرًا من الأمور الدنيوية والأخروية للعباد، كما رسم لهم من غير تفريط ولا تقصير، والمقسم عليه محذوف لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة.
والمعنى: أقسم بالملائكة التي تدبر أمرًا من أمور العباد، لتبعثن بعد الموت للمجازاة. وجه الدلالة: أن الموت يستدعي البعث للأجر والجزاء؛ لئلا يستمر الظلم والجور في الوجود: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، فكان الله تعالى يقول: إن الملائكة ينزلون لقبض الأرواح عند منتهى الآجال، ثم ينجر الأمر إلى البعث لما ذكر، فكان من شأن من يقر بالموت أن يقر بالبعث، فلذا جمع بين القسم بـ ﴿النازعات﴾ وبين البعث الذي هو الجواب، وفي عنوان هذه السورة وجوه كثيرة
قال الجرجاني (١): عطف ﴿السابقات﴾ بالفاء؛ لأنها مسببة من التي قبلها؛ أي: واللاتي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سببًا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب بالواو.. لم يكن القيام سببًا للذهاب، قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)﴾؛ لأنه يبعد أن يجعل السبق سببًا للمتدبر. قال الرازي: ويمكن الجواب عما قاله الواحدي بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فتدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالًا يتصل بعضها ببعض، كقوله: قام زيد فذهب، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها.. ظهرت أمانتهم، ففوض إليهم التدبير، ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سببًا للتدبير، كسببية السبح للسبق والقيام للذهاب، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية، والأولى أن يقال: العطف في ﴿المدبرات﴾ طوبق به ما قبله من عطف ﴿السابقات﴾ بالفاء، ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله؛ لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق، لا لمطابقته وموافقته. ومعنى تدبير الملائكة للأمر: نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما، والفاعل للتدبير في الحقيقة، وإن كان هو الله عزّ وجلّ، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به، وقيل: إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك.. قيل لها: مدبرات. قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل؛ فأما جبريل.. فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل: فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل: فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل: فهو ينزل بالأمر من الله عليهم، وليس في الملائكة أقرب منه.
٦ - وقوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)﴾ ظرف متعلق بجواب القسم المقدر، وهو: لتبعثن، أو باذكر مقدرًا، والمراد بالرجفة: النفخة الأولى التي ترجف عندها الأجرام الساكنة، كالأرض والجبال؛ أي: أقسمت لكم بالأمور السابقة، لتبعثن يا كفار مكة يوم ترجف الراجفة؛ أي: يوم تتحرك النفخة الأولى لإماتة الأحياء حركة شديدة، وتزلزل زلزلة عظيمة من هول ذلك اليوم، أسند (٢) إليها الرجف مجازًا على
(٢) روح البيان.
٧ - وجملة قوله: ﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)﴾ حال مقدرة من ﴿الرَّاجِفَةُ﴾ مصححة لوقوع اليوم ظرفًا للبعث، والمراد بـ ﴿الرَّادِفَةُ﴾: النفخة الثانية لإحياء الأموات التي تردف الأولى؛ أي: تجيء بعدها؛ لأن النفخة الثانية تجيء بعد الأولى. يقال: ردفه - كسمعه ونصره - تبعه، كأردفه، وأردفته معه: أي: أركبته معه كما في "القاموس".
والمعنى (١): أي لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعةً لها، لا قبل ذلك، فإن اليوم عبارة عن الزمان الممتد الذي تقع فيه النفختان، وبينهما أربعون سنة، كما قال في "الكشاف": لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى. أنتهى.
قال في "الإرشاد" (٢): واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون إلا عند النفخة الثانية لتهويل اليوم ببيان كونه موقعًا لداهيتين عظيمتين، لا يرقى عند وقوع الأولى حيٌّ إلا مات، ولا عند وقوع الثانية ميتٌ إلا بعث وقام.
والمعنى: أي لتبعثن يوم تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، ويسمع لها صوت عظيم، ويموت كل شيء عليها بأمر الله تبارك وتعالى، وسميت ﴿راجفة﴾ من الرجف: وهو الاضطراب الشديد؛ لأن بها يضطرب الأمر، ويختل النظام، وينتهي العالم إلى نهايته. التي حددها له خالقه عزّ وجل، و ﴿الرَّاجِفَةُ﴾: صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب، كالرعد إذا تمخض، وتكون النفخة الأولى من صور إسرافيل ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾؛ لهول تلك النفخة الكبرى ثم تتبعها ﴿الرَّادِفَةُ﴾؛ أي: النفخة الثانية التي تعقب النفخة الأولى، وهي التي يبعث الله معها الخلق، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى
(٢) أبو السعود.
٨ - وقوله: ﴿قُلُوبٌ﴾ (١): مبتدأ، وتنكيره يقوم مقام الوصف المخصص المجوز للابتداء بالنكرة، سواء حمل على التنويع، وإن لم يذكر النوع المقابل فإن المعنى منسحب عليه، أو على التكثير، كما في قولهم: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ. فإن التفخيم كما يكون بالكيفية.. يكون بالكمية أيضًا، كأنه قيل: قلوب كثيرة أو عاصية، كما قال في، "التأويلات النجمية": قلوب النفس المتمردة الشاردة النافرة عن الحق ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تقع النفختان، وهو متعلق بقوله: ﴿وَاجِفَةٌ﴾ وهذا خبر المبتدأ؛ أي: شديدة الاضطراب من سوء أعمالهم وقبح أفعالهم، فإن الوجيف عبارة عن شدة اضطراب القلب وقلقه من الخوف والوجل، وعلم منه أن الواجفة ليست جميع القلوب، بل قلوب الكفار، فإن أهل الإيمان لا يخافون.
٩ - ﴿أَبْصَارُهَا﴾؛ أي: أبصار أصحابها، كما دل عليه قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾، وإلا فالقلوب لا أبصار لها، وإنما أضاف الأبصار إلى القلوب؛ لأنها محل الخوف وهو من صفاتها. ﴿خَاشِعَةٌ﴾، أي: ذليلة من الخوف بسبب الإعراض عن الله، والإقبال على ما سواه، يترقبون أي شيء ينزل عليهم من الأمور العظام، وأسند الخشوع إليها مجازًا؛ لأن أثره يظهر فيها.
والخلاصة: أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالنازعات والناشطات والسابحات فالسابقات فالمدبرات.. لتبعثن بعد الموت، ولتنبؤن بما عملتم، ولتجزون بالإحسان إحسانًا وبالسوء سوءًا، وإنها لجنة أبدًا أو نار أبدًا. ويوم ترجف الراجفة تضطرب الأرض والجبال تتبعها الرادفة وتمور السماء مورًا وتسير الجبال سيرًا وتكون قلوب الكفار مضطربة قلقة خائفةً؛ لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون، ورأوا ما كانوا يوعدون، ولذا قال تعالى: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩)﴾، فالقلوب
قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإِسلام، أما أهل الإيمان.. فقد ثبت بالدليل أنهم لا يخافون إذا خاف الناس، بل يثبتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. فالويل كل الويل لأولئك المكذبين بيوم الدين،
١٠ - وقد حكى الله سبحانه عنهم أقوالًا ثلاثةً استبعدوا بها أمر البعث، واستهزؤوا فيها بالرسول والمؤمنين، فقال:
١ - ﴿يَقُولُونَ﴾ استئناف بياني؛ أي: يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت؛ أي: يقولون: الآن؟ منكرين له متعجبين منه ﴿أَإِنَّا﴾ نحن ﴿لَمَرْدُودُونَ﴾؛ أي: لمعادون بعد موتنا ﴿فِي الْحَافِرَةِ﴾؛ أي: إلى (١) الحافرة؛ أي: إلى حالتنا الأولى قبل الممات يعنون الحياة؛ أي: راجعون أحياءً كما كنا قبل مماتنا من قولهم: رجع فلان في حافرته؛ أي: في طريقته التي جاء فيها، فحفرها؛ أي: أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، وإنما الحافر هو الماشي في تلك الطريقة، كقوله تعالى: ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾؛ أي منسوبة إلى الحفر والرضى أو على تشبيه القابل بالفاعل؛ أي: في تعلق الحفر والرضا بكل منهما، فأطلق اسم الثاني على الأول للمشابهة، كما يقال: صام نهاره تشبيهًا لزمان الفعل بفاعله، وقال مجاهد والخليل بن أحمد: الحافرة: هي الأرض التي يحفر فيها القبور، ولذا قال في "التأويلات النجمية": أي حافرة أجسادنا وقبور صدورنا، ومنه قول الشاعر:
آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمُ فَاعْلَمُوْا | حَتَّى يُرَد النَّاسُ فِيْ الْحَافِرَةْ |
٢ - ١١ ﴿أَإِذَا﴾ والعامل (١) في ﴿إذا﴾ مضمر يدل عليه ﴿مردودون﴾؛ أي: أئذا ﴿كُنَّا﴾ نحن ﴿عِظَامًا نَخِرَةً﴾؛ أي: بالية، نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة، فهو تأكيد لإنكار الرد ونفيه بنسبته إلى حالة منافية له، ظنوا أن من فساد البدن وتفرق أجزائه يلزم فساد ما هو الإنسان حقيقة، وليس كذلك، ولو سلم أن الإنسان هو هذا الهيكل المخصوص.. فلا نسلم امتناع إعادة المعدوم، فإن الله تعالى قادر على كل الممكنات، فيقدر على جمع الأجزاء العنصرية، واعادة الحياة إليها؛ لأنها متميزة في علمه، وإن كانت غير متميزة في علم الخلق، كالماء مع اللبن، فإنهما وإن امتزجا، لكن أحدهما متميز عن الآخر في علم الله، وإن كان عقل الإنسان قاصرًا عن إدراكه.
والنخر: البلى، يقال: نخر العظم والخشب - بكسر العين -: إذا بلي واسترخى، وصار بحيث لو م لتفتت، ونخرة أبلغ من ناخرة؛ لكونها من صيغ المبالغة، أو صفة مشبهة دالة على الثبوت، ولذا اختارها الأكثر، والناخرة أشبه برؤوس الآي، اختارها البعض، وقيل: النخرة غير الناخرة؛ إذ النخرة بمعنى البالية، وأما الناخرة.. فهي العظام الفارغة المجوفة التي يحصل فيها صوت من هبوب الريح من نخير النائم والمجنون، لا من النخر بمعنى: البلى. قال الراغب: النخير صوت من الأنف، وسمي خرق الأنف الذي يخرج منه النخير منخر، فالمنخران ثقبتا الأنف. وقرأ عمر (٢) وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان حمزة والكسائي وأبو بكر: ﴿ناخرة﴾ بألف، وقرأ أبو رجاء والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جبير والنخعي وقتادة وابن وثاب وأيوب وأهل مكة وشبل وباقي السبعة: ﴿نَخِرَةً﴾ بغير ألف، واختار (٣) القراءة الأولى الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي، واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
٣ - ١٢ ﴿قَالُوا﴾ اختيار (٢) صيغة الماضي هنا للإيذان بأن صدور هذا الكفر منم ليس بطريق الاستمرار، مثل كفرهم السابق المعبر عنه بالمضارع؛ أي: قالوا بطريق الاستهزاء بالحشر، ﴿تِلْكَ﴾ الردة والرجعة في الحافرة، وفيه إشعار بغاية بُعدها من الوقوع في اعتقادهم ﴿إِذًا﴾؛ أي: إن رددنا إلى الحالة الأولى، وصح ذلك ﴿كَرَّةٌ﴾ الكر: الرجوع، والكرة: المرة من الرجوع، والجمع: كرات. ﴿خَاسِرَةٌ﴾؛ أي: ذات خسران على إرادة النسبة من اسم الفاعل؛ أي: رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، أو خاسرة أصحابا على الإسناد المجازي؛ أي: على طريق إسناد الفعل إلى ما يقاربه في الوجود، كقوله: تجارة رابحة، والربح: فعل أصحاب التجارة، وهي عقد المبادلة، والربح والتجارة متقاربان في الوجود وإلا فهم الخاسرون، والكرة مخسور فيها؛ أي: إن صحت تلك الكرة.. فنحن إذًا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا المعنى أفاده كلمة ﴿إِذًا﴾، فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور، وإنما حمل قولهم هذا على الاستهزاء؛ لأنهم أبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة المشكوك المحتمل الوقوع.
والمعنى (٣): أي إن صح ما قلتم من البعث يوم القيامة بعد أن نصير عظامًا نخرةً.. فنحن إذًا خاسرون؛ لأنا كذبنا به، ولم نأخذ العدة له، فيا ويلنا في هذا اليوم، وهذا منهم استهزاء وتهكم اعتقادًا منهم أن ذلك لن يكون، وقيل: معنى ﴿خَاسِرَةٌ﴾: كاذبة؛ أي: ليست بكائنة، كذا قال الحسن وغيره. وقال الربيع بن أنس: ﴿خَاسِرَةٌ﴾ على من كذب بها.
وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا بعد الموت.. لنخسرن بالنار،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١٣ - وقوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ﴾ جواب (١) من الله عن مقالتهم بالإنكار، وتعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم لبعث العظام النخرة، وإحياء الأموات؛ أي: لا تستبعدوا تلك الكرة، ولا تحسبوها صعبة على الله سبحانه، فإنها سهلة هيئة في قدرته تعالى، فإنما هي؛ أي: تلك الكرة والرجعة ﴿زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾؛ أي: صيحة واحدة؛ أي: حاصلة بصيحة واحدة لا تكرر، يسمعونها وهم في بطون الأرض، وهي النفخة الثانية كنفخ واحد في صور الناس؛ لإقامة القافلة، عبر عن الكرة بالزجرة تنبيهًا على كمال اتصالها بها، كأنها عينها يقال: زجر البعير إذا صاح.
١٤ - ﴿فَإِذَا هُمْ﴾؛ أي: فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء ﴿بِالسَّاهِرَةِ﴾؛ أي: على وجه الأرض. قال الواحدي (٢): المراد بالساهرة: وجه الأرض وظاهرها في قول الجميع. قال الفراء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، يقال: سهر إذا لم ينم، وقيل: لأنه يسهر في فلاتها خوفًا منها، فسميت بذلك. وقيل: أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها، خلقها الله سبحانه حينئذٍ. وقيل: الساهرة: الأرض السابعة، يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق. وقال سفيان الثوري: الساهرة: أرض الشام. وفي الحديث: "بيت المقدس أرض المحشر والمنشر". وقال قتادة: هي جهنم؛ أي: فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم.
و ﴿إذا﴾ الفجائية تقيد (٣) حدوث ما أنكروه بسرعة على فجأة؛ أي: فإذا هم فاجؤوا الحصول بها، وهو بيان لحضورهم الموقف عقب الكرة التي عبر عنها بالزجرة. وقيل: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك؛ لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة؛ أي: جارية الماء، وفي ضدها نائمة، يعني: أن بياض الأرض عبارة عن خلوها عن الماء والكلأ، شبِّه جريان السراب فيها بجريان الماء عليها. فقيل لها: ساهرة. وفي "التأويلات النجمية": ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾؛ أي: فإذا هم بظهر أرض الحياة، كما كانوا قبله ببطن أرض الممات، وقال المولى الفناري في تفسير الفاتحة: إن الناس إذا قاموا من قبورهم، وأراد الله
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وحاصل المعنى (١): ألا تستبعدوا ذلك وتظنوه عسيرًا شاقًا علينا، فإنما هي صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى، فإذا الناس كلهم على سطح الأرض أحياء، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥)﴾.
وخلاصة هذا: لا تحسبوا أن هذه الرجعة عسيرة شاقة علينا، فما إعادتكم التي ظننتموها صعبة إلا أن نأمر ملكًا من ملائكتنا أن يصيح صيحة واحدة، فإذا أنتم جميعًا لدينا محضرون، لا يتخلف منكم أحد، ولا يستطيع التخلف إن أراد.
١٥ - وقوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥)﴾ كلام مستأنف مسوق لتسلية رسول الله - ﷺ - على تكذيب قومه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم، يعني: فرعون، ومعنى (٢) هل أتاك: إن قدر أن هذا أول ما أتاه من حديثه يكون ترغيبًا له في استماع حديثه، وحملًا له على طلب الإخبار، كأنه قيل: هل أتاك حديث موسى قبل هذا، أم أنا أخبرك به؟ كما قال الحسن رحمه الله تعالى: إعلام من الله لرسوله حديث موسى، كقول الرجل لصاحبه: هل بلغك ما لقي أهل البلد، وهو يعلم أنه لم يبلغه، وإنما قال ليخبره به. انتهى. وإن قدر إتيانه قبل هذا، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص يكون تقريرًا له؛ أي: حملًا له على الإقرار بأمر يعرفه قبل ذلك؛ أي: أليس قد أتاك حديثه، يعني: قد جاءك وبلغك حديثه عن قريب، كأنه لم يعلم بحديث موسى، وأنه لم يأته بعد، وإلا لما كان يتحزن على إصرار الكفار على إنكار البعث، وعلى استهزائهم به، بل يتسلى بذلك، فـ ﴿هَلْ﴾ بمعنى قد المقربة للحكم إلى الحال، وهمزة الاستفهام قبلها محذوفة، وهي للتقرير، وزيد ليس لأنه أظهر دلالة على ذلك؛ لأنه مقدر في النظم، كأنه قيل: أليس قد أتاك
(٢) روح البيان.
١٦ - ﴿إِذْ نَادَاهُ﴾؛ أي: نادى موسى وكلمه ﴿رَبَّهُ﴾ وخالقه ومالكه ظرف للحديث، والمناداة والنداء بمعنى واحد، وفي "القاموس": النداء: الصوت؛ أي: هل أتاك يا محمد حديث موسى وخبره الواقع حين ناداه؛ إذ المراد: خبره الحادث، فلا بد له من زمان يحدث فيه، لا ظرف للإتيان لاختلاف وقتي الإتيان والنداء؛ لأن الإتيان لم يقع في وقت النداء، أو مفعول لاذكر المقدر، وعيه وضع السجاوندي علامة الوقف اللازم على موسى، وقال: لأنه لو وصل.. صار ﴿إِذْ﴾ ظرفًا لإتيان الحديث، وهو محال. لعله لم يلتفت إلى عمل حديث لكونه هنا اسمًا بمعنى الخبر مع وجود فعل قوي في العمل قبله، وبالجملة: لا يخلو عن إيهام، فالوجه الوقف، كما في بعض التفاسير. ﴿بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾؛ أي المبارك المطهر بتطهير الله عما لا يليق حين مكالمته مع كليمه، أو سمي مقدسًا لوقوعه في حدود الأرض المقدسة المطهرة عن الشرك ونحوه، وأصل الوادي (١): الموضع الذي يسيل فيه الماء، ومنه سمي المنفرج بين الجبلين: واديًا، والجمع: أودية، ويستعار للطريقة، كالمذهب والأسلوب، فيقال: فلان في وادٍ غير واديك. ﴿طُوًى﴾ بدل من ﴿الواد﴾ بدل كل من كل، أو عطف بيان، وهو بضم الطاء والتنوين تأويلًا له بالمكان، أو بغير تنوين تأويلًا له بالبقعة، وهو معدول من طاوٍ، كما عدل عمر عن عامر، قال الفراء: الصرف أحب إليّ من منعه إذا. لم أجد في المعدول نظيرًا له، أي: لم أجد اسمًا من الوادي عدل عن جهته غير طوى، وهو اسم للوادي الذي بين المدينة ومصر، وقيل: ﴿طُوًى﴾ معناه: يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل: يا رجل اذهب إلى فرعون، وقيل: اسم وادٍ عند الطور بين: أيلة ومصر، وإنما سمي ﴿طُوًى﴾ لكثرة ما مشت عليه الأنبياء، وقيل: ﴿طُوًى﴾ معناه: يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل: يا رجل اذهب إلى فرعون، وقيل: المعنى: إن الوادي المقدس بورك فيه مرتين، والأول أولى.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون، وقرأ الباقون: بضم الطاء منونًا، وروى عن أبي عمرو بكسر الطاء.
١٧ - وقوله: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: فقال له: اذهب إلى فرعون، وقيل: هو
وقرأ عبد الله: ﴿أن اذهب﴾؛ لأن في النداء معنى القول كما مر آنفًا. وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ تعليل للأمر بالذهاب، أو لوجوب الامتثال به، والطغيان: مجاوزة الحد؛ أي: طغى على الخالق بأن كفر به، وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم، فكما أن كمال العبودية لا يكون إلا بالصدق مع الحق، وحسن الخلق مع الخلق، فكذا كمال الطغيان يكون سوء المعاملة معهما.
١٨ - ﴿فَقُلْ﴾ له بعدما أتيته: ﴿هَلْ لَكَ﴾ رغبة وتوجه ﴿إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ بحذف إحدى التائين من تتزكى؛ أي: إلى أن تتطهر من دنس الكفر والطغيان، ووسخ الكدورات البشرية، والقاذورات الطبيعية.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَزَكَّى﴾ بالتخفيف، وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي؛ قال أبو عمر بن العلاء: معنى قراءة المخفيف: تكون زكيًّا مؤمنًا، ومعنى قراءة التشديد: الصدقة. وفي الكلام مبتدأ مقدر يتعلق به ﴿إِلَى﴾، والتقدير: هل لك رغبة، أو هل لك توجه، أو هل لك سبيل إلى التزكي؟ كما مر آنفًا.
١٩ - ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾؛ أي: وأرشدك إلى معرفته فتعرفه، ففي النظم مضاف مقدر، وتقديم التزكية لتقدم التخلية على التحلية. ﴿فَتَخْشَى﴾؛ إذ الخشية لا تكون إلا بعد معرفته، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾؛ أي: العلماء بالله، وجعل الخشية غاية للهداية؛ لأنها ملاك الأمر؛ لأن من خشي الله.. أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، كما قال النبي - ﷺ - "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل" والإدلاج: السير أول الليل.
ثم إنه تعالى (٣) أمر موسى عليه السلام بأن يخاطبه بالاستفهام الذي معناه العرض، ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)﴾ أما كونه لينًا..
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وحاصل معنى الآيات: أي ألم يبلغك يا محمد حديث موسى مع فرعون وقومه، وقد أمره الله تعالى بالتلطف في القول، واللين في الدعوة إلى الحق؛ إقامة للحجة والوصول من أقرب محجة، كما جاء في سورة طه: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)﴾ وكان ذلك حين ناداه ربه بالوادي المطهر المبارك من طور سيناء من برية الشام بعد مضي وقت من الليل، فقال له: اذهب إلى فرعون وعظه، فإنه تجاوز الحد، وتكبر على الله، وكفر به، وتجبر على بني إسرائيل، واستعبدهم حتى بلغ من أمره أن ذبح أبناءهم، واستحيى نساءهم، ثم طلب إلى موسى أن يلين له القول؛ ليكون ذلك أنجع في الدعوى، فقال: فقل له هل ترغب إلن أن تطهر نفسك من الآثام التي انغمست فيها، وتعمل بما أدلك عليه من طرق الخير، وتبعد عما أنت فيه من اجتراح السيئات، وتخشى عاقبة مخالفة أمر ربك، حتى تأمن من عقابه إذا أديت ما ألزمك به من فرائضه، واجتنبت مما نهاك عنه من معاصيه.
٢٠ - ثم ذكر أنه لم يخضع للدليل والبرهان، ولم يقنع بما أدلى إليه موسى من حجة، فاضطر إلى أن يظر له دليلًا يراه ويشاهده، فقال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠)﴾ الفاء عاطفة على جمل قد طويت هنا تعويلًا على ذكرها في السور الأخرى، فإنه جرى بينه وبين فرعون ما جرى من المحاورات إلى أن قال: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾، والتقدير: أي: فذهب موسى إلى فرعون بأمره تعالى، فدعاه إلى التوحيد والطاعة، وطلب فرعون منه المعجزة الدالة على صدقه في دعوته، فأراه موسى الآية الكبرى، والمعجزة العظمى، والإراءة: إما من التبصير، أو من التعريف، فإن اللعين حين أبصرها.. عرفها، وادعاء سحريتها إنما كان إراءة منه، وإظهارًا للتجلد، ونسبتها إلى موسى بالنظر إلى الظاهر، كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ بالنظر إلى الحقيقة، والمراد بـ ﴿الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾: قلب العصا حية، والصغرى: غيره من معجزاته الباقية، وذلك أن
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي فلما لم يقنع بالدليل القولي.. أظهر له آية كبرى ودليلًا يراه بعينه، وهو انقلاب العصا حية
٢١ - ﴿فـ﴾ مع ذلك ﴿كَذَّبَ﴾ فرعون بموسى، وسمى معجزته سحرًا عقيب رؤية الآية، من غير روية وتأمل، وطلب شاهد من عقل، وناصح من فكر وقلب؛ لغاية استكباره وتمرده ﴿وَعَصَى﴾ الله سبحانه. بالتمرد بعدما علم صحة الأمر، ووجوب الطاعة، أشد عصيان وأقبحه، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسًا. فدل العطف على أن الذي ترتب على إراءة الآية الكبرى هو التكذيب الذي يكون عصيانًا لله تعالى، وهو التكذيب باللسان، مع حصول الجزم بأن من كذبه ممن يجب تصديقه، فأما تكذيب من لا يجب تصديقه.. فلا يكون عصيانًا، ويجوز أن يراد: وعصى فرعون موسى فيما أمر به، إلا أن الأول أدخل في ذمه، وتقبيح حاله، وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته تعالى، وترك دعوى الربوبية، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط.
٢٢ - ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾؛ أي: تولى عن الطاعة، وأعرض عن الإيمان، وكلمة ﴿ثُمَّ﴾ على هذا معناها التراخي الزماني، إذ السعي في إبطال أمره يقتضي مهلة، أو انصرف عن المجلس. قال الراغب: ﴿أَدْبَرَ﴾؛ أي: أعرض وولى دبره حال كونه ﴿يَسْعَى﴾؛ أي: يجتهد في معارضة الآية تمردًا وعنادًا، لا اعتقادًا، بأنها يمكن معارضتها، وهو حال من فاعل ﴿أَدْبَرَ﴾ بمعنى: مسرعًا مجتهدًا.
وقيل: أدبر هاربًا من الحية حال كونه يسعى خوفًا منها.
والمعنى: أي فكذب فرعون موسى، ثم ولى معرضًا عما دعاه إليه من طاعة ربه وخشيته، وطفق يخب في المعاصي، ويضع غير متدبر في عاقبة أمره، ولا مفكر في غده.
٢٣ - ﴿فَحَشَرَ﴾؛ أي: فجمع فرعون جنوده للقتال والمحاربة، أو جمع السحرة للمعارضة، لقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣)﴾، وقوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠)﴾؛ أي: ما يكاد به من السحرة وآلاتهم، أو جمع جميع الناس
٢٤ - ﴿فَقَالَ﴾ لهم بصوت عال، أو أمر من يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾؛ أي: لا رب فوقي ولا إله، أو أنا وليكم وقائدكم الأعلى من كل من يلي أمركم على أن تكون صيغة التفضيل، بالنسبة إلى من كان تحت ولايته من الملوك والأمراء، قال عطاء: كان صنع لهم أصنامًا صغارًا، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا رب أصنامكم، والأول أولى؛ لقوله في آية أخرى: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، والظاهر أنه لم يرد بهذا القول أنه خالق السموات والأرض، والجبال والنبات والحيوان، فإن العلم بفساد ذلك ضروري، ومن شك فيه كان مجنونًا، ولو كان مجنونًا لما جاز من الله بعثة الرسول إليه، بل الرجل كان دهريًا منكرًا للصانع والحشر والنشر، وكان يقول: ليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي، أو يبعث إليكم رسولًا، بل المربي لكم، والمحسن إليكم أنا لا غيري. قال بعضهم: كان ينبغي له عند ظهور ذله وعجزه بانقلاب العصا حية أن لا يقول ذلك القول، فكأنه صار في ذلك الوقت كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول، يقول الفقير: بل الأظهر حمل الربوبية على الألوهية، كما مر؛ لأن تفسير قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ بكونه أعلى من كل من يلي أمركم ليس فيه كثير جدوى؛ إذ لا يقتضي ادعاء الرئاسة دعوى الألوهية، كسائر الدهرية والمعطلة، فلأنهم لم يتعرضوا للألوهية، وإن كانوا رؤساء. تأمل هذا المقام، فإنه مما تزل فيه الأقدام.
قال بعضهم: لم يدع أحد من الخلائق من الكمال ما ادعاه الإنسان، فإنه ادَّعى الربوبية وقال: أنا ربكم الأعلى، وإبليس تبرأ منها، وقال: إني أخاف الله، فلم يدع مرتبة ليست له قط؛ أي: إنه على جناح واحد، وهو الجلال فقط، وكذا الملك، فإنه على الجمال المحض بخلاف الإنسان، فإنه مخلوق باليدين. انتهى. قال في "أسئلة الحكم": فإن قلت: ما الحكمة في أن إبليس قد لعن، ولم يدع الربوبية، وفرعون وأمثاله قد ادعوا الربوبية، ولم يلعنوا تعيينًا وتخصيصًا، كما لعن إبليس؟.
قيل: لأن نية إبليس شر من نية هؤلاء، وقيل: لأنه أول من سن الخلاف والشقاق قولًا وفعلًا ونيةً، والخلق بعده ادعوا الربوبية، وسنوا البغي والخلاف بوسوسته، وإبليس واجه بمخالفته حضرة الرب تعالى، وهم واجهوا الأنبياء
ومعنى الآية (١): أي فجمع فرعون السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه؛ كما جاء في قوله: ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)﴾ فقام فيهم يقول: أنا ربكم الأعلى، فلا سلطان يعلو سلطاني،
٢٥ - ولم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر [بحر القلزم]، عند خروجهم من مصر، فأغرق فيه هو وجنوده، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بسبب ما ذكر، وعذبه ﴿نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾؛ أي: عذاب الآخرة، وعذاب الدنيا، والمراد بنكال الآخرة: عذاب النار، وبنكال الأولى: عذاب الدنيا بالغرق، والنكال: اسم مصدر من نكل المضاعف بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى: التسليم، وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه، وينعه من تعاطي ما يفضي إليه، ومحله (٢) النصب على أنه مصدر مؤكد، كوعد الله، كأنه قال: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، وهو الإحراق في الآخرة، والإغراق في الدنيا، وأخذ مستعمل في معنى مجازي، يعم الأخذ في الدنيا والآخرة، وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن الاستعمال في الأخذ الدنيوي حقيقة، وفي الآخرة مجاز لتحقق وقوعه، وإضافة النكال إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الآخذ فيهما، لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما، فإن ذلك لا يتصور في الآخرة، بل في الدنيا، فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة.
ويجوز (٣) أن يكون انتصابُ ﴿نَكَالَ﴾ على أنه مفعول له؛ أي: أخذه لأجل نكال، ويجوز أن يكون انتصابه بنزع الخافض؛ أي: بنكال، ورجح الزجاج: أنه مصدر مؤكد، قال: لأن معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج من معناه، لا من لفظه، وقال الفراء: أخذه الله أخذًا نكالًا؛ أي: للنكال، والنكال: اسم لما جعل نكالًا للغير؛ أي: عقوبةً له، يقال: نكل فلان بفلان إذا عاقبه، وقيل: المعنى:
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٢٦ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به ﴿لَعِبْرَةً﴾؛ أي: اعتبارًا عظيمًا، وعظةً بليغةً ﴿لِمَنْ يَخْشَى﴾؛ أي: لمن من شأنه أن يخشى الله سبحانه، وهو من شأنه المعرفة، يعني: العارف بالله وشؤونه يخشى، فلا يتمرد على الله، ولا على أنبيائه؛ خوفًا من نزول العذاب، والعاقل من وعظ بغيره.
والمعنى (٢): أي إن فيما ذكر لموعظة لمن له عقل يتدبر به في عواقب الأمور ومصايرها، فينظر في حوادث الماضين، ويقيس بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها.
٢٧ - وقوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا﴾ خطاب (٣) لأهل مكة المنكرين للبعث بناءً على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعدما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣)﴾ فالشدة هنا بمعنى: الصعوبة، لا بمعنى: الصلابة؛ لأنها لا تلائم المقام؛ أي: أخلقكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم وزعمكم؛ وإلا فكلا الأمربن بالنسبة إلى قدرة الله تعالى واحد. ﴿أَمِ السَّمَاءُ﴾؛ أي: أم خلق السماء بلا مادة على عظمها وقوة تأليفها، وانطوائها على البدائع التي تجار العقول في ملاحظة أدناها، وهو (٤)، استفهام تقرير ليقروا بأن خلق السماء أصعب،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
والمعنى (١): أي أأنتم أيها الناس، وقد خلقتكم من ماء مهين ضعافًا عاجزين لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً، أصعب إبداعًا وإنشاءً، أم هذه السماء التي ترون خلقها وبديع تركيبها وعظمة شأنها؟ إنكم لا تنازعون في أنها أشد منكم خلقًا، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها، فكيف تظنون أننا نعجز عن إعادتكم بعد موتكم، يرشد إلى ذلك قوله: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾، وقوله: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ وفي هذا من التقريع والتوبيخ ما لا يخفى، وبعد أن أشار إلى عظيم خلق السموات إجمالًا.. شرع يبين ذلك تفصيلًا، فقال: ﴿بَنَاهَا﴾؛ أي: بني الله سبحانه وتعالى السماء، وركبها من أجزاء متفرقة، وهو استئناف وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله: ﴿أَمِ السَّمَاءُ﴾ فيتم الكلام حينئذٍ عند قوله: ﴿أَمِ السَّمَاءُ﴾، ويبتدأ من قوله: ﴿بَنَاهَا﴾، و ﴿أَمِ﴾، متصلة، وقال الكسائي والفراء والزجاج: تم الكلام عند قوله: ﴿أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾؛ لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز.
واستعمل البناء في موضع السقف، فإن السماء سقف مرفوع، والبناء إنما يستعمل في أسافل البناء لا في الأعالي، للإشارة إلى أنه وإن كان سقفًا.. لكنه في البعد عن الاختلال والانحلال كالبناء، فإن البناء أبعد عن تطرق الاختلال إليه بالنسبة إلى السقف، ومعنى بناها؛ أي: جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض،
٢٨ - وقوله: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ بيان للبناء؛ أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، وذهابها إلى سمت العلو مديدًا رفيعًا مسيرة خمس مئة عام، فإن امتداد الشيء إن أخذ من أسفله إلى أعلاه سُمي سمكًا، وإن أخذ من أعلاه إلى أسفله سُمي: عمقًا، وقال بعضهم:
ومعنى: ﴿بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)﴾؛ أي: ضم أجزاءها (١) المتفرقة، وربطها بما يمسكها حتى حصل عن جمعها بنية واحدة، فقد أبدع في خلق الكواكب، وجعل كل كوكب منها على نسبة من الآخر، وجعل لكل منها ما يمسكه في مداره، حتى كان من مجموعها ما يشبه البناء، وهو ما نسميه بالسماء، وقد جعلها ذاهبة في العلو صعدًا، وعدلها فوضع كل جزاء منها في موضعه الذي يتسحقه، ويحسن أن يكون فيه.
٢٩ - ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾؛ أي: وجعل ليلها مظلمًا بمغيب كواكبها ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ أي: وأبرز نهارها، وعبر عن النهار بالضحى؛ لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها، يقال: أغطشه الله إذا جعله مظلمًا، وأغطش الليل: إذا صار مظلمًا، فهو متعد ولازم، والأول هو المراد هنا؛ أي: جعله مظلمًا ذاهب النور.
فإن قيل: الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسب غروب الشمس، فقوله: ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾: يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلمًا، وهو بعيد، والجواب: معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان، إنما حصلت بتدبير الله وتقديره، فلا إشكال.
وعبارة "الروح": قوله: ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ أي: أبرز نهارها، عبر عنه بالضحى، وهو ضوء الشمس، ووقت الضحى هو الوقت الذي تشرق فيه الشمس، ويقوم سلطانها؛ لأنه أشرف أوقاتها وأطيبها، على تسمية المحل باسم أشرف ما حل فيه، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان، وهو السر في تأخير ذكره عن ذكر الليل، وفي التعبير عن إحداثه بالإخراج، فإن إضافة النور بعد الظلمة أتم في الإنعام، وأكمل في الإحسان.
وإضافة (٢) الليل والضحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتها،
(٢) روح البيان.
٣٠ - وتعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيء الأرض للسكنى، ومن ثَمَّ قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بألفي عام؛ أي: بعدما ذكر من بناء السموات، ورفع سمكها وتسويتها ﴿دَحَاهَا﴾؛ أي: دحى الأرض، وبسطها ومهدها لسكنى أهلها، وتقلبهم في أقطارها، وقد كانت الأرض مخلوقة غير مدحوة قبل ذلك، فلا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١)﴾، لأنه يمكن الجمع بينهما، بأنه سبحانه خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، كما تقدم هنالك، فالآيتان ترشدان إلى أن الله تعالى خلق الأرض أولًا، ثم خلق السموات بعد ذلك، ثم عاد إلى الأرض فمهدها ودحاها، فآية السجدة حكاية للخلق الأول ومبدئه، وهذه الآية حكاية للإصلاح الذي كان بعد الخلق.
وقال بعض أهل العلم (١): إن ﴿بَعْدَ﴾ هنا بمعنى: مع، كما في قوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣)﴾ وقيل: ﴿بَعْدَ﴾ بمعنى قبل، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾، أي: من قبل القرآن، ولكن الجمع الذي ذكرناها أولى، وهو قول ابن عباس، وغير واحد من المفسرين، واختاره ابن جرير. وقرأ الجمهور (٢) بنصب ﴿الأرض﴾ و ﴿الجبال﴾ على الاشتغال، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال وعمرو بن ميمون ونصر بن عاصم برفعهما على الابتداء، وقرأ عيسى برفع ﴿الأرض﴾ فقط،
٣١ - ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من أمر المآكل والمشارب، وإمكان القرار عليها، فقال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا﴾؛ أي: من الأرض، ﴿مَاءَهَا﴾ بأن فجر منها عيونًا، وأجرى أنهارًا ﴿و﴾ أثبت منها ﴿مَرْعَاهَا﴾، أي: رعيها بكسر أوله ونباتها الذي ترعاه الأنعام، وهو الكلأ،
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات، سواء أكان قوتًا لبني آدم، كالحب والثمر، أم قوتًا للأنعام والماشية، كالعشب والحشيش.
٣٢ - ﴿وَالْجِبَالَ﴾: منصوب بمضمر يفسره قوله: ﴿أَرْسَاهَا﴾؛ أي أثبتها وأثبت بها الأرض؛ لئلا تميد بأهلها، وهذا تحقيق للحق، وتنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل بالتعبير عنها بالرواسي، ليس من مقتضيات ذواتها، بل هو بإرسائه سبحانه وتعالى، ولولاه لما ثبتت في نفسا فضلًا عن إثباتها للأرض.
قيل: ولعل وجه تقديم ذكر الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه؛ للاهتمام بأمر المآكل والمشارب،
٣٣ - وقوله تعالى: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣)﴾ (٢) مفعول له لفعل محذوف بمعنى تمتيعًا، والأنعام جمع نعم بفتحتين، وهي المال الراعية بمعنى المواشي، وفي "الصحاح": وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والمراد هنا: ما يكون علمًا للإبل والبقر والغنم، من الضأن والمعز، والتقدير: فعلنا ذلك تمتيعًا ومنفعةً لكم ولأنعامكم؛ لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد، إخراج الماء والرعى واصلة إليهم، وإلى أنعامهم، فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكل الإنسان وغيره بناءً على استعارة الرعي لتناول المأكول على الإطلاق، كاستعارة المرسن للأنف، ولهذا قيل: دل الله تعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويستمع، مما يخرج من الأرض حتى الملح فإنه من الماء، قال العتبي: هذا أي قوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١)﴾ من جوامع الكلم؛ حيث ذكر شيئين دالين على جمع ما أخرج من الأرض قوتًا ومتاعًا للأنعام، من العشب والشجر، والحب والثمر، والملح والنار لأن النار من الشجر الأخضر، والملح من الماء، ونكتة الاستعارة: توبيخ المخاطبين المنكرين للبعث،
(٢) روح البيان.
وقيل: انتصاب ﴿مَتَاعًا﴾ على المصدرية، أي: متعناكم بذلك تمتيعًا لكم ولأنعامكم، أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحيون، ورافع السماء فوقكم، وممهد الأرض تحتكم قادرًا على بعثكم، وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبر أمركم هذا التدبير المحكم، ووفر لكم هذا الخير الكثير.
٣٤ - وقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤)﴾ شروع (١) في بيان أحوال معادهم إثر بيان أحوال معاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها عما قليل؛ كما ينبىء عنه لفظ المتاع، ويصح أن تكون فصيحةً. قال في "الصحاح": كل شيء كثر حتى علا وغلب، فقد طم، من باب رد، و ﴿الْكُبْرَى﴾: تأنيث الأكبر، من كبر بالضم بمعنى عظم، لا من كبر بالكسهر بمعنى أسن، و ﴿الطَّامَّةُ﴾: الداهية التي تعلو وتغلب كل الدواهي، فوصفها بالكبرى يكون للتأكيد، والمراد بها: القيامة، لطمومها على كل هائلة، أو النفخة الثانية، فإنه يشاهد يوم القيامة من الآيات الهائلة الخارجة عن العادة ما ينسى معه كل هائل، وعند النفخة الثانية تحشر الخلائق إلى موقف القيامة، وخصت سورة النازعات بالطامة، وسورة عبس بالصاخة؛ لأن الطم إن كان بمعنى النفخة الأولى للإهلاك.. فهو قبل الصخ؛ أي: الصوت الشديد الذي يحيى له الناس حين يصيخون له، كما ينتبه النائم بالصوت الشديد، فهو بمعنى النفخة الثانية، فجعل السابق للسورة السابقة، واللاحق للَّاحقة، وإن كان بمعنى النفخة الثانية.. فحسن الموقع في كلا الموضعين؛ لأن الطم ورد بعد قوله: ﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)﴾، والصخ بعدما بين عدم إصاخة النبي - ﷺ - لابن أم مكتوم، وجواب ﴿إذا﴾ محذوف يدل عليه التفصيل المذكور، والتقدير: إذا عرفتم حال معاشكم، وأردتم بيان حال معادكم.. فأقول لكم: إذا جاء وقت وقوع الداهية العظمى التي تطم وتغلب على سائر الطامات والدواهي.. يكون من عظائم الأمور ما لا يخطر في بال، ولم تره عين، ولم تسمع به أذن.
٣٥ - وقوله: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥)﴾ منصوب (٢) بأعني تذكيرًا وبيانًا للطامة "الكبرى" و ﴿مَا﴾ موصولة، وسعى بمعنى: عمل؛ أي: أعني بالطامة الكبرى: يوم
(٢) روح البيان.
٣٦ - وقوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾ معطوف على ﴿جَاءَتِ﴾؛ أي: أظهرن إظهارًا بينًا لا يخفى على أحد بعد أن كانوا يسمعون بها، والمراد بها: مطلق النار المعبر عنها بجهنم، لا الدركة المخصوصة من الدركات السبع، ﴿لِمَنْ يَرَى﴾ كائنًا من كان على ما يفيده ﴿من﴾؛ فإنه من ألفاظ العموم، روي أنه يكشف عنها فتتلظى، فيراها كل ذي بصر مؤمن أو كافر، ولا يعارضه قوله تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)﴾؛ فإنه يدل على أنها لا تظهر للمؤمنين؛ لأنهم يرونها حين يقرون عليها مجاوزين الصراط لا لتعذيبهم، وقيل: للكافر فقط لأن المؤمن يقول: أين النار التي توعدنا بها، فيقال: مررتموها وهي خامدة.
والمعنى: أي وإذا برزت الجحيم لمن يرى.. يكون من عظام الأمور ما لا يخطر ببال.
٣٧ - والفاء في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧)﴾ إلخ استئنافية، والكلام بعدها مستانف مسوق لبيان حال الناس في الدنيا، وجزائهم في الآخرة، وقيل: الجملة جواب ﴿إذا﴾ في قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤)﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾ مبنيًا للمفعول مشدد الراء، وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن عمرو: ﴿وبرزت الجحيم﴾ مبنيًا للفاعل مخففا، وقرأ الجمهور: ﴿لِمَنْ يَرَى﴾ بياء الغيبة التحتانية، وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة وزبد بن علي: ﴿لمن ترى﴾ بتاء الغيبة؛ أي: لمن تراه الجحيم، أو بتاء الخطاب؛ أي: لمن تراه أنت يا محمد، وقرأ ابن مسعود: ﴿لمن رأى﴾ على صيغة الفعل الماضي.
ومعنى الآيات: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ﴾؛ أي: فإذا (٢) حل ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان، وتشاهد فيه النار، فينسى المرء كل هول دونها.. فصل الله بين
(٢) المراغي.
١ - ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥)﴾؛ أي: أعني بذلك اليوم: حين يرى الإنسان أعماله مدونة في كتابه، وكان قد نسيها، فتعاوده الذكرى، كما قال تعالى: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾.
٢ - ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦)﴾؛ أي: وأظهرت النار حتى يراها كل ذي عينين، سواء منهم المؤمن والكافر، سوى أنها تكون مقرًا للكافرين، وينجي الله المؤمنين.
والخلاصة: إذا جاء ذلك اليوم.. فصل الله بين الخلائق، كما فصله بعد بقوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧)﴾، أي: عتا وتمرد عن الطاعة، وتكبر عن الحق، وجاوز الحد في العصيان، كالنضر بن الحارث وأبيه الحارث، المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان،
٣٨ - ﴿وَآثَرَ﴾، أي: اختار ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: الفانية التي على جناح الفوات، فانهمك فيما متع به فيها، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة،
٣٩ - ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ﴾ التي ذكر شأنها ﴿هِيَ﴾ لا غيرها، وهو ضمير فصل، أو مبتدأ ﴿الْمَأْوَى﴾؛ أي: مأواه، فلا يخرج من النار كما يخرج المؤمن العاصي، فالكلام في حق الكافر، لكن في موعظة وعبرة موقظة للمؤمن، والألف (١) واللام فيه عوض عن المضاف إليه كما أشرنا إليه؛ للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي، نظير قولك: غض الطرف؛ أي: طرفك، فإنه لا يغض الرجل طرف غيره، وذلك لأن الخبر إذا كان جملة لا بد فيها من ضمير يربطها بالمبتدأ، فسدت اللام مسد العائد لعدم الالتباس، فلا احتياج في مثل هذا المقام إلى الرابط.
والمعنى: أنها منزله الذي ينزله، ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها؛ أي: فأما من تكبر وتجاوز الحد، وآثر الحياة الدنيا وشهواتها على ثواب الآخرة فالنار مثواه ومستقره،
٤٠ - ثم ذكر القسم الثاني من القسمين، فقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾؛ أي: قيامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وذلك
﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾؛ أي: زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها بحكم الجبلة البشرية، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها علمًا منه بوخامة عاقبتها، و ﴿الْهَوَى﴾: ميلان النفس إلى ما تشتهيه وتستلذه من غير داعية الشرع وفي الحديث: "إن أخوف ما أتخوف على أمتي الهوى، وطول الأمل"؛ أما الهوى.. فيصد عن الحق، وأما طول الأمل.. فينسي الآخرة.
٤١ - ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ﴾ ونعيمها ﴿هِيَ﴾ لا غيرها ﴿الْمَأْوَى﴾ له؛ أي: المنزل الذي ينزله، والمكان الذي يأوي إليه، فنهي (١) النفس عن الهوى معناه: نهيها عن جميع الهوى على أن اللام للاستغراق، وإلا فلا معنى للحصر؛ لأن المؤمن الفاسق قد يدخل النار أولًا، ثم يدخل الجنة، فلا يصح في حقه الحصر، اللهم إلا أن يقال: معنى الحصر: أن الجنة هي المقام الذي لا يخرج عنه من دخل فيه.
وفي بعض التفاسير: المراد بالجنة: مطلق دار الثواب، فلا يخالف قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾ فإن له جنتين بفضل الله تعالى في دار الثواب جنة النعيم بالنعم الجسمانية، وجنة التلذذ باللذات الروحانية. انتهى.
والمعنى (٢): أي أما من حذر وقوفه بين يدي ربه يوم القيامة، وأدرك مقدار عظمته وقهره وغلبة جبروته وسطوته، وجنب نفسه عن الوقوع في محارمه.. فالجنة مثواه وقراره، وقد ذكر سبحانه من أوصاف السعداء شيئين يضادان أوصاف الأشقياء:
(٢) المراغي.
٢ - وقوله: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ يضاد قوله: ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨)﴾، وقد مدح الحكماء مخالفة الهوى فقالوا إذا أردت الصواب.. فانظر هواك، فخالفه. وقال سهل: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين.
وقال عمران الميرتلي:
فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ | هَوَى نَفْسِهِ تَنْزعْ بِهِ كُلَّ مَنْزعِ |
وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوْجَةً تُرْد | وَتَرْمِ بِهِ فِيْ مَصْرَعٍ أَيِّ مَصْرَعِ |
والمعنى: يسألك أيها الرسول هؤلاء المكذبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم، متى قيامها وظهورها.
٤٣ - وقوله: ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣)﴾ رد وانكار لسؤال المشركين عنها، وأصل ﴿فِيمَ﴾: فيما، كما أن أصل ﴿عَمَّ﴾: عما، وقد سبق. و ﴿ذكرى﴾: مصدر بمعنى: الذكر، كالبشرى بمعنى البشارة؛ أي: في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها، وتعلمهم حتى يسألوك بيانها، كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾؛ أي: ما أنت من ذكراها لهم، وتبيين وقتها في شيء؛ لأن ذلك فرع علمك به، وأنى لك ذلك، وهو مما استأثر به بعلمه علام الغيوب، فقوله: ﴿مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ فيه حذف مضاف، وصلته محذوفة، وهي: لهم، والاستفهام للإنكار، و ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ، و ﴿فِيمَ﴾ خبره قدم عليه، و ﴿مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ متعلق بما تعلق به الخبر.
وتلخيص المعنى (١): لا تشغل نفسك بهذا الأمر، ولا تكلفها عناء البحث عنه، واستكناه أسراره، ومعرفة ما حجبه الله عن خلقه من شأنه.
٤٤ - ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤)﴾؛ أي: انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء ما كائنًا من كان، فلأي شيء يسألونك عنها؛ أي: إلى ربك يا محمد ينتهي علم الساعة، فلا يعلم وقت قيامها غيره تعالى، ولم يعطه لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، وهو كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك، بيان وقت قيامها؟
٤٥ - ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥)﴾؛ أي: وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها، وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال، لا تعيين وقتها الذي لم يفوض إليك، فما لهم يسألونك عما ليس من وظائفك بيانه؛ أي: ما أنت إلا منذر لا يعلم وقتها، فهو من قصر الموصوف على الصفة، أو ما أنت منذر إلا من يخشاها، فهو من قصر الصفة على الموصوف.
وتخصيص ﴿من يخشى﴾ مع أنه مبعوث إلى من يخشى، ومن لا يخشى؛ لأنهم هم المنتفعون به؛ أي: لا يؤثر الإنذار إلا فيهم، كقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد﴾ والجمهور على أن قوله: ﴿مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ من إضافة الصفة إلى معمولها للتخفيف على الأصل؛ لأن الأصل في الأسماء الإضافة، والعمل فيها إنما هو بالشبه، ومن قرأها بالتنوين اعتبر أن الأصل فيها الإعمال، والإضافة فيها إنما هي للتخفيف.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مُنْذِرُ مَنْ﴾ بالإضافة، وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيص وأبو عمرو في رواية وابن مقسم وحميد: ﴿منذرٌ﴾ بالتنوين. قال الفراء: والتنوين وتركه في ﴿مُنْذِرُ﴾ صواب، كقوله: ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن تكون الإضافة
(٢) البحر المحيط.
٤٦ - ﴿كَأَنَّهُمْ﴾؛ أي: كأن منكريها من كفار مكة ﴿يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾؛ أي: يرون القيامة ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾؛ أي: لم يمكثوا ﴿إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ والضحى: اسم لما بين إشراق الشمس إلى استواء النهار، ثم هي عشي إلى الغداة، كما في "كشف الأسرار". والجملة حال من الموصول، فإنه على تقدير الإضافة وعدمها، مفعول لـ ﴿مُنذِرُ﴾، كأنه قيل (١): تنذرهم مشبهين يوم يرونها؛ أي: في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة؛ أي: عشية يوم واحد، أو ضحاه، أي: آخر يوم أو أوله لا يومًا كاملًا على أن التنوين عوض عن المضاف إليه، فلما ترك اليوم.. أضيف ضحاه إلى عشية، والضحى والعشية لما كانا من يوم واحد.. تحققت بينهما ملابسة مصححة لإضافة أحدهما إلى الآخر، فلذلك أضيف الضحى إلى العشية.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة؟
قلنا: لو قيل لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحى.. احتمل أن يكون العشية من يوم، والضحى من يوم آخر، فيتوهم استمرار اللبث من ذلك الزمان من اليوم الأول إلى الزمان الآخر من اليوم الآخر، وأما إذا قيل: عشية أو ضحاها. لم يحتمل ذلك ألبتة. قال في "الإرشاد" (٢): واعتبار كون اللبث في الدنيا، أو في القبور لا يقتضيه المقام، وإنما الذي يقتضيه، اعتبار كونه بعد الإنذار، أو بعد الوعيد تحقيقًا للإنذار، وردا لاستبطائهم. وعبارة "الشوكاني".
قوله: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾؛ أي: لم يقيموا في الدنيا إلا قدر آخر نهار أو أوله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد: تقليل مدة الدنيا، كما قال في آية أخرى: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾، وقيل: لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها. انتهى.
والمعنى: أي: إن هذا اليوم الذي لجوا في إنكاره سيقع ألبتة، ويرونه بأعينهم، فإذا عاينوه حسبوا أنهم لم يلبثوا ولم يقيموا في الدنيا إلا ساعة من نهار، ثم انقضت.
(٢) أبو السعود.
الإعراب
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)﴾.
﴿وَالنَّازِعَاتِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم ﴿النازعات﴾: مقسم به، مجرور بـ ﴿واو﴾ القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالنازعات، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًا، ﴿غَرْقًا﴾: مفعول مطلق معنوي منصوب بـ ﴿النازعات﴾، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: أقسم بالنازعات نزع إغراق وشدة، وهو مصدر حذف زوائده؛ أي: أقسم بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزع إغراق وشدة، ﴿وَالنَّاشِطَاتِ﴾: معطوف على ﴿النازعات﴾ ﴿نَشْطًا﴾ منصوب بـ ﴿الناشطات﴾ على المفعولية المطلقة، ﴿وَالسَّابِحَاتِ﴾: معطوف أيضًا على ﴿النازعات﴾ ﴿سَبْحًا﴾: منصوب على الفعولية المطلقة بـ ﴿السابحات﴾، ﴿فَالسَّابِقَاتِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة معطوف على ﴿السابحات﴾. ﴿سَبْقًا﴾: مفعول مطلق منصوب بـ ﴿السابقات﴾: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ﴾ معطوف على ﴿السابقات﴾. ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به لـ ﴿المدبرات﴾، واختير الفاء في الأخيرين للدلالة على ترتب كل منهما على ما قبله بغير مهملة. وجواب القسم في هذه المذكورات محذوف جوازًا، تقديره: لتبعثن يا كفار مكة ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بجواب القسم المحذوف ﴿تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ ﴿تَتْبَعُهَا﴾: فعل ومفعول به. ﴿الرَّادِفَةُ﴾: فاعل، والجملة في محل النصب حال من ﴿الرَّاجِفَةُ﴾؛ أي: حالة كون الراجفة متابعة إياها الرادفة.
﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩)﴾.
﴿قُلُوبٌ﴾: مبتدأ أول، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ ﴿وَاجِفَةٌ﴾، و ﴿وَاجِفَةٌ﴾: صفة لـ ﴿قُلُوبٌ﴾، وهو المسوغ للابتداء بالنكرة، ﴿أَبْصَارُهَا﴾: مبتدأ ثانٍ، ﴿خَاشِعَةٌ﴾: خبره، وهو وخبره خبر للمبتدأ الأول، وفي الكلام حذف
﴿يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم يقولون، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿خَاشِعَةٌ﴾، أو مستأنفة، ﴿أَإِنَّا﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري؛ لأنهم أنكروا الرد ونفوه ﴿إنا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَمَرْدُودُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿مردودون﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿فِي الْحَافِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿مردودون﴾، و ﴿في﴾ بمعنى: إلى، و ﴿الْحَافِرَةِ﴾: الأرض التي قبورهم فيها: ﴿أَإِذَا﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري مؤكدة للأولى. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بمحذوف دل عليه ﴿مردودون﴾، تقديره: أنرد ونبعث وقت كوننا عظامًا نخرة مع كوننا أبعد شيء من الحياة، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿عِظَامًا﴾ خبره ﴿نَخِرَةً﴾: صفة ﴿عِظَامًا﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إذا﴾ ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية كفر آخر متفرع على كفرهم السابق. ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ، والإشارة إلى الرجعة في الحافرة، ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء لا عمل لها جيء بها لإفادة تأكيد الرجعة الخاسرة، ﴿كَرَّةٌ﴾: خبر لـ ﴿تِلْكَ﴾. ﴿خَاسِرَةٌ﴾: نعت لـ ﴿كَرَّةٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية لمحذوف تقديره: لا تستصعبوها على الله تعالى، ﴿إنما﴾: أداة حصر ﴿هِيَ﴾: مبتدأ ﴿زَجْرَةٌ﴾ خبر. ﴿وَاحِدَةٌ﴾: صفة ﴿زَجْرَةٌ﴾، والجملة الاسمية جملة معللة لذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمعنى: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله تعالى؛ لأنها سهلة هينة بقدرته تعالى؛ لأنها حاصلة بزجرة واحدة، ونفخة
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣)﴾.
﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التقريري، والمعنى: أليس قد أتاك حديث موسى ﴿أَتَاكَ﴾: فعل ماض، ومفعول به، ﴿حَدِيثُ مُوسَى﴾: فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله - ﷺ - ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿حَدِيثُ مُوسَى﴾؛ لا بـ ﴿أَتَاكَ﴾ كما يتوهم لاختلاف وقتيهما، ﴿نَادَاهُ﴾: فعل ماضٍ، ومفعول به، ﴿رَبُّهُ﴾: فاعل، ﴿بِالْوَادِ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر ﴿الواد﴾: مجرور بالباء، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين، وحذفت في الخط تبعًا للفظ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نَادَاهُ﴾، ﴿الْمُقَدَّسِ﴾: صفة للوادي ﴿طُوًى﴾: بدل من الوادي، وقرىء بالتنوين وتركه، قال الجوهري: وطوى: اسم موضع بالشام، وتكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه.. جعله اسم واد ومكان، وجعله نكرة، ومن لم يصرفه.. جعله اسم بلدة وبقعة، وجعله معرفة. ﴿اذْهَبْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على موسى، ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: متعلق بـ ﴿اذْهَبْ﴾، والجملة مقول لقول محذوف معطوف على ﴿نَادَاهُ﴾ تقديره: فقال: اذهب، ويجوز أن تكون جملة مفسرة للنداء، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿طَغَى﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ جملة تعليلية مسوقة لتعليل الأمر بالذهاب لا محل لها من الإعراب ﴿فَقُلْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿اذْهَبْ﴾، ﴿هَل﴾: حرف استفهام معناه العرض، وهو الطلب برفق ولين ﴿لَكَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هل لك رغبة إلى أن تزكى، ﴿إِلَى﴾: حرف جر، وجملة ﴿أَنْ تَزَكَّى﴾ مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿إلى﴾، تقديره: هل لك رغبة إلى التزكية، الجار والمجرور متعلق بالمبتدأ المحذوف،
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٢٦)﴾.
﴿فَقَالَ﴾: معطوف على ﴿نادى﴾. ﴿أَنَا رَبُّكُمُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿الْأَعْلَى﴾ صفة لـ ﴿رَبُّكُمُ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ﴾: فعل ماضٍ، ومفعول به مقدم، وفاعل مؤخر معطوف على ﴿قال﴾، ﴿نَكَالَ الْآخِرَةِ﴾: مصدر معنوي لـ ﴿أخذ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: أخذه أخذ نكال، ويجوز أن يكون مفعولًا لأجله؛ أي لأجل نكاله. قال الزمخشري: هو مصدر مؤكد لفعله المحذوف، كوعد الله وصبغة الله، كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: ﴿الْآخِرَةِ﴾: مضاف إليه، ﴿وَالْأُولَى﴾: معطوف عليه. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم. ﴿لَعِبْرَةً﴾، ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿عبرة﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿عبرة﴾، وجملة ﴿يَخْشَى﴾ صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة.
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩)
﴿أَأَنْتُمْ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي، ﴿أَأَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿أَشَدُّ﴾: خبر. ﴿خَلْقًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب ﴿أَمِ﴾: حرف عطف متصلة. ﴿السَّمَاءُ﴾: معطوف على ﴿أَنتُمْ﴾، ويجوز أن تعرب ﴿السَّمَاءُ﴾: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: أم السماء أشد خلقًا. ﴿بَنَاهَا﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿السَّمَاءُ﴾؛ كأنه بيان لكيفية خلقها، ويجوز أن تكون مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة بدل من جملة ﴿بَنَاهَا﴾ متابعة لها ﴿فَسَوَّاهَا﴾ معطوف على ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾، ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿سواها﴾، ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ما قبله، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسره ما بعده، تقديره: ودحى الأرض، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾، ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: ظرف مضاف متعلق بـ ﴿دَحَاهَا﴾، وجملة ﴿دَحَاهَا﴾ جملة مفسرة لا محل لا من الإعراب.
﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩)﴾.
﴿أَخْرَجَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على الله ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجَ﴾. ﴿مَاءَهَا﴾: مفعول به، ﴿وَمَرْعَاهَا﴾: معطوف على ﴿مَاءَهَا﴾، وجملة ﴿أَخْرَجَ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿دَحَاهَا﴾ بتقدير: قد؛ أي: والأرض دحاها حال كونه مخرجًا منها ماءها ومرعاها، وهذا قول الجمهور، ويجوز أن تكون الجملة مفسرة لما لا بد منه في تأتي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها. ﴿وَالْجِبَالَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الْجِبَالَ﴾: منصوب على الاشتغال، بفعل محذوف وجوبًا تقديره: وأرسى الجبال، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا﴾، وجملة ﴿أَرْسَاهَا﴾ جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب ﴿مَتَاعًا﴾: مفعول
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾.
﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، مرفوع بالنون. ﴿عَنِ السَّاعَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لحكاية نوع آخر من تعنتهم ﴿أَيَّانَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، لتضمنه معنى همزة الاستفهام، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم ﴿مُرْسَاهَا﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية جملة مفسرة لسؤالهم عن الساعة لا محل لها من الإعراب؛ أي: متى إرساؤها؛ أي: إقامتها وإثباتها. ﴿فِيمَ﴾: ﴿في﴾: حرف جر ﴿م﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الجر بـ ﴿في﴾ مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ﴿ما﴾ الموصولة، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مِنْ ذِكْرَاهَا﴾: متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، والجملة جملة إنشائية إنكارية لا محل لها من الإعراب، كأنها إنكار ورد لسؤالهم عن الساعة، وبيان لبطلان السؤال ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: خبر مقدم. ﴿مُنْتَهَاهَا﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الإنكار قبلها ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر، ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ ﴿مُنذِرُ﴾: خبر، والجملة مستأنفة، ﴿مُنذِرُ﴾: مضاف، و ﴿مَنْ﴾ الموصولة في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿يَخْشَاهَا﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿كَأَنَّهُمْ﴾: ﴿كأن﴾: حرف نصب وتشبيه، و ﴿الهاء﴾ ضمير الغائبين في محل النصب اسمها. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بما في ﴿كأن﴾ من معنى التشبيه، وجملة ﴿يَرَوْنَهَا﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالنَّازِعَاتِ﴾؛ أي: الكواكب الجاريات على نظام معين في سيرها؛ كالشمس والقمر، يقال: نزعت الخيل إذا جرت.
﴿غَرْقًا﴾؛ أي: مغرقة، أي: مجدة مسرعة في جريها لتقطع مسافة فلكها حتى تصل إلى أقصى المغرب، وفي "القرطبي": ﴿غَرْقًا﴾ بمعنى: إغراقًا، وإغراق النازع في القوس: أن يبلغ غاية المد حتى ينتهي إلى النصل. وفي "القاموس": يقال: أغرق: إذا استوفى مدها، وذلك بأن ينتهي إلى العقب الذي عند النصل الملفوف عليه، والاستغراق: الاستيعاب. اهـ.
﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢)﴾؛ أي: الخارجات من برج إلى برج خروجًا، من قولهم: نشط النور إذا خرج. وفي "القاموس": نشط - الدلو من باب ضرب - إذا نزعها بلا بكرة إذا كان متعديًا، وأما إذا كان لازمًا كما هنا على هذا المعنى المذكور، فهو من باب تعب. وفي "المصباح": نشط في عمله ينشط من باب تعب خف وأسرع نشاطًا، وهو نشيط، ونشطت الحبل نشطًا من باب ضرب: عقدته بأنشوطة، والأنشوطة - بضم الهمزة -: ربطة دون العقدة، إذا مدت بأحد طرفيها انفتحت، وأنشطت الأنشوطة - بالألف -: حللتها، وأنشطت العقال: حللته، وأنشطت البعير من عقاله: أطلقته.
﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣)﴾؛ أي: السائرات في أفلاكها سيرًا هادئًا لا اضطراب فيه ولا اختلال، وقد جعل مرورها في جوائها كالسبح في الماء، كما جاء في قوله: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾. وفي "المختار": السباحة - بالكسر -: العوم، وقد سبح يسبح بالفتح، والسبح: الفراغ، والسبح أيضًا: التصرف في المعاش، وبابه:
﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤)﴾؛ أي: المسرعات عن غيرها في سبحها، فتتم دورتها حول ما تدور عليه في مدة أسرع مما يتم غيرها؛ كالقمر، فإنه يتم دورته في شهر قمري، والشمس تتم دورتها في سنة شمسية، وهكذا غيرها من السيارات السريعة، ومنها ما لا يتم دورته إلا في سنين.
﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)﴾؛ أي: فالكواكب التي تدبر بعض الأمور الكونية في عالمنا الأرضي بظهور بعض آثارها، فسبق القمر علمنا حساب شهوره، وله الأثر العظيم في السحاب والمطر، وفي البحر من المد والجزر، ولضيائه حين امتلائه فوائد في تصريف منافع الناس والحيوان. وسبق الشمس في أبراجها علمنا حساب المشهور، وسبقها إلى تتميم دورتها السنوية علمنا حساب السنين، والخلاف بين فصول السنة، واختلاف الفصول من أسباب حياة النبات والحيوان، وقد نسب إليها التدبير؛ لأنها أسباب ما نستفيده منها، والمدبر الحكيم هو الله سبحانه العزيز العلم الذي جل ذكره وعظم شأنه.
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)﴾؛ أي: تضطرب النفخة الأولى، بها يرجف كل شيء من الأجرام الساكنة؛ كالأرض والجبال، وصفت النفخة بما يحدث منها.
﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)﴾؛ أي: النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، وقيل: المعنى: ﴿تَرْجُفُ﴾؛ أي: تضطرب وتتحرك ﴿الرَّاجِفَةُ﴾؛ أي: الأرض بمن عليها.
﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)﴾؛ أي: السماء وما فيها تردفها وتتبعها، فإنها تنشق وتنثر كواكبها. وفي "المختار": الرجفة: الزلزلة، وقد رجفت الأرض من باب نصر. اهـ. وفي "القرطبي": وأصل الرجفة: الحركة، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ﴾: وليست الرجفة هاهنا من الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفًا ورجيفًا أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس بها. اهـ. وفي، "القاموس" ردفه - كسمعه ونصره - تبعه كأردفه. اهـ.
﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨)﴾؛ أي: شديدة الاضطراب والخوف. وفي "المختار": وجف الشيء يجف بالكسر وجيفًا ضطرب، وقلب واجف؛ أي:
﴿أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾ الحافرة: الطريق التي يرجع الإنسان فيها من حيث جاء، يقال: رجع في حافرته وعلى حافرته إذا رجع في طريقه التي جاء منها، وأصله: أن الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفرًا. وقال الراغب: وقوله في الحافرة: مثل لمن يرد من حيث جاء أي أنرد إلى الحياة بعد أن نموت. وقيل: الحافرة: الحياة الأولى، أي: نرد إلى الحياة بعد الموت. وقد ظنوها حياتهم الأولى، و ﴿في﴾ بمعنى إلى، على هذا التفسير.
﴿عِظَامًا نَخِرَةً﴾؛ أي: بالنية من نخر العظم فهو نخر وناخر، وهو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير. اهـ أبو السعود. وفي "المصباح": نخر العظم نخرًا - من باب تعب - بلي وتفتت، فهو نخرٌ وناخر. اهـ ونخرة: أبلغ من ناخرة لكونها من صيغ المبالغة، أو صفة مشبهة دالة على الثبوت كما مر في مبحث التفسير.
﴿كَرَّةٌ﴾ الكر: الرجوع، والكرة: المرة من الرجوع، والجمع كرات كمرة ومرات.
﴿خَاسِرَةٌ﴾ والخاسرة: هي التي يخسر أصحابها ولا يربحون ﴿زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ والزجرة: الصيحة، والمراد بها: النفخة الثانية يبعث بها الأموات.
﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾ والساهرة: الأرض البيضاء المستوية؛ لأن السراب يجري فيها، وسميت بذلك؛ لأن شدة الخوف التي تعتري من عليها تطير النوم من أعينهم، فلا يذوقون نومًا، فهي ساهرة: أي: ساهر من عليها. قال الأشعث بن قيس:
وَسَاهِرَةٍ يَضْحَى السَّرَابُ مُجَلِّلًا | لَأقْطَارِهَا قَدْ جِئْتُهَا مُتَلَثِّمَا |
﴿بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾؛ أي: المبارك المطهر، والوادي المقدس: هو وادٍ بأسفل جبل طور سينا من برية الشام. ﴿طُوًى﴾ وادٍ بين أيلة ومصر. قرىء بالتنوين مصروفًا هنا وفي طه على أنه اسم للوادي، وأصله: طوي، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد
﴿إِنَّهُ طَغَى﴾؛ أي: تجاوز الحد فتكبر على الله سبحانه وكفر به. ﴿إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾؛ أي: تتزكى وتتطهر من العيوب أصله: تتزكى بوزن تتفعلى بتاءين، دخلت عليه أداة النصب ﴿أَن﴾ ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت منه إحدى التاءين، وقرىء بالتشديد أدغمت التاء الثانية في الزاي، وأما على التخفيف.. فتحذف إحدى التاءين.
﴿فَتَخْشَى﴾ أصله: تخشي بوزن تفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿فَأَرَاهُ﴾ أصله أرأيه، نقلت حركة الهمزة إلى الراء فسكنت، ثم حذفت للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢)﴾ أصله: يسعى بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣)﴾ أصله: نادى، بوزن فاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ أصله: الأعلو من العلو، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا﴾؛ أي: أصعب خلقًا بالنسبة لاعتقاد المخاطبين اهـ "شهاب". أصله: أشدد بوزن أفعل، نقلت حركة الدال إلى الشين فسكنت، فأدغمت في الدال الثانية.
﴿أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ أصله: بنيها، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، والبناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون منها بنية واحدة.
﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ والسمْك: قامة كل شيء ﴿فَسَوَّاهَا﴾؛ أي: جعل كل جزء موضوع في موضعه، أصله: سويها بوزن فعل المضعف، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾؛ أي: أظلمها. ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ أي: ونورها وضياء شمسها،
﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)﴾؛ أي: مهدها وبسطها وجعلها قابلة للسكنى.
قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ | لَهُ الَأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا |
دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا | بِأَيْدٍ وَأرْسَى عَلَيْهِ الْجِبَالَا |
﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١)﴾؛ أي: نباتها، أصله: مرعيها بوزن مفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢)﴾ أصله: من الرسول فقلبت الواو ياء لوقوعها رابعة، ثم قلبت ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿مَتَاعًا﴾؛ أي: متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤)﴾، أي: الداهية العظمى التي تطم على الدواهي؛ أي: تغلب وتعلوه، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، قاله ابن عباس كما مر. وهي اسم فاعل من طم ككافة، وأصله: طاممة أدغمت الميم الأولى في الثانية.
﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧)﴾ أصله: طغي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿هِيَ الْمَأْوَى﴾: اسم مكان على وزن مفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركا بعد فتح.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾؛ أي: جلاله وعظمته، أصل خاف: خوف بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل ﴿مَقَامَ﴾: مقوم، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكن، ثم قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن.
﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾؛ أي زجرها وكفها عن هواها المردي لها بميلها إلى الشهوات، أصله: نهي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقوله: ﴿عَنِ الْهَوَى﴾ أصله: الهوي، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والهوى: ميل النفس إلى
﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤)﴾ أصله: منتهيها بوزن مفتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح؛ أي: إن منتهى علم وقت حصولها عند ربك لم يؤته أحدًا من خلقه.
﴿مَنْ يَخْشَاهَا﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: يخشيها قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ أصله: يرأيونها، نقلت حركة الهمزة إلى الراء فسكنت، ثم حذفت للتخفيف، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ واللبث: الإقامة، والعشية: طرف النهار من آخره، والضحى: طرفه من أوله، وأصل عشية: عشيوة بوزن فعيلة، فلام الكلمة واو اجتمعت ساكنة مع الياء فقلبت ياء، وأدغمت فيها الياء.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣)﴾؛ حيث استعار ﴿السابحات﴾ للملائكة التي تسرع في نزولها من السماء إلى الأرض، أو الكواكب التي تسرع في سيرها لأنها حقيقة في الحيوانات السابحات في الماء بجامع السرعة في كل. وفيه أيضًا: التعميم بعد التخصيص لأن نزول الأولين إنما هو لقبض الأرواح مطلقًا، ونزول هؤلاء لعامة الأمور والأحوال. اهـ من "الروح".
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)﴾؛ لأن المدبر حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ففيه إسناد الشيء إلى سببه.
ومنها أيضًا: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)﴾، أي: النفخة الأولى: لأن النفخة كانت سببًا لرجف الأجرام الهادئة وحركتها، فجعل سبب الرجف راجفًا.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)﴾.
ومنها: إضافة ما للشيء إلى جزئه في قوله: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩)﴾؛ حيث
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿خَاشِعَةٌ﴾؛ حيث أسند الخشوع إلى الأبصار مجازًا؛ لأن أثره يظهر فيها.
ومنها: إطلاق فاعلة على مفعولة في قوله: ﴿فِي الْحَافِرَةِ﴾؛ أي: إلى الحالة الأولى، وهي الحياة، يقال: رجع فلان في حافرته؛ أي: طريقته التي جاء فيها فحفرها؛ أي أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، وإنما الحافر هو الماشي في تلك الطريقة، كقوله تعالى: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾؛ أي: مرضية، أو هو من تشبيه القابل بالفاعل، أي: في تعلق الحفر بكل منها، فأطلق اسم الثاني على الأول للمشابهة، كما يقال: صام نهاره تشبيهًا لزمان الفعل بفاعله.
ومنها: مجاز بالحذف في قوله: ﴿أَإِذَا كُنَّا﴾ أي: أنبعث ونرد إذا كنا عظامًا نخرة؟
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ فقد أسند الخسران للكرة، والمراد: أصحابها، وكذلك في قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾ أسند السهر إلى الأرض البيضاء مجازًا، كما أسندوا إليها النوم في ضدها لأن السائر فيها سا لا ينام خوف الهلكة، فهو مجاز عقلي.
ومنها: اختيار صيغة الماضي في قوله: ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢)﴾ للإيذان بأن صدور هذا الكفر منهم ليس بطريق الاستمرار مثل كفرهم السابق المعبر عنه بالمضارع؛ أي: قالوا بطريق الاستهزاء بالحشر. اهـ "الروح".
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)﴾، وبين قوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١)﴾، وكذلك المقابلة بين قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨)﴾، وبين قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠)﴾ الآيات.
ومنها: أسلوب التشويق في قوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥)﴾ فإن المراد منه التشويق إلى معرفة القصة.
ومنها: الطباق بين ﴿الْجَنَّةَ﴾ و ﴿الْجَحِيمَ﴾، وبين ﴿السَّمَاءُ﴾ و ﴿وَالْأَرْضَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١)﴾؛ لأنه أطلق المرعى على ما يأكله الناس، فاستعمل المرعى في مطلق المأكول للإنسان وغيره، والعلاقة استعمال المقيد في المطلق، ويجوز أن يكون استعارة تصريحية؛ حيث شبه أكل الناس برعي الدواب، وإلى هذا جنح الزمخشري فقال: وأراد بمرعاها: ما يأكل الناس والأنعام، واستعير الشرعي للإنسان، كما استعير الرتع له في قوله تعالى: ﴿نرتع ونلعب﴾ في سورة يوسف بجامع أكل كل من الإنسان والحيوان من النبات.
ومنها: استعمال البناء في موضع السقف في قوله: ﴿السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ فإنَّ السماء سقف مرفوع، والبناء إنما يستعمل في أسافل البناء، لا في الأعالي؛ للإشارة إلى أنه وان كان سقفًا، لكنه في البعد عن الاختلال والانحلال كالبناء، فإنَّ البناء أبعد عن تطرق الاختلال إليه بالنسبة إلى السقف.
ومنها: التعبير عن النهار بالضحى، وهو ضوء الشمس أول النهار في قوله ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ أي: أبرز نهارها، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها على طريقة تسمية المحل باسم أشرف ما حل فيه، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان، وهو السر في تأخير ذكره عن ذكر الليل.
ومنها: إضافة الليل والضحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتها، والإضافة يكفيها أدنى ملابسة المضاف إليه، ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطة الشمس، أي: أبرز ضوء شمسها بتقدير المضاف، فيكون من مجاز الحذف، والتعبير عنه بالضحى؛ لأنه وقت قيام سلطانها، وكمال إشرافها.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾، فقد استعار الإرساء للساعة، وهو لا يستعمل إلا فيما له ثقل من الأجرام كالسفينة.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥)﴾ فهو إما من قصر الموصوف على الصفة، فيكون المعنى: ما أنت إلا منذر لا يعلم وقتها، أو من قصر الصفة على الموصوف، فيكون المعنى: ما أنت منذر إلا من يخشاها.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية:
١ - إثبات البعث.
٢ - مقالة المشركين في إنكاره، والرد عليهم.
٣ - قصص موسى مع فرعون، وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ -.
٤ - إقامة البرهان على إثبات البعث.
٥ - أهوال يوم القيامة.
٦ - الناس في هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، بحسب أعمالهم في الدنيا.
٧ - سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها.
٨ - نهي النبي - ﷺ - عن البحث عنها، واشتغاله بأمرها.
٩ - ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما لبثوا في الدنيا (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة عبس، وتسمى: سورة السفرة، نزلت بعد سورة النجم، وهي مكية في قول الجميع.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة عبس بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: إحدى وأربعون، أو اثنان وأربعون آية، وكلماتها: مئة وثلاث وثلاثون كلمة. وحروفها: خمس مئة وثلاثون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في ما قبلها أنه - ﷺ - منذر من يخشاها، وذكر في هذه حال من ينفعه الإنذار من عباد الله المخلصين، فيسعى إلى الخير بنفسه، ويعمل ما يزكي نفسه وبطهر قلبه، وذكر من لا ينفعه الإنذار وهم الذين كان رسول الله - ﷺ - يناجيهم في أمر الإسلام: عقبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ابنا خلف، ويدعوهم إليه.
والقصد الأهم في التعليم وفي تبليغ الرسالة إنما هو تعليم من جاء يسعى، وهو يرغب ويخشى، ومثل هذا تنفعه الذكرى، فيزكى من كل ما يشين خلقه، أو يمس دينه، ومثل هذا الخاشع الخاضع ينذره الرسول - ﷺ - ويبشره ويذكره، فيذكر ويشكر، ويصبر ويصابر حتى يلقى الله سبحانه وهو على ذلك.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة عبس كلها محكم إلا قوله: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢)﴾ [الآية: ١١ - ١٢]، نسخ بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)﴾ [
٢٩ - سورة التكوير].
تسميتها: سميت بسورة عبس؛ لذكر لفظ ﴿عَبَسَ﴾ فيها.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)﴾.المناسبة
تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر ما قبلها قريبًا.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) حادث ابن أم مكتوم، وعَتْبَهُ على رسله فيما كان منه معه.. أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها الله سبحانه إلى البشر على ألسنة رسوله ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها في النفوس، وتثبيتها في القلوب، وإنما هي تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل عليه الخلق من معرفة توحيده، فمن أعرض عن ذلك.. فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه، وتنازعه إليه نفسه، فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك لتذكر به الناس، وتنبه الغافل، أما أن تحابي القوي المعاند ظنًا منك أن مداجاته ترده عن عناده.. فذلك ليس من شأنك، ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩)﴾ وهذه الهداية أودعها سبحانه في
قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين حال القرآن، وذبر أنه كتاب الذكرى والموعظة، وأن في استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد.. أردف (١) ذلك ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطي نفسه ما تهواه، ولا يفكر في منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوَّره في أحسن الصور في أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلًا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع في لحده إلى أمد قدره الله تعالى في علمه، ثم يبعثه من قبره ويحاسبه على ما عمل في الدار الأولى، ويستوفي جزاءه، إن خيرًا وإن شرًا؛ فإما إلى الجنة، وإما إلى النار، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره واجتناب نواهيه.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الدلائل على قدرته، وهي كامنة في نفس الإنسان، يراها في يومه بعد أمسه.. أردفها بذكر الآيات المنبثة في الآفاق الناطقة ببديع صنعه وباهر حكمته.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ...﴾ إلى آخر السورة مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما عدد ألاءه على عباده، وذكَّرهم بإحسانه إليهم في هذه الحياة، وبين أنه لا ينبغي للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام.. أعقب (٢) هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة، وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه؛ ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته، وصحة البعث، وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله، ويتزود بصالح الأعمال التي تكون نبراسًا يضيء أمامه في ظلمات هذا اليوم، وذكر أن الناس حينئذٍ فريقان: فريق ضاحك مستبشر فَرِحٌ فَرَحَ المحب يلقى حبيبه، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق، وفريق تعلو وجهه الغبرة، وترهقه
(٢) المراغي.
أسباب النزول
أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه السورة الصحابي الجليل عبد الله ابن أم مكتوم، وهو ابن خال خديجة الكبرى رضي الله عنهما، وكان أعمى، وهو من المهاجرين الأولين، وقد استخلفه النبي - ﷺ - على المدينة أكثر من مرة يصلي بالناس، ويؤمهم في أهم ركن من أركان دينهم، وهو الصلاة المكتوبة، وكان يتولى الأذان بنفسه، ولكنه كان يؤذن بعد بلال في الفجر.
وخلاصة قصته هنا: أنه رضي الله عنه أتى النبي - ﷺ -، وهو بمكة المكرمة، وكان مع النبي - ﷺ - صناديد قريش، ووجوه مكة وكبراؤها، وفيهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وكان النبي - ﷺ - يحدثهم حديث الإيمان، ويدعوهم إلى الإسلام، ويذكرهم بالله عزّ وجلّ، ويحذرهم بطشه وعذابه وغضبه، ويعدهم أحسن المثوبة وأجزل العطاء، وأعلى المنازل، إن هم أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وكان النبي - ﷺ - راغبًا في إسلامهم، حريصًا على إيمانهم؛ لأنه - ﷺ - علم أنه سيسلم بإسلامهم كثير من الناس؛ إذ هم سادة قريش وقادتهم، وبيدهم أمورهم، وفي حالة تحدث الرسول - ﷺ - معهم، ودعوتهم لهم، جاء ابن أم مكتوم، ونادى الرسولَ وهو لا يعلم تشاغله بالقول، فقال: يا رسول الله، أقرئني، وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك مرارًا، فكره الرسول - ﷺ - قطعه لكلامه معهم، وظهرت في وجهه الكراهة، فعبس وأعرض عن هذا الأعمى، واستمر في دعوته مع هؤلاء القوم، فنزلت هذه السورة، وفيها العتاب من رب العزة لنبيه وحبيبه محمد - ﷺ - على موقفه من هذا الذي جاء يزكَّى، ويذكر فتنفعه الذكرى، وهو يخشى.
قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)﴾ سبب نزوله (١): ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة قال: نزل في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرنا برب النجم.