تفسير سورة النازعات

اللباب
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة [ النازعات ]١
مكية، وهي ست وأربعون آية، ومائة وسبعون كلمة، وسبعمائة وثلاثون حرفا.
١ في أ: الساهرة..

مكية وهي ست وأربعون آية، ومائة وسبعون كلمة، وسبعمائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والنازعات غَرْقاً﴾ يجوز في «غرقاً» أن يكون مصدراً على حذفِ الزوائد، بمعنى «إغْرَاقاً»، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى.
وإمَّا على الحال، أي: ذواتُ إغراقٍ، يقال: أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل، وبلغ أقصى غايته، ومنه أغرق النازع في القوس أي: بلغ غاية المد والاستغراق والاستيعاب.

فصل في المراد بالنازعات


أقسم الله تعالى بهذه الأسماء الخمسة على أن القيامة حق.
و «النَّازعات» قيل: هي الملائكة التي تنزع أرواح الكُفَّار، قاله علي، وابن مسعود، ومسروق، ومجاهد.
قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير، وأصول القدمينِ نزعاً، كالسَّفُّود ينزع من الصوف الرَّطب، ثم يغرقُها، يرجعها إلى أجسادهم، ثم ينزعها، فهذا عمله في الكفَّار.
وقال سعيد بن جبر: نُزعَتْ أرْواحُهم، ثم غرقت، ثم حرقت، ثم قذف بها في النار.
121
وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النَّزع كأنها تغرق.
وقال السدي: «والنَّازِعَات» هي النفوس حين تغرقُ في الصُّدور.
وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفوس.
وقال الحسن وقتادة: هي النَّجوم تنزع من أفق إلى أفق، أي: تذهب، من قولهم: نزع إليها أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل، أي: «جرت»، «غرقاً» أي أنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر، وهو قول أبي عبيدة وابن كيسان والأخفش.
وقال عطاء وعكرمة: «والنَّازعَاتِ» القسيُّ تنزع بالسهام.
«غرقاً» بمعنى: إغراق، وإغراق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدِّ حتى ينتهي إلى النَّصلِ، ويقال لقشرة البيضة الدَّاخلة «غِرقئ».
وقيل: هم الغُزَاةُ الرُّماة، وهو الذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد: النازعون بها تعظيماً لها، كقوله تعالى: ﴿والعاديات ضَبْحاً﴾ [العاديات: ١].
وقال يحيى بنُ سلام: هي الوحش تنوزع من الكلأ وتنفر.
ومعنى «غرقاً» أي: إبعاداً في النزع.
قوله تعالى: ﴿والناشطات نَشْطاً﴾.
اعلم أن «نَشْطاً، وسَبْحاً، وسَبْقاً» كلها مصادر.
والنَّشْطُ: الرَّبْطُ، والإنشاطُ: الحل، يقال: نَشَطَ البعير: رَبطهُ، وأنشطهُ: حله.
ومنه: «كأنَّما أنشط من عقال»، فالهمزة للسَّلب، ونشط: ذهب بسرعةٍ، ومنه قيل لبقر الوحش: النواشط؛ وقال هميانُ بنُ قحافةَ: [الرجز]
٥٠٨٦ - أمْسَتْ هُمومِي تَنْشِطُ المنَاشِطَا الشَّام بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطَا
ونشط الحبل أنشطه أنشوطة: عقدته، وأنْشَطْتُه: مددته، ونشط ك «أنشط».
122
قال الأصمعي: بئرٌ أنشاط: أي: قريبةُ القعرِ، يخرج الدَّلوُ منها بجذبةٍ واحدةٍ، وبئر نشُوط، قال: وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً.

فصل في المراد بالناشطات


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنه.
وقيل: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السَّرج.
والنَّشْطُ: الجذبُ بسرعة.
ومنه الأُنشوطةُ: عقدة يسهل انحلالُها إذا جذبتْ مثل عقدة التكّة.
قال الليث: أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي: أوثقته، وأنشطت العقال، أي: مددت أنشوطته فانحلّت.
ويقال: نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الناشطات الملائكة، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان.
وقال مجاهدٌ: هو الموت ينشط نفس الإنسان.
وقال السدي: هي النفوس حين تَنْشَطُ من القدَميْنِ.
وقال قتادةُ، والحسنُ والأخفشُ: هي النجوم تنشط من أفقٍ إلى أفقٍ، أي: تذهب.
قال الجوهريُّ: يعني النجوم تنشطُ من بُرجٍ إلى برجٍ، كالثَّور الناشط من بلدٍ إلى بلدٍ.
وقيل: «النازعات» للكافرين: و «النَّاشطاتِ» للمؤمنين، فالملائكةُ يجْذِبُونَ أرواح المؤمنين برفقٍ.
والنَّزْعُ: جذبٌ بشدَّةٍ.
وقيل: هما جميعاً للكفَّار، والاثنان بعدهما للمؤمنين.
قوله: ﴿والسابحات سَبْحاً﴾. قال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي الملائكة تُسبح أرواح المؤمنين.
123
قال الكلبيُّ: كالذي يسبح في الماء، فأحياناً يَنْغَمِسُ، وأحياناً يرتفع يسلُّونها سلاًّ رفيقاً بسهولة، ثم يدعُونهَا حتى تستريح.
وقال مجاهدٌ وأبو صالحٍ: هي الملائكة ينزِلُونَ من السماء مُسْرِعينَ لأمر الله تعالى، كما يقال للفرس الجواد: سابحٌ إذا أسرع في جريه، وعن مجاهد: السابحات: الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة.
قال عنترةُ: [مجزوء الكامل]
٥٠٨٧ - والخَيْلُ تَعْلمُ حِينَ تَسْ بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ سَبْحاً
وقال قتادة والحسنُ: هي النجوم تسبحُ في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر.
قال تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣].
وقال عطاءُ: هي السُّفن تسبحُ في الماءِ.
وقال ابن عباسٍ: أرواح المؤمنين تسبحُ شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج.
قوله تعالى: ﴿فالسابقات سَبْقاً﴾.
قال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي الملائكة، تسبقُ الشياطينَ بالوَحْيِ إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهو قول مسروق ومجاهد.
وعن مجاهد - أيضاً - وأبي روق: هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العملِ الصَّالحِ، فتكتبه.
وعن مجاهد - أيضاً - الموت يسبقُ الإنسان.
وقال مقاتلٌ: هي الملائكة تسبقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّةِ.
124
وقال ابنُ مسعودٍ: هي أنفس المؤمنين، تسبقُ إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاءِ الله تعالى.
وقال قتادةُ والحسن ومعمر: هي النجوم تسبق بعضها.
وقال عطاءٌ: هي الخيلُ التي تسبقُ إلى الجهاد.
وقيل: يحتملُ أن تكون «السَّابقات» ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة، أو نار؛ حكاه الماورديُّ.
قال الجرجانيُّ: وذكر «فالسَّابقَاتِ» بالفاء؛ لأنها مشتقة من التي قبلها، أي: واللاتي يَسْبَحْنَ فيسبقن، قام فذهب، فهذا يوجبُ أن يكون القام سبباً للذهابِ.
قال الواحديُّ: قول صاحب النَّظم غير مطرد في قوله: «فالمُدبِّراتِ أمْراً» ؛ لأنه يبعد ان يجعل السَّبقُ سبباً للتَّدبير.
قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديِّ: بأنها لمَّا أمرتْ سبَحتْ، فسَبقَتْ، فدَبَّرتْ ما أمِرَتْ بتَدْبِيرِهِ، فتكون هذه أفعالاً يتَّصِلُ بعضها ببعض، كقولك: قام زيد، فذهب، فضرب عمراً، أو لمَّا سبقُوا في الطَّاعاتِ يُسَارِعُونَ إليها، ظهرت أمانَتهُمْ، ففوَّض إليهم التَّدبيرَ.
قوله: ﴿فالمدبرات أَمْراً﴾.
قيل: «أمْراً» مفعول بالمُدبِّراتِ.
وقيل: حال، تُدبِّرهُ مأمورات، وهو بعيد.
قال القشيريُّ: أجمعوا على أن المراد: الملائكة.
وقال الماورديُّ: فيه قولان:
أحدهما: الملائكةُ، قاله الجمهور.
والقول الثاني: هي الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل.
وفي تدبيرها الأمور وجهان:
أحدهما: تدبيرُ طُلوعِهَا وأفُولِهَا.
125
والثاني: في تدبير ما قَضى الله - تعالى - فيها من تقليب الأحوال.
وحكى هذا القول - أيضاً - القشيري في تفسيره، وأن الله - تعالى - علَّق كثيراً من تدبير العالم بحركاتِ النُّجُومِ، فأضيف التدبير إليها، وإن كان من الله - تعالى - كما يُسمَّى الشيء باسم ما يجاوره.
وقال شهاب الدِّين: والمراد بهؤلاء إمَّا طوائفُ الملائكة، وإمَّا طوائفُ خيل الغزاة، وإما النجوم، وإمَّا المنَايَا، وإمَّا بقرُ الوحشِ وما جرى مجراها لسرعتها، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم.

فصل في تدبير الملائكة


«تَدْبِيْرُ المَلائِكَة» : نزولها بالحلالِ، والحرام، وتفصيله قال ابن عباس: وقتادة، وغيرهما إلى الله تعالى، ولكن لمَّا أنزلت الملائكةُ سُمِّيت بذلك، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ﴾ [النحل: ١٠٢] يعني: جبريل نزَّلهُ على قلب محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلهُ.
وروى عطاء عن ابن عباس: «فالمُدبِّراتِ أمْراً»، هي الملائكة وكلَّت بِتدْبِيْرِ أحوال أهلِ الأرض في الرياح والأمطار، وغير ذلك.
قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة:
جِبْرِيلِ، ومِيْكَائِيلِ، وملكِ الموتِ واسمه عِزْرَائِيلُ، وإسْرَافِيْل، فأمَّا جِبْرِيْل، فمُوكَّلٌ بالرياح، والجنود، وأمَّا مِيْكَائِيْل، فموكَّلُ بالقَطْرِ والنِّباتِ، وأمَّا ملكُ الموتِ فمُوكَّلٌ بقبض الأرْواحِ في البرِّ والبَحْرِ، وأما إسْرَافِيلُ، فهو ينزلُ بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقربُ من إسرافيل وبينه وبين العرش خَمْسمائةِ عامٍ.
وقيل: وُكِّلُوا بأمُورٍ عَرَّفهمُ اللهُ بِهَا.
فإن قيل: لِمَ قَالَ: «أمْراً»، ولم يَقُلْ: أمُوراً، فإنهم يدبرون أمُوراً كثيرة؟.
فالجوابُ: أن المرادَ به الجنسُ، فهو قائم مقام الجمعِ.
واعلم أنَّ هذه الكلمات أقسم الله - تعالى - بها، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك.
126
قوله تعالى :﴿ والناشطات نَشْطاً ﴾.
اعلم أن «نَشْطاً، وسَبْحاً، وسَبْقاً » كلها مصادر.
والنَّشْطُ : الرَّبْطُ، والإنشاطُ : الحل، يقال : نَشَطَ البعير : رَبطهُ، وأنشطهُ : حله.
ومنه :«كأنَّما أنشط من عقال »، فالهمزة للسَّلب، ونشط : ذهب بسرعةٍ، ومنه قيل لبقر الوحش : النواشط ؛ وقال هميانُ بنُ قحافةَ :[ الرجز ]
٥٠٨٦- أمْسَتْ هُمومِي تَنْشِطُ المنَاشِطَا الشَّام بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطَا١
ونشط الحبل أنشطه أنشوطة : عقدته، وأنْشَطْتُه : مددته، ونشط ك «أنشط ».
قال الأصمعي : بئرٌ أنشاط : أي : قريبةُ القعرِ، يخرج الدَّلوُ منها بجذبةٍ واحدةٍ، وبئر نشُوط، قال : وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً.

فصل في المراد بالناشطات


قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنه٢.
وقيل : يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السَّرج.
والنَّشْطُ : الجذبُ بسرعة.
ومنه الأُنشوطةُ : عقدة يسهل انحلالُها إذا جذبتْ مثل عقدة التكّة.
قال الليث : أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي : أوثقته، وأنشطت العقال، أي : مددت أنشوطته فانحلّت.
ويقال : نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى.
وعن ابن عباس أيضاً : أن الناشطات الملائكة، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان٣.
وقال مجاهدٌ : هو الموت ينشط نفس الإنسان٤.
وقال السدي : هي النفوس حين تَنْشَطُ من القدَميْنِ٥.
وقال قتادةُ، والحسنُ والأخفشُ : هي النجوم تنشط من أفقٍ إلى أفقٍ٦، أي : تذهب.
قال الجوهريُّ : يعني النجوم تنشطُ من بُرجٍ إلى برجٍ، كالثَّور الناشط من بلدٍ إلى بلدٍ.
وقيل :«النازعات » للكافرين : و«النَّاشطاتِ » للمؤمنين، فالملائكةُ يجْذِبُونَ أرواح المؤمنين برفقٍ.
والنَّزْعُ : جذبٌ بشدَّةٍ.
وقيل : هما جميعاً للكفَّار، والاثنان بعدهما للمؤمنين.
١ ينظر اللسان (نشط)، والقرطبي ١٩/١٢٥، والبحر ٨/٤٠٩، والدر المصون ٦/٤٧٠، وروح المعاني ٣٠/٦..
٢ ينظر: تفسير القرطبي (١٩/١٢٥)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٢)..
٤ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٢٥)..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٥)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٢)، عن قتادة وينظر تفسير البغوي (٤/٤٤٢)، والمصدر السابق..
قوله :﴿ والسابحات سَبْحاً ﴾. قال عليٌّ رضي الله عنه : هي الملائكة تُسبح أرواح المؤمنين١.
قال الكلبيُّ : كالذي يسبح في الماء، فأحياناً يَنْغَمِسُ، وأحياناً يرتفع يسلُّونها سلاًّ رفيقاً بسهولة، ثم يدعُونهَا حتى تستريح٢.
وقال مجاهدٌ وأبو صالحٍ : هي الملائكة ينزِلُونَ من السماء مُسْرِعينَ لأمر الله تعالى٣، كما يقال للفرس الجواد : سابحٌ إذا أسرع في جريه، وعن مجاهد : السابحات : الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل : هي الخيل الغزاة.
قال عنترةُ :[ مجزوء الكامل ]
٥٠٨٧- والخَيْلُ تَعْلمُ حِينَ تَسْ بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ سَبْحاً٤
وقال قتادة والحسنُ : هي النجوم تسبحُ في أفلاكها٥، وكذا الشمس والقمر.
قال تعالى :﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٣ ].
وقال عطاءُ : هي السُّفن تسبحُ في الماءِ٦.
وقال ابن عباسٍ : أرواح المؤمنين تسبحُ شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج٧.
١ ذكره القرطبي (١٩/١٢٦)، عن علي..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٣)، عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠٩)، عن أبي صالح وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٤ ينظر: السراج المنير ٤/٤٧٦، والقرطبي ١٩/١٢٦..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٣)، عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠٩)، وعزاه إلى عبد بن حميد..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٣)، عن عطاء..
٧ أخرجه القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٦)، عن ابن عباس..
قوله تعالى :﴿ فالسابقات سَبْقاً ﴾.
قال عليٌّ رضي الله عنه : هي الملائكة، تسبقُ الشياطينَ بالوَحْيِ إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهو قول مسروق ومجاهد١.
وعن مجاهد - أيضاً - وأبي روق : هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العملِ الصَّالحِ، فتكتبه٢.
وعن مجاهد - أيضاً - الموت يسبقُ الإنسان٣.
وقال مقاتلٌ : هي الملائكة تسبقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّةِ٤.
وقال ابنُ مسعودٍ : هي أنفس المؤمنين، تسبقُ إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاءِ الله تعالى٥.
وقال قتادةُ والحسن ومعمر : هي النجوم تسبق بعضها٦.
وقال عطاءٌ : هي الخيلُ التي تسبقُ إلى الجهاد٧.
وقيل : يحتملُ أن تكون «السَّابقات » ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة، أو نار ؛ حكاه الماورديُّ.
قال الجرجانيُّ : وذكر «فالسَّابقَاتِ » بالفاء ؛ لأنها مشتقة من التي قبلها، أي : واللاتي يَسْبَحْنَ فيسبقن، قام فذهب، فهذا يوجبُ أن يكون القيام سبباً للذهابِ.
قال الواحديُّ : قول صاحب النَّظم غير مطرد في قوله :«فالمُدبِّراتِ أمْراً » ؛ لأنه يبعد ان يجعل السَّبقُ سبباً للتَّدبير.
قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديِّ٨ : بأنها لمَّا أمرتْ سبَحتْ، فسَبقَتْ، فدَبَّرتْ ما أمِرَتْ بتَدْبِيرِهِ، فتكون هذه أفعالاً يتَّصِلُ بعضها ببعض، كقولك : قام زيد، فذهب، فضرب عمراً، أو لمَّا سبقُوا في الطَّاعاتِ يُسَارِعُونَ إليها، ظهرت أمانَتهُمْ، ففوَّض إليهم التَّدبيرَ.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٩٣)، وينظر المصدر السابق..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٤)، عن مجاهد..
٤ ذكره القرطبي (١٩/١٢٦)..
٥ ذكره البغوي (٤/٤٤٢)، عن ابن مسعود وينظر المصدر السابق..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٤)، وذكر السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٠٩)، وعزاه إلى عبد بن حميد..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٤)، عن عطاء..
٨ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٣١..
قوله :﴿ فالمدبرات أَمْراً ﴾.
قيل :«أمْراً » مفعول بالمُدبِّراتِ.
وقيل : حال، تُدبِّرهُ مأمورات، وهو بعيد.
قال القشيريُّ : أجمعوا على أن المراد : الملائكة.
وقال الماورديُّ : فيه قولان :
أحدهما : الملائكةُ، قاله الجمهور.
والقول الثاني : هي الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل.
وفي تدبيرها الأمور وجهان :
أحدهما : تدبيرُ طُلوعِهَا وأفُولِهَا.
والثاني : في تدبير ما قَضى الله - تعالى - فيها من تقليب الأحوال.
وحكى هذا القول - أيضاً - القشيري في تفسيره، وأن الله - تعالى - علَّق كثيراً من تدبير العالم بحركاتِ النُّجُومِ، فأضيف التدبير إليها، وإن كان من الله - تعالى - كما يُسمَّى الشيء باسم ما يجاوره.
وقال شهاب الدِّين١ : والمراد بهؤلاء إمَّا طوائفُ الملائكة، وإمَّا طوائفُ خيل الغزاة، وإما النجوم، وإمَّا المنَايَا، وإمَّا بقرُ الوحشِ وما جرى مجراها لسرعتها، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم٢.

فصل في تدبير الملائكة


«تَدْبِيْرُ المَلائِكَة » : نزولها بالحلالِ، والحرام، وتفصيله قال ابن عباس : وقتادة، وغيرهما إلى الله تعالى، ولكن لمَّا أنزلت الملائكةُ سُمِّيت بذلك، كما قال تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٣، ١٩٤ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ ﴾ [ النحل : ١٠٢ ] يعني : جبريل نزَّلهُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلهُ.
وروى عطاء عن ابن عباس :«فالمُدبِّراتِ أمْراً »، هي الملائكة وكلَّت بِتدْبِيْرِ أحوال أهلِ الأرض في الرياح والأمطار٣، وغير ذلك.
قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة :
جِبْرِيلِ، ومِيْكَائِيلِ، وملكِ الموتِ واسمه عِزْرَائِيلُ، وإسْرَافِيْل، فأمَّا جِبْرِيْل، فمُوكَّلٌ بالرياح، والجنود، وأمَّا مِيْكَائِيْل، فموكَّلُ بالقَطْرِ والنّباتِ، وأمَّا ملكُ الموتِ فمُوكَّلٌ بقبض الأرْواحِ في البرِّ والبَحْرِ، وأما إسْرَافِيلُ، فهو ينزلُ بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقربُ من إسرافيل وبينه وبين العرش خَمْسمائةِ عامٍ.
وقيل : وُكِّلُوا بأمُورٍ عَرَّفهمُ اللهُ بِهَا٤.
فإن قيل : لِمَ قَالَ :«أمْراً »، ولم يَقُلْ : أمُوراً، فإنهم يدبرون أمُوراً كثيرة ؟.
فالجوابُ : أن المرادَ به الجنسُ، فهو قائم مقام الجمعِ.
واعلم أنَّ هذه الكلمات أقسم الله - تعالى - بها، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك.
١ الدر المصون ٦/٤٧٠..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيبره" (١٩/١٢٧)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٠)، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان"..
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة﴾ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، وهو جوابُ القسمِ: تقديرهُ: لتُبْعَثُنَّ، لدلالةِ ما بعده عليه.
قال الفرَّاءُ: ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً﴾ ألسْتَ ترى أنه كالجواب لقولهم: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً﴾ نُبعث؟ فاكتفى بقوله: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً﴾ ؟.
وقال الأخفشُ والزجاجُ: يَنْفُخْنَ في الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ، بدليل ذكر «الرَّادفة» و «الرَّاجفَةِ»، وهما النَّفختانِ.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف جعلت «يَوْمَ تَرْجفُ» ظرفاً للمضمر الذي هو لَتُبْعَثُنَّ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟.
قلت: المعنى: لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى ودلَّ على ذلك أن قوله: ﴿تَتْبَعُهَا الرادفة﴾ جعل حالاً عن «الرَّاجِفَة».
وقيل: العامل مقدر، أي: اذكر يوم ترجفُ.
وفي الجواب على هذا التقدير وجوهٌ:
أحدها: قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ [النازعات: ٢٦].
واستقبحه أبو بكر بن الأنباري، لطول الفصل.
الثاني: أنه قوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى﴾ [النازعات: ١٥] ؛ لأن «هَلْ» بمعنى: «قَدْ».
وهذا غلطٌ؛ لأنه كما تقدَّم في «هَلْ أتَى» أنَّها لا تكون بمعنى «قد» إلاَّ في الاستفهام على ما قال الزمخشري.
الثالث: أن الجواب: «تَتْبعُهَا» وإنَّما حذفتِ «اللامُ»، والأصل: «اليَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ تَتْبعُهَا»، فحذفت «اللاَّمُ»، ولم تدخل نون التوكيد على تتبعها للفصل بين «اللام» المقدَّرة، وبين الفعل المقسمِ عليه بالظرف، ومثله: ﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٥٨].
وقيل: في الكلام تقديم، وتأخير، أي: يَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ، تَتْبعُهَا الرَّادفةُ والنَّازعات.
127
وقال أبو حاتم: هو على التقديم، والتأخير، كأنه قالأ: فإذا هم بالساهرة والنازعات.
قال ابنُ الأنباريُّ: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.
وقيل: «يَوْمَ» منصوب بما دلَّ عليه «راجِفةٌ»، أي: يَوْمَ تَرْجفُ رَجَفَتْ.
وقيل: بما دلَّ عليه «خَاشِعَة» أي: يوم ترجف خشعت، وقوله: «تَتْبعُهَا الرَّادفَةُ» يجوز أن يكون حالاً من «الرَّاجِفَةُ»، وأن يكون مستأنفاً.

فصل في تفسير الآية


قال عبد الرحمن بن زيد: «الرَّاجِفَةُ» أي: المُضطَرِبَةُ، ومعناه: أنَّ الأرض تضطرب، و «الرَّادفة» السَّاعة.
وقال مجاهدٌ: الزلزلةُ تتبعها الرادفة، أي: الصيحة.
وعنه - أيضاً -، وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصَّيحتان، أي: النفختان، أمَّا الأولى فتُمِيْتُ كُلَّ شيء بإذنِ الله تعالى، وأمَّا الثانية فتُحْيِي كُلَّ شيءٍ بإذن الله تعالى.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَيْنَ النَّفْخَتيْنِ أرْبعُونَ سنةً».
وقال مجاهد: «الرَّاجفَةُ» الرجفة حين تنشقُّ السَّماءُ، وتُحْملُ الأرضُ والجبالُ، فتُدَكُّ دكَّةً واحدةٍ [وذلك بعد الزلزلة وقيل: الرجفة تحرك الأرض والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين].
وأصل «الرَّجفَةِ» الحركةُ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض﴾ [المزمل: ١٤]، وليست الرجفة هناك من الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرَّعدُ يرجف رجفاً ورجيفاً، أي: أظهرت الصوت والحركة، ومنه سُمِّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة النَّاس فيها.
وقيل: الرجفة هذه منكرة في السحاب، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ [الأعراف: ٧٨].
وأما الرادفة: فكل شيء جاء بعد شيء آخر، يقال: ردفهُ: أي: جاء بعده.
قوله: ﴿قُلُوبٌ﴾ مبتدأ، و «يومئذ» منصوب ب «وَاجِفَة»، و «وَاجِفَة» صفة القلوب،
128
وهو المسوغ للابتداء بالنكرة، و «أبْصارُهَا» مبتدأ ثانٍ، و «خَاشِعَة» خبره، وهو وخبره خبر الأول، وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: أبصار أصحاب القلوب.
قال ابن عطية: وجاز ذلك، أي: الابتداء ب «قُلُوب» ؛ لأنها تخصصت بقوله: «يَوْمَئِذ».
ورد عليه أبو حيان: بأن ظرف الزَّمان لا يخصص الجثث، يعني: لا يوصف به الجثث.
و «الواجِفة» : الخائفة الوجلة، قاله ابن عباس، يقال: وجَفَ يَجِفُ وجِيفاً، وأصله: اضطراب القلب.
قال قيس بن الخطيم: [المنسرح]
٥٠٨٨ - إنَّ بَنِي جَحْجَبَى وأسرتَهُمْ أكْبَادُنَا مِنْ وَرائِهمْ تَجِفُ
وقال السديُّ: زَائلةٌ عن أماكنها، ونظيره: ﴿إِذِ القلوب لَدَى الحناجر﴾ [غافر: ١٨].
وقال المؤرج، قلقة مستوفزة، مُرتكضةٌ غير ساكنة.
وقال المبرد: مضطربة، والمعنى متقارب، والمراد: قلوب الكفَّار، يقال: وجَفَ القلب يَجِفُ وجِيفاً: إذا خفق، كما يقال: وجَبَ يَجِبُ وَجِيْباً - بالياء الموحدة - بدل الفاء، ومنه وجيف الفرس والنَّاقة في العدوِ.
والإيجاف: حمل الدابة على السير السريع.
قوله: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ أي: مُنْكَسِرةٌ ذليلة من هول ما ترى، نظيره: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [القلم: ٤٣].
قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ أي: يقول هؤلاء المكذِّبون المنكِرُونَ للبعث إذا قيل لهم: إنكم تُبْعَثُون، قالوا منكرين متعجبين: أنُرَدُّ بعد موتتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء، كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾ [الإسراء: ٤٩].
129
قوله: ﴿فِي الحافرة﴾ «الحافرة» : التي يرجعُ الإنسان فيها من حيث جاء، يقال: رجع في حافرته، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله؛ قال: [الوافر]
٥٠٨٩ - أحَافِرةً عَلى صَلعٍ وشَيْبٍ؟ مَعاذَ اللهِ من سَفهٍ وعَارِ
يقول: أأرجعُ ما كنت عليه في شبابي مع الغزلِ والصبا بعد أن شبت وصلعت؟.
وأصله: أنَّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفراً.
وقال الراغبُ، في قوله تعالى: ﴿فِي الحافرة﴾ مثل لمن يرد من حيث جاء، أي: أنَحْيَا بعد أن نموت؟.
وقيل: «الحَافرة»، الأرضُ التي جُعلتْ قبُورهُمْ فيها، ومعناه: أئِنَّا لمردودون ونحن في الحافرة؟ أي: في القبور.
وقوله: «في الحافرة» على هذا في موضع الحال، ويقال: رجع الشيخ إلى حافرته، أي: هرم لقوله تعالى:
﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾ [النحل: ٧٠].
وقولهم: «النقد عند الحافرة» لما يباع نقداً، وأصله من الفرس إذا بيع، فيقال: لا يزول حافره، أو ينقد ثمنه.
والحفر: تآكل الأسنان، ود حفر فوه حفراً، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع.
والحافرة: «فاعلة» بمعنى: «مفعولة»، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى: «المحفورة»، كقوله تعالى: ﴿مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦]، و ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [القارعة: ٧]، والمعنى: أئِنَّا لمردودون في قبورنا.
وقيل: على النسب، أي: ذاتُ حفر.
وقيل: سُمِّيت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سمِّيت القدم أرضاً؛ لأنها على الأرض، لقولهم: الحافرة جمع حافرة بمعنى: القدم أي: نمشي أحياء على أقدامنا، ونطأ بها الأرض.
وقيل: هي أول الأمر.
ويقول التجار: «النقد في الحافرة» أي في أول السّوم؛ وقال الشاعر: [السريع]
130
وقال ابن زيدٍ: الحافرة «النَّار»، وقرأ: «تلك إذا كرَّه خاسرة».
وقال مقاتلٌ وزيدُ بن أسلم: هي اسم من أسماء النار.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: الحافرة في كلام العرب: الأرض التي تغيَّرت وأنتنت بأجسادِ موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه، أي: تآكلت، أي: دكها الوسخُ من باطنها وظاهرها، ويجوز تعلقه ب «مردودون»، أو: بمحذوف على أنه حال.

فصل في تفسير الآية


قال ابن الخطيب: هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين.
وقال أبو مسلم: هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة؛ لأنه فسَّر «النَّازعات» بنزعِ القوسِ، و «المُدبِّرات» بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي، والعدو، ثم بنى على ذلك فقال: «الرَّاجفَة» هي خيلُ المشركين، وكذلك «الرَّادفة»، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة، هي القلقةُ، والأبصار الخاشعة، هي أبصار المنافقين، كقوله تعالى: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ [محمد: ٢٠]، كأنَّه قيل: لمَّا جاء خيل العدو ترجف؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جُبْناً وضَعْفاً ثم قالوا: «أئِنَّا لمردودون فِي الحَافِرَةِ» أي: نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها. وقالوا أيضاً: «تِلْكَ إذا كَرَّة خَاسِرةٌ»، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المشركين، وأوسطه حكاية لحال المنافقين، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه - تعالى - أجاب عن كلامهم بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة﴾.
قال ابن الخطيب: وكلام أبي مسلم محتملٌ، وإن كان على خلاف قولِ الجمهور.
قوله تعالى: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً﴾.
قرأ الأخوان وأبو بكر: «نَاخِرَةً» بألف.
والباقون: «نَخِرة» بدُونِهَا.
131
وهما ك «حَاذِرٍ، وحَذِر» فاعل لمن صدر عنه الفعل، و «فعل» لمن كان فيه غريزة أو كالغريزة.
وقيل: ناخِرَة، ونخِرَة بمعنى: بالية.
يقال: نَخِر العظم - بالكسر - أي بلي وتفتَّت.
وقيل: نَاخِرةٌ، أي: صارت الريح تَنْخَر فيها، أيك تصوت، ونَخِرَةٌ أي: ينخر فيها دائماً.
وقيل: ناخرة، أي: بالية، ونخرة: متآكلة.
وعن أبي عمرو: النَّاخرة: التي لم تنخر بعد، والنَّخرةُ: البالية.
وقيل: النَّاخرةُ: المصوت فيها الريح، والنَّاخرة: البالية التي تعفّنت.
قال الزمخشري: «نَخِرَ العَظْمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ، كقولك: طمع، فهو طَمِعٌ وطَامِع، و» فَعِل «أبلغ من فاعل، وقد قُرئ بهما، وهو البالي الأجوف الذي تمرُّ فيه الريح، فيسمع له نخير».
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
٥٠٩٠ - آلَيْتُ لا أنْسَاكُم فاعْلَمُوا حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحَافِرَهْ
٥٠٩١ - وأخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فكَأنَّهَا قَوارِيرُ في أجْوافِهَا الرِّيحُ تَنْخُرُ
وقال الرَّاجز لفرسه: [الرجز] مِنْ بَعْدِ مَا كُنت عِظَاماً نَاخِرَهْ... ونُخْرةُ الريح - بضم النون - شدة هبوبها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مقدم أنف الفرس، والحمار، والخنزير، يقال: هشم نخرته، أي: مقدم أنفه.
٥٠٩٢ - أقْدِمْ سَجاجِ إنَّها الأسَاوِرَهْ ولا يَهُولنكَ رُءُوسٌ نَادِرَهْ
فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا في الحَافِرَهْ
و «إذَا» منصوبٌ بمُضْمَرٍ، أي: إذَا كُنَّا كذا نُردُّ ونُبعَثُ.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾.
«تلك» مبتدأ بها إلى الرَّجفةِ والردة في الحافرة، و «كَرَّةٌ» خبرها، و «خاسرة»
132
صفة، أي: ذاتُ خسرانٍ، أو أسند إليها الخسار مجازاً والمراد أصحابُها، والمعنى: إن كان رجوعنا إلى القيامة حقاً، فتلك الرجعة رجعة خاسرة [خائبة]، وهذا أفادته «إذن» فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور.
وقيل: قد لا تكون جواباً.
وعن الحسن: أن «خاسرة» بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة.
وقال الربيع بن أنس: خاسرةٌ على من كذَّب بها.
وقيل: كَرَّةُ خُسران، والمعنى: أهْلُهَا خاسرون، كقولك: تِجَارةٌ رابحةٌ، أي: يَرْبَحُ صاحبها.
وقال قتادة ومحمد بن كعب أي: لئن رجعنا أحياءً بعد الموت لنحشرن بالنَّار، وإنَّما قالوا هذا لأنَّهُم أوعدُوا بالنار، و «الكَرُّ» :«الرجوع»، يقال: كرَّهُ، وكَرَّ بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى.
والكَرَّةُ: المرَّةُ، الجمع: الكرَّات.
قوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ﴾ ضمير الكرة، أي: لا تحسبوا تلك الكرَّة صعبة على الله تعالى.
قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلق قوله:» فإنما هي «؟.
قلت: بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة، يعني بالتعلُّق من حيث المعنى، وهو العطف.
وقوله:»
فإذَا هُمْ «المفاجأة والسبب هنا واضحان.
والزجرة: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: في النَّفخةِ الواحدة»
فإذا هُمْ «أي: الخلائق أجمعون،» بالساهرة «أي: على وجه الأرض من الفلاة، وصفت بما يقع فيها، وهو السهر لأجل الخوف.
وقيل: لأن السراب يجري فيها من قولهم: «عين ساهرة»
أي: جارية الماء، وفي ضدها نائمة.
[قال الزمخشري: «والساهرةُ: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك؛ لأن
133
السراب يجري فيها] من قولهم: عين ساهرة: أي: جارية الماء، وفي ضدِّها نائمة؛ قال الأشعثُ بن قيسٍ: [الطويل]
٥٠٩٣ - وسَاهِرةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً لأقْطَارِهَا قدْ جُبْتُهَا مُتلثِّماً
أي: ساكنها لا ينام خوف الهلكة انتهى؛ وقال أميَّةُ: [الوافر]
٥٠٩٤ - وفِيهَا لَحْمُ سَاهِرةٍ وبَحْرٍ ومَا فَاهُوا به لهُمُ مُقِيمُ
يريد: لحم حيوان أرض ساهرة؛ وقال أبو كبير الهذليُّ: [الكامل]
٥٠٩٥ - يَرْتدْنَ سَاهِرةً كَأنَّ جَمِيمهَا وعَمِيمَهَا أسْدافُ ليْلٍ مُظْلِمِ
وقال الراغب: هي وجه الأرض.
وقيل: أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها، كأنَّها سهرت من ذلك.
والأسهران: عرقان في الأنف.
والساهور: غلافُ القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه؛ قال: [البسيط]
٥٠٩٦ -................................ أوْ شُقَّةٌ خَرجتْ مِنْ بَطْنِ سَاهُورِ
أي: هذه المرأة بمنزلة قطعة القمرِ. وقال أمية بن أبي الصلت: [الكامل]
٥٠٩٧ - قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسلُّ ويُغْمَدُ... وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال:» السَّاهرة: أرض من فضَّةٍ لم يُعْصَ اللهُ عليها مُنْذُ خَلقهَا «.
وقيل: أرض يجددها الله يوم القيامة.
وقيل: السَّاهرة: اسم الأرض السابعة يأتي الله بها، فيحاسب عليها الخلائقَ، وذلك حين تبدَّلُ الأرض غير الأرض.
134
وقال الثَّوري: السَّاهرة: أرضُ» الشَّام «.
وقال وهبُ بن منبه: جبلُ بيتِ المقدسِ.
وقال عثمانُ بنُ أبي العاتكةِ: إنَّه اسم مكان من الأرض بعينه، ب»
الشام «، وهو الصقع الذي بين جبل» أريحَا «وجبل» حسَّان «يمُدُّه الله كيف يشاء.
وقال قتادةُ: هي جهنَّم، أي: فإذا هؤلاءِ الكُفَّار في جهنَّم، وإنَّما قيل لها: ساهرة؛ لأنَّهُم لا ينامون عليها حينئذ.
وقيل: السَّاهرة بمعنى: الصحراء على شفيرِ جهنَّم، أي: يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ.
135
﴿ تَتْبَعُهَا الرادفة ﴾ جعل حالاً عن «الرَّاجِفَة ».
وقيل : العامل مقدر، أي : اذكر يوم ترجفُ.
وفي الجواب على هذا التقدير وجوهٌ :
أحدها : قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً ﴾ [ النازعات : ٢٦ ].
واستقبحه أبو بكر بن الأنباري، لطول الفصل.
الثاني : أنه قوله :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى ﴾ [ النازعات : ١٥ ] ؛ لأن «هَلْ » بمعنى :«قَدْ ».
وهذا غلطٌ ؛ لأنه كما تقدَّم في «هَلْ أتَى » أنَّها لا تكون بمعنى «قد » إلاَّ في الاستفهام على ما قال الزمخشري.
الثالث : أن الجواب :«تَتْبعُهَا » وإنَّما حذفتِ «اللامُ »، والأصل :«اليَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ تَتْبعُهَا »، فحذفت «اللاَّمُ »، ولم تدخل نون التوكيد على تتبعها للفصل بين «اللام » المقدَّرة، وبين الفعل المقسمِ عليه بالظرف، ومثله :﴿ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٨ ].
وقيل : في الكلام تقديم، وتأخير، أي : يَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ، تَتْبعُهَا الرَّادفةُ والنَّازعات.
وقال أبو حاتم : هو على التقديم، والتأخير، كأنه قالأ : فإذا هم بالساهرة والنازعات.
قال ابنُ الأنباريُّ : وهذا خطأ ؛ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.
وقيل :«يَوْمَ » منصوب بما دلَّ عليه «راجِفةٌ »، أي : يَوْمَ تَرْجفُ رَجَفَتْ.
وقيل : بما دلَّ عليه «خَاشِعَة » أي : يوم ترجف خشعت، وقوله :«تَتْبعُهَا الرَّادفَةُ » يجوز أن يكون حالاً من «الرَّاجِفَةُ »، وأن يكون مستأنفاً.

فصل في تفسير الآية


قال عبد الرحمن بن زيد :«الرَّاجِفَةُ » أي : المُضطَرِبَةُ، ومعناه : أنَّ الأرض تضطرب، و«الرَّادفة » السَّاعة.
وقال مجاهدٌ : الزلزلةُ تتبعها الرادفة، أي : الصيحة.
وعنه - أيضاً -، وابن عباس والحسن وقتادة : هما الصَّيحتان، أي : النفختان، أمَّا الأولى فتُمِيْتُ كُلَّ شيء بإذنِ الله تعالى، وأمَّا الثانية فتُحْيِي كُلَّ شيءٍ بإذن الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم :«بَيْنَ النَّفْخَتيْنِ أرْبعُونَ سنةً »١.
وقال مجاهد :«الرَّاجفَةُ » الرجفة حين تنشقُّ السَّماءُ، وتُحْملُ الأرضُ والجبالُ، فتُدَكُّ دكَّةً٢ واحدةٍ [ وذلك بعد الزلزلة وقيل : الرجفة تحرك الأرض والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين ]٣.
وأصل «الرَّجفَةِ » الحركةُ، قال تعالى :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض ﴾ [ المزمل : ١٤ ]، وليست الرجفة هناك من الحركة فقط، بل من قولهم : رجف الرَّعدُ يرجف رجفاً ورجيفاً، أي : أظهرت الصوت والحركة، ومنه سُمِّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة النَّاس فيها.
وقيل : الرجفة هذه منكرة في السحاب، ومنه قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة ﴾ [ الأعراف : ٧٨ ].
وأما الرادفة : فكل شيء جاء بعد شيء آخر، يقال : ردفهُ : أي : جاء بعده.
١ تقدم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٥)، عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٠)، وعزاه إلى عبد بن حميد والبيهقي في "البعث"..
٣ سقط من: ب..
قوله :﴿ قُلُوبٌ ﴾ مبتدأ، و «يومئذ » منصوب ب «وَاجِفَة »، و«وَاجِفَة » صفة القلوب، وهو المسوغ للابتداء بالنكرة، و «أبْصارُهَا » مبتدأ ثانٍ، و «خَاشِعَة » خبره، وهو وخبره خبر الأول، وفي الكلام حذف مضاف، تقديره : أبصار أصحاب القلوب.
قال ابن عطية١ : وجاز ذلك، أي : الابتداء ب «قُلُوب » ؛ لأنها تخصصت بقوله :«يَوْمَئِذ ».
ورد عليه أبو حيان٢ : بأن ظرف الزَّمان لا يخصص الجثث، يعني : لا يوصف به الجثث.
و«الواجِفة » : الخائفة الوجلة، قاله ابن عباس٣، يقال : وجَفَ يَجِفُ وجِيفاً، وأصله : اضطراب القلب.
قال قيس بن الخطيم :[ المنسرح ]
٥٠٨٨- إنَّ بَنِي جَحْجَبَى وأسرتَهُمْ أكْبَادُنَا مِنْ وَرائِهمْ تَجِفُ٤
وقال السديُّ : زَائلةٌ عن أماكنها، ونظيره :﴿ إِذِ القلوب لَدَى الحناجر ﴾٥ [ غافر : ١٨ ].
وقال المؤرج، قلقة مستوفزة، مُرتكضةٌ غير ساكنة.
وقال المبرد : مضطربة، والمعنى متقارب، والمراد : قلوب الكفَّار، يقال : وجَفَ القلب يَجِفُ وجِيفاً : إذا خفق، كما يقال : وجَبَ يَجِبُ وَجِيْباً - بالياء الموحدة - بدل الفاء، ومنه وجيف الفرس والنَّاقة في العدوِ.
والإيجاف : حمل الدابة على السير السريع.
١ المحرر الوجيز ٥/٤٣١..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٤١٣..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٠)، وعزاه إلى ابن المنذر..
٤ هذا البيت ملفق من بيتين من فائية المشهورة، أولهما قوله:
أبلغ بني جحجبى وقومهم خطمة أنا وراءهم أنف
والثاني بعد هذا البيت، وهو قوله:
أنا ولو قدموا التي علموا أكبادنا من ورائهم تجف
فركب من البيتين البيت المستشهد به؛ أخذ صدر الأول، وجعل له عجز البيت الثاني.
ينظر ديوان قيس بن الخطيم ص (١١١)، والأصمعيات ص ١٩٨، والأغاني ٣/٢٣، والبحر المحيط ٨/٤١٢، والدر المصون ٦/٤٧١..

٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٨)..
قوله :﴿ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴾ أي : مُنْكَسِرةٌ ذليلة من هول ما ترى، نظيره :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ [ القلم : ٤٣ ].
قوله :﴿ يَقُولُونَ ﴾ أي : يقول هؤلاء المكذِّبون المنكِرُونَ للبعث إذا قيل لهم : إنكم تُبْعَثُون، قالوا منكرين متعجبين : أنُرَدُّ بعد موتتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء، كما كنا قبل الموت ؟ وهو كقولهم :﴿ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾ [ الإسراء : ٤٩ ].
قوله :﴿ فِي الحافرة ﴾ «الحافرة » : التي يرجعُ الإنسان فيها من حيث جاء، يقال : رجع في حافرته، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله ؛ قال :[ الوافر ]
٥٠٨٩- أحَافِرةً عَلى صَلعٍ وشَيْبٍ ؟ مَعاذَ اللهِ من سَفهٍ وعَارِ١
يقول : أأرجعُ ما كنت عليه في شبابي مع الغزلِ والصبا بعد أن شبت وصلعت ؟.
وأصله : أنَّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفراً.
وقال الراغبُ، في قوله تعالى :﴿ فِي الحافرة ﴾ مثل لمن يرد من حيث جاء، أي : أنَحْيَا بعد أن نموت ؟.
وقيل :«الحَافرة »، الأرضُ التي جُعلتْ قبُورهُمْ فيها، ومعناه : أئِنَّا لمردودون ونحن في الحافرة ؟ أي : في القبور.
وقوله :«في الحافرة » على هذا في موضع الحال، ويقال : رجع الشيخ إلى حافرته، أي : هرم لقوله تعالى :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر ﴾ [ النحل : ٧٠ ].
وقولهم :«النقد عند الحافرة » لما يباع نقداً، وأصله من٢ الفرس إذا بيع، فيقال : لا يزول حافره، أو ينقد ثمنه.
والحفر : تآكل الأسنان، ود حفر فوه حفراً، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع.
والحافرة :«فاعلة » بمعنى :«مفعولة »، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى :«المحفورة »، كقوله تعالى :﴿ مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٦ ]، و﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ القارعة : ٧ ]، والمعنى : أئِنَّا لمردودون في قبورنا.
وقيل : على النسب، أي : ذاتُ حفر.
وقيل : سُمِّيت الأرض الحافرة ؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سمِّيت القدم أرضاً ؛ لأنها على الأرض، لقولهم : الحافرة جمع حافرة بمعنى : القدم أي : نمشي أحياء على أقدامنا، ونطأ بها الأرض.
وقيل : هي أول الأمر.
ويقول التجار :«النقد في الحافرة » أي في أول السّوم ؛ وقال الشاعر :[ السريع ]
٥٠٩٠- آلَيْتُ لا أنْسَاكُم فاعْلَمُوا حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحَافِرَهْ٣
وقال ابن زيدٍ : الحافرة «النَّار »، وقرأ :«تلك إذا كرَّه خاسرة »٤.
وقال مقاتلٌ وزيدُ بن أسلم : هي اسم من أسماء النار٥.
وقال ابنُ عبَّاسٍ : الحافرة في كلام العرب : الأرض التي تغيَّرت وأنتنت بأجسادِ موتاها٦، من قولهم : حفرت أسنانه، أي : تآكلت، أي : دكها الوسخُ من باطنها وظاهرها، ويجوز تعلقه ب «مردودون »، أو : بمحذوف على أنه حال.

فصل في تفسير الآية


قال ابن الخطيب٧ : هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين.
وقال أبو مسلم : هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة ؛ لأنه فسَّر «النَّازعات » بنزعِ القوسِ، و " الناشطات " بخروج السهم، و " السابحات " بعدو الفرس، و " السابقات " بسبقها، و«المُدبِّرات » بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي، والعدو، ثم بنى على ذلك فقال :«الرَّاجفَة » هي خيلُ المشركين، وكذلك «الرَّادفة »، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة، هي القلقةُ، والأبصار الخاشعة، هي أبصار المنافقين، كقوله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ [ محمد : ٢٠ ]، كأنَّه قيل : لمَّا جاء خيل العدو ترجف ؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جُبْناً وضَعْفاً ثم قالوا :«أئِنَّا لمردودون فِي الحَافِرَةِ » أي : نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها. وقالوا أيضاً :«تِلْكَ إذا كَرَّة خَاسِرةٌ »، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، وأوسطه حكاية لحال المنافقين، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه - تعالى - أجاب عن كلامهم بقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾.
قال ابن الخطيب٨ : وكلام أبي مسلم محتملٌ، وإن كان على خلاف قولِ الجمهور.
١ ينظر سمط اللآلىء ١/١٢٢، وإصلاح المنطق ص ٣٢٧، والكشاف ٤/٦٩٤، والطبري ٣٠/٢٢، واللسان (حضر)، والقرطبي ١٩/١٢٨، والبحر ٨/٤١٠، ومجمع البيان ١٠/٦٥١، والدر المصون ٦/٤٧١..
٢ في ب: في..
٣ ينظر القرطبي ١٩/١٢٨، والبحر ٨/٤١٣، والدر المصون ٦/٤٧٢، وفتح القدير ٥/٣٧٤..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٢٧-٤٢٨)، عن ابن زيد..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٨)..
٦ ينظر المصدر السابق..
٧ ينظر الفخر الرازي ٢١/٣٢..
٨ الفخر الرازي ٣١/٣٣..
قوله تعالى :﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً ﴾.
قرأ الأخوان وأبو بكر١ :«نَاخِرَةً » بألف.
والباقون :«نَخِرة » بدُونِهَا.
وهما ك «حَاذِرٍ، وحَذِر » فاعل لمن صدر عنه الفعل، و «فعل » لمن كان فيه غريزة أو كالغريزة.
وقيل : ناخِرَة، ونخِرَة بمعنى : بالية.
يقال : نَخِر العظم - بالكسر - أي بلي وتفتَّت.
وقيل : نَاخِرةٌ، أي : صارت الريح تَنْخَر فيها، أيك تصوت، ونَخِرَةٌ أي : ينخر فيها دائماً.
وقيل : ناخرة، أي : بالية، ونخرة : متآكلة.
وعن أبي عمرو : النَّاخرة : التي لم تنخر بعد، والنَّخرةُ : البالية.
وقيل : النَّاخرةُ : المصوت فيها الريح، والنَّاخرة : البالية التي تعفّنت.
قال الزمخشري٢ :«نَخِرَ العَظْمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ، كقولك : طمع، فهو طَمِعٌ وطَامِع، و » فَعِل «أبلغ من فاعل، وقد قُرئ بهما، وهو البالي الأجوف الذي تمرُّ فيه الريح، فيسمع له نخير ».
ومنه قول الشاعر :[ الطويل ]
٥٠٩١- وأخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فكَأنَّهَا قَوارِيرُ في أجْوافِهَا الرِّيحُ تَنْخُرُ٣
وقال الرَّاجز لفرسه :[ الرجز ]
٥٠٩٢- أقْدِمْ سَجاجِ إنَّها الأسَاوِرَهْ ولا يَهُولنكَ رُءُوسٌ نَادِرَهْ
فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا في الحَافِرَهْ
*** مِنْ بَعْدِ مَا كُنت عِظَاماً نَاخِرَهْ٤ ***
ونُخْرةُ الريح - بضم النون - شدة هبوبها، والنُّخْرَةُ أيضاً : مقدم أنف الفرس، والحمار، والخنزير، يقال : هشم نخرته، أي : مقدم أنفه.
و«إذَا » منصوبٌ بمُضْمَرٍ، أي : إذَا كُنَّا كذا نُردُّ ونُبعَثُ.
١ ينظر: السبعة ٦٧٠، ٦٧١، والحجة ٦/٣٧١، وإعراب القراءات ٢/٤٣٥، وحجة القراءات ٧٤٨..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٤..
٣ البيت للحارثي ينظر ديوان الحماسة ٢/١٦٥، والبحر ٨/٤١٠، والدر المصون ٦/٤٧٢..
٤ ينظر سمط اللآلىء ١/١٢٤، والاشتقاق لابن دريد ص ٦٧، ١٨، ٣١٦، والطبري ٣٠/٢٣، ٢٤، ومجمع البيان ١٠/٦١، واللسان (نخر)، والبحر ٨/٤١٠، والدر المصون ٦/٤٧٢، والقرطبي ١٩/١٣٠..
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾.
«تلك » مبتدأ بها إلى الرَّجفةِ والردة في الحافرة، و «كَرَّةٌ » خبرها، و «خاسرة » صفة، أي : ذاتُ خسرانٍ، أو أسند إليها الخسار مجازاً والمراد أصحابُها، والمعنى : إن كان رجوعنا إلى القيامة حقاً، فتلك الرجعة رجعة خاسرة [ خائبة ]١، وهذا أفادته «إذن » فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور.
وقيل : قد لا تكون جواباً.
وعن الحسن : أن «خاسرة » بمعنى كاذبة، أي : ليست كائنة٢.
وقال الربيع بن أنس : خاسرةٌ على من كذَّب بها٣.
وقيل : كَرَّةُ خُسران، والمعنى : أهْلُهَا خاسرون، كقولك : تِجَارةٌ رابحةٌ، أي : يَرْبَحُ صاحبها.
وقال قتادة ومحمد بن كعب أي : لئن رجعنا أحياءً بعد الموت لنحشرن بالنَّار، وإنَّما قالوا هذا لأنَّهُم أوعدُوا بالنار٤، و«الكَرُّ » :«الرجوع »، يقال : كرَّهُ، وكَرَّ بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى.
والكَرَّةُ : المرَّةُ، الجمع : الكرَّات.
١ سقط من ب..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢٩)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٩٦)، وينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ ﴾ ضمير الكرة، أي : لا تحسبوا تلك الكرَّة صعبة على الله تعالى.
قال الزمخشري١ :«فإن قلت : بم يتعلق قوله :«فإنما هي » ؟.
قلت : بمحذوف، معناه : لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة، يعني بالتعلُّق من حيث المعنى، وهو العطف.
١ ينظر الكشاف ٤/٦٩٤..
وقوله :» فإذَا هُمْ «المفاجأة والسبب هنا واضحان.
والزجرة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : في النَّفخةِ الواحدة «فإذا هُمْ » أي : الخلائق أجمعون، «بالساهرة » أي : على وجه الأرض من الفلاة، وصفت بما يقع فيها، وهو السهر لأجل الخوف١.
وقيل : لأن السراب يجري فيها من قولهم :«عين ساهرة » أي : جارية الماء، وفي ضدها نائمة.
[ قال الزمخشري٢ :«والساهرةُ : الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك ؛ لأن السراب يجري فيها ]٣ من قولهم : عين ساهرة : أي : جارية الماء، وفي ضدِّها نائمة ؛ قال الأشعثُ بن قيسٍ :[ الطويل ]
٥٠٩٣- وسَاهِرةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً لأقْطَارِهَا قدْ جُبْتُهَا مُتلثِّماً٤
أي : ساكنها لا ينام خوف الهلكة انتهى ؛ وقال أميَّةُ :[ الوافر ]
٥٠٩٤- وفِيهَا لَحْمُ سَاهِرةٍ وبَحْرٍ*** ومَا فَاهُوا به لهُمُ مُقِيمُ٥
يريد : لحم حيوان أرض ساهرة ؛ وقال أبو كبير الهذليُّ :[ الكامل ]
٥٠٩٥- يَرْتدْنَ سَاهِرةً كَأنَّ جَمِيمهَا وعَمِيمَهَا أسْدافُ ليْلٍ مُظْلِمِ٦
وقال الراغب : هي وجه الأرض.
وقيل : أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها، كأنَّها سهرت من ذلك.
والأسهران : عرقان في الأنف.
والساهور : غلافُ القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه ؛ قال :[ البسيط ]
٥٠٩٦-***. . . أوْ شُقَّةٌ خَرجتْ مِنْ بَطْنِ سَاهُورِ٧
أي : هذه المرأة بمنزلة قطعة القمرِ. وقال أمية بن أبي الصلت :[ الكامل ]
٥٠٩٧- *** قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسلُّ ويُغْمَدُ٨ ***
وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :«السَّاهرة : أرض من فضَّةٍ لم يُعْصَ اللهُ عليها مُنْذُ خَلقهَا »٩.
وقيل : أرض يجددها الله يوم القيامة.
وقيل : السَّاهرة : اسم الأرض السابعة يأتي الله بها، فيحاسب عليها الخلائقَ، وذلك حين تبدَّلُ الأرض غير الأرض.
وقال الثَّوري : السَّاهرة : أرضُ » الشَّام «.
وقال وهبُ بن منبه : جبلُ بيتِ المقدسِ.
وقال عثمانُ بنُ أبي العاتكةِ : إنَّه اسم مكان من الأرض بعينه، ب «الشام »، وهو الصقع الذي بين جبل «أريحَا » وجبل «حسَّان » يمُدُّه الله كيف يشاء.
وقال قتادةُ : هي جهنَّم١٠، أي : فإذا هؤلاءِ الكُفَّار في جهنَّم، وإنَّما قيل لها : ساهرة ؛ لأنَّهُم لا ينامون عليها حينئذ.
وقيل : السَّاهرة بمعنى : الصحراء على شفيرِ جهنَّم، أي : يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٦/١٢٩)، عن ابن عباس..
٢ ينظر الكشاف ٤/٦٩٤..
٣ سقط من: أ..
٤ ينظر الكشاف ٤/٦٩٥، والسراج المنير ٤/٤٧٨، والدر المصون ٦/٤٧٣..
٥ ينظر معاني القرآن للفراء ٣/٢٣٢، والقرطبي ١٩/١٣٠، واللسان (سهر)، والبحر ٨/٤١٠، والدر المصون ٦/٤٧٣..
٦ ينظر ديوان الهذليين ٢/١١١، والقرطبي ١٩/١٣٠، واللسان (سدف)، و(سهر)، والبحر ٨/٤١٠، والدر المصون ٦/٤٧٣..
٧ ينظر اللسان (سهر)، والقرطبي ١٩/١٣٠، والدر المصون ٦/٤٧٣..
٨ عجز بيت وصدره:
*** لاتقص فيه غير أن خبيثه ***
ينظر ابن يعيش ٣/٢٥، والخصائص ٢/٤٥٣، والخزانة ٢/٢٣٢، واللسان (سهر)، والصحاح (سهر).
.

٩ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٢٩)، عن ابن عباس..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٣١)، عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٢)، وعزاه إلى ابن المنذر.
وينظر تفسير الماوردي (٦/١٩٧)، والبغوي (٤/٤٤٤)، والقرطبي (١٩/١٣٠)..

قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى﴾ أي: قد جاءك وبلغك، وهذه تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: أنَّ فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثُمَّ أخذناه وكذلك هؤلاء.
وقيل: «هَلْ» بمعنى: «ما» أي: ما أتاك، ولكِّي أخبرك به، فإنَّ فيه عِبْرَةً لمن يخشى.
وقال ابنُ الخطيبِ: قوله: «هَلْ أتَاكَ» يحتملُ أن يكون معناه: أليْسَ قَدْ أتَاكَ حديثُ موسى، هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام، أمَّا إن لم يكن قد أتاه، فقد يجوز أن يقال: «هَلْ أتَاكَ» أي: أنا أخبرك وتقدم الكلام على موسى وفرعون فإنَّ فيه عبرة لمن يخشى.
قوله: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ﴾ منصوب ب «حديث» لا ب «أتاك» ؛ لاختلاف وقتيهما، وتقدم الخلاف بين القراء في «طُوَى» في سورة [طه: ١٢].
و «الوادي المقدس» : المُبَاركُ المُطَهَّر.
قال الفراء: «طُوى» واد بين «المدينة» و «مصر»، قال: وهو معدولٌ، من «طاو»، كما عدل «عُمَرُ» من «عامر».
135
قال الفراء: مَنْ صرفه قال: هو ذكر، ومن لم يصرفه جعله معدولاً ك «عمر، وزفر».
قال: «والصَّرفُ أحبُّ إليَّ إذا لم أجد في المعدول نظيراً» أي: لم أجد له اسماً من الواو والياء عدلَ من «فاعل» إلى «فُعَل» غير طُوى.
وقيل: «طوى» معناه: يا رجل، بالعبْرَانيَّةِ، فكأنَّه قيل: اذهب يا رجل إلى فرعون، [قاله ابن عباس.
وقيل: الطوى: أي: ناداه بعد طويّ من الليل اذهب إلى فرعون] ؛ لأنك تقول: جئتك بعد طويّ، أي بعد ساعة من الليل.
وقيل: معناه «بالوَادِ المُقدَّسِ طُوى» أي بُورِكَ فيهِ مرَّتيْنِ.
قوله: ﴿اذهب﴾ يجوز أن يكون تفسيراً للنداء، ناداه اذهب، ويجوز أن يكون على إضمار القول.
وقيل: هو على حذف، أي: أن اذهب، ويدل له قراءة عبد الله: أن اذهب.
و «أن» هذه الظَّاهرة أو المقدرة، يحتملُ أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، أي: ناداه ربُّه بكذا.
«اذهب إلى فرعون إنه طغى» أي تجاوز القدر في العصيان.
قال ابنُ الخطيب: ولم يُبيِّنُ أنَّه طغَى في أيِّ شيءٍ.
فقيل: تكبَّر على الله تعالى، وكفر به.
وقيل: تكبَّر على الخلقِ واسْتعبَدهُمْ.
روي عن الحسن قال: كان فرعون علجاً من «همدان».
وقال مجاهد: كان من أهل «إصطخر» وعن الحسن - أيضاً - كان من أهل «أصبهان»، يقال له: ذو ظفر، طوله أربعة أشبارٍ.
قوله: ﴿هَل لَّكَ﴾ خبر مبتدأ مضمر.
و ﴿إلى أَن تزكى﴾ متعلِّق بذلك المبتدأ، وهو حذفٌ سائغٌ، والتقدير: هل لك سبيل إلى التزكية، ومثله: هل لك في الخير، تريد: هل لك رغبة في الخير؛ قال: [الطويل]
136
٥٠٩٨ - فَهَلْ لَكمُ فِيهَا إليَّ فإنَّنِي بَصِيرٌ بِمَا أعْيَا النِّطاسِيَّ حِذْيَمَا
وقال أبو البقاء: لمَّا كان المعنى: أدعوك، جاء ب «إلى».
وقال غيره: يقال: هل لك في كذا، هل لك إلى كذا كما تقول: هل ترغب فيه وهل ترغب إليه؟.
قال الواحدي: المبتدأ محذوف في اللفظ، مراد في المعنى، والتقدير: هل لك إلى أن تزكَّى حاجة.
وقرأ نافع وابن كثير: بتشديد الزاي من «تزكَّى» والأصل تتزكى، وكذلك «تَصدَّى» في السورة تحتها، فالحرميان: أدغما، والباقون: حذفوا، نحو تنزل، وتقدَّم الخلاف في أيتهما المحذوفة.

فصل في تفسير الآية


معنى «هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزكَّى» أي: تُسْلِم فتطهرُ من الذُّنُوبِ.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هل لك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله.
و «أهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى» أي: تخافُه وتتقيه.
قال ابن الخطيب: سائر الآيات تدل على أنه - تعالى - لمَّا نادى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذكر له أشياء كثيرة، كقوله تعالى في سورة «طه» :﴿نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ﴾ [طه: ١١، ١٢] إلى قوله: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾ [طه: ٢٣، ٢٤].
فدلَّ [قوله تعالى - هاهنا -: «اذْهَبْ إلى فِرعَوْنَ إنَّه طَغَى» ] أنه من جملة ما ناداه به [لا كل ما ناداه به]، وأيضاً فليس الغرض أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في الطور، إلاَّ أنَّه خصَّه دعوته جاريةٌ مجرى دعوةِ كُلِّ القَوْمِ.

فصل في كلام المعتزلة


تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في إبطال القول بأن الله - تعالى - يخلق فعل العبد،
137
فإن هذا استفهام على سبيل التقرير، أي: لك سبيل إلى أن تزكَّى، ولو كان ذلك بفعل الله - تعالى - لا نقلب الكلام حجةً على موسى.
والجواب: ما تقدَّم في نظائره.
حكى القرطبيُّ عن صخرِ بنِ جويرية قال: «لمَّا بعث الله تعالى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى فرعون، قال له:» اذْهَبْ إلى فِرْعَونَ «إلى قوله:» وأهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى «، ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه، وقد علمت أنه لا يفعل، فأوحى الله - تعالى - إليه أن امض إلى ما أمرتَ به، فإنَّ في السماء اثني عشر ألفاً ملك، يطلبون علم القدرة، فلم يبلغوه، ولم يدركوه».
قوله تعالى: ﴿فَأَرَاهُ الآية الكبرى﴾ «الفاء» في «فأراه» : معطوف على محذوف، يعني فذهب فأراه، كقوله تعالى: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠] أي: فضرب فانفجرت.
واختلفوا في الآية الكبرى، أي: العلامة العظمى، وهي المعجزة.
فقيل: هي العصا.
وقيل: اليدُ البيضاءُ تبْرقُ كالشَّمْسِ، قاله مقاتل والكلبي.
والأول: قول عطاء وابن عباس؛ لأنَّه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا كان حاصلاً في العصا؛ لأنَّها لمَّا انقلبت حيّة، فلا بد وأن يتغيَّر اللون الأول، فإذن كل ما في اليد، فهو حاصل في العصا، وأمور أخر، وهي الحياة في الجرم الجمادي، وتزايد الأجر إليه، وحصول القدرةِ الكبيرة والقُوَّة الشديدة، وابتلاعها أشياء كثيرة، وزوال الحياة، والقدرة عليها، وبقاء تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حيَّة، وكلُّ واحدٍ من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصا.
وقال مجاهد: هي مجموع العصا واليد.
وقيل: فلق البحر، وقيل: جميع آياته ومعجزاته.
﴿فَكَذَّبَ﴾ أي: كذَّب بِنَبِيِّ الله موسى و «عصى» ربَّه تبارك وتعالى.
فإن قيل: كل من كذَّب الله فقد عصى، فما فائدة قوله: «فكذب وعصى» ؟.
فالجواب: كذَّب بالقول، وعصى بالتمرد والتجبر.
138
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى﴾ أي: يعملُ بالفساد في الأرض.
وقيل: يعمل في نكاية موسى.
وقيل: «أدْبَرَ يَسْعَى» هارباً من الحيَّة.
قال ابن الخطيب: معنى «أدْبَرَ يَسْعَى» أي: أقبل يسعى، كما يقالُ: أقبل يفعل كذا، يعني: إن شاء يفعل، فموضع «أدبر» موضع «أقبل» لئلاَّ يوصف بالإقبَالِ.
قوله: ﴿فَحَشَرَ فنادى﴾ لم يذكر مفعولاهما، إذ المراد: فعل ذلك، أو يكون التقدير: فحشر قومه فناداهم.
وقوله: «فَقَالَ» تفسير للنِّداء.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فنادى فحشر؛ لأنَّ النداء قبل الحشر، ومعنى «حشر»، أي: جمع السَّحرة، وجمع أصحابه ليَمْنَعُوهُ من الحيَّة.
وقيل: جمع جنوده للقتال، والمحاسبة، و «السَّحَرةُ» : المعارضة.
وقيل: حَشَرَ النَّاس للُضُور «فنادى» أي: قال لهم بصوتٍ عالٍ.
﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ أي: لا ربَّ فوقِي.
وقيل: أمر منادياً ينادي فنادى في النَّاس بذلك.
وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
وعن ابن عباس، ومجاهدٍ، والسديِّ، وسعيد بن جبير، ومقاتلٍ: كلمته الأولى ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] والأخرى: ﴿أنَا ربُّكمُ الأعْلَى﴾.
قال ابنُ عباس: كان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّا بينَّا في سورة «طه» أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسانُ في نفسه كونه خالقاً للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان، فإنَّ العلمَ بفسادِ ذلك ضروريٌّ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسل
139
إليه، بل الرَّجل كان دهرياً منكراً للصَّانع والحشر والنشر، وكان يقول: ليس لأحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ إلاَّ لي «فأنَا ربُّكم»، بمعنى مربيكم والمُحسنُ إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمرٌ، أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولاً.
قال القاضي: وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة، كيف يليق أن يقول: «أنَا ربُّكم الأعْلَى» فدلت هذه الآية أنَّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.
قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى﴾ يجوز أن يكون مصدر الأخذِ، والتجوز إما في الفعل، أي: نكل بالأخذِ نكال الآخرة، وإما في المصدر، أي: أخذه أخذ نكالٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي: لأجلِ نكالهِ، ويضعف جعله حالاً لتعريفه، وتأويله كتأويل جهدك وطافتك، غير مقيس.
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة المتقدِّمة، أي: نكل الله [به] نكال الآخرة. قاله الزَّمخشريُّ، وجعله كوعد الله، وصبغة الله.
وقال القرطبيُّ: وقيل: نُصِبَ بنَزْعِ حرف الصِّفة، أي: فأخذه الله بنكال الآخرة، فلمَّا نُزعَ الخافضُ نُصِبَ.
والنكال: اسم لما جعل نكالاً للغير، أي: عقوبة له حتى يعتبر، يقال: نَكَل فلانٌ بفلانِ، إذا ألحقهُ عُقوبة، والكلمة من الامتناع، ومنه النُّكُول عن اليمين، والنكل: القيد وقد مضى في سورة «المزمل»، والنكال: بمنزلة التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم.
والآخرة والأولى: إمَّا الدَّاران وإمَّا الكلمتان والاخرة قوله: «أنَا ربُّكمُ الأعْلَى»، والأولى: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] كما تقدم فحذف الموصول للعلم به.

فصل في تفسير الآخرة والأولى


قيل: الآخرة والأولى: هما الكلمتان كما تقدَّم.
وقال الحسنُ وقتادةُ: «نكال الآخرة والأولى» : هو أن أغرقهُ في الدَّنيَا وعذّبه في الآخرة.
وروي عن قتادة - أيضاً -: الآخرةُ قوله: ﴿أنَا ربُّكمُ الأعْلَى﴾ والأولى تكذيبه بموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
140
قال القفال: وهذا كأنَّه هو الأظهرُ؛ لأنَّه - تعالى - قال: ﴿فَأَرَاهُ الآية الكبرى فَكَذَّبَ وعصى ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ فذكر القصتين، ثم قال: ﴿فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى﴾.
فظهر أنَّ المراد: أنَّه عاقبه على هذين الأمرين.
ثمَّ إنَّه - تعالى - ختم هذه القصة بقوله:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى﴾، إنَّ فيما قصصنا عليك اعتباراً وعظةً لمن يخاف.
141
قوله :﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ ﴾ منصوب ب «حديث » لا ب «أتاك » ؛ لاختلاف وقتيهما، وتقدم الخلاف بين القراء في «طُوَى » في سورة [ طه : ١٢ ].
و«الوادي المقدس » : المُبَاركُ المُطَهَّر.
قال الفراء :«طُوى » واد بين «المدينة » و «مصر »، قال : وهو معدولٌ، من «طاو »، كما عدل «عُمَرُ » من «عامر ».
قال الفراء : مَنْ صرفه قال : هو ذكر، ومن لم يصرفه جعله معدولاً ك «عمر، وزفر ».
قال :«والصَّرفُ أحبُّ إليَّ إذا لم أجد في المعدول نظيراً » أي : لم أجد له اسماً من الواو والياء عدلَ من «فاعل » إلى «فُعَل » غير طُوى.
وقيل :«طوى » معناه : يا رجل، بالعبْرَانيَّةِ، فكأنَّه قيل : اذهب يا رجل إلى فرعون، [ قاله ابن عباس.
وقيل : الطوى : أي : ناداه بعد طويّ من الليل اذهب إلى فرعون ]١ ؛ لأنك تقول : جئتك بعد طويّ، أي بعد ساعة من الليل.
وقيل : معناه «بالوَادِ المُقدَّسِ طُوى » أي بُورِكَ فيهِ مرَّتيْنِ.
١ سقط من: ب..
قوله :﴿ اذهب ﴾ يجوز أن يكون تفسيراً للنداء، ناداه اذهب، ويجوز أن يكون على إضمار القول.
وقيل : هو على حذف، أي : أن اذهب، ويدل له قراءة١ عبد الله : أن اذهب.
و «أن » هذه الظَّاهرة أو المقدرة، يحتملُ أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، أي : ناداه ربُّه بكذا.
«اذهب إلى فرعون إنه طغى » أي تجاوز القدر في العصيان.
قال ابنُ الخطيب٢ : ولم يُبيِّنُ أنَّه طغَى في أيِّ شيءٍ.
فقيل : تكبَّر على الله تعالى، وكفر به.
وقيل : تكبَّر على الخلقِ واسْتعبَدهُمْ.
روي عن الحسن قال : كان فرعون علجاً من «همدان »٣.
وقال مجاهد : كان من أهل «إصطخر »٤ وعن الحسن - أيضاً - كان من أهل «أصبهان »، يقال له : ذو ظفر، طوله أربعة أشبارٍ٥.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٥، والدر المصون ٦/٤٧٤..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٣٧..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٣١)..
٤ ينظر المصدر السابق..
٥ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ هَل لَّكَ ﴾ خبر مبتدأ مضمر.
و ﴿ إلى أَن تزكى ﴾ متعلِّق بذلك المبتدأ، وهو حذفٌ سائغٌ، والتقدير : هل لك سبيل إلى التزكية، ومثله : هل لك في الخير، تريد : هل لك رغبة في الخير ؛ قال :[ الطويل ]
٥٠٩٨- فَهَلْ لَكمُ فِيهَا إليَّ فإنَّنِي بَصِيرٌ بِمَا أعْيَا النِّطاسِيَّ حِذْيَمَا١
وقال أبو البقاء٢ : لمَّا كان المعنى : أدعوك، جاء ب «إلى ».
وقال غيره : يقال : هل لك في كذا، هل لك إلى كذا كما تقول : هل ترغب فيه وهل ترغب إليه ؟.
قال الواحدي : المبتدأ محذوف في اللفظ، مراد في المعنى، والتقدير : هل لك إلى أن تزكَّى حاجة.
وقرأ نافع وابن كثير٣ : بتشديد الزاي من «تزكَّى » والأصل تتزكى، وكذلك «تَصدَّى » في السورة تحتها، فالحرميان : أدغما، والباقون : حذفوا، نحو تنزل، وتقدَّم الخلاف في أيتهما المحذوفة.

فصل في تفسير الآية


معنى «هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزكَّى » أي : تُسْلِم فتطهرُ من الذُّنُوبِ.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هل لك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله.
١ البيت لأوس بن حجر ينظر ديوانه ص ١١١، وخزانة الأدب ٤/٣٧٠، ٣٧٢، ٣٧٣، ٣٧٦، وشرح شواهد الشافية ص ١١٦، ١١٧، واللسان (نطس)، و(خدم)، وجمهرة اللغة ص ٨٣٨، ١٣٢٧، والخصائص ٢/٤٥٣، وشرح المفصل ٣/٢٥، وضرائر الشعر ص ١٦٧..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٢٨٠..
٣ ينظر: السبعة ٦٧١، والحجة ٦/٣٧٤، وإعراب القراءات ٢/٤٣٦، وحجة القراءات ٧٤٩..
و«أهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى » أي : تخافُه وتتقيه١.
قال ابن الخطيب٢ : سائر الآيات تدل على أنه - تعالى - لمَّا نادى موسى - عليه الصلاة والسلام - ذكر له أشياء كثيرة، كقوله تعالى في سورة «طه » :﴿ نُودِيَ يا موسى إني أَنَاْ رَبُّكَ ﴾ [ طه : ١١، ١٢ ] إلى قوله :﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى ﴾ [ طه : ٢٣، ٢٤ ].
فدلَّ [ قوله تعالى - هاهنا - :«اذْهَبْ إلى فِرعَوْنَ إنَّه طَغَى » ]٣ أنه من جملة ما ناداه به [ لا كل ما ناداه به ]٤، وأيضاً فليس الغرض أنَّه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في الطور، إلاَّ أنَّه خصَّه بالذكر، لأن دعوته جاريةٌ مجرى دعوةِ كُلِّ القَوْمِ.

فصل في كلام المعتزلة


تمسَّك المعتزلة٥ بهذه الآية في إبطال القول بأن الله - تعالى - يخلق فعل العبد، فإن هذا استفهام على سبيل التقرير، أي : لك سبيل إلى أن تزكَّى، ولو كان ذلك بفعل الله - تعالى - لانقلب الكلام حجةً على موسى.
والجواب : ما تقدَّم في نظائره.
حكى القرطبيُّ٦ عن صخرِ بنِ جويرية قال :«لمَّا بعث الله تعالى موسى - عليه الصلاة والسلام - إلى فرعون، قال له :«اذْهَبْ إلى فِرْعَونَ » إلى قوله :«وأهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى »، ولن يفعل، فقال : يا رب، وكيف أذهب إليه، وقد علمت أنه لا يفعل، فأوحى الله - تعالى - إليه أن امض إلى ما أمرتَ به، فإنَّ في السماء اثني عشر ألف ملك، يطلبون علم القدرة، فلم يبلغوه، ولم يدركوه ».
١ ينظر المصدر السابق، وقد روي معناه عن عكرمة ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٣)، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٣٦..
٣ سقط منك أ..
٤ سقط من: أ..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٣٧..
٦ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٣١..
قوله تعالى :﴿ فَأَرَاهُ الآية الكبرى ﴾ «الفاء » في «فأراه » : معطوف على محذوف، يعني فذهب فأراه، كقوله تعالى :﴿ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت ﴾ [ البقرة : ٦٠ ] أي : فضرب فانفجرت.
واختلفوا في الآية الكبرى، أي : العلامة العظمى، وهي المعجزة.
فقيل : هي العصا.
وقيل : اليدُ البيضاءُ تبْرقُ كالشَّمْسِ، قاله مقاتل والكلبي١.
والأول : قول عطاء وابن عباس ؛ لأنَّه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا كان حاصلاً في العصا ؛ لأنَّها لمَّا انقلبت حيّة، فلا بد وأن يتغيَّر اللون الأول، فإذن كل ما في اليد، فهو حاصل في العصا، وأمور أخر، وهي الحياة في الجرم الجمادي، وتزايد الأجر إليه، وحصول القدرةِ الكبيرة والقُوَّة الشديدة، وابتلاعها أشياء كثيرة، وزوال الحياة، والقدرة عليها، وبقاء تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حيَّة، وكلُّ واحدٍ من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصا.
وقال مجاهد : هي مجموع العصا واليد.
وقيل : فلق البحر، وقيل : جميع آياته ومعجزاته.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٣١/٣٨)، عن مقاتل والكلبي..
﴿ فَكَذَّبَ ﴾ أي : كذَّب بِنَبِيِّ الله موسى و«عصى » ربَّه تبارك وتعالى.
فإن قيل : كل من كذَّب الله فقد عصى، فما فائدة قوله :«فكذب وعصى » ؟.
فالجواب : كذَّب بالقول، وعصى بالتمرد والتجبر.
﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى ﴾ أي : يعملُ بالفساد في الأرض.
وقيل : يعمل في نكاية موسى.
وقيل :«أدْبَرَ يَسْعَى » هارباً من الحيَّة.
قال ابن الخطيب١ : معنى «أدْبَرَ يَسْعَى » أي : أقبل يسعى، كما يقالُ : أقبل يفعل كذا، يعني : إن شاء يفعل، فموضع «أدبر » موضع «أقبل » لئلاَّ يوصف بالإقبَالِ.
١ ينظر: الفخر الرازي ١٦/٣٩..
قوله :﴿ فَحَشَرَ فنادى ﴾ لم يذكر مفعولاهما، إذ المراد : فعل ذلك، أو يكون التقدير : فحشر قومه فناداهم.
وقوله :«فَقَالَ » تفسير للنِّداء.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، أي : فنادى فحشر ؛ لأنَّ النداء قبل الحشر، ومعنى «حشر »، أي : جمع السَّحرة، وجمع أصحابه ليَمْنَعُوهُ من الحيَّة.
وقيل : جمع جنوده للقتال، والمحاسبة، و «السَّحَرةُ » : المعارضة.
وقيل : حَشَرَ النَّاس للُحضُور «فنادى » أي : قال لهم بصوتٍ عالٍ.
﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ أي : لا ربَّ فوقِي.
وقيل : أمر منادياً ينادي فنادى في النَّاس بذلك.
وقيل : قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
وعن ابن عباس، ومجاهدٍ، والسديِّ، وسعيد بن جبير، ومقاتلٍ : كلمته الأولى ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ] والأخرى :﴿ أنَا ربُّكمُ الأعْلَى ﴾١.
قال ابنُ عباس : كان بين الكلمتين أربعون سنة٢، والمعنى : أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه.
قال ابن الخطيب٣ : واعلم أنَّا بينَّا في سورة «طه » أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسانُ في نفسه كونه خالقاً للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان، فإنَّ العلمَ بفسادِ ذلك ضروريٌّ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسل إليه، بل الرَّجل كان دهرياً منكراً للصَّانع والحشر والنشر، وكان يقول : ليس لأحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ إلاَّ لي «فأنَا ربُّكم »، بمعنى مربيكم والمُحسنُ إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمرٌ، أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولاً.
قال القاضي : وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول ؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة، كيف يليق أن يقول :«أنَا ربُّكم الأعْلَى » فدلت هذه الآية أنَّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥١٣)، عن ابن عباس ومجاهد والشعبي والضحاك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٣)، عن الشعبي وعزاه إلى عبد بن حميد..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٣٤)، عن مجاهد وخيثمة الجعفي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٣)، عن خيثمة وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر.
وذكره أيضا عن الله بن عمرو بن العاص وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
.

٣ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٣٩..
قوله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى ﴾ يجوز أن يكون مصدر الأخذِ، والتجوز إما في الفعل، أي : نكل بالأخذِ نكال الآخرة، وإما في المصدر، أي : أخذه أخذ نكالٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي : لأجلِ نكالهِ، ويضعف جعله حالاً لتعريفه، وتأويله كتأويل جهدك وطاقتك، غير مقيس.
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة المتقدِّمة، أي : نكل الله [ به ] نكال الآخرة. قاله الزَّمخشريُّ١، وجعله كوعد الله، وصبغة الله.
وقال القرطبيُّ٢ : وقيل : نُصِبَ بنَزْعِ حرف الصِّفة، أي : فأخذه الله بنكال الآخرة، فلمَّا نُزعَ الخافضُ نُصِبَ.
والنكال : اسم لما جعل نكالاً للغير، أي : عقوبة له حتى يعتبر، يقال : نَكَل فلانٌ بفلانِ، إذا ألحقهُ عُقوبة، والكلمة من الامتناع، ومنه النُّكُول عن اليمين، والنكل : القيد وقد مضى في سورة «المزمل »، والنكال : بمنزلة التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم.
والآخرة والأولى : إمَّا الدَّاران وإمَّا الكلمتان والآخرة قوله :«أنَا ربُّكمُ الأعْلَى »، والأولى :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ] كما تقدم فحذف الموصول للعلم به.

فصل في تفسير الآخرة والأولى


قيل : الآخرة والأولى : هما الكلمتان كما تقدَّم.
وقال الحسنُ وقتادةُ :«نكال الآخرة والأولى » : هو أن أغرقهُ في الدَّنيَا وعذّبه في الآخرة٣.
وروي عن قتادة - أيضاً - : الآخرةُ قوله :﴿ أنَا ربُّكمُ الأعْلَى ﴾، والأولى تكذيبه بموسى عليه الصلاة والسلام٤.
قال القفال٥ : وهذا كأنَّه هو الأظهرُ ؛ لأنَّه - تعالى - قال :﴿ فَأَرَاهُ الآية الكبرى فَكَذَّبَ وعصى ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ فذكر القصتين، ثم قال :﴿ فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى ﴾.
فظهر أنَّ المراد : أنَّه عاقبه على هذين الأمرين.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٦..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٣٢..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٣٥)، عن قتادة وذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٩٨)..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٣٢) عن قتادة..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٤٠..
ثمَّ إنَّه - تعالى - ختم هذه القصة بقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى ﴾، إنَّ فيما قصصنا عليك اعتباراً وعظةً لمن يخاف.
قوله: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً﴾، يريد: أهل «مكّة»، أي: أخلقكم بعد الموت أشدُّ في تقديركم أم السماءُ؟.
فمن قدر على خلقِ السَّماء على عظمها، وعظم أحوالها، قدر على الإعادة، وهذا كقوله: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٧].
والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ [يس: ٨١].
ومعنى الكلام: التقريع والتوبيخ.
ثم وصف تعالى السماء، فقال: «أم السَّماءَ بَناهَا» عطف على «أنتم»، وقوله «» بَنَاهَا «بيان لكيفية خلقه إياها، فالوقف على» السَّماءِ «، والابتداء بما بعدها، ونظيره قوله - تعالى - في» الزخرف «: ﴿أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾ [الزخرف: ٥٨].
وقوله:»
رَفَعَ سَمْكهَا «جملة مفسرة لكيفية البناء،» والسَّمْك «:» الارتفاع «.
قال الزمخشريُّ:»
جعل مقدار ذهابها في سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً «.
وسكمتُ الشيء: رفعته في الهواء، وسمك هو، أي: ارتفع سُمُوكاً، فهو قاصرٌ ومتعدٍّ، وبناء مسموك، وسنامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ، وسماك البيت ما سمكته به، والمسموكاتُ: السماوات ويقال: اسمك في الدّيم، أي: اصعد في الدرجة، والسماك: نجم معروف، وهما اثنان، رامح وأعزل؛ قال الشاعر: [الكامل]
141
وقال البغويُّ:» رفَعَ سمْكهَا «أي: سقفها.

فصل في الكلام على هذه الآية


قال الكسائيُّ والفراء والزجاج: هذا الكلام تم عند قوله تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾، قال: لأنَّه من أصله السماء، والتقدير:»
أم السماء التي بناها «فحذف» التي «، ومثل هذا الحذف جائز.
قال القفالُ: يقال: الرجل جاءك عاقل، أي: الرجل الذي جاءك عاقل، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة، فنقول: الدَّليل على أن قوله تعالى:»
بَنَاهَا «صلةٌ لما قبله، أنَّه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله:» بَنَاهَا «صفة، ثم قوله:» رَفَعَ سَمْكهَا «صفة، فقد توالت صفتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى، فكان يجب إدخال العاطف بينهما، كما في قوله:» وأغطَشَ ليْلهَا «، ولمَّا لم يكن كذلك، علمنا أنَّ قوله:» بَناهَا «صلةٌ للسَّماءِ، فكان التقدير: أم السَّماء التي بناهَا»، وهذا يقتضي وجود سماءٍ ما بَنَاهَا اللهُ، وذلك باطل.
وقوله: ﴿فَسَوَّاهَا﴾ أي: خَلقهَا خَلْقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا فطور، ولا شقوق.

فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة


قال ابن الخطيب: واستدلُّوا بهذه الآية على كونِ السَّماء كُرةً، قالوا: لأنه لو لم تكن كرةً لكان بعضُ جوانبها سطحاً، والبعض زاويةً والبعضُ خطًّا، ولكان بعض أجزائه اقرب إلينا، والبعض الآخر أبعد، فلا تحصل التَّسويةُ الحقيقية، ثُمَّ قالوا: لما ثبت أنَّها محدثةٌ مُفتقِرةٌ إلى فاعل مختار، فأيُّ ضررٍ في الدِّين يُنافِي كونها كرة.
قوله تعالى: ﴿وَأَغْطَشَ﴾. أي: أظلم بلغة أنمار، يقال: غطشَ الليلُ، وأغطشته أنا؛ قال: [المتقارب]
٥٠٩٩ - إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً دَعَائِمُهُ اعَزُّ وأطْوَلُ
٥١٠٠ - عَقرْتُ لَهُمْ نَاقَتِي مَوهِناً فَليْلهُم مُدلَهِمٌّ غَطِشْ
وليل أغطش، وليلة غطشاء.
قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه شبه عمش، ومنه فلاة غَطْشَى لا يهتدى فيها، والتَّغَاطشُ: التَّعامِي انتهى.
ويقال: أغْطشَ اللَّيْلُ قاصراً ك «أظلم»، ف «أفْعَلَ» فيه متعدٍّ ولازمٍ، فالغَطَشُ والغَتَشُ: الظُّلمة، ورجل أغطش، أي: أعْمَى، أو شبيهٌ به، وقد غطش، والمرأة:
142
غطشاءُ، وفلاة غَطْشَى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى: [المتقارب]
٥١٠١ - وبَهْمَاءَ بالليْلِ غَطْشَى الفَلاَ ةِ يُؤنِسُنِي صَوْتُ قَيَّادِهَا
ومعنى قوله: ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ أي: جعلهُ مُظلماً، وأضاف اللَّيل إلى السَّماء؛ لأنَّ الليل يكون بغروب الشمس، والشمس تضاف إلى السماء، ويقال: نجُومُ اللَّيْلِ؛ لأنَّ ظهورها بالليل.
قوله: ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾، فيه حذف، أي: ضحى شمسها، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما، وإنَّما عبَّر عن النَّهارِ بالضحى؛ لأنَّ الضُّحى أكمل النَّهار بالنَّور والضَّوءِ.
قوله تعالى: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ أي: بسطها، و «بَعْدَ» على بابها من التأخير، ولا معارضة بينها وبين آية فُصلت؛ لأنَّه - تعالى - خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض.
وقول أبي عبيدة: إنَّها بمعنى: «قَبْلَ» منكرٌ عند العلماء.
والعرب تقول: دحوتُ الشيء ادحوهُ دحْواً: إذا بسطه، ودحَى يَدحِي دَحْياً: إذا بسطه، فهو من ذوات الواو والياء، فيكتب بالألف، والياء.
وقيل لعشّ النَّعامة: أدحو، وأدحى لانبساطه في الأرض.
وقال أمية بن أبي الصلت: [الوافر]
٥١٠٢ - وبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحاهَا فَهُمْ قُطَّانُهَا حتَّى التَّنَادِي
وقيل: دَحَى بمعنى سوَّى.
قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيلٍ: [المتقارب]
٥١٠٣ - وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاً
دَحَاهَا فلمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بأيدٍ وأرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا
والعامة: على نصب الأرض، والجبال على إضمار فعلٍ مفسَّر بما بعده، وهو المختار لتقدُّم جملة فعلية.
ورفعهما الحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد، برفعهما علىلابتداء، وعيسى برفع «الأرض» فقط.
143

فصل


روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، وكان قبل أن يخلق الدُّنيا بألفي عام، ثم دُحيتِ الأرض من تحت البيت.
وحكى القرطبي عن بعض أهل العلم أنَّ «بَعْدَ» هنا في موضع: «مع»، كأنَّه قال: والأرض مع ذلك دحاها، كقوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: ١٣]، ومنه قولهم: «أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيِّئُ الخلقِ» ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٥١٠٤ - فَقُلت لَهَا:
عَنِّي إليْك فإنَّنِي حَرامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أي: مع ذلك.
وقيل: «بعد» بمعنى: «قبل» كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر﴾ [الأنبياء: ١٠٥] أي: من قبلِ الفرقان؛ قال أبو كثير: [الطويل]
٥١٠٥ - حَمدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوةَ إذْ نَجَا خِراشٌ وبَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنَ بعضِ
وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة.
وقيل: «دَحاهَا» حرثها وشقَّها، قاله ابن زيد.
وقيل: «دَحاهَا» مهَّدها للأقوات، والمعنى متقارب.
قوله: ﴿أَخْرَجَ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون تفسيراً.
والثاني: أن يكون حالاً.
قال الزمخشري: فإن قلت هلاَّ أدخل حرف العطف على «أخرج» ؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «دَحَاهَا» بمعنى: بسطها، ومهَّدها للسُّكْنَى، ثم فسَّر التَّمهيد بما
144
لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكلِ والمشربِ وإمكان القرار عليها.
والثاني: أن يكون «أخْرَج» حالاً، بإضمار «قد»، كقوله تعالى: ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠].
واعلم أنَّ إضمار «قد» هو قول الجمهور، وخالف الكوفيون والأخفش.
قوله: ﴿مِنْهَا مَآءَهَا﴾، أي: من الأرض عيونها المتفجِّرة بالماء.
و «مَرْعَاهَا» أي: النبات الذي يرعى، والمراد بمرعاها، ما يأكل النَّاسُ والأنعامُ، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً﴾ [عبس: ٢٥، ٢٦]، إلى قوله تعالى: ﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: ٣٢]، واستعير الرَّعي للإنسان، كما استعير الرَّتعُ في قوله: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف: ١٢] وقد قُرئ «نرتع» ويرتع من الرَّعي، والرعي في الأصل مكان أو زمان، أو مصدر، وهو هنا مصدر بمعنى: «المفعول»، وهو في حق الآدميين استعارة.
قال ابن قتيبة: قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، فانظر كيف دلَّ بقوله: «مَاءهَا ومَرْعاهَا» على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً، ومنها متاعاً للأنام من العشب، والشجر، والثمر، والحب والقضب، واللباس، والدواء، حتى النار والملح.
أمَّا النار؛ فلأنها من العيدانِ، قال جلا وعلا: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون﴾ [الواقعة: ٧١، ٧٢].
وأمَّا الملحُ؛ فلأنَّه من الماءِ.
قوله تعالى: ﴿والجبال أَرْسَاهَا﴾.
قراءة العامة: بنصب «الجبال».
وأرْسَى: ثبَّت فيها الجبال.
وقرأ الحسنُ، وعمرو بنُ عبيدٍ، وعمرو بنُ ميمونٍ، ونصرُ بنُ عاصمٍ: بالرَّفعِ على الابتداءِ.
قوله تعالى: ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ﴾.
العامَّة: على النصب مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدرٍ، اي: متَّعكُمْ، أو مصدراً من غير اللفظ؛ لأن المعنى: أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.
وقيل: نُصِبَ بإسقاط حرف الصفة، تقديره: لتتمتعوا به متاعاً، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم.
145
وقوله :«رَفَعَ سَمْكهَا » جملة مفسرة لكيفية البناء، «والسَّمْك » :«الارتفاع ».
قال الزمخشريُّ١ :«جعل مقدار ذهابها في سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً ».
وسكمتُ الشيء : رفعته في الهواء، وسمك هو، أي : ارتفع سُمُوكاً، فهو قاصرٌ ومتعدٍّ، وبناء مسموك، وسنامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ، أي : عالٍ مرتفعٌ، وسماك البيت ما سمكته به، والمسموكاتُ : السماوات ويقال : اسمك في الدّيم، أي : اصعد في الدرجة، والسماك : نجم معروف، وهما اثنان، رامح وأعزل ؛ قال الشاعر :[ الكامل ]
٥٠٩٩- إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً دَعَائِمُهُ اعَزُّ وأطْوَلُ٢
وقال البغويُّ٣ :«رفَعَ سمْكهَا » أي : سقفها.

فصل في الكلام على هذه الآية


قال الكسائيُّ والفراء والزجاج : هذا الكلام تم عند قوله تعالى :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا ﴾، قال : لأنَّه من أصله السماء، والتقدير :«أم السماء التي بناها » فحذف «التي »، ومثل هذا الحذف جائز.
قال القفالُ٤ : يقال : الرجل جاءك عاقل، أي : الرجل الذي جاءك عاقل، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة، فنقول : الدَّليل على أن قوله تعالى :«بَنَاهَا » صلةٌ لما قبله، أنَّه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله :«بَنَاهَا » صفة، ثم قوله :«رَفَعَ سَمْكهَا » صفة، فقد توالت صفتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى، فكان يجب إدخال العاطف بينهما، كما في قوله :«وأغطَشَ ليْلهَا »، ولمَّا لم يكن كذلك، علمنا أنَّ قوله :«بَناهَا » صلةٌ للسَّماءِ، فكان التقدير :«أم السَّماء التي بناهَا »، وهذا يقتضي وجود سماءٍ ما بَنَاهَا اللهُ، وذلك باطل.
وقوله :﴿ فَسَوَّاهَا ﴾ أي : خَلقهَا خَلْقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا فطور، ولا شقوق.

فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة


قال ابن الخطيب٥ : واستدلُّوا بهذه الآية على كونِ السَّماء كُرةً، قالوا : لأنه لو لم تكن كرةً لكان بعضُ جوانبها سطحاً، والبعض زاويةً والبعضُ خطًّا، ولكان بعض أجزائه اقرب إلينا، والبعض الآخر أبعد، فلا تحصل التَّسويةُ الحقيقية، ثُمَّ قالوا : لما ثبت أنَّها محدثةٌ مُفتقِرةٌ إلى فاعل مختار، فأيُّ ضررٍ في الدِّين يُنافِي كونها كرة.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٦..
٢ تقدم..
٣ معالم التنزيل ٤/٤٤٥..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٤١..
٥ السابق ٣١/٣٤..
قوله تعالى :﴿ وَأَغْطَشَ ﴾. أي : أظلم بلغة أنمار، يقال : غطشَ الليلُ، وأغطشته أنا ؛ قال :[ المتقارب ]
٥١٠٠- عَقرْتُ لَهُمْ نَاقَتِي مَوهِناً فَليْلهُم مُدلَهِمٌّ غَطِشْ١
وليل أغطش، وليلة غطشاء.
قال الراغب : وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه شبه عمش، ومنه فلاة غَطْشَى لا يهتدى فيها، والتَّغَاطشُ : التَّعامِي انتهى.
ويقال : أغْطشَ اللَّيْلُ قاصراً ك «أظلم »، ف «أفْعَلَ » فيه متعدٍّ ولازمٍ، فالغَطَشُ والغَتَشُ : الظُّلمة، ورجل أغطش، أي : أعْمَى، أو شبيهٌ به، وقد غطش، والمرأة : غطشاءُ، وفلاة غَطْشَى لا يهتدى لها ؛ قال الأعشى :[ المتقارب ]
٥١٠١- وبَهْمَاءَ بالليْلِ غَطْشَى الفَلاَ ةِ يُؤنِسُنِي صَوْتُ قَيَّادِهَا٢
ومعنى قوله :﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ﴾ أي : جعلهُ مُظلماً، وأضاف اللَّيل إلى السَّماء ؛ لأنَّ الليل يكون بغروب الشمس، والشمس تضاف إلى السماء، ويقال : نجُومُ اللَّيْلِ ؛ لأنَّ ظهورها بالليل.
قوله :﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾، فيه حذف، أي : ضحى شمسها، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما، وإنَّما عبَّر عن النَّهارِ بالضحى ؛ لأنَّ الضُّحى أكمل النَّهار بالنَّور والضَّوءِ.
١ ينظر القرطبي ١٩/١٣٣، والدر المصون ٦/٤٧٥..
٢ ينظر ديوانه ص ٢٦٠، والقرطبي ١٩/١٣٣، واللسان (غطش)..
قوله تعالى :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ أي : بسطها، و«بَعْدَ » على بابها من التأخير، ولا معارضة بينها وبين آية فُصلت ؛ لأنَّه - تعالى - خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض.
وقول أبي عبيدة : إنَّها بمعنى :«قَبْلَ » منكرٌ عند العلماء.
والعرب تقول : دحوتُ الشيء ادحوهُ دحْواً : إذا بسطه، ودحَى يَدحِي دَحْياً : إذا بسطه، فهو من ذوات الواو والياء، فيكتب بالألف، والياء.
وقيل لعشّ النَّعامة : أدحو، وأدحى لانبساطه في الأرض.
وقال أمية بن أبي الصلت :[ الوافر ]
٥١٠٢- وبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحاهَا فَهُمْ قُطَّانُهَا حتَّى التَّنَادِي١
وقيل : دَحَى بمعنى سوَّى.
قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيلٍ :[ المتقارب ]
٥١٠٣- وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاً
دَحَاهَا فلمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بأيدٍ وأرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا٢
والعامة : على نصب الأرض، والجبال على إضمار فعلٍ مفسَّر بما بعده، وهو المختار لتقدُّم جملة فعلية.
ورفعهما٣ الحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد، برفعهما على لابتداء، وعيسى برفع «الأرض » فقط.

فصل


روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، وكان قبل أن يخلق الدُّنيا بألفي عام، ثم دُحيتِ الأرض من تحت البيت٤.
وحكى القرطبي٥ عن بعض أهل العلم أنَّ «بَعْدَ » هنا في موضع :«مع »، كأنَّه قال : والأرض مع ذلك دحاها، كقوله تعالى :﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ [ القلم : ١٣ ]، ومنه قولهم :«أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيِّئُ الخلقِ » ؛ وقال الشاعر :[ الطويل ]
٥١٠٤ - فَقُلت لَهَا : عَنِّي إليْك فإنَّنِي*** حَرامٌ، وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ٦
أي : مع ذلك.
وقيل :«بعد » بمعنى :«قبل » كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] أي : من قبلِ الفرقان ؛ قال أبو كثير :[ الطويل ]
٥١٠٥- حَمدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوةَ إذْ نَجَا خِراشٌ وبَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنَ بعضِ٧
وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة.
وقيل :«دَحاهَا » حرثها وشقَّها، قاله ابن زيد.
وقيل :«دَحاهَا » مهَّدها للأقوات، والمعنى متقارب.
١ ينظر القرطبي ١٩/١٣٣، والبحر ٨/٤١٠، والدر المصون ٦/٤٧٥، وفتح القدير ٥/٣٧٩..
٢ ينظر القرطبي ١٩/١٣٣، والبحر ٨/٤١١، والدر المصون ٦/٤٧٥، وفتح القدير ٥/٣٧٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٣٤، والبحر المحيط ٨/٤١٥، والدر المصون ٦/٣٧٥..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٣٨)، من طريق عكرمة عن ابن عباس وينظر تفسير القرطبي (١٩/١٣٣)..
٥ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٣٣..
٦ تقدم..
٧ البيت ليس لأبي كبير الهذلي، ولكنه لأبي خراش الهذلي من قصيدة قالها عندما قتل أخوه عروة ونجا أبو خراش من الموت.
ينظر ديوان الهذليين ٢/١٥٧، وشرح ديوان الحماسة للتبرزي ١/٣٢٦، وشرح المفصل ٣/١١٧، والطبري ٣٠/٢٩، والقرطبي ١٩/١٣٣..

قوله :﴿ أَخْرَجَ ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون تفسيراً.
والثاني : أن يكون حالاً.
قال الزمخشري١ فإن قلت هلاَّ أدخل حرف العطف على «أخرج » ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون «دَحَاهَا » بمعنى : بسطها، ومهَّدها للسُّكْنَى، ثم فسَّر التَّمهيد بما لابد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكلِ والمشربِ وإمكان القرار عليها.
والثاني : أن يكون «أخْرَج » حالاً، بإضمار «قد »، كقوله تعالى :﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [ النساء : ٩٠ ].
واعلم أنَّ إضمار «قد » هو قول الجمهور، وخالف الكوفيون والأخفش.
قوله :﴿ مِنْهَا مَآءَهَا ﴾، أي : من الأرض عيونها المتفجِّرة بالماء.
و«مَرْعَاهَا » أي : النبات الذي يرعى، والمراد بمرعاها، ما يأكل النَّاسُ والأنعامُ، ونظيره قوله تعالى :﴿ أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ [ عبس : ٢٥- ٣٢ ]، واستعير الرَّعي للإنسان، كما استعير الرَّتعُ في قوله :﴿ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾ [ يوسف : ١٢ ] وقد قُرئ «نرتع » ويرتع من الرَّعي، والرعي في الأصل مكان أو زمان، أو مصدر، وهو هنا مصدر بمعنى :«المفعول »، وهو في حق الآدميين استعارة.
قال ابن قتيبة : قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ]، فانظر كيف دلَّ بقوله :«مَاءهَا ومَرْعاهَا » على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً، ومنها متاعاً للأنام من العشب، والشجر، والثمر، والحب والقضب، واللباس، والدواء، حتى النار والملح.
أمَّا النار ؛ فلأنها من العيدانِ، قال جل وعلا :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون ﴾ [ الواقعة : ٧١، ٧٢ ].
وأمَّا الملحُ ؛ فلأنَّه من الماءِ.
١ ينظر الكشاف ٤/٦٩٧..
قوله تعالى :﴿ والجبال أَرْسَاهَا ﴾.
قراءة العامة : بنصب «الجبال ».
وأرْسَى : ثبَّت فيها الجبال.
وقرأ الحسنُ، وعمرو بنُ عبيدٍ١، وعمرو بنُ ميمونٍ، ونصرُ بنُ عاصمٍ : بالرَّفعِ على الابتداءِ.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٣٤، والبحر المحيط ٨/٤١٥، والدر المصون ٦/٤٧٥..
قوله تعالى :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾.
العامَّة : على النصب مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدرٍ، أي : متَّعكُمْ، أو مصدراً من غير اللفظ ؛ لأن المعنى : أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.
وقيل : نُصِبَ بإسقاط حرف الصفة، تقديره : لتتمتعوا به متاعاً، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى﴾ في جواب «إذا» أوجه:
أحدها: قوله: ﴿فَأَمَّا مَن طغى﴾، نحو: «إذا جاءك بنو تميمٍ، فأما العاصي فأهنه، وأمَّا الطائع فأكرمه».
وقيل: محذوف.
فقدَّرهُ الزمخشريُّ: فإن الأمر كذلك، أي: فإنَّ الجحيمَ مأواهُ.
وقدَّره غيرهُ: انقسم الرَّاءون قسمين.
وقيل: عاينُوا أو علموا.
وقيل: جوابها أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة.
وقال أبو البقاء: العامل فيها جوابها، وهو معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان﴾.
والطَّامةُ الكبرى: الدَّاهيَة العُظمَى التي تطمّ على غيرها من الدَّواهي لعظمها، و «الطَّمُّ» :«الدفن»، ومنه: طمَّ السَّيلُ الرَّكية، وفي المثل: جَرَى الوادِي فطمَّ على القُرَى.
وقيل: مأخوذٌ من قولهم: طمَّ الفرس طميماً، إذا استفرغ جهده في الجري، والمراد بها في القرآن: النَّفخة الثانية؛ لأن بها يحصل ذلك.
قال ابن عباس: هي النَّفخةُ الثانية التي يكون معها البعث.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيضاً، والضحاك: أنَّها القيامة، سميت بذلك؛ لأنَّها تطمُّ على كل شيء فتغمره.
وقال القاسمُ بنُ الوليد الهمداني: الطامةُ الكبرى حين يساق أهل الجنَّة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
146
قوله: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ﴾ بدل من «إذا»، أو: منصوباًَ بإضمار فعلٍ، أي: أعني: يوم أو يوم يتذكر كيت وكيت.
قوله: ﴿مَا سعى﴾ أي: ما عمل من خير أو شر يراه مكتوباً في كتابه فيتذكرهُ، وكان قد نسيه، لقوله تعالى: ﴿أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: ٦].
قوله تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الجحيم﴾ العامة على بنائه للمفعول مشدداً، و ﴿لِمَن يرى﴾ بياء الغيبة.
وزيدُ بن علي وعائشة وعكرمة: مبنيًّا للفاعل مخففاً، و «ترى» بتاء من فوق، فجوزوا في تاء «ترى» أن تكون للتأنيث، وفي «ترى» ضمير الجحيم، كقوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [الفرقان: ١٢]، وأن تكون للخطاب، أي: ترى أنت يا محمد، والمراد: ترى الناس. وقرأ عبد الله: «لمن رأى» فعلاً ماضياً.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «بُرِّزَتْ» كشفت عنها تتلظّى، فيراه كل ذي بصرٍ، فالمؤمنون يمرُّون عليها، ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم: ٧١]، وأمَّا الكفار فهي مأواهُم.
وقيل: الرؤية هنا: استعارة، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين.
وقيل: المراد: الكافر؛ لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب.
وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النَّعمةِ.
قوله: ﴿فَأَمَّا مَن طغى﴾ أي: تجاوز الحدَّ في العصيان.
قيل: نزلت في النَّضْرِ وأبيه الحارث، وهي عامة في كل كافرٍ آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
قوله: ﴿فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى﴾ إمَّا هي المأوى له، أو هي مأواه، وقامت «أل» مقام الضمير، وهو رأي الكوفيين وقد تقدم تحقيق هذا والرد على قائله، خلافاً للبصريين؛ قال الشاعر: [الطويل]
٥١٠٦ - رَحيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ
إذ لو كانت «أل» عوضاً من الضمير لما جمع بينهما في هذا البيت، ولا بُدَّ من أحد هذين التأويلين في الآية الكريمة لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ، والذي
147
حسَّن عدم ذكر العائد كون الكلمة وقعت رأس فاصلة.
وقال الزمخشري «فإن الجحيم مأواهُ، كما تقول للرجل: غُضَّ الطَّرف، تريد طرفك، وليس الألف و» اللام «بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أنَّ الطَّاغي هو صاحب المأوى، وأنَّه لا يغُضُّ طرف غيره تركت الإضافة، ودخول الألف واللام في» المأوى «والطرف، للتعريف؛ لأنهما معروفان».
قال أبو حيان: «وهو كلام لا يتحصَّل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدّر ضميراً محذوفاً ضميراً كما قدَّره البصريون، فرام حصول الرابط بلا رابط».
قال شهابُ الدِّين: «ولكن لما علم إلى آخره، هو عين قول البصريين، ولا أدري كيف خفي عليه هذا».
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ اي: حَذِرَ مقامه بين يدي ربه.
وقال الربيعُ: مقامه يوم الحساب.
وقال مجاهدٌ: خوفه في الدنيا من الله عند مواقعه الذَّنب فقلع عنه، نظيره: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦].
﴿ونَهَى النَّفْس عن الهَوى﴾ أي: زجرها عن المعاصي والمحارم.
قال ابن الخطيب: هذان الوصفان مضادَّان للوصفين المتقدمين، فقوله تعالى: ﴿مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ ضدُّ قوله: «فأمَّا من طغى»، «ونَهَى النفس» ضدُّ قوله: «وآثر الحياةَ الدُّنيا» فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الهوى، وسيأتي زمان يقوى الهوى الحقَّ، فنعوذُ بالله من ذلك الزمنِ.
قوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ أي: المنزل، نزلت لآيتان في مصعبِ بن عميرٍ، وأخيه عامرِ بنِ عميرٍ.
148
روى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أمَّا من طغى فهو أخٌ لمصعب بن عمير، أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار، فقالوا: من أنت. قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلمَّا أصبحُوا حدَّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدُّوا أسيركم، فإنَّ أمَّه أكثر أهل البطحاءِ حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه.
«» وأمَّا من خَاف مَقامَ ربِّهِ «فمصعب بن عمير، وَقَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنفسه يوم» أحُدٍ «حين تفرَّق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السِّهام، فلما رأه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشطحاً في دمهِ، قال:» عِندَ اللهِ أحْتسبهُ «. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه:» لَقِدْ رأيْتهُ وعَليْهِ بُرْدَانِ ما تُعرفُ قيمتُهما وإنَّ شِراكَ نَعْليهِ مِنْ ذَهَبٍ «».
وعن ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «نزلت هذه الآية في رجلين: أبو جهل بن هشام، ومصعب بن عمير».
وقال السديُّ: نزل قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ في أبي بكرٍ الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال الكلبيُّ: هما عامَّتان.
149
قوله :﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ﴾ بدل من «إذا »، أو : منصوباًَ بإضمار فعلٍ، أي : أعني : يوم أو يوم يتذكر كيت وكيت.
قوله :﴿ مَا سعى ﴾ أي : ما عمل من خير أو شر يراه مكتوباً في كتابه فيتذكرهُ، وكان قد نسيه، لقوله تعالى :﴿ أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ ﴾ [ المجادلة : ٦ ].
قوله تعالى :﴿ وَبُرِّزَتِ الجحيم ﴾ العامة على بنائه للمفعول مشدداً، و ﴿ لِمَن يرى ﴾ بياء الغيبة.
وزيدُ بن علي وعائشة وعكرمة١ : مبنيًّا للفاعل مخففاً، و «ترى » بتاء من فوق، فجوزوا في تاء «ترى » أن تكون للتأنيث، وفي «ترى » ضمير الجحيم، كقوله تعالى :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [ الفرقان : ١٢ ]، وأن تكون للخطاب، أي : ترى أنت يا محمد، والمراد : ترى الناس. وقرأ عبد الله٢ :«لمن رأى » فعلاً ماضياً.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - :«بُرِّزَتْ » كشفت عنها تتلظّى، فيراه كل ذي بصرٍ، فالمؤمنون يمرُّون عليها، ﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ [ مريم : ٧١ ]، وأمَّا الكفار فهي مأواهُم٣.
وقيل : الرؤية هنا : استعارة، كقولهم : قد تبين الصبح لذي عينين.
وقيل : المراد : الكافر ؛ لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب.
وقيل : يراها المؤمن ليعرف قدر النَّعمةِ.
١ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٧، والمحرر الوجيز ٥/٤٣٤، والبحر المحيط ٨/٤١٥، والدر المصون ٦/٤٧٦..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٨، والمحرر الوجيز ٥/٤٣٤، والدر المصون ٦/٤٧٦..
٣ ذكره القرطبي في تفسيره (١٩/١٣٤)..
قوله :﴿ فَأَمَّا مَن طغى ﴾ أي : تجاوز الحدَّ في العصيان.
قيل : نزلت في النَّضْرِ وأبيه الحارث، وهي عامة في كل كافرٍ آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
قوله :﴿ فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى ﴾ إمَّا هي المأوى له، أو هي مأواه، وقامت «أل » مقام الضمير، وهو رأي الكوفيين وقد تقدم تحقيق هذا والرد على قائله، خلافاً للبصريين ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٥١٠٦- رَحيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ١
إذ لو كانت «أل » عوضاً من الضمير لما جمع بينهما في هذا البيت، ولا بُدَّ من أحد هذين التأويلين في الآية الكريمة لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ، والذي حسَّن عدم ذكر العائد كون الكلمة٢ وقعت رأس فاصلة.
وقال الزمخشري٣ «فإن الجحيم مأواهُ، كما تقول للرجل : غُضَّ الطَّرف، تريد طرفك، وليس الألف و «اللام » بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أنَّ الطَّاغي هو صاحب المأوى، وأنَّه لا يغُضُّ طرف غيره تركت الإضافة، ودخول الألف واللام في «المأوى » والطرف، للتعريف ؛ لأنهما معروفان ».
قال أبو حيان٤ :«وهو كلام لا يتحصَّل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدّر ضميراً محذوفاً ضميراً كما قدَّره البصريون، فرام حصول الرابط بلا رابط ».
قال شهابُ الدِّين٥ :«ولكن لما علم إلى آخره، هو عين قول البصريين، ولا أدري كيف خفي عليه هذا ».
١ تقدم..
٢ في ب: الآية..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٦٩٨..
٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٤١٥..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٤٧٦..
قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ اي : حَذِرَ مقامه بين يدي ربه.
وقال الربيعُ : مقامه يوم الحساب١.
وقال مجاهدٌ : خوفه في الدنيا من الله عند مواقعه الذَّنب فيقلع عنه، نظيره :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ].
﴿ ونَهَى النَّفْس عن الهَوى ﴾ أي : زجرها عن المعاصي والمحارم٢.
قال ابن الخطيب٣ : هذان الوصفان مضادَّان للوصفين المتقدمين، فقوله تعالى :﴿ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ ضدُّ قوله :﴿ فأمَّا من طغى ﴾، ﴿ ونَهَى النفس ﴾ ضدُّ قوله :«﴿ وآثر الحياةَ الدُّنيا ﴾ فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحقَّ، فنعوذُ بالله من ذلك الزمنِ٤.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٣٥)..
٢ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٠٠)، وينظر المصدر السابق..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٤٨..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٣٥)..
قوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ أي : المنزل، نزلت لآيتان في مصعبِ بن عميرٍ، وأخيه عامرِ بنِ عميرٍ١.
ورى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أمَّا من طغى فهو أخٌ لمصعب بن عمير، أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار، فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلمَّا أصبحُوا حدَّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال : ما هو لي بأخ، شدُّوا أسيركم، فإنَّ أمَّه أكثر أهل البطحاءِ حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه٢.
﴿ وأمَّا من خَاف مَقامَ ربِّهِ ﴾ فمصعب بن عمير، وَقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم «أحُدٍ » حين تفرَّق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السِّهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشحطاً في دمهِ، قال :«عِندَ اللهِ أحْتسبهُ ». وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه :«لَقِدْ رأيْتهُ وعَليْهِ بُرْدَانِ ما تُعرفُ قيمتُهما وإنَّ شِراكَ نَعْليهِ مِنْ ذَهَبٍ ».
وعن ابن عباس :- رضي الله عنهما - «نزلت هذه الآية في رجلين : أبو جهل بن هشام، ومصعب بن عمير »٣.
وقال السديُّ : نزل قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه٤.
وقال الكلبيُّ : هما عامَّتان.
١ قال الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (٤/٦٩٨): لم أجده..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٣٥)، من طريق الضحاك عن ابن عباس..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر المصدر السابق..
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾. لما سمع المشركون أخبار القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل: «الطَّامة الكبرى»، و «الصَّاخَّة»، و «القاَرِعَة»، سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استهزاءً، متى تكون الساعة؟.
وقيل: يحتمل أن يكون ذلك إيهاماً لأيقاعهم أنَّه لا أصْلَ لذلكَ، ويحتملُ أنَّهم كانوا يسألونه عن وقت القيامة استعجالاً كقوله: ﴿الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ [الشورى: ١٨].
وقوله: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾، أي: إقامتها، والمعنى: أيُّ شيء يقيمُها ويوجدُها، ويكون المعنى: أيان منتهاها ومستقرها، كما أنَّ مرسى السفينة: مستقرّها الذي تنتهي إليه فأجابهم الله - تعالى - بقوله: ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾.
قوله «فِيْمَ» خبر مقدم و «أنْتَ» مبتدأ مؤخرٌ، و «مِنْ ذِكْراهَا» متعلقٌ بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنْتَ من ذكراهَا لهم وتبين وقتها في شيء.
149
وقال الزمخشري: «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لم يزل رسول الله عليه وسلم يذكر الساعة، ويسأل عنها ويذكرها حتى نزلت، قال:» فَهوَ عَلى هَذَا تَعجَّبَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرهِ لَهَا كأنَّهُ قِيلَ: فِي أيِّ شُغلٍ واهتمامٍ أنْتَ من ذِكرِهَا والسُّؤال عَنْهَا «.
وقيل: الوقف على قوله:»
فيم «، وهو خبر مبتدأ مضمر، أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدئ بقوله:» أنْت مِنْ ذِكراهَا «أي: إرسالك، وأنت خاتم الأنبياء، وآخر الرسل، والمبعوث في تسمية ذكر من ذكراها، وعلامة من علاماتها، فكفاهُم بذلك دليلاً على دُنوِّها، ومشارفتها، والاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
قاله الزمخشري: وهو كلام حسنٌ، لولا أنَّه يخالف الظاهر، وتفكيك لنظم الكلام.
ومعنى»
إلى ربِّك مُنتَهاهَا «منتهى علمها، كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ [الأعراف: ١٨٧]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ [لقمان: ٣٤].
قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم له، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه، وروي معناه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾.
العامة: على إضافة الصفة لمعمولها تخفيفاً.
وقرأ عمر بن عبد العزيزِ وأبو جعفرٍ، وطلحةُ، وابن محيصنٍ: بالتنوين، ويكون في موضع نصب، والمعنى: إنَّما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.
قال الزمخشري: وهو الأصل، والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذرٌ زيدٍ أمس.
150
قال أبو حيان: قوله:» هُو الأصل «يعني:» التنوين «، هو قول قاله غيره.
ثم اختار أبو حيَّان: أن الأصل الإضافة، قال: لأنَّ العمل إنما هو بالشبه، والإضافة أصل في الأسماء، ثم قال: وقوله:»
ليس إلا الإضافة «فيه تفصيل وخلاف مذكورفي كتب النحو.
قال شهاب الدين: لا يلزمه أن يذكر إلاَّ محل الوفاق، بل هذان اللذان ذكرهما مذهب جماهير الناس.

فصل في معنى الآية


المعنى: إنَّما أنت مُخوِّف، وخص الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذراً لكلِّ مكلَّف، كقوله: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب﴾ [يس: ١١].
قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ يعني: الكُفَّار، يرون الساعة.
﴿لَمْ يلبثوا﴾ في دنياهم، ﴿إِلاَّ عَشِيَّةً﴾ أي: قدر عشيَّةٍ، ﴿أَوْ ضُحَاهَا﴾ أي: أو قدْرَ الضُّحى الذي يلي تلك العَشيَّة، والمراد: تقليل مدة الدنيا، كقوله تعالى: ﴿لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥]. وأضاف الضحى إلى العشية إضافة الظرف إلى ضمير الظرف الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً. وذكرهما؛ لأنَّهما طرفا النهار، وحسَّن هذه الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
قإن قيل: قوله تعالى: ﴿أَوْ ضُحَاهَا﴾ معناه: ضُحَى العشيَّة، وهذا غيرر معقولٍ؛ لأنَّه ليس للعشيَّة ضُحى؟.
فالجواب: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الهاء والألف صلة للكلام، يريد: لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى.
وقال الفرَّاء والزجاجُ: المرادُ بإضافة الضُّحى إلى العشية على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيها، وآتيك العشية أوغداتها، فتكون العشية في معنى: آخر النهار، والغداة في معنى: أول النهار؛ وأنشد بعض بني عقيل: [الرجز]
151
سورة عبس
152
قوله ﴿ فِيْمَ ﴾ خبر مقدم و﴿ أنْتَ ﴾ مبتدأ مؤخرٌ، و ﴿ مِنْ ذِكْراهَا ﴾ متعلقٌ بما تعلق به الخبر، والمعنى : أنت في أي شيء من ذكراها، أي : ما أنْتَ من ذكراهَا لهم وتبين وقتها في شيء.
وقال الزمخشري١ :«وعن عائشة - رضي الله عنها - لم يزل رسول الله عليه وسلم يذكر الساعة، ويسأل عنها ويذكرها حتى نزلت، قال :«فَهوَ عَلى هَذَا تَعجَّبَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرهِ لَهَا كأنَّهُ قِيلَ : فِي أيِّ شُغلٍ واهتمامٍ أنْتَ من ذِكرِهَا والسُّؤال عَنْهَا »٢.
وقيل : الوقف على قوله :«فيم »، وهو خبر مبتدأ مضمر، أي : فيم هذا السؤال، ثم يبتدئ بقوله :«أنْت مِنْ ذِكراهَا » أي : إرسالك، وأنت خاتم الأنبياء، وآخر الرسل، والمبعوث في تسمية ذكر من ذكراها، وعلامة من علاماتها، فكفاهُم بذلك دليلاً على دُنوِّها، ومشارفتها، والاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
قاله الزمخشري : وهو كلام حسنٌ، لولا أنَّه يخالف الظاهر، وتفكيك لنظم الكلام.
١ ينظر الكشاف ٤/٦٩٩..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٤١)، والبزار (٢٢٧٩- كشف)، والحاكم (٢/٥١٣-٥١٤)، عن عائشة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥١٥)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه. وذكره السيوطي أيضا في "الدر" (٦/٥١٥)، عن عروة مرسلا وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وذكر الهيثمي في "المجمع" (٧/١٣٦) الطريق الموصول وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وقد رجح أبو زرعة الطريق المرسل. ففي العلل (٢/٦٨) لابن أبي حاتم قال سمعت أبا زرعة يقول: الصحيح مرسل بلا عائشة..

ومعنى ﴿ إلى ربِّك مُنتَهاهَا ﴾ منتهى علمها، كقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
قال القرطبي١ : ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم له، أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٣٦..
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾.
العامة : على إضافة الصفة لمعمولها تخفيفاً.
وقرأ عمر١ بن عبد العزيزِ وأبو جعفرٍ، وطلحةُ، وابن محيصنٍ : بالتنوين، ويكون في موضع نصب، والمعنى : إنَّما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.
قال الزمخشري٢ : وهو الأصل، والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك : هو منذرٌ زيدٍ أمس.
قال أبو حيان٣ : قوله :«هُو الأصل » يعني :«التنوين »، هو قول قاله غيره.
ثم اختار أبو حيَّان : أن الأصل الإضافة، قال : لأنَّ العمل إنما هو بالشبه، والإضافة أصل في الأسماء، ثم قال : وقوله :«ليس إلا الإضافة » فيه تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو.
قال شهاب الدين٤ : لا يلزمه أن يذكر إلاَّ محل الوفاق، بل هذان اللذان ذكرهما مذهب جماهير الناس.

فصل في معنى الآية


المعنى : إنَّما أنت مُخوِّف، وخص الإنذار بمن يخشى ؛ لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذراً لكلِّ مكلَّف، كقوله :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ [ يس : ١١ ].
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٣٥، والبحر المحيط ٨/٤١٦، والدر المصون ٦/٤٧٧..
٢ الكشاف ٤/٦٩٩..
٣ البحر المحيط ٨/٤١٦..
٤ الدر المصون ٦/٤٧٧..
قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا ﴾ يعني : الكُفَّار، يرون الساعة.
﴿ لَمْ يلبثوا ﴾ في دنياهم، ﴿ إِلاَّ عَشِيَّةً ﴾ أي : قدر عشيَّةٍ، ﴿ أَوْ ضُحَاهَا ﴾ أي : أو قدْرَ الضُّحى الذي يلي تلك العَشيَّة، والمراد : تقليل مدة الدنيا، كقوله تعالى :﴿ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ]. وأضاف الضحى إلى العشية إضافة الظرف إلى ضمير الظرف الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً. وذكرهما ؛ لأنَّهما طرفا النهار، وحسَّن هذه الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
قإن قيل : قوله تعالى :﴿ أَوْ ضُحَاهَا ﴾ معناه : ضُحَى العشيَّة، وهذا غير معقولٍ ؛ لأنَّه ليس للعشيَّة ضُحى ؟.
فالجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الهاء والألف صلة للكلام، يريد : لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى١.
وقال الفرَّاء والزجاجُ : المرادُ بإضافة الضُّحى إلى العشية إضافتها إلى يوم العشية على عادة العرب، يقولون : آتيك الغداة أو عشيها، وآتيك العشية أوغداتها، فتكون العشية في معنى : آخر النهار، والغداة في معنى : أول النهار ؛ وأنشد بعض بني عقيل :[ الرجز ]
٥١٠٧ - أ - نَحْنُ صَبَحْنَا عَامراً في دَارِهَا جُرْداً تَعَادَى طَرفَيْ نَهارِهَا
عَشِيَّةَ الهِلالِ أو سِرَارِهَا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
٥١٠٧أ- نَحْنُ صَبَحْنَا عَامراً في دَارِهَا جُرْداً تَعَادَى طَرفَيْ نَهارِهَا
***عَشِيَّةَ الهِلالِ أو سِرَارِهَا٢***
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٣١٠/٤٩)، من طريق عطاء عن ابن عباس..
٢ ينظر الطبري ٣٠/٣٢، ومعاني القرآن ٣/٢٣٥، واللسان (صبح)، (سرر)، والقرطبي ١٩/١٣٧..
Icon