تفسير سورة النازعات

زاد المسير
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة النازعات مكية كلها بإجماعهم.

سورة النّازعات
مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّازِعاتِ فيه سبعة أقوال «١» : أحدها: أنها الملائكة تَنْزِعُ أرْواح الكفَّار، قاله علي، وابن مسعود، وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الملائكة تَنْزِع نفوسَ بني آدم، وبه قال مسروق. والثاني: أنه الموت يَنْزِع النفوسَ، قاله مجاهد. والثالث: أنها النفس حين تُنْزَعُ، قاله السدي.
والرابع: أنها النجوم تَنْزِع من أُفُق الى أُفُق تطلع ثم تغيب، قاله الحسن، وقتادة، وأبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان. والخامس: أنها القِسِيّ تَنْزِع بالسَّهم، قاله عطاء وعكرمة. والسادس: أنها الوحوش تنزع وتنفر، حكاه الماوردي. والسابع: أنها الرّماة، حكاه الثّعلبيّ.
وقوله عزّ وجلّ: غَرْقاً اسم أقيم مقام الإغراق. قال ابن قتيبة: والمعنى: والنازعات إغراقاً، كما يغرق النازع في القوس، يعني: أنه يبلغ به غاية المد..
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغمّ، قاله عليّ عليه السلام.
قال مقاتل: ينزع ملك الموت روح الكافر، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه، فيعذِّبه في حياته، ثم ينشطها من حلقه- أي: يجذبها- كما ينشط السفّود من الصوف المبتل. والثاني: أنها تنشط. أرواح المؤمنين بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، قاله ابن عباس. وقال الفراء: الذي سمعته
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٥١: قال ابن مسعود: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً: الملائكة، يعنون حين تنتزع أرواح بنو آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتفرق في نزعها، ومن تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط. وهو الصحيح وعليه الأكثرون اه..
393
من العرب: كأنما أُنْشِط من عِقَال، بألف. تقول: إذا ربطت الحبل في يد البعير: نشطته، فإذا حللته قلت: أنشطته.
والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك. والثالث: أن الناشطات: الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد. والرابع: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب، قاله قتادة، وأبو عبيدة، والأخفش. ويقال لبقر الوحش: نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال أبو عبيدة: والهموم تنشط بصاحبها. قال هميان بن قحافة:
أَمْسَتْ همومي تَنْشِط المنَاشِطَا الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً وَاسِطَا
والخامس: أنها النفس حين تنشط بالموت، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فيه ستة أقوال:
أحدها: أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين، قاله عليّ عليه السلام. قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء. فأحياناً ينغمس، وأحياناً يرتفع، يسلُّونها سلاً رفيقاً، ثم يَدَعُونها حتى تستريح. والثاني: أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد: سابح: إذا أسرع في جريه، قاله مجاهد، وأبو صالح، والفراء. والثالث: أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع: أنها السفن تسبح في الماء، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم، والشمس، والقمر، كل في فلك يسبحون، قاله قتادة، وأبو عبيدة. والسادس: أنها الخيل، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله عليّ عليه السلام ومسروق. والثاني:
أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، قاله مجاهد، وأبو روق. والثالث: سبقت بني آدم الى إلإيمان، قاله الحسن.
والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقاً إلى لقاء الله، فيقبضونها وقد عاينت السرور، قاله ابن مسعود. والثالث: أنه الموت يسبق إلى النفوس، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع:
أنها الخيل، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم يسبق بعضه بعضا في السّير، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قال ابن عباس: هي الملائكة. قال عطاء: وُكِّلتْ بأمور عَرَّفهم الله العمل بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: يُدَبِّر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وهو موكل بالرِّياح والجنود. وميكائيل، وهو موكل بالقطر والنبات. وملك الموت، وهو موكل بقبض الأنفس.
وإسرافيل، وهو يَنزل بالأمر عليهم. وقيل: بل جبريل للوحي، وإسرافيل للصور. وقال ابن قتيبة:
فالمدبِّرات أمراً: تنزل بالحلال والحرام. فإن قيل: أين جواب هذه الأقسام ففيه جوابان: أحدهما: أنّ الجواب قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، قاله مقاتل. والثاني: أن الجواب مضمر، تقديره:
لَتُبْعَثُنَّ، ولتحاسبنّ، ويدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قاله الفرّاء.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، وهي النفخة الأولى التي تموت منها جميع الخلائق.
394
و «الراجفة» صيحة عظيمة فيها تردُّدٌ واضطراب كالرعد إذا تمحض. و «ترجف» بمعنى: تتحرَّك حركة شديدةً تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي: النفخة الثانية ردفت الأولى، أي: جاءت بعدها وكل شيء جاء بعد شيءٍ فهو يردفه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال يوم القيامة أيضا أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: ذليلةٌ لمعاينة النار. قال عطاء: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام. ويدل على هذا أنه ذَكَرَ منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قرأ ابن عامر وأهل الكوفة «أإنا» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف وأبو عمرو. فِي الْحافِرَةِ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن الحافرة: الحياة بعد الموت. والمعنى:
أنرجع أحياءً بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس، وعطية، والسدي. قال الفراء: يعنون: أَنُرَدُّ إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول: أتيت فلاناً، ثم رجعت على حافرتي، أي: رجعت من حيث جئت.
قال أبو عبيدة: يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا قول الزجاج. والثاني: أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فَسُمِّيت حافرةً، والمعنى: محفورة، كما يقال:
ماءٍ دافِقٍ «١» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «٢» وهذا قول مجاهد والخليل. فيكون المعنى: أإنّا لمردودون إلى الأرض خلقاً جديداً؟! قال ابن قتيبة: «في الحافرة» أي: إلى أول أمرنا. ومن فسّرها بالأرض، فإلى هذا يذهب، لأنّا منها بدأنا. قال الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار
كأنه قال: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصّبا «بعد ما شبت وصلعت».
والثالث: أنّ الحافرة: النار، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ناخرة» قال الفرّاء: وهما بمعنى واحد في اللغة. مثل طمع، وطامع وحذر، وحاذر. وقال الأخفش: هما لغتان.
وقال الزّجّاج: يقال: نخر العظم ينخر، فهو نخر. مثل عفن الشيء يعفن، فهو عفن. وناخرة على معنى: عظاما فارغة، يجيء فيها من هبوب الرياح كالنّخير. قال المفسّرون: والمراد أنهم أنكروا البعث، وقالوا: نردّ أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا ممّا يعدنا به محمّد، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه، فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّما هِيَ يعني النّفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة في الصّور يسمعونها من إسرافيل وهم في بطون الأرض فيخرجون فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وفيها أربعة أقوال «٣» : أحدها: أنّ السّاهرة: وجه الأرض، قاله ابن عباس:
ومجاهد، وعكرمة والضّحّاك، واللغويون. قال الفرّاء: كأنها سمّيت بهذا الاسم، لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. والثاني: أنه جبل عند بيت المقدس، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أنها جهنّم، قاله قتادة.
والرابع: أنها أرض الشام، قاله سفيان.
(١) الطارق: ٦.
(٢) الحاقة: ٢١.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٥٢: وهذه الأقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.
395

[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ٣٣]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: قد جاءك. وقد بيَّنَّا هذا في طه «١» وما بعده إلى قوله عزّ وجلّ: طُوىً (١٦) اذْهَبْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «طُوى اذهب» غير مُجراةٍ. وقرأ الباقون «طوىً» منونة، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وقرأ ابن كثير، ونافع، «تَزَّكَّى» بتشديد الزاي، أي: تَطَّهَّر من الشرك وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي: أدعوك إلى توحيده، وعبادته فَتَخْشى عذابه فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وفيها قولان: أحدهما: أنها اليد والعصا، قاله جمهور المفسرين. والثاني: أنها اليد قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَكَذَّبَ أي بأنها من الله، وَعَصى نبيَّه ثُمَّ أَدْبَرَ أي: أعرض عن الإيمان يَسْعى أي: يعمل بالفساد في الأرض فَحَشَرَ لما اجتمعوا فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: أنا لا ربَّ فوقي. وقيل أراد أن الأصنام أرباب، وأنا ربُّها وربُّكم. وقيل: أراد: أنا ربّ السّادة والقادة.
قوله عزّ وجلّ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فيه أربعة أقوال «٢» : أحدها: أن الأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «٣» والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة. قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة. قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى.
والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذَّبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة. وقال الربيع بن أنس: عذَّبه الله في أول النهار بالغَرَق، وفي آخره بالنَّار. والثالث: أن الأولى:
تكذيبه وعصيانه. والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله أبو رزين. والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد. قال الزجاج: النكال: منصوب، مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذِّبه في الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فُعِل بفرعون لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى الله.
ثم خاطب منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها قال الزجاج: ذهب بعض النحويين الى أن قوله عزّ وجلّ: بَناها من صفة السماء، فيكون المعنى: أم السماء التي بناها. وقال
(١) طه: ٩.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٥٣: قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي انتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ كما قال تعالى:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ هذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله:
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي: الدنيا والآخرة. لا شك فيه.
(٣) القصص: ٣٨.
قوم: السماء ليس مما توصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقاً أم السماءُ أشد خلقاً. ثم بيّن كيف خلقها، فقال عزّ وجلّ بَناها قال المفسرون: أخَلْقُكم بعدَ الموت أشدُّ عندكم، أم السماءُ في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد. ومعنى: «بناها» رفعها. وكل شيء ارتفع فوق شيءٍ فهو بناءٌ.
ومعنى رَفَعَ سَمْكَها رفع ارتفاعها وعلوَّها في الهواء فَسَوَّاها بلا شقوق، ولا فُطور، ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي: أظلمه فجعله مظلماً. قال الزجاج: يقال: غطش الليل وأغطش، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغشي وأغشى، كلّه بمعنى أظلم.
قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أي: أبرز نهارها. والمعنى: أظهر نورها بالشمس. وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد خلق السماء دَحاها أي:
بسطها. وبعض من يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن «بعد» هاهنا بمعنى «قبل»، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «١» وبعضهم يقول: هي بمعنى «مع»، كقوله عزّ وجلّ:
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «٢»، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل والسماء، ثم دحيت بعد كمال السماء، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في البقرة «٣». ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله عزّ وجلّ: دَحاها.
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي: فجَّر العيون منها وَمَرْعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام وَالْجِبالَ أَرْساها قال الزجاج: أي: أثبتها مَتاعاً لَكُمْ أي: للإمتاع، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها: أمتع بذلك.
وقال ابن قتيبة: «متاعا لكم» أي: منفعة.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٦]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى والطامة: الحادثة التي تطمُ على ما سواها، أي: تعلو فوقه، وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: النفخة الثانية التي فيها البعث. والثاني: أنها حين يقال لأهل النار: قوموا إلى النار. والثالث: أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار.
قوله عزّ وجلّ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي: ما عمل من خير وشر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي:
لأبصار الناظرين. قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق. وقرأ أبو مجلز، وابن السميفع «لمن ترى» بالتاء. وقرأ ابن عباس، ومعاذ القارئ «لمن رأى» بهمزة بين الراء والألف.
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى في كفره وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى قال الزجاج: أي هي المأوى له. وهذا جواب فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ فإن الأمر كذلك.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ قد ذكرناه في سورة الرّحمن «٤».
(١) الأنبياء: ١٠٥.
(٢) القلم: ١٣.
(٣) البقرة: ٢٩.
(٤) الرحمن: ٤٦.
397
قوله عزّ وجلّ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي: عما تهوى من المحارم. قال مقاتل: هو الرجل يَهُمّ بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها.
قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قد سبق في الأعراف «١» فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي:
لست في شيءٍ من علمها وذِكْرِها. والمعنى: إنك لا تعلمها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وقرأ أبو جعفر «منذرٌ» بالتنوين. ومعنى الكلام: إنما أنت مُخَوِّفٌ من يخافها.
والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها. وهو المؤمن بها. وأما من لا يخافها فكأنه لم يُنْذَر كَأَنَّهُمْ يعني: كفار قريش يَوْمَ يَرَوْنَها أي: يعاينون القيامه لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا. وقيل: في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي: قَدْر آخر النهار من بعد العصر، أو أوله إلى أن ترتفع الشمس. قال الزجاج: والهاء والألف في «ضحاها» عائد إلى العشية. والمعنى: إلا عشية، أو ضحى العشية. قال الفراء:
فإن قيل: للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار؟.
فالجواب: أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: آتيك العشية، أو غداتَها، أو آتيك الغداةَ أو عَشِيَّتَها، فتكون العشية في معنى «آخر»، والغداة في معنى «أول». أنشدني بعض بني عقيل:
نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِراً في دَارِها عَشِيَّةَ الهِلاَلِ أو سِرارِها
أراد: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية، فهذا أشد من قولهم: آتيك الغداة أو عشيّتها.
(١) الأعراف: ١٨٧.
398
Icon