تفسير سورة الفتح

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الفتح مدنية وهي عشرون وتسع آيات.

سورة الفتح
وهي عشرون وتسع آيات مدنية
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
قوله تبارك وتعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يعني: قضينا لك قضاء بيناً. أكرمناك بالإسلام، والنبوة، وأمرناك بأن تدعو الخلق إليه. قال مقاتل: وذلك أنه لما نزل بمكة وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وكان المشركون يقولون: لم تتبعون رجلاً لا يدري ما يفعل به، ولا بمن تابعه. فلما قدم المدينة، عيّرهم بذلك المنافقون أيضاً. فعلم الله تعالى ما في قلوب المؤمنين من الحزم، وما في قلوب الكافرين من الفرح. فنزل إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يعني: قضينا لك قضاء بيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
فقال المؤمنون: هذا لك! فما لنا؟ فنزل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح: ٥] الآية. فقال المنافقون فما لنا؟ فنزل وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الفتح: ٦] الآية. وقال الزجاج: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ يعني: فتح الحديبية، والحديبية بئر سمي المكان بها. والفتح هو الظفر بالمكان، كان بحرب أو بغير حرب. قال: ومعنى الفتح الهداية إلى الإسلام. وكان في فتح الحديبية، معجزة من معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنها بئر فاستسقى جميع ما فيها من الماء، ولم يبق فيها شيء، فمضمض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم مجه فيها، فدرّت البئر بالماء. ثم قال: لِيَغْفِرَ لَكَ قال بعضهم: هذه لام كي. فكأنه قال: لكي يغفر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ يعني: ذنب آدم وَما تَأَخَّرَ يعني: ذنب أمتك. وقال القتبي: هذه لام القسم فكأَنه قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ويقال: ما كان قبل نزول الوحي، وما كان بعده.
قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة، وبإظهار الدين وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني: يثبتك على الهدى، وهو طريق الأنبياء وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ يعني: لكي ينصرك الله على عدوك نَصْراً عَزِيزاً بإظهار الإسلام.

[سورة الفتح (٤٨) : آية ٤]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم تجهز في سنة ست في ذي القعدة، فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل، ويقال: ألف وأربعمائة، وساق سبعين بدنة. فبلغ قريشاً خبر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت؟ فلما نزل النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعسفان قال: «إنَّ قُرَيْشاً جَعَلَتْ لِي عُيُوناً، فَمَنْ يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ الثَّنِيَّةِ». فقال رجل من المسلمين: أنا يا رسول الله فخرج بهم، وانتهوا إلى الثنية، وصعدوا فيها. فلما هبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الثنية، بركت ناقته القصواء، فلم تنبعث، فزجرَها، وزجرها الناس، وضربوها، فلم تنبعث. فقال الناس: خلأت القصواء أي: صارت حروناً. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ما خَلأَتِ القَصْوَاءُ، وَمَا كَانَ ذلك لَهَا بِخُلُقٍ، ولكن حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ»، ثم قال: «لا يَسْأَلُونَنِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شَيْئاً يعظمون به حرماتهم، إلا قِبْلتُهُ مِنْهُمْ» ثَم زجرها، فانبعثت.
فلما نزلوا على القليب بالحديبية، لم يكن في البئر إلا ماء وشيك. يعني: قليل متغير، فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء. فقال: مَن رجل يهيج لنا الماء؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله.
فقال: «ما اسمك» ؟ قال: مرة. فقال: «تأخر»، فقال رجل آخر أنا يا رسول الله، فقال: «ما اسمك؟». قال: ناجيه. فقال: «أنْزِلْ». فنزل، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشقصاً، فبحت به البئر، فنبع الماء. وقال في رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان ماء الحديبية قد قل. فأتى بدلو من ماء، فتوضأ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجعل منه في فيه، ثم مجه في الدلو، ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر، ففعلوا، فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس. ففزع المشركون لنزول النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية، فجاؤوه، واستعدوا ليصدوه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر: «يا عُمَرُ اذْهَبْ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نَعْتَمِرَ، وَيُخْلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ البَيْتِ، لا أُرِيدُ مِنْهُمْ غَيْرَهُ». فقال عمر: يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني. فأرسل عثمان، فإن هناك ناساً من بني عمه، يمنعونه، فذهب عثمان، فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص، فقال له: أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجاره، وحمله على فرسه وراءه، ودخل به مكة فاستأذن عثمان قريشاً، فأبوا أن يأذنوا له. فقال: أبان لعثمان! طف أنت إن شئت. فقال: لما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبقي هناك ثلاثة أيام، فذكر للنبي صلّى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. فقال لأصحابه: بايعوني على الموت. فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فبايعه أصحابه على الموت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَخَافُ أَلاَّ يُدْرِكَ عُثْمَانَ هَذِهِ البَيْعَةَ، فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ يَمِينِي
309
بِشمَالِي». ثم رجع عثمان، فأخبر أنهم قد أبوا ذلك، وبلغت قريشاً البيعة، فكبرت تلك البيعة عندهم، وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني: أردده عنا فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ابْعَثُوا الهَدْيَ فِي وَجْهِهِ يَرَاهَا، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ يُعَظِّمُونَ الهَدْيَ». فبعثوا الهدي في وجهه، فلما رأى يزيد بن الحارث الهدي قال: ما أرى أحداً يفلح بردّ هذا الهدي، ورجع إلى قريش. فقال لهم: لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء. فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فجلس إليه، فقال: يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة، فجعل يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويومئ بيديه إلى لحيته، وكان المغيرة قائماً عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فضربه بالسوط على يده، وقال: اكفف يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليك ما تكره.
فقال عروة: من هذا يا محمد؟ فقال: ابن أخيك المغيرة بن شعبة. فقال: يا غدر ما غسلت سلحتك عني بعد. أفتضرب يدي؟ قال: اكففها قبل أن لا تصل إليك. فرجع عروة إلى قريش، فقالوا له: ما ورائك يا أبا يعقوب؟ فقال: خلوا سبيل الرجل يعتمر، فإني حضرت كسرى، وقيصر، والنجاشي، فما رأيت ملكاً قط أصحابه أطوع من هذا الملك. والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته، والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه، وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه. فقالوا: جبنت، وانتفح سحرك. ثم قالوا لسهيل بن عمرو: اذهب واردده عنا، وصالحه. فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قَدْ سَهُلَ أمْرُهُمْ»، فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال: يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة، على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل، فتعتمر أنت، وأصحابك، ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكباً، فتصالحنا على أن لا تقاتلنا، ولا نقاتلك سنتين. فرضي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك. فقال: اكتب بيننا وبينك كتاباً، فأمر علياً رضي الله عنه إن يكتب، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن.
قال: فكيف أكتب؟ قال: اكتب باسمك اللهم فكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله، لاتبعتك. أفترغب عن اسم أبيك؟ فقال علي رضي الله عنه: فو الله إنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على رغم أنفك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا مَحَمَّدٌ رَسُولُ الله، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله»، لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئاً يعظمون به حرماتهم إلا قبله. فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، ألاّ تقاتلنا، ولا نقاتلك سنتين، وندخل في حلفنا من نشاء، وتدخلوا في حلفكم من شئتم، وعلى أنكم تأتون من العام المقبل، وتقيمون ثلاثة أيام، ثم ترجعون، وعلى أن ما جاء منا إليكم لا تقبلوه، وتردوه إلينا، ومن جاء منكم إلينا فهو منا، فلا نرده إليكم، فشق ذلك الشرط على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله من لحق بنا منهم لم نقبله، ومن لحق بهم منا فهو لهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأمَّا مَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنَّا فَأبْعَدَهُ الله وَأَوْلَى بِمَنْ كَفر. وَأمَّا مَنْ أرَادَ أنْ يَلْحَقَ بِنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ الله لَهُ مَخْرِجَاً». فجاء أبو جندل بن سهيل يوسف في
310
الحديد، يعني: يمشي مشي الأعرج قد أسلم، فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فلما وقع في ظهراني المسلمين، قال: إني مسلم. فجاء أبوه فقال: إنما كتبنا الكتاب الساعة. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله حق وأنت نبيه؟
قال: «بَلَى». قال: ونحن قوم مؤمنون؟ وهم كفار؟ قال: «بَلَى». قال: فلم نُعْطِي الدنية في ديننا؟ قال: «إنَّمَا كَتَبْنَا الكِتَابَ السَّاعَةَ». فتحول عمر إلى أبي جندل فقال: يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب، وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه، ويضرب به أباه. فقال أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت؟ فقال عمر: نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم مني، لا أقتل أبي، فأخذ سهيل بن عمرو غصناً من أغصان تلك الشجرة، فضرب به وجه أبي جندل، والمسلمون يبكون. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، فَإنْ يَعْلَمِ الله مِنْ أبِي جَنْدَلٍ الصَّدْقَ يُنْجِهِ مِنْهُمّ». فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسهيل: «هَبْهُ لِي» فقال سهيل: لا. فقال: مكرز بن حفص: قد أجرته. يعني:
أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة، فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخرج إلى شط البحر، واجتمع إليه قريباً من سبعين رجلاً، كرهوا أن يقيموا مع المشركين، وعلموا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لن يقبلهم حتى تنقضي المدة، فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام، أو مدبرة فأخذوها، وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين، فأرسل المشركون إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يناشدونه إلا قبضهم إليه، وقالوا له: أنت في حلَ منهم. فالتحقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعلم الذين كرهوا الصلح، أن الخير فيما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا البدن، ويحلقوا الرؤوس، فلم يفعل ذلك منهم أحد. فدخل النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال: ألا تعجبين؟ أمرت الناس أن ينحروا البدن، ويحلقوا. فلم يفعل أحد منهم. فقالت أم سلمة: قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك، واحلق رأسك، فإنهم سيقتدون بك. فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم البدن، وحلق رأسه، ففعل القوم كلهم، فحلق بعضهم، وقصر بعضهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ». فقالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال: «يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ، والمقصرين». فرجع النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فنزل إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلى قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: السكون، والطمأنينة في البيعة، في قلوب المؤمنين. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يعني: تصديقاً مع تصديقهم الذي هم عليه.
ويقال: تصديقاً بما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في البيعة. ويقال: يعني: إقراراً بالفرائض، مع إقرارهم بالله تعالى. وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ قال: يعني: الرحمة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً. قال: إن الله تعالى بعث رسوله صلّى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله، كما قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤) [الاخلاص] فلما
311
صدقوا بها، زادهم الصلاة. فلما صدقوا بها زادهم الزكاة. فلما صدقوا بها زادهم الصوم. فلما صدقوا بها زادهم الحج. فلما صدقوا به زادهم الجهاد. يعني: إن في كل ذلك يزيد تصديقاً مع تصديقهم.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فجنود السموات الملائكة، وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٥ الى ٩]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)
قوله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني: المصدقين والمصدقات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني: من تحت غرفها، وأشجارها خالِدِينَ فِيها يعني: دائمين مقيمين، لا يموتون، ولا يخرجون منها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني: يمحو، ويتجاوز عن سيئاتهم. يعني: عن ذنوبهم وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً في الآخرة. أي: نجاة وافرة من العذاب.
ثم قال: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ يعني: ولكن يعذب المنافقين، والمنافقات، من أهل المدينة وَالْمُشْرِكِينَ من أهل مكة وَالْمُشْرِكاتِ الذين أقاموا على عبادة الأصنام.
قوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ وظنهم ترك التصديق بالله تعالى ورسوله، مخافة ألا ينصر محمد صلّى الله عليه وسلم كما قال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ [الفتح: ١٢].
ثم قال: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ يعني: عاقبة العذاب والهزيمة وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ في الدنيا وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ في الآخرة وَساءَتْ مَصِيراً يعني: بئس المصير الذي صاروا إليه.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً بالنقمة لمن مات على كفره، ونفاقه. حَكِيماً في أمره، وقضائه، حكم بالنصرة للنبي صلّى الله عليه وسلم.
ثم قال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً يعني: بعثناك شاهداً بالبلاغ إلى أمتك وَمُبَشِّراً لمن أجابك بالجنة وَنَذِيراً يعني: مخوفاً للكفار بالنار لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: لتصدقوا بالله فيما يأمركم، وتصدقوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وَتُعَزِّرُوهُ يعني: لكي تعينوه، وتنصروه على عدوه بالسيف، وَتُوَقِّرُوهُ أي: تعظموا النبي صلّى الله عليه وسلم وَتُسَبِّحُوهُ يعني: تصلوا لله تبارك وتعالى بُكْرَةً وَأَصِيلًا يعني: غدوة وعشياً. فكأنه قال: لتؤمنوا بالله وتسبحوه، وتؤمنوا برسوله، وتعزروه، وتوقروه. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: لِيُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ويعزّروه ويوقّروه ويسبّحوه كلها بالياء على معنى الخبر عنهم، وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: دَائِرَةُ السوء بضم السين. وقرأ الباقون: بالنصب، كقولك رجل سوء، وعمل سوء، وقد روي عمر عن ابن كثير، وأبي عمرو: بالنصب أيضا.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٠ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يعني: يوم الحديبية تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، قال الكلبي: بايعوا تحت الشجرة، وهي شجرة السَّمرة، وهم يومئذٍ ألف وخمسمائة وأربعون رجلاً. وروى هشام عن محمد بن الحسن قال: كانت الشجرة أم غيلان. إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يعني: كأنهم يبايعون الله، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم إنما بايعهم بأمر الله تعالى. ويقال:
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي: لأجله، وطلب رضاه.
313
ثم قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يعني: يد الله بالنصرة، والغلبة، والمغفرة، فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالطاعة. وقال الزجاج: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يحتمل ثلاثة أوجه. أحدها يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالوفاء، ويحتمل يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالثواب، فهذان وجهان جاءا في التفسير، ويحتمل أيضاً يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ في المِنَّة عليهم، وفي الهداية فوق أيديهم في الطاعة.
فَمَنْ نَكَثَ يعني: نقض العهد، والبيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يعني: عقوبته على نَفْسِهِ. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ قرأ حفص: برفع الهاء. أي: وفى بما عاهد عليه من البيعة، فيتم ذلك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعني: أوفى بما عاهد الله عليه من البيعة، والتمام في ذلك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً في الجنة. قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر: فَسَنُؤْتِيهِ بالنون. والباقون: بالياء. وكلاهما يرجع إلى معنى واحد. يعني: سيؤتيه الله ثواباً عظيماً.
قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ وهم أسلم، وأشجع، وغفار، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى مكة عام الحديبية، فاستتبعهم، وكانت منازلهم بين مكة والمدينة.
فقالوا فيما بينهم: نذهب معه إلى قوم جاءوه فقتلوا أصحابه، فقاتلهم، فاعتلوا عليه بالشغل، حتى رجع، فأخبر الله تعالى رسوله قبل ذلك، أنه إذا رجع إليهم استقبلوه بالعذر، وهم كاذبون. فقال: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ يعني: الذين تخلفوا عن بيعة الحديبية شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا يعني: خفنا عليهم الضيعة، ولولا ذلك لخرجنا معك. فَاسْتَغْفِرْ لَنا في التخلف. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني: من طلب الاستغفار وهم لا يبالون، أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم.
قُلْ يا محمد فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني: من يقدر أن يمنع عنكم من عذاب الله شيئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا يعني: قتلاً، أو هزيمة، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً يعني:
النصرة. قرأ حمزة والكسائي ضَرًّا بضم الضاد، وهو سوء الحال والمرض، وما أشبه ذلك.
والباقون: بالنصب. وهو ضد النفع. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير. يعني: لا يقدر أحد على دفع الضر، ومنع النفع غير الله.
ثم استأنف الكلام فقال: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني: عالماً بتخلفكم، ومرادكم.
قوله عز وجل: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ يعني: بل منعكم من السير معه، لأنكم ظننتم أن لن ينقلب الرسول وَالْمُؤْمِنُونَ من الحديبية إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي
314
قُلُوبِكُمْ
يعني: حُسِّن التخلف فى قلوبكم وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ يعني: حسبتم الظن القبيح وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يعني: هلكى. وروي عن ابن عباس أنه قال: البور في لغة أزد عمان:
الشيء الفاسد. والبور في كلام العرب: لا شيء. يعني: أعمالهم بور أي: مبطلة.
قوله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: من لم يصدق بالله في السر، كما صدقه في العلانية فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً يعني: هيأنا لهم عذاب السعير.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض. ويقال:
ونفاذ الأمر في السموات والأرض. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وهو فضل منه المغفرة، وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء على الذنب الصغير، وهو عدل منه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً بهم.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
ثم قال عز وجل: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني: الذين تخلفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني: إلى غنائم خيبر ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يعني: اتركونا نتّبعكم في ذلك الغزو يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ يعني: يغيروا كلام الله. يعني: ما قاله الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم: لا
315
تأذن لهم في غزاة أخرى. قرأ حمزة والكسائي: وهو جمع كلمة. والباقون كَلامَ اللَّهِ والكلام اسم لكل ما يتكلم به. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا في المسير إلى خيبر إلاَّ متطوعين، من غير أن يكون لكم شرك في الغنيمة. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني: من قبل الحديبية.
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا يعني: يقولون للمؤمنين: إن الله لم ينهكم عن ذلك، بل تحسدوننا على ما نصيب معكم من الغنائم.
قال الله تعالى: بَلْ كانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: لا يعقلون، ولا يرغبون في ترك النفاق، لا قليلاً، ولا كثيراً. ويقال: بل كانوا لا يفقهون النهي من الله تعالى إلا قليلاً منهم.
قوله عز وجل: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ يعني: الذين تخلفوا عن الحديبية، مخافة القتال سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني: قتال شديد. قال بعضهم: يعني: قتال أهل اليمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقال مجاهد: إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني: أهل الأوثان. وقال أيضاً: هم أهل فارس، وكذا قال عطاء، وقال سعيد بن جبير: هوازن، وثقيف. وقال الحسن: فارس، والروم.
تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ قرأ بعضهم أَوْ يُسْلِمُوا بألف من غير نون، وقراءة العامة بالنون. فمن قرأ: أو يسلموا يعني: حتى يسلموا، أو إلى أن يسلموا. ومن قرأ: بالنون.
فمعناه: تقاتلونهم أو هم يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يعني: تجيبوا، وتوقعوا القتال، وتخلصوا لله تعالى. يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني: ثواباً حسناً في الآخرة. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: تعرضوا عن الإجابة كما أعرضتم يوم الحديبية. يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني:
شديداً دائماً، فلما نزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة والضعفاء: فكيف بنا إذا دعينا إلى قتالتهم، ولا نستطيع الخروج، فيعذبنا الله؟ فنزل قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: نزل العذر في الذين تخلفوا عن الحديبية. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ يعني: ليس عليهم إثم في التخلف وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يعني:
إثم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغزو ويقال: وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ في الغزو، في السر، والعلانية يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقد ذكرناه. وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني: يعرض عن ذلك. يعني: عن طاعة الله، ورسوله، بالتخلف يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً يعني: شديداً دائماً.
قرأ نافع: وابن عامر نُدْخِلْهُ وَنُعَذِّبْهُ كلاهما بالنون. والباقون: كلاهما بالياء. وكلاهما يرجع إلى معنى واحد.
قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يعني: شجرة السمرة. ويقال: أم غيلان. قال قتادة: بايعوهُ يومئذٍ وهم ألف وأربعمائة رجل. وكان عثمان
316
يومئذٍ بمكة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ الله وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَحَاجَةِ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ وضع إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه بَيْعَةُ عُثْمَان».
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ أي: مَا فِى قُلُوبِهِمْ من الصدق والوفاء. وهذا قول ابن عباس.
وقال مقاتل: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الكراهية للبيعة على أن يقتلوا، ولا يفروا. فَأَنْزَلَ الله السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعني: أنزل الله تعالى الطمأنينة، والرضى عليهم. وَأَثابَهُمْ يعني:
أعطاهم. فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني: يغنمونها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً حكم عليهم بالقتل، والسبي. ويقال: حكم الغنيمة للمؤمنين، والهزيمة للكافرين.
ثم قال: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها يعني: تغنمونها، وهو ما أصابوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس: هي هذه الفتوح التي تفتح لكم فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني: فتح خيبر، قرأ بعضهم وَأَتاهُمُ أي: أعطاهم وقراءة العامة وَأَثابَهُمْ يعني: كافأهم.
قوله تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يعني: أيدي أهل مكة. ويقال: أسد وغطفان أرادوا أن يعينوا أهل خيبر، فدفعهم الله عن المؤمنين، فصالحوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم على ألا يكونوا له، ولا عليه.
ثم قال: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وهو فتح خيبر، لأن المسلمين كانوا ثمانية آلاف، وأهل خيبر كانوا سبعين ألفاً.
ثم قال: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني: يرشدكم ديناً قيماً، وهو دين الإسلام.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
317
ثم قال: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني: وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها.
يعني: لم تملكوها بعد، وهو فتح مكة. ويقال: هو فتح قرى فارس، والروم. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها يعني: علم الله أنكم ستفتحونها، وستغنمونها، فجمعها، وأحرزها لكم. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً من الفتح وغيره وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: كفار مكة يوم الحديبية.
ويقال: أسد وغطفان يوم خيبر. لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يعني: قريبا ينفعهم، ولا مانعاً يمنعهم من الهزيمة.
قوله عز وجل: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ يعني: هكذا سنة الله بالغلبة، والنصرة لأوليائه، والقهر لأعدائه. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يعني: تغييراً، وتحويلاً.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني: أيدي أهل مكة، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يعني:
أيديكم عن أهل مكة من بعد أن أَظْفَركم عليهم. وذلك أن جماعة من أهل مكة، خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين، فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة. وروى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: طلع قوم وهم ثمانون رجلاً على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه، فأخذهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ يعني: بوسط مكة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يعني: سلطكم عليهم وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً بحرب بعضكم بعضاً.
قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: جحدوا بوحدانية الله تعالى وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَن تطوفوا به وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً يعني: محبوساً. يقال: عكفته عن كذا إذا حبسته. ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه. يعني: صيروا الهدي محبوساً عن دخول مكة، وهي سبعون بدنة. ويقال: مائة بدنة. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ يعني: منحره، ومنحرة منى للحاج، وعند الصفا للمعتمر.
ثم قال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنهم مؤمنون.
يعني: لم تعرفوا المؤمنين من المشركين أَنْ تَطَؤُهُمْ يعني: تحت أقدامكم. ويقال:
فتضربوهم بالسيف فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ يعني: تلزمكم الدية بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: بغير علم
318
منكم لهم، ولا ذنب لكم. وذلك أن بعض المؤمنين كانوا مختلطين بالمشركين، غير متميزين، ولا معروفي الأماكن.
ثم قال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ لو دخلتموها أن تقتلوهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لو فعلتم فيصيبكم من قتلهم معرة. يعني:
يعيركم المشركون بذلك، ويقولون: قتلوا أهل دينهم كما قتلونا، فتلزمكم الديات.
ثم قال: لَوْ تَزَيَّلُوا أي: تميزوا من المشركين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: لو تميزوا بالسيف. وقال القتبي: صار قوله: لَعَذَّبْنَا جواباً لكلامين أحدهما، لولا رجال مؤمنون، والآخر لَوْ تَزَيَّلُوا يعني: لو تفرقوا، واعتزلوا. يعني: المؤمنين من الكافرين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني: شديداً وهو القتل.
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أهل مكة فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وذلك أنهم قالوا: قتل آباءنا، وإخواننا. ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا. والله لا يدخل علينا، فهذه الحمية التي في قلوبهم. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ يعني: طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فأذهب عنهم الحمية، حتى اطمأنوا، وسكتوا. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى يعني: ألهمهم كلمة لا إله إلا الله حتى قالوا: وَكانُوا أَحَقَّ بِها يعني: كانوا في علم الله تعالى أحق بهذه الكلمة من كفار مكة وَأَهْلَها يعني: وكانوا أهل هذه الكلمة عند الله تعالى وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعني: عليماً بمن كان أهلاً لذلك وغيره.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
319
قوله عز وجل: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ يعني: حقق الله تعالى رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالوفاء، والصدق، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل الخروج إلى الحديبية، أنهم يدخلون المسجد الحرام. فأخبر الناس بذلك، فاستبشروا. فلما صدهم المشركون، قالت المنافقون في ذلك ما قالت. فنزل لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ يعني: يصدق رؤياه بالحق لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني: ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام في العام الثاني. ويقال: نزلت الآية بعد من دخلوا في العام الثاني لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني: ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ يعني: لتدخلن إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ يعني: بإذن الله، وأمره.
ويقال: هذا اللفظ حكاية الرؤيا. وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم حين رأى في المنام، رأى كأن ملكاً ينادي وهو يقول: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله، فأنزل الله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ وهو قول الملك لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من العدو مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ يعني: منهم من يحلق، ومنهم من يقصر لاَ تَخافُونَ العدو فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا قال مقاتل: فعلم أن يفتح عليهم خيبر قبل ذلك، فوعد لهم الفتح، ثم دخول مكة، ففتحوا خيبر، ثم رجعوا، ثم دخلوا مكة، وأتوا عمرة القضاء. وقال الكلبي في قوله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يعني: علم الله أنه سيكون في السنة الثانية، ولم تعلموا أنتم، فلذلك وقع في أنْفسكم ما وقع فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر.
ثم قال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى يعني: بالتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وَدِينِ الْحَقِّ وهو الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني: على الأديان كلها قبل أن تقوم الساعة. فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بأن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن لم يشهد كفار مكة، وذلك حين أراد أن يكتب محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو: إنا لا نعرف بأنك رسول الله ولا نشهد.
قال الله عزّ وجلّ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد سهيل، وأهل مكة. قال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ بالغلظة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يعني: متوادّين فيما بينهم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يعني: يكثرون الصلاة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً يعني: يلتمسون من الحلال. وقال بعضهم: وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني: أبا بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ يعني: عمر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يعني: عثمان تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يعني:
عليّاً رضوان الله عليهم أجمعين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً يعني: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يعني: علاماتهم، وهي الصفرة في وجوههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يعني: من السهر بالليل. ويقال: يعرفون غُرّاً محجلين يوم القيامة، من أثر الوضوء. وقال مجاهد: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال: الخشوع، والوقار. وقال منصور:
320
قلت لمجاهد: أهذا الذي يكون بين عيني الرجل؟ قال: إن ذلك قد يكون للرجل، وهو أقسى قلباً من فرعون.
ثم قال: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ يعني: هذا الذي ذكره من نعتهم، وصفتهم في التوراة.
ثم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ يعني: مثل محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: مثلهم في التوراة، والإنجيل واحد. قال: مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر: شَطْأَهُ بنصب الشين، والطاء. والباقون: بنصب الشين، وجزم الطاء.
ومعناهما واحد. وهو فراخ الزرع. وقال مجاهد: شَطْأَهُ يعني: قوائمه. قرأ ابن عامر:
فَازَرَهُ بغير مد. والباقون بالمد ومعناهما واحد. يعني: قواه. ومنه قوله عز وجل: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه: ٣١] يعني: أقوي به ظهري. ويقال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ يعني: سنبله فَآزَرَهُ يعني: أعانه وقواه. فَاسْتَغْلَظَ يعني: غلظ الزرع، واستوى. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ وهو جماعة الساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ يعني: الزارع إذا نظر في زرعه بعد ما استغلظ، واستوى، يعجبه ذلك. فكذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم، تبعه أبو بكر، ثم تبعه عمر، ثم تبعه واحد بعد واحد من أصحابه، حتى كثروا ففرح النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك لكثرتهم.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ يعني: أهل مكة يكرهون ذلك لما رأوا من كثرة المسلمين، وقوتهم. وروى خيثمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئهم القرآن في المسجد، فأتى على هذه الآية: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فقال: أنتم الزرع، وقد دنا حصادكم.
ويقال: كَزَرْعٍ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم. أَخْرَجَ شَطْأَهُ يعني: أبا بكر فَآزَرَهُ يعني: أعانه عمر على كفار مكة فَاسْتَغْلَظَ يعني: تقوى بنفقة عثمان فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يعني: قام على أمره علي بن أبي طالب يعينه، وينصره على أعدائه. يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ يعني: طلحة، والزبير. وكان الكفار يكرهون إيمان طلحة والزبير لشدة قوتهما، وكثرة أموالهما.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ يعني: لهم. ويقال: فيما بينهم، وبين ربهم. ويقال: مِنْ هاهنا لإبانة الجنس. يعني: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ أي: من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم مَغْفِرَةً لذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً يعني: ثواباً وافراً في الجنة.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سُوَرَةَ الفَتْحِ فَكَأنَّمَا شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم».
والله سبحانه أعلم.
321
Icon