ﰡ
وهي مكية. وعدد آياتها ست وأربعون آية، والسورة الكريمة تضمنت القسم بالنجوم أو الملائكة على إثبات البعث، وأنه سهل ميسور، ثم هددت المشركين بذكر قصة فرعون ونهايته، ثم بينت بعض مظاهر القدرة وأن خلق الناس أقل من غيره، وبينت حالهم يوم القيامة. ثم ختمت السورة ببيان بعض الحقائق المتعلقة بيوم البعث.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١ الى ٤٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
وَالنَّازِعاتِ: الكواكب الجارية على نظام خاص، وقيل: الملائكة التي تنزع النفوس وتخرجها من الأبدان. غَرْقاً يقال: أغرق إغراقا، وغرقا في الشيء: بالغ فيه وجد. وَالنَّاشِطاتِ: الكواكب تخرج من برج إلى برج، أو هي الملائكة تخرج الأرواح من الأجساد، مأخوذ هذا من نشط الدلو من البئر، إذا أخرجها برفق.
وَالسَّابِحاتِ: الكواكب تسبح في أفلاكها أو تسير سيرا هادئا، أو هي الملائكة تسبح بأمر ربها بين السماء والأرض. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً: للكواكب يسبق بعضها بعضا، أو هي الملائكة تتسابق في تنفيذ أمر ربها. تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ: تتحرك الأرض والجبال وتضطرب. الرَّادِفَةُ: التابعة أو الواقعة التي تردفها، وكل شيء جاء عقيب شيء فهو رديف له. واجِفَةٌ: مضطربة قلقة. خاشِعَةٌ:
خاضعة ذليلة. فِي الْحافِرَةِ: في الحياة التي كنا فيها، يقال: رجع فلان في
صيحة. بِالسَّاهِرَةِ: بالأرض التي كانوا يسهرون عليها بعد أن كانوا في جوفها، وقيل: سميت ساهرة والمراد أصحابها. بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ: الوادي الطاهر المطهر.
طُوىً: هو اسم للوادي، أو المراد بورك فيه مرة بعد مرة. طَغى: تجاوز الحد. تَزَكَّى أى: تتزكى وتطهر نفسك من الآثام والعيوب. الْآيَةَ الْكُبْرى: هي معجزة انقلاب العصا حية. فَحَشَرَ: جمع ما في استطاعته.
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى المراد: عقوبتها في الآخرة بالإحراق وفي الأولى بالإغراق والإذلال. بَناها أصل البناء: ضم شيء إلى شيء برباط وإحكام ليكون شيئا واحدا، والمراد أن السماء وما فيها من كواكب قد جمعت وضمت بإحكام وإتقان حتى صارت كأنها واحد. رَفَعَ سَمْكَها السمك: مقدار الارتفاع من أسفل إلى أعلى، وقد رفع الله سمكها، أى: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى جهة العلو مديدا. فَسَوَّاها: جعلها مستوية محكمة. وَأَغْطَشَ لَيْلَها أى: جعله مظلما. وَأَخْرَجَ ضُحاها: أبرزه، والمراد بالضحى: النهار. دَحاها:
بسطها ومهدها للإنسان. الطَّامَّةُ الْكُبْرى: الداهية الكبرى- والمراد هنا يوم القيامة لأن كل من فيه يذهل عن كل شيء سواه. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى:
ظهرت بارزة للعيان. الْمَأْوى: المكان الذي يأوى إليه الشخص ويقر فيه.
أَيَّانَ مُرْساها؟: متى إرساؤها وإقامتها. مُنْتَهاها: نهايتها. عَشِيَّةً:
طرف النهار من آخره. أَوْ ضُحاها: أوله.
المعنى:
أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالكواكب السيارة التي تجرى على سنن مقدر ونظام معين لا تتعداه، تنزع مجدة في سيرها، مسرعة فيه بلا توان، وأقسم بها وهي تخرج من برج إلى برج وتسبح في الفضاء سبحا، وتسير فيه سيرا هادئا، كل في فلك يسبحون، والمراد بذلك وصف الكواكب بالجري السريع والانتقال من حال إلى حال، سابحة في الفضاء، ومع هذا فعالم السماء محكم لا اضطراب فيه ولا تصادم، ألا يدل ذلك على قدرة قادرة، وعلى علم كامل تام، لا يحيط به إلا هو؟
وبعضهم يرى أن الله أقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد نزعا. فهي تنزع قلوب الكفار نزعا بشدة وإغراق ومبالغة، وهي تنزع قلوب المؤمنين برفق وهوادة وهذا معنى الناشطات نشطا، وذاك معنى النازعات غرقا، والمراد بالسابحات الملائكة تسبح في الفضاء نازلة بأمر ربها، وأما السابقات فالملائكة تتسابق في تنفيذ الأمر، والمدبرات هم الملائكة، وقد وكل الله لكل طائفة تدبير أمر والقيام عليه بإذنه وعلى العموم فالله أعلم بسر كتابه، أقسم الله بالنازعات والناشطات فالسابقات فالمدبرات لتبعثن بعد الموت. ولتنبؤن بما عملتم يوم ترجف الراجفة، وتضطرب الأرض والجبال بسبب النفخة الأولى. تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية، أو المراد تتبعها الرادفة وهي السماء يوم تمور مورا. وتنشق انشقاقا.
يوم ترجف الأرض والسماء تكون قلوب الكفار يومئذ قلقة خائفة لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون. ورأوا ما به يوعدون، أبصارهم خاشعة ذليلة، أرأيتهم وهم يضطربون عند ما رأوا العذاب يوم القيامة؟! انظر إليهم وهم يقولون في الدنيا ساعة ينذرون بالبعث يقولون منكرين: أنرد إلى حياتنا الأولى؟! بعد أن متنا وكنا ترابا، إن هذا لعجيب! وقد حكى القرآن عنهم قولهم ثانية: أإذا كنا عظاما بالية متفتتة ليس فيها حياة ولا حرارة أنرد ونبعث!! إن هذا لعجيب! أما القول الثالث: فقد قالوا مستهزئين بالنبي وبوعده بالبعث: تلك إذا كرة خاسرة على معنى: إن صح ما يقوله محمد، وأن هناك حسابا وثوابا وعقابا وحياة بعد أن صرنا ترابا فنحن إذا خاسرون، وتلك رجعة خاسر أصحابها حيث لم نعمل لها!
لا تستبعدوا البعث بعد الفناء فإنما هي صيحة واحدة يكلف بها ملك ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «١» فالمراد بالصيحة النفخة الثانية. فإذا أنتم بعدها جميعا لدينا محضرون تنتظرون ما يفعل بكم. وإذا أنتم أحياء على وجه الأرض بعد أن كنتم أمواتا.
وتلك قصة موسى مع فرعون الطاغية سيقت كالتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهديدا للمشركين، فليس هم أقوى وأشد من فرعون وقومه، فلما كفروا بالله واليوم الآخر عاقبهم عقوبتين في الأولى والآخرة، فاحذروا يا آل مكة أن تكونوا مثلهم: هل أتاك حديث موسى؟ وهذا أسلوب بديع في التشويق إلى استماع الحديث والحرص عليه كأنه أول نبأ عن موسى، هل أتاك حديثه إذ ناداه ربه- جل وعلا- وهو بالوادي المقدس المطهر- واد في أسفل جبل طور سيناء من جهة الشام- الذي قدسه الله مرة بعد مرة فقال له: اذهب إلى فرعون إنه طغى وجاوز الحد المعقول في تعذيب بنى إسرائيل وفي الكفر بالله، فقل له مع الملاينة والملاطفة لتتم الحجة وينقطع العذر: هل لك إلى أن تطهر نفسك من أدرانها باتباع شرع الله الذي أوحى إلى؟ وأهديك إلى ربك فتؤمن به وتعلم صفاته، فيترتب على ذلك أنك تخشاه، ولكن فرعون كذب ولم يؤمن وطلب آية على صدق موسى، فأراه الآية الكبرى التي هي انقلاب العصا حية، فكذب وعصى أيضا، ثم أدبر عن الحق وأعرض عن موسى وعن دعوته، وأخذ يسعى في الأرض بالفساد ومكايدته هو ومن معه، فجمع السحرة من جميع البلاد وقال لهم: أنا ربكم الأعلى فليس هناك سلطان بعد سلطاني، وظل فرعون سادرا في غلوائه لاهيا في عتوه وجبروته حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر. وهم يخرجون من مصر وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ «٢» وهكذا حكم الله على فرعون
(٢) - سورة يونس آية ٩٠.
وهذا وصف عام لبعض أهوال يوم القيامة لعلهم يعتبرون! فإذا وقعت الواقعة، وجاءت الداهية الكبرى التي يصغر أمامها كل حدث، وينسى صاحبها كل شيء إلا هي، تلك هي الطامة الكبرى تكون يوم القيامة، يوم يتذكر الإنسان أعماله حيث يراها مكتوبة أمامه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يوم تبرز جهنم بصوتها المزعج، وهي تفور تكاد تميز من الغيظ.