ﰡ
وآياتها ست وأربعون آية مكية
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال مقاتل يعني: ملك الموت ينزع روح الكافر من صدره، كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف. فيخرج نفسه من حلقه منها العروق، كالغريق في الماء وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ملك الموت، ينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه.
وقال الكلبي: وَالنَّازِعاتِ يعني: ملك الموت وأعوانه غَرْقاً كرهاً. يقال: غرقت نفسه في صدره وذلك، أنه ليس من كافر يحضره الموت، إلا عرضت عليه جهنم، فيراها قبل أن يخرج نفسه، فيرى فيها أقواماً، مرة ينغمسون، ومرة يرتفعون. فعند ذلك، تغرق روحه في جسده. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يعني: الملائكة الذين يقبضون أرواح المؤمنين بالتيسير، وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت، إلا ويرى منزلته في الجنة. ويرى فيها أقواماً من أهل معرفته، وهم يدعون إلى أنفسهم، فعند ذلك ينشط إلى الخروج. ويقال النَّازِعاتِ الملائكة تنزع النفس أغراقاً، كما يغرق النازع في القوس وَالنَّاشِطاتِ الملائكة تقبض نفس المؤمن، كما ينشط العقال. وقال عطاء: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني: ألقى وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يعني:
الأوهاق.
ثم قال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: الملائكة الذين يقبضون أرواح الصالحين، يسلونها سلاً رقيقاً، ويتركونها حتى تستريح رويداً. ويقال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: السفن تجري
ويقال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: النجوم الدوارة. كما قال: وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] ثم قال: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني: الملائكة الذين يسبقون إلى الخير والدعاء.
ويقال: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً بالخير يعني: أرواح المؤمنين يعرج بها إلى السماء، سراعاً يفتح لها أبواب السماء. ويقال: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني: خيول الغزاة.
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً يعني: الملائكة الذين جعل إليهم تدبير الخلق، وهم جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، عليهم السلام. أما جبريل فعلى الوحي، وإنزال الرحمة، والعذاب على الخلائق بأمر الله وأما ميكائيل فعلى الأمطار والنبات، يقسم على البلاد والعباد بإذن الله. وأما عزرائيل، وهو ملك الموت، فعلى قبض الأرواح عند انقضاء أجلهم بإذن الله تعالى. وإما إسرافيل، فعلى النفخ في الصور متى أمره الله تعالى، فهذا كله قسم، وجواب القسم مضمر، فكأنه أقسم بهذه الأشياء، أنهم يبعثون يوم القيامة، لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني: لتبعثن يوم القيامة في يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني:
الصيحة الأولى.
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يعني: الصيحة الثانية، يعني: النفخة الأولى للصعق، والنفخة الأخرى للبعث. وروي عن يزيد بن ربيعة، عن الحسن في قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قال: هما النفختان، فأما الأولى: فيميت الأحياء، وأما الثانية: فتحيي الموتى. ثم تلا وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: ٦٨] ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأصل الرجفة الحركة يعني: تزلزلت الأرض زلزلة شديدة عند النفخة الأولى، والرادفة كل شيء تجيء بعد شيء، فهو يردفه.
ثم قال: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ يعني: خائفة خاشعة من هول ذلك اليوم. ويقال:
يعني: ذليلة. ويقال: زائلة عن مكانها. أَبْصارُها خاشِعَةٌ يعني: أبصار الخلائق ذليلة.
ويقال: أبصار القلوب خاشعة. ثم ذكر قول الكفار، وإنكارهم البعث فقال: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ تعجباً منهم، وفي الآية تقديم ومعناه: أإنا لمردودون في الحياة بعد الموت. ويقال: أإنا لمردودون في الحافرة، أي: إلى أول أمرنا. يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته أي: رجع من حيث جاء.
ثم قال: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً يعني: بعد ما كنا عظاماً بالية. قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر إِذَا كُنَّا عظاما ناخرة بالألف، والباقون بغير ألف. قال بعضهم:
معناهما واحد هما لغتان. وقال بعضهم: الناخرة التي أكلت أطرافها، وبقيت أوساطها، والنخرة التي قد فسدت كلها. وقال مجاهد: عظاماً نخرة، أو مرفوتة كما قال في قوله:
سميت الأرض ساهرة، لقيام الخلق، وسهرهم عليها.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)
ثم وعظهم بما أصاب فرعون في النكال في الدنيا فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يعني: قد أتاك خبر موسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ يعني: بالوادي المطهر طُوىً اسم الوادي اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى يعني: علا وتكبر وكفر فقال الله تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى يعني: ألم يأن لك أن تسلم. ويقال: معناه هل ترغب في توحيد ربك، وتشهد أن لا إله إلا الله، وتزكي نفسك من الكفر، والشرك. قرأ ابن كثير، ونافع إلى أن تزكى بتشديد الزاء، لأن أصله تتزكى، وأدغمت التاء في الزاء، وشددت. والباقون بالتخفيف، لأنه حذف إحدى التائين، وتركت مخففة.
ثم قال: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى يعني: أدعوك إلى توحيد ربك فتخشى. يعني:
تخاف عذابه فتسلم فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى يعني: العصا، واليد، وسائر الآيات. فَكَذَّبَ وَعَصى يعني: كذب الآيات، ولم يقبل قول موسى- عليه السلام- ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى يعني:
أدبر عن التوحيد، وسعى في هلاك موسى فَحَشَرَ يعني: فجمع أهل المدينة فَنادى يعني: فخاطب فَقالَ لهم اعبدوا أصنامكم التي كنتم تعبدون، فإن هؤلاء أربابكم الصغار.
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى يعني: فعاقبه بعقوبة الدنيا والآخرة، وهي الغرق وعقوبة الآخرة وهي النار. ويقال: الآخرة والأولى. يعني: العقوبة بالكلمة الأولى، والكلمة الأخرى، فأما الأولى قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي والأخرى قوله:
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بين الكلمتين أربعون سنة. ويقال: قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى كان في الابتداء، حيث أمرهم بعبادة الأصنام، ثم نهاهم عن ذلك، وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره.
وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في هلاك فرعون وقومه لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى يعني: لعظة لمن يريد أن يعتبر، ويسلم.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٢٧ الى ٤١]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)
فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)
ثم وعظ أهل مكة فقال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ يعني: أبعثكم بعد الموت أشد، أم خلق السماء في المشاهدة عند الناس، خلق السماء أشد. فالذي هو قادر على خلق السماء، قادر على البعث. ثم قال: بَناها يعني: خلق السماء مرتفعة رَفَعَ سَمْكَها أي: سقفها بغير عمد فَسَوَّاها يعني: سوى خلقها. ويقال: خلقها مستوية، بلا صدع ولا شق وَأَغْطَشَ لَيْلَها يعني: أظلم ليلها وَأَخْرَجَ ضُحاها يعني: أنوار ضحاها، وشمسها ونهارها، فإنها راجعة إلى السماء.
ثم قال عز وجل: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يعني: بعد خلق الأرض السماء، وبسط الأرض ومدها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها يعني: من الأرض ماءها. يعني: عيونها للناس وَمَرْعاها للدواب والأنعام. قال القتبي: هذا من جوامع الكلم، حيث ذكر شيئين على جميع ما يخرج من الأرض قوتاً، ومتاعاً للأنعام من العنب، والشجر، والحب، والتمر، والملح والنار، لأن النار من العيدان، والملح من الماء.
ثم قال عز وجل: وَالْجِبالَ أَرْساها يعني: أوتدها وأثبتها مَتاعاً لَكُمْ يعني: منفعة لكم وَلِأَنْعامِكُمْ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى يعني: الصيحة العظمى، وإنما سميت الطامة، لأنها طمت وعلت فوق كل شيء يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى يعني: يعلم بكل شيء عمله في الدنيا. ويقال: يوم ينظر الإنسان في كتابه، بما عمل في الخير والشر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ يعني: أظهرت الجحيم لِمَنْ يَرى يعني: لمن وجب له فَأَمَّا مَنْ طَغى يعني: كفر وعلا وتكبر. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا يعني: اختار ما في الدنيا على الآخرة. ويقال: اختار العمل للدنيا على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى يعني: مأوى من كان هكذا.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يعني: خاف المقام بين يدي ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى يعني: منع نفسه عن معاصي الله تعالى، وعمل بخلاف ما تهوى في الحرام فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يعني: مأوى من كان هكذا. قال علي بن أبي طالب، - رضي الله عنه- أخوف ما
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يعني: يسألونك عن قيام الساعة أَيَّانَ مُرْساها أي: وقت قيامها. وأصله أي: أوان ظهورها ووقتها. قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها يعني: دع ما أنت وذاك دع ذلك إلى الله، ثم قال: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها يعني: عند ربك علم قيامها. وروى سفيان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة- رضي الله عنها-.
قالت: لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم، يسأل عن الساعة، حتى نزل فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها يعني: عند ربك علم قيامها، وانتهى عند ذلك.
ثم قال عز وجل: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها يعني: أنت مخوف بالقرآن، من يخاف قيام الساعة، وليس عليك أن تعرف متى وقتها. ثم قال عز وجل: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها يعني:
قيام الساعة لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها يعني: كأنهم لبثوا في قبورهم مقدار عشية، وهو قدر آخر النهار، أو ضحاها وهو قدر أول النهار. ويقال: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، إلا مقدار العشية، أو مقدار الضحى. قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ بالتنوين، والباقون بغير تنوين. فمن قرأ بالتنوين، جعل من في موضع النصب. يعني: منذر الذي يخشاها. ومن قرأ بغير تنوين، جعل من في موضع خفض. بالإضافة. والله الموفق بمنه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد.