تفسير سورة النازعات

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة النازعات
مكية وهي ست وأربعون آية

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والنازعات غرقا ١ ﴾ الواو للقسم وجواب القسم محذوف أي لتبعثن ولتحاسبن يدل على ما بعده، والمراد بالنازعات غرقا الملائكة التي تنزع أرواح الكفار غرقا في النزع فغرقا اسم أقيم مقام المصدر فهو مفعول مطلق من غير لفظ العامل نحو قعدت جلوسا، يقال أغرق النازع في القوس أي استوفى مدها بقوة وشدة.
﴿ والناشطات نشطا ٢ ﴾ وبالناشطات نشطا الملائكة التي يخرجون أرواح المؤمنين برفق من نشط الدلو إذا أخرج بلا كره أو من نشط الحبل أو أمده حتى انحل فإن المؤمن كان في مصائب الدنيا كأنه معقود محسوس فالملائكة الناشطات أخلصته وحلت حلا رقيقا كما ينشط العقال من يد البعير كذا حكى القراء، وفي الحديث في حال أرواح المؤمن ( كأنما أنشط من عقال )، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة تنزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج كأطيب نفحة مسك ) الحديث ( وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا تنزل إليه من السماء ملائكة سوداء الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله قال : فتفرق في جسده فينزعها كما ينزع السفود من الصوت المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسموح ويخرج منها كنتن ريح جيفة ) وفي رواية ( وينزع نفسه –يعني الكافر- مع العروق )١ رواه أحمد قال البغوي، قال ابن مسعود وينزعها يعني نفس الكافر ملك الموت من تحت كل شعرة ومن الأظافير وأصول القدمين ويرددها في جسده بعدما ينزعها حتى إذا كادت تخرج ردها جسده فهذا عمله بالكافر، وقال مقاتل ملك الموت وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل.
فائدة : ومن ها هنا يظهر أن النفس جسم لطيف على حسب الجسم الكثيف سار في البدن ناشئ من العناصر الأربعة الروح والقلب وغيرهما من لطائف عالم الأمر الجواهر المجردة الإمكانية التي تظهر في النظر الكشف للطافتها وتجردها في عالم المثال فوق العرش، قالت الصوفية إنه بكمال قدرته تعالى جعلت النفس في معاملتها بمنزلة المرآة في مقابلة الشمس في النفس وامتلأت النفس بها كما تمتلئ المرآة بالشمس إذا قوبلت بها وانضاءت كالقمر إذا اتسق بأنوار الشمس على رأي الفلاسفة فحياة البدن بالنفس وحياة النفس بالأرواح المجردة وتنزع النفس من البدن عند أجل مسمى ولا يحل انتزاع الأرواح المجردة بالنفس أبدا كذا ما ورد في الحديث أن النفس ينزع من البدن ويجعل في الأكفان والحنوط والمسوح يسعد بها فيفتح أبواب السماء لنفس المؤمنة إلى السماء السابعة فيقول الله تعالى أكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلفتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ولا يفتح أبواب السماء للكافر بل يطرح روحه إلى الأرض صريح على كونه جسما مخلوقا من الأرض، وعلى هذا التحقيق لا مجال لإنكار عذاب القبر على ما ذهب إليه أهل الهواء مع قطع النظر من البدن الكثيف وعند أهل الحق عذاب القبر يمكن على البدن الكثيف أيضا ولا يمنعه الموت كما مر تحقيقه في سورة البقرة والله تعالى أعلم.
١ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح..
﴿ والسابحات سبحا ٣ ﴾ قال مجاهد هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد.
﴿ فالسابقات سبقا ٤ ﴾ قال مجاهد هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وقال مقاتل هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة يعني إلى الثواب، قلت : وأرواح الكفار إلى العذاب، قلت : وهم الذين ورد ذكرهم في حديث البراء المذكور أن ملك الموت إذا أخذ نفسا لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذها، وعن ابن مسعود السابقات هي أنفس المؤمنين تستبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقا إلى لقاء الله وكرامة غاية السرور.
﴿ فالمدبرات أمرا ٥ ﴾ أخرج ابن أبي الدنيا ابن عباس في المدبرات أمرا قال : ملائكة مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم فمنهم من يعرج بالروح ومنهم من يؤمن على الدعاء ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلي عليه ويدلى في حفرته، وقال البغوي قال ابن عباس هم الملائكة الذين وكلوا بأمور عرفهم الله عز وجل العمل بها قال عبد الرحمان بن سابط يدبر الأمر في الدنيا أربعة جبرائيل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل أما جبرائيل فوكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فوكل بالمطر والنبات وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، قال قتادة بجمعيتها غير المدبرات بالنجوم فإنها تنزع من أفق إلى أفق ثم تغيب وتنشط من أفق إلى أفق أي تذهب وقال الله تعالى فيها :﴿ وكل في فلك يسبحون ﴾١ وتسبق بعضها على بعض في السير وهذا القول ضعيف فإنه لا فرق حينئذ بين النزع والنشط والسبح ولا وجه لذكر شيء واحد أربع مرات والفرق بين النزع والنشط بأن حركتها من المشرق إلى المغرب قسرية فتغرب بالنزع غرقا وحركاتها من برج إلى برج طبيعة ملائمة فسمت بالنشط مبني على مذهب الفلاسفة قائلين بانطباق السماوات بعضها على بعض حتى يتصور القسر والثابت من الشرع أن مسافة ما بين السماء إلى السماء خمسمائة عام، وذكر في تأويل هذه الآية وجوه أخر بناء على احتمال العقل من غير نقل من السلف قال البيضاوي صفات للنفوس الفاضلة حال المفارقة فإنها تنزع من الأبدان نزعا شديدا من أغراق النازع في القوس فتنشط إلى عالم الملكوت وتسبح فيه وتستبق في حظائر القدس حتى يصير لشرفها وقوتها من المدبرات أو حال سلوكها فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من الكمالات أو صفات أنفس الغزاة أي أيديهم بنزع القسي بإغراق السهم وينشطون بالسهم للرحى ويسبحون في البر والبحر فيسبقون إلى حرب العدو فيدبرون أمرها أو صفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها وتغرق في عرقها والأعنة أطول أعناقها ويخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها وتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر والله تعالى أعلم.
١ سورة يس، الآية: ٤٠..
﴿ يوم ترجف الراجفة ٦ ﴾ متعلق بجواب القسم المحذوف يعني لتبعثن ولتحاسبن يوم ترجف الراجفة وظرفية ذلك اليوم باعتبار أجزائها فإن مقدار ذلك اليوم خمسين ألف سنة من النفخة الأولى إلى دخول الجنة أو النار، أخرج البيهقي عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ ترجف الراجفة ﴾ فقال : ترجف الأرض والجبال وهي الزلزلة تتبعها الرادفة قال : دكتا دكة واحدة.
﴿ تتبعها الرادفة ٧ ﴾ في موضع الحال من فاعل ترجف والمراد بالراجفة النفخة الأولى بالراجفة لأنها توقع الزلزلة فيحرك بها كل شيء ويموت منها الخلائق والثانية بالرادفة لأنها رديفة الأولى، أخرج ابن المبارك من مرسل الحسن بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل ميت، قال الحليمي اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعون سنة وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما بين النفختين أربعون قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال : أبيت، قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة )١ وأخرج ابن أبي داود في البعث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفيه بين النفختين أربعون عاما والأول أصح، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس يسيل واد من ماء فيما بين النفختين ومقدار ما بينهما أربعون فينبت كل خلق بلى من إنسان أو حيوان ودابة ولو مر عليهم مار قد عرفهم، قيل ذلك على وجه الأرض لعرفهم فتنبتون ثم يرسل الأرواح فيزوج بالأجساد فذلك قول الله تعالى :﴿ وإذا النفوس زوجت ٧ ﴾.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ١٨﴾ (٤٩٣٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: ما بين النفختين (٢٩٥٥)..
﴿ قلوب ﴾ مبتدأ ﴿ يومئذ ﴾ متعلق بفعل يدل عليه ﴿ واجفة ﴾ خبر أي مضطرب اضطرابا شديدا مستعار من الواجف بمعنى سريع السير.
﴿ أبصارها ﴾ أي أبصار أصحابها ﴿ خاشعة ﴾ ذليلة من الخوف، الجملة خبر بعد خبر لقلوب أو صفة لواجفة.
﴿ يقولون ﴾ تعليل لواجف قلوبهم وخشوع أبصارهم يعني يلحقهم الاضطراب والزلزلة أنهم ينكرون البعث ويقولون في الدنيا هذا القول ﴿ أئنا لمردودون ﴾ الاستفهام للإنكار يعني كنا مردودين قرأ أبو جعفر أنا بحذف همزة الاستفهام لفظا وإرادته معنى ﴿ في الحافرة ﴾ أي في الحياة الأولى يعني حياة بعد الموت يقال رجع فلان في الحافرة يعني طريقة التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيئته كقولهم عيشة راضية أو على تشبيه القابل ما يقابل وقال ابن زيد الحافرة النار.
﴿ أئذا كنا عظاما ﴾ قرأ نافع والكسائي ويعقوب والحمزة وعامر إذا كنا بغير همزة الاستفهام والباقون بالهمزة للإنكار بعد الإنكار للتأكيد والظرف متعلق بمحذوف تقديره انبعث إذا كنا ويحتمل أن يكون متعلقا بمردودون ﴿ نخرة ﴾ يابسة قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالألف ناخرة والباقون بغير ألف.
أخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال لما نزل قوله تعالى :﴿ يقولون أئنا لمردودون في الحافرة ١٠ ﴾ قال كفار قريش لئن رجعنا بعد الموت لنخسرن فنزل ﴿ قالوا ﴾ عطف على يقولون وحال بتقدير قد من فاعل يقولون لكن نزول تلك الآية كما يدل عليه رواية سعيد بن منصور عن محمد بن كعب يأبى على كونه حالا ﴿ تلك ﴾ إشارة إلى الرجعة المفهوم من قوله إنا لمردودون في الحافرة مبتدأ ﴿ إذا ﴾ أي كان كذلك أي كما يقول محمد شرط مستغني عن الجزاء لوقوعه في وسط جملة تدل على الجزاء تقديره إذا كان كذلك فتلك الرجعة ﴿ كرة ﴾ رجعة ﴿ خاسرة ﴾ أي ذات خسران وخاسر أصحابها والمعنى أنها إن صحت فنحن خاسرون لتكذيبنا وهذا استهزاء منهم.
﴿ فإنما هي ﴾ أي النفخة الثانية ﴿ زجرة واحدة ﴾ في الصحاح الزجر الطرد بالصوت يقال زجرته فانزجروا منه هذه الآية فإن الناس يطردون في الأرض بصوت ينفخ في الصور ثم يستعمل تارة في الصوت كما في قوله تعالى :﴿ فالزاجرات زجرا ٢ ﴾١ يعني الملائكة التي زجرن السحاب بالصوت وتارة بالطرد كما في قوله تعالى :﴿ مجنون وازدجر ﴾٢ يعني طرد ومنع.
١ سورة الصافات، الآية: ٢..
٢ سورة القمر، الآية: ٩..
﴿ فإذا هم بالساهرة ١٤ ﴾ الفاء للعطف وإذا للمفاجأة أضيفت إلى جملة اسمية جعلها في قوة الفعلية معطوفا على فعلية تقديره يقولون في الدنيا كذا فيفاجؤون وقت كونهم بالساهرة وجملة فإنما هي زجرة واحدة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لبيان كون الرجفة التي أنكروها سهلة بينه عند الله تعالى استفهام أي قد آتيك إلى غير مستصعبة والساهرة وجه الأرض يعني إذا هم أحياء بوجه الأرض، وقيل : هي أرض القيامة وقال قتادة هي جهنم.
﴿ هل أتاك ﴾ استفهام تقرير أي قد أتاك ﴿ حديث موسى ﴾ جملة معترضية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه وتهديدهم بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أعظم منهم.
﴿ إذ ناداه ربه ﴾ الظرف متعلق مفهوم حديث موسى أي هل أتاك الحديث المتعلق بموسى وقت نداء ربه إياه ﴿ بالواد ﴾ والباء بمعنى في ﴿ المقدس طوى ﴾ قرأ الكوفيون بالتنوين ويكسرون نونها لالتقاء الساكنين بتأويل كونه علما للمكان، وقيل : هي مثنى من الطي مصدر لنودي أو المقدس أي نودي ندائين أو قدس مرتين وقرأ الباقون بغير تنوين لأنه معدول تقديري أي عن طاو اسم لواد فعدل عن الصرف أو لأنه علم لمؤنث بتأويل البقعة فهو عطف بيان للوادي
واذهب بيان لنادى بتقدير القول أي قال ﴿ اذهب إلى فرعون إنه طغى ١٧ ﴾قبيل الذهاب ﴿ فقل هل لك إلى أن تزكى ﴾.
﴿ فقل ﴾ عطف على اذهب ﴿ هل لك ﴾ ميل ﴿ إلى أن تزكى ﴾ قرأ أهل الحجاز ويعقوب بتشديد الزاء والباقون بالتخفيف بحذف إحدى التائين أي تسمل وتطهر من الشرك قال ابن عباس تشهد أن لا إله إلا الله.
﴿ وأهديك ﴾ أراك السبيل ﴿ إلى ربك ﴾ أي معرفته وعبادته وتوحيده ﴿ فتخشى ﴾ عقابه فتؤدي الواجبات وتترك المحرمات على أن أهديك الفاء للسببية فإن الخشية مسبب للمعرفة والمعرفة مسبب لهداية.
﴿ فأراه ﴾ معطوف على محذوف يعني ذهب وبلغ فأراه ﴿ الآية ﴾ على صدقه ﴿ الكبرى ﴾ أي المعجزات الباهرة العظيمة في الدلالة على صدقه وإفرادها لأن كلها من حيث الدلالة كالآية الواحدة أو المراد بها قلب العصى حية.
﴿ فكذب ﴾ فرعون موسى ﴿ وعصى ﴾ الله ورسوله بعد ظهور صدقه بالمعجزات.
﴿ ثم أدبر ﴾ من ذلك المكان حين رأى الثعبان مسرعا في مشية إليه ﴿ يسعى ﴾ حال من فاعل أدبر أو المعنى عن الإيمان والطاعة حال كونه يسعى في الفساد في الأرض.
﴿ فحشر ﴾ جمع جنود أو السحرة ﴿ فنادى ﴾ في مجمعه.
﴿ فقال ﴾ بيان لنادي والفاء للتفسير ﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ يعني لا رب بكم فوقي أو أن أعلى من كل من يلي أمركم وقيل أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم.
﴿ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ٢٥ ﴾ النكل في اللغة الضعف والعجز ويقال لا يمنع الشيء عن الشيء ويعجزه عنه فيطلق على قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين والنكال اسم من التنكيل، يقال : نكلت به إذا فعلت به من عقاب الشديد ما يمنع غيره من ارتكاب مثله فالنكال ها هنا إما صفة لمصدر محذوف مؤكد لما قبله أي أخذه الله أخذا نكالا مانعا لمن أراه أو سمعه أن يفعل مثله أو أخذه الله نكله نكالا وإضافته إما بمعنى في يعني نكالا في الآخرة بالإحراق وفي الدنيا بالإغراق كذا قال الحسن وقتادة أو بمعنى اللام يعني نكله نكالا للكلمة الأخسرة وهي هذه، قوله :﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾١ وكان بينهما أربعون سنة كذا قال مجاهد وجماعة.
١ سورة القصص، الآية: ٣٨..
﴿ إن في ذلك ﴾ الأخذ والنكال ﴿ لعبرة ﴾ موعظة ﴿ لمن يخشى ﴾ لمن كان من شأنه الشية صفة لعبرة.
ثم خاطب منكري البعث على سبيل الالتفات واحتج عليهم على البعث وكونه تعالى قادرا عليه بما ظهر من قدرته في إيجاد العالم فقال :
﴿ ءأنتم أشد خلقا أم السماء ﴾ مبتدأ محذوف الخبر تقديره أنتم أشد خلقا أم السماء أشد خلقا منكم والاستفهام للتقرير والمراد بالسماء هي وما فيها بقرينة ذكر الأرض والجبال في مقام التفصيل والحاصل أن السماء وما فيها أشد خلقا منكم البتة لأنكم بعض ما فيها والكل أعظم وأشد من الجزء بالبداية والإعادة أهون من الله ﴿ بناها ﴾ صفة للسماء إما على أن اللام زائدة على طريقة لقد أمرّ على اللئيم يسبني أو على حذف الموصول أي التي بناها أو جملة ثانية معطوفة على الأول بحرف مقدر ويحصل من القضيتين مادة البرهان تقديره أن الله بنى السماء التي هي أشد خلقا منكم وكل من هو قادر على بناها قادر على إعادة ما هو أضعف منها.
﴿ رفع سمكها ﴾ السمك الارتفاع والمعنى جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو جعل تحتها الذاهب في العلو رفيعها والجملة بيان لجملة بناها أو بدل اشتمال منه ﴿ فسواها ﴾ عمد لها وجعلها مستوية بلا فطور.
﴿ وأغطش ليلها ﴾ أي جعلها ذا ظلمة يقال غطش الليل إذا أظلم أضاف الليل إلى السماء لحدوثها بحركة الشمس المستقر فيها ﴿ وأخرج ضحاها ﴾ أي أبرز ضوء شمسها وجعل النهار موجودا منها.
﴿ والأرض ﴾ منصوب بفعل محذوف على شريطة التفسير يعني ووحي الأرض ﴿ بعد ذلك ﴾ أي بعد خلق السماء ﴿ دحاها ﴾ بسطها للسكنى قال ابن عباس خلق الله الأرض بأقواتها في يومين من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين بعد ذلك، ثم دحى الأرض في يومين بعد ذلك فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وقيل معناه الأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى :﴿ عتل بعد ذلك زنيم ١٣ ﴾١ في التفسير البيضاوي حمل كلمة بعد ها هنا على الحقيقة، وقال في قوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾٢ أن ثم لتفاوت ما بين خلقتي السماء والأرض من الفصل كما في قوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾٣ والتأويل الأول لكونه مستفادا من كلام السلف أولى.
١ سورة القلم، الآية: ٨٣..
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٩..
٣ سورة البلد، الآية: ١٧..
﴿ أخرج منها ﴾ أي من الأرض ﴿ ماءها ﴾ ينفجر العيون فيها ﴿ ومرعاها ﴾ كلائها تسمية الحال باسم المحل أو مصدر بمعنى المفعول وجملة أخرج معطوفة على الأرض نظيره له.
﴿ والجبال أرساها ٣٢ متاعا ﴾ أي تمتيعا منصوب على العلية من دحى وأرسى على سبيل التنازع ﴿ لكم ﴾ أيها الناس. ﴿ ولأنعامكم ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ والجبال أرساها ٣٢ متاعا ﴾ أي تمتيعا منصوب على العلية من دحى وأرسى على سبيل التنازع ﴿ لكم ﴾ أيها الناس. ﴿ ولأنعامكم ﴾.
﴿ فإذا جاءت الطامة الكبرى ٣٤ ﴾ الفاء للسببية يعني إذا ثبت البعث بأخبار الله تعالى بعد إمكانه وظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه بما ظهر من قدرته في إيجاد العالم فاعلموا صفته وقت مجيئه وغيرها بالطامة الكبرى ليعلم بعض صفاته من عنوانه، والطم في اللغة الغلبة ويقال للبحر لأنه يغلب كل شيء والطامة عند العرب الداهية التي لا يستطاع من ذلك سميت القيامة طامة لأنها تطم الدواهي كلها وتغلبها ثم وصفها بالكبرى لمزيد تأكيدها في الطم وإذا ظرف يتضمن معنى الشرط.
﴿ يوم يتذكر الإنسان ﴾ بدل منه ﴿ ما سعى ﴾ ما مصدرية أو موصولة يعني يرى أعماله عدد ما في صحيفته وكان قد نسيها من قبل لفرط الغفلة أو طول المدة.
﴿ وبرزت ﴾ عطف على يتذكر أي يوم يبرز يظهر ﴿ الجحيم لمن يرى ﴾ لكل من يرى، قال مقاتل يكشف عنها الغطاء فيظهر إليها الخلق أما الكفار فيدخلها وأما المؤمنون فيمرون من الصراط على ظهرها أو المراد لمن يرى الكفار وجواب إذا قيل محذوف دل عليه يوم يتذكر والظاهر أن جوابه ما بعده من التفضل ولا ضرورة في التقدير.
﴿ فأما من طغى ٣٧ ﴾ أي جاوز الحد في العصيان حتى كفر.
﴿ وآثر الحياة الدنيا ٣٨ ﴾ على الآخرة باتباع الشهوات وهواء النفس.
﴿ فإن الجحيم هي المأوى ٣٩ ﴾ هي فصل أو مبتدأ واللام في المأوى يدل على المضاف إليه عند الكوفيين أي مأواه وعند السيبويه والبصريين تقديره هي المأوى له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أحب دنياه أضر آخرته من أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى )١ رواه أحمد والبيهقي في الشعب وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره )٢ متفق عليه وعند مسلم حفت مكان حجبت وعنه ( إن الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم )٣ رواه الترمذي وابن ماجه.
١ رواه أحمد والطبراني والبزار ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد في كتاب: الزهد، باب: فيمن أحب الدنيا (١٧٨٢٥)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حجبت النار بالشهوات (٦٤٨٧)، وأخرجه مسلم في أول كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (٢٨٢٢)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل (٢٣٢٢)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: مثل الدنيا (٤١١٢)..
﴿ وأما من خاف مقام ربه ﴾ أي مقامه يوم القيامة لحساب ربه ﴿ ونهى النفس ﴾ الأمارة بالسوء ﴿ عن الهوى ﴾ في الصحاح الهوى ميل النفس مما يشتهيه قيل : سمي به لأنه يهوي صاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية والهوى الانهدار والسقوط عن علو. اعلم أن الهوى رأس المنهيات وأساس المحرمات قال أبو بكر الوراق إن الله لم يخلق خلقا أخبث من الهوى، قلت وهو قبيح عقلا وشرعا أما عقلا فلأن حقائق الأشياء كما هي في نفس الأمر لاسيما حقائق المبدأ والمعاد وعواقب الأمور من الأخلاق والأفعال وغيرها المستدعية لحسنها وقبحها مما لا يدرك غالبا بالرأي وإن أدرك بعضها بالرأي فلا يليق بالوثوق ما لم يستفاد من علام الغيوب يتوسط الرسل عليهم السلام وإلا لما احتيج إلى الرسل، فتحصيل العقائد الصحيحة والعلم بالأعمال الحسنة والقبيحة والعمل بها وبالأخلاق الشريفة والرذيلة لا يتصور إلا باتباع الرسل على خلاف الهوى واتباع الهوى يضاده، وأما شرعا فلأن الله سبحانه قال :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾١ وفي الصحاح العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها وهي ضربان عبادة بالتسخير كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾٢ وعبادة بالاختيار وهو مطلوبة من الثقلين فكما أن الأشياء كلها بالتخسير والاضطرار لا يتصور منه إلا ما شاء الله وأراد فلا بد أن يكون كذلك بالاختيار لا يصدر منه شيء من أفعال القلوب والجوارح وصفات النفس إلا ما أراد الله وأمر به بلا مدخل للهواء فيه وضده واتباع الهوى فهو ينافي العبودية فكل باطل قبيح من شعب من الهوى ومنبعث من الآراء الكاسدة قالت الكفار بناء على فساد رأيهم ﴿ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ﴾٣ ﴿ أبشرا منا واحدا نتبعه ﴾٤ قالت المجسمة : الباري موجود وكل موجود جسم متحيز وقالت المعتزلة وغيرهم لا يتصور عذاب القبر ووزن الأعمال والصراط ونحو ذلك والفساق مع اعترافهم بوجوب امتثال الرسول والقرآن وعلمهم بعذاب الآخرة وعلى مساوئ الأخلاق والأعمال لم يثبتوا على الشرائع باتباع الهوى والشهوات فتركوا الواجبات وارتكبوا المحرمات والمكروهات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث مهلكات هوى ) إلى ( بئس العبد عبد الهوى يضله ) رواه الترمذي والبيهقي عن أسماء بنت عميس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث مهلكات هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن ) رواه البيهقي عن أبي هريرة، قلت : والثلاث كلها راجعة إلى الهوى وإن كان المراد في الحديث بالهوى بعض أفرادها.
فائدة : ترك الهوى على مراتب أدناه اجتناب ما هو يخالف ظاهر النصوص وإجماع السلف في العقائد وبه يصير مسلما سنيا وأوسطه ما قال مقاتل أن يهم الرجل المعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ومن تمام هذه المرتبة ترك المشتبهات واجتناب عما لا بأس به حذرا عما به بأس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من اتقى المشتبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في المحرمات كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقع )٥ متفق عليه عن النعمان بن بشير وأيضا من تمامه قصر دائرة المباح على ما لا بد منه وترك الهوى في الفضول منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت )٦ رواه ابن ماجه والبيهقي عن أنس، قال المجدد قال سيدنا قبلتنا الشيخ الأجل الشيخ بهاء الدين النقشبندي وجدت طريقا أمرب الطرق إلى الله سبحانه وهي المخالفة مع النفس يعني زيادة الرعاية الشريعة والله تعالى أعلم وها هنا تدقيق وهي أن المعصية منها ما هو ظاهر يمكن التحرز عنها مخالفة المقام لجانب ربه العلام ومنها ما هو أدق من دبيب النمل وذلك ما كان منها في لباس الحسنات كالرياء أو العجب وتزكية النفس المنهي عنها في كثرة النوافل والطاعات وهذا من مزال الأقدام، قال بعض الأكابرة لمريده يا بني لا أخاف طرق الشيطان إليك من سبيل السيئات ولكن أخاف أن يطرق إليك من طريق الحسنات والتحفظ في هذا المقام إتهام نفسه في كل مأتى به والتضرع والاستغفار.
أبيات :
خالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
استغفر لله من قول بلا عمل لقد نسبت به نسلا لذي عقم
والحصين في كل الحصين في هذه المقام التشبت بذيل شيخ فات في الله باق به وأن لا يفعل شيئا إلا بأمره وإجازته، ذكر الشيخ الإمام يعقوب الكرخي عن بدء حاله أنه قال : كنت نجارا فأدركت في نفسي تكاسلا وفي باطني شيئا من الظلمة فأردت أن أصوم أياما ليذهب ذلك فعمت وأصبحت عند الشيخ الإمام الأجل بهاء الملة والدين النقشبذر فأمر الشيخ بإحضار الطعام وقال لي كل فإنه بئس العبد عبد الهوى تضاله وقال : إن الأكل أفضل من الصوم إن كان بهوى النفس ففهمت أنه لا بد في العبادة النافلة أيضا من إذن من الشيخ الفاني في الله المستخلص عن الهوى، قال قلت للشيخ بهاء الدين إن لم يوجد شيخ كذلك فماذا يفعل المرء قال : فقال الشيخ ليستغفر الله كثيرا أو يستغفر بعد كل صلاة عشرين مرة فإنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة )٧ وأعلى المراتب الانتهاء عن الهوى سلب الهوى عن نفسه بالكلية بحيث يكون لكون له مراد ومطلب غير الله سبحانه وغير مراده ولتحصيل هذه المرتبة تكثر الصوفية تكرار لا إله إلا الله بملاحظة لا مقود إلا الله، قال المجدد رضي الله عنه إن العبد ما دام في هوى نفسه فهو عبد نفسه مطيع الشيطان وهذه الدولة العظمى يعني سلب الهوى بالكلية منوط بالولاية الخالصة ومربوط بالفناء والبقاء الأكملين، قلت : وفي هذه المرتبة يحصل للصوفي الرضاء بما قدر الله له وإن كان خلاف طبعه وإنه يدعو لدفع ضرر نزل به بناء على أنه مأمور بالدعاء أو طلب العافية لا لأجل ضيق صدره من فقدان مراده وفي هذه المرتبة يكون عبد الله تعالى بالاختيار كما هو عبد الله بالتسخير والاضطرار لا يجد الشيطان إليه سبيلا إلا نادرا لأن سبيله إلى الإنسان غالبا يكون بتوسط الهوى ألا ترى أن من هو محرور المزاج مغلوب الغضب يزين له الشطان نم أعماله القتل والظلم ونحو ذلك ومن هو مبرود المزاج ضعيف القلب يزين له الشيطان القرار من الزحف وترك الغيرة في الحق والنفاق ونحو ذلك وقس على هذا فإذا أزال الهوى منه انسد طرق الشيطان إليه كلها وذلك مصداق قوله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ٦٥ ﴾٨ ومن هذا المقام قال شيخ الأجل يعقوب الكرخي لا يبلغ مبلغ الرجال حتى يخلص من الهوى وفي هذا المقام يطلق على العبد أنه مؤمن حقيقي وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) رواه البغوي في الشرح السنة، وقال النووي في أربعين حديث صحيح.
١ سورة الذاريات، الآية: ٥٦..
٢ سورة الرعد، الآية: ١٥..
٣ سورة الفرقان، الآية: ٧..
٤ سورة القمر، الآية: ٢٤..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (٥٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات (١٥٩٩)..
٦ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الأطعمة، باب: من الإسراف أن تأكل ما اشتهيت (٣٣٥٢)، وإسناده ضعيف..
٧ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (٢٧٠٢)..
٨ سورة الإسراء، الآية: ٦٥..
﴿ فإن الجنة هي المأوى ٤١ ﴾ ليس له مأوى سواها
أخرج ابن حاتم من طريق جبير عن الضحاك عن ابن عباس أن مشركي مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا متى تقوم الساعة استهزاء منهم فأنزل الله تعالى ﴿ يسألونك ﴾ أي كفار قريش ﴿ عن الساعة أيان مرساها ﴾ أي متى قيامها مصدر من الرأس بمعنى القيام والثبوت، وأخرج الحاكم وابن جرير عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله عليه ﴿ ويسألونك عن الساعة ﴾ الخ فانتهى.
وأخرج الطبراني وابن جرير عن طارق بن سهاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت ﴿ فيم أنت من ذكراها ٤٣ ﴾ أخرج ابن حاتم عن عروة مثله والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم بشدة حرص على جواب السائلين عن وقت قيامها كان يسأل الله سبحانه عنها نزلت هذه الآية ظهر أن في إخفائها حكمة وأنه لا يرجى علمها فانتهى عن السؤال عنها وما في فيم استفهامية للإنكار ومن ذكراها بيان لما أي في شيء أنت في ذكر الساعة وبيان وقتها لا يجوز كذلك ولا يتصور لأنك لا تعلمها ولا يجوز أن يعلم الحكمة في إخفائها والمعنى في أي شيء أنت حال كون ذلك الشيء من ذكر الساعة وبيان وقتها يعني لست في شيء من ذكرها وعلمها يعني ليس شيء من عملها عندك يقال ليس فلان في العلم من شيء يعني ليس شيء من العلم عنده ويحتمل أن يكون فيم خبر مبتدأ محذوف يعني فيم هذا السؤال وأي فائدة فيه ثم استأنف وقال أنت من ذكراها أي من علاقاتها وموجب تذكرها فإنك ختم الأنبياء، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بعثت أنا والساعة كهاتين )١ متفق عليه، وعن المستورد بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم :( بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه ) بأصبعيه السبابة والوسطى٢ رواه الترمذي. وقيل فيم أنت من ذكراها متصل بالسؤال يعني يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون وأين أنت من ذكراها وبيان وقتها فتذكر وقتها على التعيين.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة النازعات (٤٩٣٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة (٢٩٥٠)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت أناء الساعة كهاتين) يعني السبابة والوسطى (٢٢١٣)..
﴿ إلى ربك منتهاها ٤٤ ﴾ يعني مدة تقوم الساعة عند انقضائها مفوض إلى ربك لا يعلمها غيره فهذا التعليل للإنكار السابق جوابا للسؤال وإن كان من تتمة السؤال فهذا جواب ﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ٤٥ ﴾.
﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ٤٥ ﴾ يعني لم تبعث لبيان وقت الساعة إنما بعثت لتنذر منها من يخشى شدائدها حتى تجتنب من موجباتها من يخشى لأنه هو المنتفع الشدائد والعلم بوقوع الساعة قطعا يكفي للإنذار ولا حاجة فيه إلى بيان وقت وقوعها وتخصيص من يخشى لأنه هو المنتفع بالإنذار وهذه الجملة تأكيد لما سبق من التعليل لإنكار السؤال.
﴿ كأنهم ﴾ أي الناس ﴿ يوم يرونها ﴾ أي الساعة والظرف متعلق بمعنى التشبيه المفهوم من كان ﴿ لم يلبثوا ﴾ خبر كان أي لم يلبثوا في الدنيا والقبور زمانا ﴿ إلا عشية ﴾ أي عشية يوم واحد ﴿ أو ضحاها ﴾ أمال حمزة والكسائي أو آخر هذه السورة من قوله تعالى :﴿ هل أتاك حديث موسى ١٥ ﴾١ إلى آخرها إلا دحاها فإن حمزة فتحاه وورش ما ليس فيه هاء ألف بين بين وغيرها بالفتح إلا ذكرها فبين بين وأبو عمرو ما فيه راء أمال وغيرها بين بين والباقون بالفتح كلها أي ضحى تلك العشية أضيف الضحى إلى العشية لملابسة اجتماعها في يوم واحد يعني أنهم يزعمون مدة لبثهم في الدنيا والقبور لكونها متناهية ولانقضائها وانعدامها كأن لم يكن ولعدم تناهي زمان للعذاب ولشدة ذلك العذاب زمان قصير جدا نظيره قوله تعالى :﴿ لبثنا يوما أو بعض يوم ﴾٢ وهذه الآية كان جواب لسؤالهم عن وقت مجيئها يعني أن قيام الساعة قريب جدا.
١ سورة النازعات، الآية: ١٥..
٢ سورة المؤمنون، الآية: ١١٣..
Icon