مكية بإجماع،  وهي خمس أو ست وأربعون آية. 
                                                                
                                                                                    [تفسير سورة النازعات]
سُورَةُ النَّازِعَاتِ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَهِيَ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النازعات (٧٩): الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً): أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا، عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ. والنَّازِعاتِ: الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الملائكة تنزع نفوس بين آدَمَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُرِيدُ أَنْفُسَ الْكُفَّارِ يَنْزِعُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ، وَمِنْ تَحْتِ الْأَظَافِيرِ وَأُصُولِ الْقَدَمَيْنِ نَزْعًا كَالسَّفُّودِ يُنْزَعُ مِنَ الصُّوفِ الرَّطْبِ، يُغْرِقُهَا، أَيْ يَرْجِعُهَا فِي أَجْسَادِهِمْ، ثُمَّ يَنْزِعُهَا فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نُزِعَتْ أَرْوَاحُهُمْ، ثُمَّ غَرِقَتْ، ثُمَّ حُرِقَتْ، ثُمَّ قُذِفَ بِهَا فِي النَّارِ. وَقِيلَ: يَرَى الْكَافِرُ نَفْسَهُ فِي وَقْتِ النَّزْعِ كَأَنَّهَا تَغْرَقُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: والنَّازِعاتِ هِيَ النُّفُوسُ حِينَ تَغْرَقُ فِي الصُّدُورِ. مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَوْتُ يَنْزِعُ النُّفُوسَ. الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ تُنْزَعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، أَيْ تَذْهَبُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَعَ إِلَيْهِ أَيْ ذَهَبَ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَعَتِ الْخَيْلُ أَيْ جَرَتْ. غَرْقاً
                                                                            
190
                                                                     
                                                                                                                أَيْ إِنَّهَا تَغْرَقُ وَتَغِيبُ وَتَطْلُعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ آخَرَ. وَقَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ الْقِسِيُّ تَنْزِعُ بِالسِّهَامِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ. وغَرْقاً بِمَعْنَى إِغْرَاقًا، وَإِغْرَاقُ النَّازِعِ فِي الْقَوْسِ أَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ الْمَدِّ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ. يُقَالُ: أَغْرَقَ فِي الْقَوْسِ أَيِ اسْتَوْفَى مَدَّهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَنْتَهِيَ إلى العقب الذي عند النصل الْمَلْفُوفِ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ الِاسْتِيعَابُ. وَيُقَالُ لِقِشْرَةِ الْبَيْضَةِ الدَّاخِلَةِ:" غِرْقِئٌ". وَقِيلَ: هُمُ الْغُزَاةُ الرُّمَاةُ. قُلْتُ: هُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَقْسَمَ بِالْقِسِيِّ فَالْمُرَادُ النَّازِعُونَ بِهَا تَعْظِيمًا لَهَا، وَهُوَ مثل قوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [العاديات: ١] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَرَادَ بِالْإِغْرَاقِ: الْمُبَالَغَةَ فِي النَّزْعِ وَهُوَ سَائِرٌ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ تَأْوِيلِهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْوَحْشُ تَنْزِعُ 
«١» مِنَ الْكَلَأِ وَتَنْفِرُ. حَكَاهُ يحيى ابن سَلَامٍ. وَمَعْنَى غَرْقاً أَيْ إِبْعَادًا فِي النَّزْعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ فَتَقْبِضُهَا كَمَا يُنْشَطُ الْعِقَالُ مِنْ يَدِ الْبَعِيرِ: إِذَا حُلَّ عَنْهُ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْفَرَّاءُ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا أَنُشِطَتْ وَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ. وَرَبْطُهَا نَشْطُهَا وَالرَّابِطُ النَّاشِطُ، وَإِذَا رَبَطْتَ الْحَبْلَ فِي يَدِ الْبَعِيرِ فَقَدْ نَشِطْتَهُ، فَأَنْتَ نَاشِطٌ، وَإِذَا حَلَلْتَهُ فَقَدْ أَنَشَطْتَهُ وَأَنْتَ مُنْشِطٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ [يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ 
«٢»] إِلَّا وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَيَرَى فِيهَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَيْهَا، فَنَفْسُهُ إِلَيْهِمْ نَشِطَةٌ أَنْ تَخْرُجَ فَتَأْتِيَهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَعْنِي أَنْفُسَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ تَنْشَطُ كَمَا يَنْشَطُ الْعَقِبُ، الَّذِي يُعْقَبُ بِهِ السَّهْمُ. وَالْعَقَبُ بِالتَّحْرِيكِ: الْعَصَبُ الَّذِي تُعْمَلُ مِنْهُ الْأَوْتَارُ، الْوَاحِدَةُ عَقَبَةٌ، تَقُولُ مِنْهُ: عَقَبَ السَّهْمُ وَالْقَدَحُ وَالْقَوْسُ عَقْبًا: إِذَا لَوَى شَيْئًا مِنْهُ عَلَيْهِ. وَالنَّشْطُ: الْجَذْبُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ الْأُنْشُوطَةُ: عُقْدَةٌ يَسْهُلُ انْحِلَالُهَا إِذَا جُذِبَتْ مِثْلَ عُقْدَةِ التِّكَّةِ. وقال أبو زيد: نشطت
                                                                            
191
                                                                     
                                                                                                                الْحَبْلَ أَنَشِطُهُ نَشْطًا: عَقَدْتُهُ بِأُنْشُوطَةٍ، وَأَنْشَطْتُهُ أَيْ حَلَلْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْحَبْلَ أَيْ مَدَدْتُهُ حَتَّى يَنْحَلَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أُنْشِطَ الْعِقَالُ أَيْ حُلَّ، وَنُشِطَ: أَيْ رُبِطَ الْحَبْلُ فِي يَدَيْهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: أَنَشَطْتُهُ بِأُنْشُوطَةٍ وَأُنْشُوطَتَيْنِ أَيْ أَوْثَقْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ الْعِقَالَ: أَيْ مَدَدْتُ أَنَشُوطَتَهُ فَانْحَلَّتْ. قَالَ: وَيُقَالُ نَشِطَ بِمَعْنَى أَنْشَطَ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَعَلَيْهِ يَصِحُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا. وَعَنْهُ أَيْضًا: النَّاشِطَاتُ الْمَلَائِكَةُ لِنَشَاطِهَا، تَذْهَبُ وَتَجِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ حَيْثُمَا كَانَ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَنْشَطُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، مَا بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْأَظْفَارِ، حَتَّى تُخْرِجَهَا مِنْ أَجْوَافِهِمْ نَشْطًا بِالْكَرْبِ وَالْغَمِّ، كَمَا تَنْشِطُ الصُّوفَ مِنْ سَفُّودِ الْحَدِيدِ، وَهِيَ مِنَ النَّشْطِ بِمَعْنَى الْجَذْبِ، يُقَالُ: نَشَطْتُّ الدَّلْوَ أَنَشِطُهَا بِالْكَسْرِ، وَأَنْشُطُهَا بِالضَّمِّ: أَيْ نَزَعْتُهَا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: بِئْرُ أَنَشَاطٍ: أَيْ قَرِيبَةُ الْقَعْرِ، تُخْرَجُ الدَّلْوُ مِنْهَا بِجَذْبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَبِئْرٌ نَشُوطُ، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي لَا يُخْرَجُ مِنْهَا الدَّلْوُ حَتَّى تَنْشَطَ كَثِيرًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَوْتُ يَنْشِطُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ. السُّدِّيُّ: هِيَ النُّفُوسُ حِينَ تَنْشِطُ مِنَ الْقَدَمَيْنِ. وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: أَيْدِي الْغُزَاةِ أَوْ أَنْفُسُهُمْ، تَنْزِعُ الْقِسِيَّ بِإِغْرَاقِ السِّهَامِ، وَهِيَ الَّتِي تَنْشِطُ الْأَوْهَاقَ 
«١». عِكْرِمَةُ وَعَطَاءُ: هِيَ الْأَوْهَاقُ تَنْشِطُ السِّهَامَ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالْأَخْفَشِ: هِيَ النُّجُومُ تَنْشَطُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ: أَيْ تَذْهَبُ. وَكَذَا فِي الصحاح. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يمني النُّجُومَ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ، كَالثَّوْرِ النَّاشِطِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَالْهُمُومُ تَنْشَطُ بِصَاحِبِهَا، قَالَ هِمْيَانُ بْنُ قُحَافَةَ:
| أَمْسَتْ هُمُومِي تُنْشِطُ الْمَنَاشِطَا  |  الشَّامَ بِي طُورًا وَطُورًا وَاسِطَا | 
أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَطَاءٌ أَيْضًا: النَّاشِطَاتُ: هِيَ الْوُحُشُ حِينَ تَنْشِطُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، كَمَا أَنَّ الْهُمُومَ تُنْشِطُ الْإِنْسَانَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ هِمْيَانَ:
أَمْسَتْ هُمُومِي...
الْبَيْتَ وَقِيلَ: وَالنَّازِعاتِ لِلْكَافِرِينَ وَالنَّاشِطاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْمَلَائِكَةُ يَجْذِبُونَ رُوحَ الْمُؤْمِنِ بِرِفْقٍ، وَالنَّزْعُ جَذْبٌ بِشِدَّةٍ، وَالنَّشْطُ جَذْبٌ بِرِفْقٍ. وَقِيلَ: هُمَا جَمِيعًا لِلْكُفَّارِ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهُمَا للمؤمنين عند فراق الدنيا.
                                                                            
192
                                                                     
                                                                                                                قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَسْبَحُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ. الْكَلْبِيُّ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، كَالَّذِي يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ، فَأَحْيَانًا يَنْغَمِسُ وَأَحْيَانًا يَرْتَفِعُ، يَسُلُّونَهَا سَلًّا رَفِيقًا بِسُهُولَةٍ، ثُمَّ يَدَعُونَهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادِ سَابِحٌ: إِذَا أَسْرَعَ فِي جَرْيِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمَلَائِكَةُ تَسْبَحُ فِي نُزُولِهَا وَصُعُودِهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا: السَّابِحَاتُ: الْمَوْتُ يَسْبَحُ فِي أَنْفُسِ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: هِيَ الْخَيْلُ الْغُزَاةُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
| وَالْخَيْلُ تَعْلَمُ حِينَ تَسْ  |  - بَحُ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ سَبْحَا | 
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:| مِسَحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ على الونى  |  أَثَرْنَ غُبَارًا بِالْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ «١» | 
قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: هِيَ النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي أَفْلَاكِهَا، وَكَذَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. عَطَاءٌ: هِيَ السُّفُنُ تَسْبَحُ فِي الْمَاءِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّابِحَاتُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبَحُ شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ حِينَ تَخْرُجُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِقُ الشَّيَاطِينَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَالَهُ مَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَأَبِي رَوْقٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ سَبَقَتِ ابْنَ آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقِيلَ: تَسْبِقُ بَنِي آدَمَ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتَكْتُبُهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمَوْتُ يَسْبِقُ الْإِنْسَانَ. مُقَاتِلٌ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ. ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبِقُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا وَقَدْ عَايَنَتِ السُّرُورَ، شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ الله تعالى ورحمته. ونحو عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: هِيَ النُّفُوسُ تَسْبِقُ بِالْخُرُوجِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَمَعْمَرٌ: هِيَ النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي السَّيْرِ. عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ الَّتِي تَسْبِقُ إِلَى الْجِهَادِ. وَقِيلَ: يحتمل أن تكون
                                                                            
193
                                                                     
                                                                                                                السَّابِقَاتُ مَا تَسْبِقُ مِنَ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ الْأَجْسَادِ إِلَى جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ذَكَرَ فَالسَّابِقاتِ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ وَاللَّائِي يَسْبَحْنَ فَيَسْبِقْنَ، تَقُولُ: قَامَ فَذَهَبَ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، وَلَوْ قُلْتُ: قَامَ وَذَهَبَ، لَمْ يَكُنِ الْقِيَامُ سَبَبًا لِلذَّهَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْمَلَائِكَةُ، قاله الْجُمْهُورُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي هِيَ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ. حَكَاهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَفِي تَدْبِيرِهَا الْأَمْرَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَدْبِيرُ طُلُوعِهَا وَأُفُولِهَا. الثَّانِي تَدْبِيرُهَا مَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ أَيْضًا الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى علق كثيرا من تدبير أم الْعَالَمِ بِحَرَكَاتِ النُّجُومِ، فَأُضِيفَ التَّدْبِيرُ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ، كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا يُجَاوِرُهُ. وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُدَبِّرَاتِ الْمَلَائِكَةُ، فَتَدْبِيرُهَا نُزُولُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَتَفْصِيلِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَلَكِنْ لَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِهِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: ١٩٣]. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [البقرة: ٩٧]. يَعْنِي جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً: الْمَلَائِكَةُ وُكِّلَتْ بِتَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فِي الرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابَاطٍ: تَدْبِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْبَعَةٍ، جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَمَلَكِ الْمَوْتِ وَاسْمُهُ عِزْرَائِيلُ وَإِسْرَافِيلَ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَمُوكَلٌ بِالرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَمُوَكَّلٌ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَقْرَبَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَقِيلَ: أَيْ وُكِّلُوا بِأُمُورٍ عَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِهَا. وَمِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لَنَا ذَلِكَ إِلَّا بِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ مُضْمَرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالنَّازِعَاتِ وَكَذَا وَكَذَا لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحَاسَبُنَّ. أُضْمِرَ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ
                                                                            
194
                                                                     
                                                                                                                بالمعنى، قاله الفراء. ويدل عليه قول تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أَلَسْتَ تَرَى أَنَّهُ كَالْجَوَابِ لقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً نبعث؟ فاكتفى بقوله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟ وَقَالَ قَوْمٌ: وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: ٢٦] وهذا اختيار الترمذي ابن عَلِيٍّ. أَيْ فِيمَا قَصَصْتُ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذِكْرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وَلَكِنْ وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ مَذْكُورًا ظَاهِرًا بَارِزًا أَحْرَى وَأَقْمَنُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى بِشَيْءٍ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِيمَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: جَوَابُ الْقَسَمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى لِأَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَتَاكَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ عَلَى تَقْدِيرٍ لَيَوْمَ تَرْجُفُ، فَحَذَفَ اللَّامَ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ وَتَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وَالنَّازِعَاتُ غَرْقًا. وَقَالَ السِّجِسْتَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وَالنَّازِعَاتِ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْفَاءَ لَا يُفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ، وَالْأَوَّلُ الْوَجْهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى أَنَّ قُلُوبَ أهل النار تجف، وَأَبْصَارُهُمْ تَخْشَعُ، فَانْتِصَابُ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ قُلُوبٌ وَاجِفَةٌ يَوْمَ تَرْجُفُ، وَقِيلَ: انتصب بإضمار اذكر. وتَرْجُفُ أَيْ تَضْطَرِبُ. وَالرَّاجِفَةُ: أَيِ الْمُضْطَرِبَةُ كَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ، وَالرَّادِفَةُ السَّاعَةُ. مُجَاهِدٌ: الرَّاجِفَةُ الزَّلْزَلَةُ (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) الصَّيْحَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُمَا الصَّيْحَتَانِ. أَيِ النَّفْخَتَانِ. أَمَّا الْأُولَى فَتُمِيتُ كل شي بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتُحْيِي كُلَّ شي بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً) وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الرَّادِفَةُ حِينَ تَنْشَقُّ السَّمَاءُ وَتُحْمَلُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَتُدَكُّ دَكَّةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ الزَّلْزَلَةِ. وَقِيلَ: الرَّاجِفَةُ تَحَرُّكُ الْأَرْضِ، وَالرَّادِفَةُ زَلْزَلَةٌ أُخْرَى تُفْنِي الْأَرَضِينَ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ" النَّمْلِ" 
«١» مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ. وَأَصْلُ الرَّجْفَةِ الْحَرَكَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وليست الرجفة هاهنا من
                                                                            
195
                                                                     
                                                                                                                الْحَرَكَةِ فَقَطْ، بَلْ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجِيفًا: أَيْ أَظْهَرَ الصَّوْتَ وَالْحَرَكَةَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْأَرَاجِيفُ، لِاضْطِرَابِ الْأَصْوَاتِ بِهَا، وَإِفَاضَةِ الناس فيها، قال:
| أبا لاراجيف يا ابن اللوم تُوعِدُنِي  |  وَفِي الْأَرَاجِيفِ خِلْتُ اللُّؤْمَ وَالْخَوَرَا «١» | 
وَعَنْ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَهَبَ رُبْعُ اللَّيْلِ قَامَ ثُمَّ قَالَ: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ [. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أَيْ خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: زَائِلَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا. نَظِيرُهُ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: ١٨]. وَقَالَ الْمُؤَرِّخُ: قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ، مُرْتَكِضَةٌ 
«٢» غَيْرُ سَاكِنَةٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مُضْطَرِبَةٌ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، يُقَالُ وَجَفَ الْقَلْبُ يَجِفُّ وَجِيَفًا إِذَا خَفَقَ، كَمَا يُقَالُ: وَجَبَ يَجِبُ وَجِيبًا، وَمِنْهُ وَجِيَفُ الْفَرَسِ وَالنَّاقَةِ فِي الْعَدْوِ، وَالْإِيجَافِ حَمْلُ الدَّابَّةِ عَلَى السَّيْرِ السَّرِيعِ، قَالَ:
| بُدِّلْنَ بَعْدَ جرة صريفا  |  وبعد طول النفس الوجيفا | 
وقُلُوبٌ رفع بالابتداء وواجِفَةٌ صفتها. وأَبْصارُها خاشِعَةٌ خَبَرُهَا، مِثْلَ قَوْلِهِ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [البقرة: ٢٢١]. وَمَعْنَى خاشِعَةٌ مُنْكَسِرَةٌ ذَلِيلَةٌ مِنْ هَوْلِ مَا ترى. نظيره: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم: ٤٣]. والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أَيْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ، إِذَا قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ، قَالُوا مُنْكِرِينَ مُتَعَجِّبِينَ: أَنُرَدُّ بَعْدَ مَوْتِنَا إِلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَنَعُودُ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا قَبْلَ الموت؟ وهو كقولهم: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ، وَعَلَى حَافِرَتِهِ، أَيْ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جاء، قاله قتادة. وأنشد ابن الاعرابي:
                                                                            
196
                                                                     
                                                                                                                | أَحَافِرَةً عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ  |  مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارِ | 
يَقُولُ: أَأَرْجِعُ إِلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي شَبَابِي مِنَ الْغَزَلِ وَالصِّبَا بَعْدَ أَنْ شِبْتُ وَصَلِعْتُ! وَيُقَالُ: رَجَعَ عَلَى حَافِرَتِهِ: أَيِ الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: النَّقْدُ عِنْدَ الْحَافِرَةِ. قَالَ يَعْقُوبُ: أَيْ عِنْدَ أَوَّلِ كَلِمَةٍ. وَيُقَالُ: الْتَقَى الْقَوْمُ فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ الْحَافِرَةِ. أَيْ عِنْدَ أَوَّلِ مَا الْتَقَوْا. وقيل: الْحافِرَةِ العاجلة، أي أينا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا؟ قَالَ الشَّاعِرُ:
| آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمْ فَاعْلَمُوا  |  حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ فِي الْحَافِرَهْ | 
وَقِيلَ: الْحافِرَةِ: الْأَرْضُ الَّتِي تُحْفَرُ فِيهَا قُبُورُهُمْ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْمَحْفُورَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ماءٍ دافِقٍ وعِيشَةٍ راضِيَةٍ. والمعنى أينا لَمَرْدُودُونَ فِي قُبُورِنَا أَحْيَاءً. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْأَرْضُ الْحَافِرَةُ، لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ الْحَوَافِرِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْقَدَمُ أَرْضًا، لِأَنَّهَا عَلَى الأرض. والمعنى أإنا لَرَاجِعُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الْأَرْضِ فَنَمْشِي عَلَى أَقْدَامِنَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحَافِرَةُ: النَّارُ، وَقَرَأَ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَافِرَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الدُّنْيَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: الْحَفِرَةِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، مَقْصُورٌ مِنَ الْحَافِرِ. وَقِيلَ: الْحَفِرَةُ: الْأَرْضُ الْمُنْتِنَةُ بِأَجْسَادِ مَوْتَاهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَفِرَتْ أَسْنَانُهُ، إِذَا رَكِبَهَا الْوَسَخُ مِنْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا. يُقَالُ: فِي أَسْنَانِهِ حَفَرَ، وَقَدْ حَفَرَتْ تَحْفِرُ حَفْرًا، مِثْلُ كَسَرَ يَكْسِرُ كَسْرًا إِذَا فَسَدَتْ أُصُولُهَا. وَبَنُو أَسَدٍ يَقُولُونَ: فِي أَسْنَانِهِ حَفَرٌ بِالتَّحْرِيكِ. وَقَدْ حَفِرَتْ مِثَالَ تَعِبَ تَعَبًا، وَهِيَ أَرْدَأُ اللُّغَتَيْنِ قاله في الصحاح. (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أَيْ بَالِيَةً مُتَفَتِّتَةً. يُقَالُ: نَخِرَ الْعَظْمُ بِالْكَسْرِ: أَيْ بَلِيَ وَتَفَتَّتَ، يُقَالُ: عِظَامٌ نَخِرَةٌ. وَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّ الْآثَارَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْعِظَامُ، نَظَرْنَا فِيهَا فَرَأَيْنَا نَخِرَةً لَا نَاخِرَةَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ نَاخِرَةٌ بِأَلِفٍ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالطَّبَرِيُّ وَأَبُو مُعَاذٍ النحوي، لو فاق رءوس الْآيِ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالنَّاخِرُ مِنَ الْعِظَامِ
                                                                            
197
                                                                     
                                                                                                                الَّتِي تَدْخُلُ الرِّيحُ فِيهِ ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهُ وَلَهَا نَخِيرٌ. وَيُقَالُ: مَا بِهَا نَاخِرٌ، أَيْ مَا بِهَا أَحَدٌ. حَكَاهُ يَعْقُوبُ عَنِ الْبَاهِلِيِّ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: النَّاخِرَةُ الَّتِي لَمْ تَنْخُرْ بَعْدُ، أَيْ لَمْ تَبْلَ وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْخُرَ. وَقِيلَ: النَّاخِرُ الْمُجَوَّفَةُ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى، كَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ: نَخِرَ الشَّيْءُ فَهُوَ نَخِرٌ وَنَاخِرٌ، كَقَوْلِهِمْ: طَمِعَ فَهُوَ طمع وطامع، وحذر وحاذر، وبخل وباخل، رفره وَفَارِهٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
| يَظَلُّ بِهَا الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ بَادِنَا  |  يَدِبُّ عَلَى عُوجٍ لَهُ نَخِرَاتِ | 
عُوجٌ: يَعْنِي قَوَائِمَ. وَفِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ: نَاخِرَةٌ بِالْأَلِفِ: بَالِيَةٌ، وَنَخِرَةٌ: تَنْخُرُ فِيهَا الرِّيحُ أَيْ تَمُرُّ فِيهَا، عَلَى عَكْسِ الْأَوَّلِ، قَالَ 
«١»:
مِنْ بَعْدِ مَا صِرْتُ عِظَامًا نَاخِرَهْ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّاخِرَةُ: الَّتِي أُكِلَتْ أَطْرَافُهَا وَبَقِيَتْ أَوْسَاطُهَا. وَالنَّخِرَةُ: الَّتِي فَسَدَتْ كُلُّهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَخِرَةٌ أَيْ مَرْفُوتَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عِظاماً وَرُفاتاً وَنُخْرَةُ الرِّيحِ بِالضَّمِّ: شِدَّةُ هُبُوبِهَا. وَالنُّخْرَةُ أَيْضًا وَالنُّخَرَةُ مِثَالُ الْهُمَزَةِ: مُقَدَّمُ أَنْفِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْخِنْزِيرِ، يُقَالُ: هَشَّمَ نُخْرَتَهُ: أَيْ أَنْفَهُ. (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أَيْ رَجْعَةٌ خَائِبَةٌ، كَاذِبَةٌ بَاطِلَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ كَائِبَةً، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: خاسِرَةٌ عَلَى مَنْ كَذَّبَ بِهَا. وَقِيلَ: أَيْ هِيَ كَرَّةُ خُسْرَانٍ. وَالْمَعْنَى أَهْلُهَا خَاسِرُونَ، كَمَا يُقَالُ: تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ أَيْ يربح صاحبها. ولا شي أَخْسَرُ مِنْ كَرَّةٍ تَقْتَضِي الْمَصِيرَ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَيْ لَئِنْ رَجَعْنَا أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ لَنُحْشَرَنَّ بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قالوا هذا لأنهم أو عدوا بِالنَّارِ. وَالْكَرُّ: الرُّجُوعُ، يُقَالُ: كَرَّهُ، وَكَرَّ بِنَفْسِهِ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَالْكَرَّةُ: الْمَرَّةُ، وَالْجَمْعُ الْكَرَّاتُ. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) ذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سُهُولَةَ الْبَعْثِ عَلَيْهِ فَقَالَ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذا هُمْ أَيِ الْخَلَائِقُ أَجْمَعُونَ بِالسَّاهِرَةِ أَيْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، بَعْدَ مَا كَانُوا فِي بَطْنِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَتْ بِهَذَا الاسم، لان فيها نوم
                                                                            
198
                                                                     
                                                                                                                الْحَيَوَانِ وَسَهَرَهُمْ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْفَلَاةَ وَوَجْهَ الْأَرْضِ ساهرة، بمعنى ذات سهو، لِأَنَّهُ يُسْهَرُ فِيهَا خَوْفًا مِنْهَا، فَوَصَفَهَا بِصِفَةِ مَا فِيهَا، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ بِقَوْلِ أمية ابن أَبِي الصَّلْتِ:
| وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٍ  |  وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمْ مُقِيمُ | 
وَقَالَ آخَرُ يَوْمَ ذِي قَارٍ لِفَرَسِهِ:
| أَقْدَمُ مَحَاجَ إِنَّهَا الْأَسَاوِرَهْ  |  وَلَا يَهُولَنَّكَ رِجْلٌ «١» نَادِرَهْ | 
| فَإِنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ  |  ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا فِي الْحَافِرَهْ | 
مِنْ بَعْدِ مَا صِرْتَ عِظَامًا نَاخِرَهْ
وَفِي الصِّحَاحِ. وَيُقَالُ: السَّاهُورُ: ظِلُّ السَّاهِرَةِ، وَهِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ، قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ:
| يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً كَأَنَّ جَمِيمَهَا  |  وَعَمِيمَهَا أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ «٢» | 
وَيُقَالُ: السَّاهُورُ: كَالْغِلَافِ 
«٣» لِلْقَمَرِ يَدْخُلُ فِيهِ إِذَا كُسِفَ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ 
«٤»:
قَمَرٌ وَسَاهُورٌ يُسَلُّ وَيُغْمَدُ
وَأَنْشَدُوا لِآخَرَ فِي وَصْفِ امْرَأَةٍ:
| كَأَنَّهَا عِرْقُ سَامٍ عِنْدَ ضَارِبِهِ  |  أَوْ شُقَّةٌ «٥» خَرَجَتْ مِنْ جَوْفٍ سَاهُورٍ | 
يُرِيدُ شُقَّةَ الْقَمَرِ. وَقِيلَ: السَّاهِرَةُ: هِيَ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرْضِ مِنْ فِضَّةٍ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهَا قَطُّ خَلَقَهَا حينئذ. وقيل: أرض جددها
                                                                            
199
                                                                     
                                                                         
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            
                                                                                    اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: السَّاهِرَةُ اسْمُ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ تَعَالَى فَيُحَاسِبُ عَلَيْهَا الْخَلَائِقَ، وَذَلِكَ حِينَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: السَّاهِرَةُ: أَرْضُ الشَّامِ. وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ: إِنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ بِعَيْنِهِ، بِالشَّامِ، وَهُوَ الصَّقْعُ الَّذِي بَيْنَ جَبَلِ أَرِيحَاءَ وَجَبَلِ حَسَّانَ 
«١» يَمُدُّهُ اللَّهُ كَيْفَ يَشَاءُ. قَتَادَةُ: هِيَ جَهَنَّمُ أَيْ فَإِذَا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا سَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنَامُونَ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ. وَقِيلَ: السَّاهِرَةُ: بِمَعْنَى الصَّحْرَاءِ على شفير جَهَنَّمَ، أَيْ يُوقَفُونَ بِأَرْضِ الْقِيَامَةِ، فَيَدُومُ السَّهَرُ حِينَئِذٍ. وَيُقَالُ: السَّاهِرَةُ: الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ السَّرَابَ يَجْرِي فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ سَاهِرَةٌ: جَارِيَةُ الْمَاءِ، وَفِي ضِدِّهَا: نَائِمَةٌ، قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ:
| وَسَاهِرَةٌ يُضْحِي السَّرَابُ مُجَلِّلًا  |  لِأَقْطَارِهَا قَدْ جِئْتُهَا مُتَلَثِّمَا | 
أَوْ لِأَنَّ سالكها لا ينام خوف الهلكة.
[سورة النازعات (٧٩): الآيات ١٥ الى ٢٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى. إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أَيْ قَدْ جَاءَكَ وَبَلَغَكَ حَدِيثُ مُوسى وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ إن فرعون
                                                                            
200
                                                                     
                                                                                                                كَانَ أَقْوَى مِنْ كُفَّارِ عَصْرِكَ، ثُمَّ أَخَذْنَاهُ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. وَقِيلَ: هَلْ بِمَعْنَى" مَا" أَيْ مَا أَتَاكَ، وَلَكِنْ أُخْبِرْتَ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَقَدْ مَضَى مِنْ خَبَرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ 
«١». وَفِي طُوىً ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ طُوىً مُنَوَّنًا وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ لِخِفَّةِ الِاسْمِ. الْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ مِثْلَ عُمَرَ وَقُثَمَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: طُوَى: وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ. قَالَ: وَهُوَ مَعْدُولٌ عَنْ طَاوٍ، كَمَا عُدِلَ عُمَرُ عَنْ عَامِرٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ (طِوًى) بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَلَى مَعْنَى الْمُقَدَّسِ مرة بعد مرة، قاله الزجاج، وأنشد:
| أَعَاذِلَ إِنَّ اللَّوْمَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ  |  عَلَيَّ طِوَى مِنْ غَيِّكِ الْمُتَرَدِّدِ «٢» | 
أَيْ هُوَ لَوْمٌ مُكَرَّرٌ عَلَيَّ. وَقِيلَ: ضَمُّ الطَّاءِ وَكَسْرُهَا لُغَتَانِ، وَقَدْ مَضَى فِي" طه"»
الْقَوْلُ فِيهِ. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ أَيْ نَادَاهُ رَبُّهُ، فَحُذِفَ، لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، فَكَأَنَّهُ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ. إِنَّهُ طَغى أَيْ جَاوَزَ الْقَدْرَ فِي الْعِصْيَانِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ فِرْعَوْنُ عِلْجًا مِنْ هَمْدَانَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا قَالَ: مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، يُقَالُ لَهُ ذُو ظفر، طول أَرْبَعَةُ أَشْبَارٍ. (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أَيْ تُسْلِمُ فَتَطْهُرَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أَيْ وَأُرْشِدُكَ إِلَى طَاعَةِ رَبِّكَ (فَتَخْشى) أَيْ تَخَافُهُ وَتَتَّقِيهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ تَزَكَّى بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، عَلَى إِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ لِأَنَّ أَصْلَهَا تَتَزَكَّى. الْبَاقُونَ: (تَزَكَّى) بِتَخْفِيفِ الزَّايِ عَلَى مَعْنَى طَرْحِ التَّاءِ. وقال أبو عمرو: تَزَكَّى بالتشديد 
«٤» [تتصدق ب [- الصدقة، و" تزكي" يَكُونُ زَكِيًّا مُؤْمِنًا. وَإِنَّمَا دَعَا فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ زَكِيًّا مُؤْمِنًا. قَالَ: فَلِهَذَا اخْتَرْنَا التَّخْفِيفَ. وَقَالَ صخر بن جويرية:
                                                                            
201
                                                                     
                                                                                                                لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِلَى قَوْلِهِ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى وَلَنْ يَفْعَلَ، فَقَالَ: يَا رَبُّ، وَكَيْفَ أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ امْضِ إِلَى مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، فَإِنَّ فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ يَطْلُبُونَ عِلْمَ الْقَدَرِ، فَلَمْ يَبْلُغُوهُ وَلَا يُدْرِكُوهُ. (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أَيِ الْعَلَامَةَ الْعُظْمَى وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ. وَقِيلَ: الْعَصَا. وَقِيلَ: الْيَدُ الْبَيْضَاءُ تَبْرُقُ كَالشَّمْسِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْآيَةُ الْكُبْرَى قَالَ الْعَصَا. الْحَسَنُ: يَدُهُ وَعَصَاهُ. وَقِيلَ: فَلْقُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ: إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ آيَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ. فَكَذَّبَ أَيْ كَذَّبَ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى وَعَصى أَيْ عَصَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أَيْ وَلَّى مُدْبِرًا مُعْرِضًا عَنِ الْإِيمَانِ يَسْعى أَيْ يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: يَعْمَلُ فِي نِكَايَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: أَدْبَرَ يَسْعى هَارِبًا مِنَ الْحَيَّةِ. فَحَشَرَ أَيْ جَمَعَ أَصْحَابَهُ لِيَمْنَعُوهُ مِنْهَا. وَقِيلَ: جَمَعَ جُنُودَهُ لِلْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَالسَّحَرَةَ لِلْمُعَارَضَةِ. وَقِيلَ: حَشَرَ النَّاسَ لِلْحُضُورِ. فَنادى أَيْ قَالَ لَهُمْ بِصَوْتٍ عَالٍ (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أَيْ لَا رَبَّ لَكُمْ فَوْقِي. وَيُرْوَى: أَنَّ إِبْلِيسَ تَصَوَّرَ لِفِرْعَوْنَ فِي صُورَةِ الْإِنْسِ بِمِصْرَ فِي الْحَمَّامِ، فَأَنْكَرَهُ فِرْعَوْنُ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: وَيْحَكَ! أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَيْفَ وَأَنْتَ خَلَقْتَنِي؟ أَلَسْتَ الْقَائِلَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي كِتَابِ الْعَرَائِسِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ صَنَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا صِغَارًا وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا، فَقَالَ أَنَا رَبُّ أَصْنَامِكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْقَادَةَ وَالسَّادَةَ، هُوَ رَبُّهُمْ، وَأُولَئِكَ هُمْ أَرْبَابُ السَّفَلَةِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَنَادَى فَحَشَرَ لِأَنَّ النِّدَاءَ يَكُونُ قَبْلَ الْحَشْرِ. (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أَيْ نَكَالَ قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] وقوله بعد: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. وَكَانَ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى: أَمْهَلَهُ فِي الْأُولَى، ثُمَّ أَخَذَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَعَذَّبَهُ بِكَلِمَتَيْهِ. وَقِيلَ: نَكَالُ الْأُولَى: هُوَ أَنْ أَغْرَقَهُ، وَنَكَالُ الْآخِرَةِ: الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ عَذَابُ أَوَّلِ عُمْرِهِ وَآخِرِهِ. وَقِيلَ: الْآخِرَةُ قَوْلُهُ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولَى تَكْذِيبُهُ لِمُوسَى. عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا.
                                                                            
202
                                                                     
                                                                         
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                    
                                                                                    ونَكالَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ فِي قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَخَذَهُ اللَّهُ: نَكَّلَ اللَّهُ بِهِ، فَأُخْرِجَ [نَكَالَ 
«١»] مَكَانَ مَصْدَرٍ مِنْ مَعْنَاهُ، لَا مِنْ لَفْظِهِ. وَقِيلَ: نُصِبَ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ، أَيْ فَأَخَذَهُ اللَّهُ بِنَكَالِ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا نُزِعَ الْخَافِضُ نُصِبَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا نَكَالًا، أَيْ لِلنَّكَالِ. وَالنَّكَالُ: اسْمٌ لِمَا جُعِلَ نَكَالًا لِلْغَيْرِ أَيْ عُقُوبَةً لَهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ بِهِ. يُقَالُ: نَكَّلَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: إِذَا أَثْخَنَهُ عُقُوبَةً. وَالْكَلِمَةُ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ، وَالنِّكْلُ الْقَيْدُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْمُزَّمِّلِ" 
«٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً أَيِ اعْتِبَارًا وَعِظَةً. لِمَنْ يَخْشى أَيْ يخاف الله عز وجل.
[سورة النازعات (٧٩): الآيات ٢٧ الى ٣٣]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)
وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً: يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ، أَيْ أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ فِي تَقْدِيرِكُمْ أَمِ السَّماءُ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى السَّمَاءِ قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٥٧] وقول تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١]، فَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. ثُمَّ وَصَفَ السَّمَاءَ فَقَالَ: بَناها أَيْ رَفَعَهَا فَوْقَكُمْ كَالْبِنَاءِ. رَفَعَ سَمْكَها أَيْ أَعْلَى سَقْفَهَا فِي الْهَوَاءِ، يُقَالُ: سَمَكْتُ الشَّيْءَ أَيْ رَفَعْتُهُ فِي الْهَوَاءِ، وَسَمَكَ الشيء سموكا: أرتفع. وقال الفراء: كل شي حَمَلَ شَيْئًا مِنَ الْبِنَاءِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ سَمْكٌ. وَبِنَاءٌ مَسْمُوكٌ وَسَنَامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ أَيْ عَالٍ، والمسموكات 
«٣»: السموات. وَيُقَالُ: اسْمُكْ فِي الدَّيْمِ، أَيِ اصْعَدْ فِي الدرجة.
                                                                            
203
                                                                     
                                                                                                                قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوَّاها أَيْ خَلَقَهَا خَلْقًا مُسْتَوِيًا، لَا تَفَاوُتَ فِيهِ، وَلَا شُقُوقَ، وَلَا فُطُورَ. (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أَيْ جَعَلَهُ مُظْلِمًا، غَطِشَ اللَّيْلُ وَأَغْطَشَهُ اللَّهُ، كَقَوْلِكَ: ظَلِمَ [اللَّيْلُ 
«١»] وَأَظْلَمَهُ اللَّهُ. وَيُقَالُ أَيْضًا: أَغْطَشَ اللَّيْلُ بِنَفْسِهِ. وَأَغْطَشَهُ اللَّهُ كَمَا يُقَالُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ، وَأَظْلَمَهُ اللَّهُ. وَالْغَطَشُ وَالْغَبَشُ: الظُّلْمَةُ. وَرَجُلٌ أَغْطَشَ: أَيْ أَعْمَى، أَوْ شَبِيهٌ بِهِ، وَقَدْ غَطِشَ، وَالْمَرْأَةُ غَطْشَاءُ، وَيُقَالُ: لَيْلَةٌ غَطْشَاءُ، وَلَيْلٌ أَغْطَشُ وَفَلَاةٌ غَطْشَى لَا يُهْتَدَى لَهَا، قَالَ الْأَعْشَى:
| وَيَهْمَاءَ بِاللَّيْلِ غَطْشَى الْفَلَا  |  ةِ يُؤْنِسُنِي صَوْتُ فَيَادِهَا «٢» | 
وَقَالَ الْأَعْشَى أَيْضًا:| عَقَرْتُ لَهُمْ مَوْهِنًا نَاقَتِي  |  وَغَامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ | 
يَعْنِي بِغَامِرِهِمْ لَيْلَهُمْ، لِأَنَّهُ غَمَرَهُمْ بِسَوَادِهِ. وَأَضَافَ اللَّيْلَ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَكُونُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ مُضَافٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَيُقَالُ: نُجُومُ اللَّيْلِ، لِأَنَّ ظُهُورَهَا بِاللَّيْلِ. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إِلَى السَّمَاءِ كَمَا أَضَافَ إِلَيْهَا اللَّيْلَ، لِأَنَّ فِيهَا سَبَبَ الظَّلَامِ وَالضِّيَاءِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُهَا. (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أَيْ بَسَطَهَا. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى كَوْنِ الْأَرْضِ بَعْدَ السَّمَاءِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَوَّلِ" الْبَقَرَةِ" 
«٣» عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: ٢٩] مُسْتَوْفًى. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: دَحَوْتُ الشَّيْءَ أَدْحُوهُ دَحْوًا: إِذَا بَسَطْتُهُ. وَيُقَالُ لِعُشِّ النَّعَامَةِ أُدْحَيُّ، لِأَنَّهُ مَبْسُوطٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
| وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا  |  فَهُمْ قُطَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي «٤» | 
وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ:| دَحَاهَا فَلَمَّا رَآهَا اسْتَوَتْ  |  عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الجبالا | 
                                                                            204
                                                                     
                                                                                                                وَقِيلَ: دَحَاهَا سَوَّاهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو:
| وَأَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِمَنْ أَسْلَمَتْ  |  لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا | 
| دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا  |  بِأَيْدٍ وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا | 
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَلَقَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ وَوَضَعَهَا عَلَى الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفِ عَامٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْدَ فِي مَوْضِعِ" مَعَ" كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضُ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: ١٣]. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنْتَ أَحْمَقُ وَأَنْتَ بَعْدُ هَذَا سَيِّئُ الْخُلُقِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
| فَقُلْتُ لَهَا عَنِّي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي  |  حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ | 
أَيْ مَعَ ذَلِكَ لَبِيبٌ. وَقِيلَ: بَعْدَ: بِمَعْنَى قَبْلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: ١٠٥] أَيْ مِنْ قَبْلِ الْفُرْقَانِ، قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ:
| حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا  |  خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ | 
وَزَعَمُوا أَنَّ خِرَاشًا نَجَا قَبْلَ عُرْوَةَ. وَقِيلَ: دَحاها: حَرَثَهَا وَشَقَّهَا. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: دَحَاهَا مَهَّدَهَا لِلْأَقْوَاتِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ، أَيْ دَحَا الْأَرْضَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ (وَالْأَرْضُ) بِالرَّفْعِ، عَلَى الِابْتِدَاءِ، لِرُجُوعِ الْهَاءِ. وَيُقَالُ: دَحَا يَدْحُو دَحْوًا وَدَحَى يَدْحَى دَحْيًا، كَقَوْلِهِمْ: طَغَى يَطْغَى وَيَطْغُو، وَطَغِيَ يَطْغَى، وَمَحَا يَمْحُو وَيَمْحَى، وَلَحَى الْعُودَ يَلْحَى وَيَلْحُو، فَمَنْ قَالَ: يَدْحُو قَالَ دَحَوْتُ وَمَنْ قَالَ يَدْحَى قَالَ دَحَيْتُ. أَخْرَجَ مِنْها أَيْ أَخْرَجَ مِنَ الْأَرْضِ ماءَها أَيِ الْعُيُونَ الْمُتَفَجِّرَةَ بِالْمَاءِ. وَمَرْعاها أَيِ النَّبَاتَ الَّذِي يُرْعَى. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: دَلَّ بِشَيْئَيْنِ عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ وَالْحَبِّ وَالتَّمْرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّارِ وَالْمِلْحِ، لِأَنَّ النَّارَ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْمِلْحَ مِنَ الْمَاءِ. (وَالْجِبالَ أَرْساها) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَالْجِبالَ بِالنَّصْبِ، أَيْ وَأَرْسَى الْجِبَالَ أَرْساها يَعْنِي: أَثْبَتَهَا فِيهَا أَوْتَادًا لها. وقرا
                                                                            
205
                                                                     
                                                                         
                                                                                                                                                                                                                                                                
                                                                                    الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ (وَالْجِبَالُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَيُقَالُ: هَلَّا أُدْخِلَ حَرْفُ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَالٌ بِإِضْمَارِ قَدْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: ٩٠]. مَتاعاً لَكُمْ أَيْ مَنْفَعَةً لَكُمْ. وَلِأَنْعامِكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. ومَتاعاً نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها أَمَتَعَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: نَصْبٌ بِإِسْقَاطِ حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا.
[سورة النازعات (٧٩): الآيات ٣٤ الى ٣٦]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أَيِ الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهَا الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تطم على كل شي، فَتَعُمُّ مَا سِوَاهَا لِعِظَمِ هَوْلِهَا، أَيْ تَقْلِبُهُ. وَفِي أَمْثَالِهِمْ:
جَرَى الْوَادِي فَطَمَّ عَلَى الْقَرِيِّ 
«١»
الْمُبَرِّدُ: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَمَّ الْفَرَسُ طَمِيمًا إِذَا اسْتَفْرَغَ جَهْدَهُ فِي الْجَرْيِ، وَطَمَّ الْمَاءُ إِذَا مَلَأَ النَّهَرَ كُلَّهُ. غَيْرُهُ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ 
«٢» أَيْ دَفَنَهَا، وَالطَّمُّ: الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْهَمْدَانِيُّ: الطَّامَّةُ الْكُبْرَى حِينَ يُسَاقُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يُسْلِمُ فِيهَا أَهْلُ النَّارِ إِلَى الزَّبَانِيَةِ. أَيِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي طَمَّتْ وَعَظُمَتْ، قَالَ:
| إِنَّ بَعْضَ الْحُبِّ يُعْمِي وَيُصِمُّ  |  وَكَذَاكَ البغض أدهى وأطم | 
                                                                     
                                                                         
                                                                                                                                                                                
                                                                                    (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى) أَيْ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أَيْ ظَهَرَتْ. لِمَنْ يَرى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْشَفُ عَنْهَا فَيَرَاهَا تَتَلَظَّى كُلُّ ذِي بَصَرٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَرَى النَّارَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ لِيَعْرِفَ قَدْرَ النِّعْمَةِ وَيُصْلَى الْكَافِرُ بِالنَّارِ. وَجَوَابُ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ مَحْذُوفٌ أَيْ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ. عِكْرِمَةُ: وَغَيْرُهُ:" لِمَنْ تَرَى" بِالتَّاءِ، أَيْ لِمَنْ تَرَاهُ الْجَحِيمُ، أَوْ لِمَنْ تَرَاهُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ. وَالْخِطَابُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُرَادُ به الناس.
[سورة النازعات (٧٩): الآيات ٣٧ الى ٤١]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أَيْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ وَابْنِهِ الْحَارِثِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ آثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: مَنِ اتَّخَذَ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَلْوَانٍ فَقَدْ طَغَى. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: أَخْوَفُ مَا أَخَافَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يُؤْثِرُوا مَا يَرَوْنَ عَلَى مَا يَعْلَمُونَ 
«١». وَيُرْوَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي الْكُتُبِ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ" لَا يُؤْثِرُ عَبْدٌ لِي دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ، إِلَّا بَثَثْتُ عَلَيْهِ هُمُومَهُ وَضَيَّعْتُهُ 
«٢»، ثُمَّ لَا أُبَالِي فِي أَيِّهَا هَلَكَ". (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أَيْ مَأْوَاهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ. (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أَيْ حَذِرَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مَقَامَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقَامًا قَدْ خَافَهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ خَوْفُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الله عز وجل عند مواقعة الذنب
                                                                            
207
                                                                     
                                                                                                                فَيُقْلِعُ. نَظِيرُهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: ٤٦]. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أَيْ زَجَرَهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمَحَارِمِ. وَقَالَ سَهْلٌ: تَرْكُ الْهَوَى مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ يَقُودُ الْحَقُّ الْهَوَى، وَسَيَأْتِي زَمَانٌ يَقُودُ الْهَوَى الْحَقَّ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ. (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أَيِ الْمَنْزِلُ. وَالْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَخِيهِ عَامِرِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَّا مَنْ طَغَى فَهُوَ أَخٌ لِمُصْعَبِ بْنُ عُمَيْرٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَخَذَتْهُ الْأَنْصَارُ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَلَمْ يَشُدُّوهُ فِي الْوَثَاقِ، وَأَكْرَمُوهُ وَبَيَّتُوهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا حَدَّثُوا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ حَدِيثَهُ، فَقَالَ: مَا هُوَ لِي بِأَخٍ، شُدُّوا أَسِيرَكُمْ، فَإِنَّ أُمَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ حُلِيًّا وَمَالًا. فَأَوْثَقُوهُ حَتَّى بَعَثَتْ أُمُّهُ فِي فِدَائِهِ. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي جَوْفِهِ. وَهِيَ السِّهَامُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَشَحِّطًا فِي دَمِهِ قَالَ: [عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُكِ [وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: [لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ مَا تُعْرَفُ قِيمَتُهُمَا وَإِنَّ شِرَاكَ نَعْلَيْهِ من ذهب [. وقيل: إن مصعب ابن عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عَامِرًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلَيْنِ: أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ لَهُ غُلَامٌ يَأْتِيهِ بِطَعَامٍ، وَكَانَ يَسْأَلُهُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ بِهَذَا، فَأَتَاهُ يَوْمًا بِطَعَامٍ فَلَمْ يَسْأَلْ وَأَكَلَهُ، فَقَالَ لَهُ غُلَامُهُ: لِمَ لَا تَسْأَلْنِي الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: نَسِيَتُ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الطَّعَامُ. فَقَالَ: تَكَهَّنْتُ لِقَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْطَوْنِيهِ. فَتَقَايَأَهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَقَالَ: يَا رَبُّ مَا بَقِيَ فِي الْعُرُوقِ فَأَنْتَ حَبَسْتَهُ فَنَزَلَتْ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ وَقَدَرَ عَلَيْهَا فِي خَلْوَةٍ ثُمَّ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ. وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. يَعْنِي مَنْ خَافَ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَانْتَهَى عَنْهَا. وَاللَّهُ أعلم.
                                                                            
208
                                                                     
                                                                         
                                                                                                                                                                                                                        
                                                                                    [سورة النازعات (٧٩): الآيات ٤٢ الى ٤٦]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ اسْتِهْزَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. وَمَعْنَى مُرْساها أَيْ قِيَامُهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: رُسُوُّهَا قِيَامُهَا 
«١» كَرُسُوِّ السَّفِينَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ مُنْتَهَاهَا، وَمَرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ، تَنْتَهِي. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَتَى زَمَانُهَا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَعْرَافِ" 
«٢» بَيَانُ ذَلِكَ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا بِغَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا رَبُّكَ [. (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أَيْ فِي أي شي أن يَا مُحَمَّدُ مِنْ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا؟ وَلَيْسَ لَكَ السُّؤَالُ عَنْهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ حَتَّى نَزَلَتْ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَرِّفَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: لا تسأل، فلست في شي مِنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لَهُ، أَيْ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلُوكَ بَيَانَهُ، وَلَسْتَ مِمَّنْ يَعْلَمُهُ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالذِّكْرَى بِمَعْنَى الذِّكْرِ. (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا، فَلَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: ١٨٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣٤]. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها):
                                                                            
209
                                                                     
                                                                                                                أَيْ مُخَوِّفٌ، وَخَصَّ الْإِنْذَارَ بِمَنْ يَخْشَى، لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْذِرًا لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس: ١١]. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مُنْذِرُ بِالْإِضَافَةِ غَيْرِ مَنُوَّنٍ، طَلَبَ التَّخْفِيفِ، وَإِلَّا فَأَصْلُهُ التَّنْوِينُ، لِأَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا لَا يُنَوَّنُ فِي الْمَاضِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ التنوين وتركه، كقوله تعالى: بالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق: ٣]، وبالِغُ أَمْرِهِ ومُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الأنفال: ١٨] ومُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ وَالتَّنْوِينُ هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَعَيَّاشٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو (مُنْذِرٌ) مُنَوَّنًا، وَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى نَصْبٌ، إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِإِنْذَارِكَ مَنْ يَخْشَى السَّاعَةَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلْمَاضِي، نَحْوَ ضَارِبِ زَيْدٍ أَمْسِ، لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْإِنْذَارَ، الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَحْوَالُ الْآخِرَةِ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاحَةُ الرُّوحِ أَوْ تَأَلُّمُهَا مِنْ غَيْرِ حِسٍّ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها يَعْنِي الْكُفَّارَ يَرَوْنَ السَّاعَةَ لَمْ يَلْبَثُوا أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ، إِلَّا عَشِيَّةً أَيْ قَدْرَ عَشِيَّةٍ أَوْ ضُحاها أي أو قدر الضحا الَّذِي يَلِي تِلْكَ الْعَشِيَّةَ، وَالْمُرَادُ تَقْلِيلُ مُدَّةِ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف: ٣٥]. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: لَمْ يَلْبَثُوا فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ لِمَا عَايَنُوا مِنَ الْهَوْلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إِلَى الْعَشِيَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا، وَآتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا، فَتَكُونُ الْعَشِيَّةُ فِي مَعْنَى آخِرِ النَّهَارِ، وَالْغَدَاةُ فِي مَعْنَى أَوَّلِ النَّهَارِ، قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي عُقَيْلٍ:
| نَحْنُ صَبَّحْنَا عَامِرًا فِي دَارِهَا  |  جُرْدًا تَعَادَى طَرَفَيْ نَهَارِهَا | 
عَشِيَّةِ الْهِلَالِ أَوْ سِرَارِهَا
أَرَادَ: عَشِيَّةَ الْهِلَالِ، أَوْ سِرَارَ الْعَشِيَّةِ، فَهُوَ أَشَدُّ من آتيك الغداة أو عشيها.
                                                                            
210