تفسير سورة الفتح

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ خَرَجَ إلَى مَكَّةَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ، وَتَجَهَّزَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أصْحَابهِ وَمَعَهُمُ الْهَدْي يَسُوقُونَهَا مَعَ أنْفُسِهِمْ، فَبَلَغَ ذلِكَ قُرَيْشاً فَاسْتَعَدُّواْ لِيَصُدُّوهُ وَأصْحَابَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بالْحُدَيْبيَةِ، فَزِعَ الْمُشْرِكُونَ بنُزُولِهِ ﷺ، فَبَعَثُوا إلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيّ لِيَأْتِيَهُمْ بالْخَبَرِ، فَلَمَّا أتَاهُمْ عُرْوَةُ أبْصَرَ قَوْماً عُمَّاراً لَمْ يَأْتُواْ لِلْقِتَالِ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَأخْبَرَهُمْ بذلِكَ وَهُوَ كَارهٌ لِصَدِّهِمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْكَعْبَةِ، فَشَتَمُوهُ وَاتَّهَمُوهُ.
ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ، فَقَالَ النَّبيُّ :" ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وُجُوهِهِمَا وَلَبُّوا " فَلَمَّا رَجَعَ الرَّجُلاَنِ إلَيْهِمْ قَالاَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ عُرْوَةُ. فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، قَالَ ﷺ حِينَ أبْصَرَهُ :" هَذا رَجُلٌ فَاجِرٌ، وَمَا أرَى إلاَّ قَدْ سَهُلَ أمْرُكُمْ ". فَلَمَّا أتَاهُمْ سُهَيْلُ تَذاكَرُواْ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَادَعَةَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهار، أمَرَ النَّبيُّ ﷺ بالْبَيْعَةِ، فَنَادَى مُنَادِيهِ فِي الْعَزْمِ :" الآنَ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عليه السلام نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَمَرَهُ بالْبَيْعَةِ " فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَدْ جَلَسَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وكَادَتْ تِلْكَ الْبَيْعَةُ فِي صُدُور الْمُشْرِكِينَ.
فَلَمَّا أمْسَوا وَهُمْ عَلَى ذلِكَ، رَمَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللَّيلِ فِي أصْحَاب رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ بالْحِجَارَةِ فَرَمَواْ أعْدَاءَ اللهِ حَتَّى أدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ وَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللهِ. وَأقْبَلَ أشْرَافُهُمْ إلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ هَذا لَمْ يَكُنْ عَنْ رضًى مِنَّا وَلاَ مُمَالأَةً، وَإنَّمَا فَعَلَهُ سُفَهَاؤُنَا، وَعَرَضُوا الصُّلْحَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَبلَهُ، وَلَمْ يُعْطِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الصُّلْحَ حَتَّى قَهَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ بالرَّمْيِ بالْحِجَارَةِ.
فَاصْطَلَحَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أنْ يَتَوَادَعُوا سِنِينَ، عَلَى أنْ يَرْجِعَ النَّبيُّ ﷺ وَأصْحَابُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَمَنْ لَحِقَ بالنَّبيِّ ﷺ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَقْبَلْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَمَنْ لَحِقَ بالْمُشْرِكِينَ مِنْ أصْحَاب النَّبيِّ ﷺ فَهُوَ مِنْهُمْ. عَلَى أنَّ الْمُسْلِمِينَ إذا شَاؤُا اعْتَمَرُوا الْعَامَ الْقَابلَ فِي هَذا الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيْهِ، عَلَى أنْ لاَ يَحْمِلُواْ بأَرْضِهِمْ سِلاَحاً.
فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى ذلِكَ، وَكَتَبُواْ كِتَابَ الْقَضِيَّةَ بَيْنَ النَّبيِّ ﷺ وَبَيْنَهُمْ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذلِكَ الشَّرْطِ وَجْداً شديداً، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَنْ لَحِقَ بنَا مِنْهُمْ لَمْ نَقْبَلْهُ، وَمَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أمَّا مَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَأَبْعَدَهُمُ اللهُ، وَأمَّا مَنْ أرَادَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، وَإنْ يَعْلَمِ اللهُ مِنْهُ الصِّدْقَ يُنَجِّيهِ مِنْهُمْ ".
فَلَمَّا فَرَغُواْ مِنْ كِتَاب الْقَضِيَّةِ، أقْبَلَ جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ وَهُوَ يَرْشِفُ فِي قُيُودِهِ، وَكَانَ أبُوهُ قَدْ أوْثَقَهُ حِينَ خَشِيَ أنْ يَذْهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ ظَهْرَانِ المُسْلِمِينَ ؛ وَقَالَ : إنِّي مِنْكُمْ وَإنِّي أعُوذُ باللهِ أنْ تُرْجِعُونِي إلَى الْكُفَّار.
فَأَرَادَ رجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنْ يَمْنَعُوهُ، وَنَاشَدَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَهْدَ وَالْمِثَاقَ! فَقَالَ ﷺ :" خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ؛ فَسَيُنَجِّيهِ اللهُ مِنْهُمْ ". فَانْطَلَقَ بهِ أبُوهُ، وَكَانَ مَاءُ الْحُدَيْبيَةِ قَدْ قَلَّ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأُتِيَ بدَلْوٍ مِنَ الْمَاءِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَتَمَضْمَضَ ثُمَّ مَجَّهُ فِي الدَّلْوِ، ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْبئْرِ، فَامْتَلأَتِ الْبئْرُ مَاءً حَتَّى جَعَلُواْ يَغْرِفُونَ مِنْهُ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفَةِ الْبئْرِ، وََكَانَ هَذا شَأْنُ الْحُدَيْبيَةِ.
ولَبثَ رسولُ اللهِ ﷺ شَهراً وَصَيْفاً فوعَدَهم اللهُ خَيراً أنْ يفتحَها لَهم، فلَمَّا رجعَ النبيُّ ﷺ إلى المدينةِ نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾، والفتحُ الْمُبينُ : ما كان من استعلاءِ المسلمين عليهم حتى غلَبُوهم بالحجارةِ وأدخَلُوهم بيوتَهم، وتيسير الصلحِ أيضاً من الفتحِ المبين وظهور النبيِّ ﷺ على خَيبرَ من الفتحِ.
قال :(وَأنْجَى اللهُ أبَا جَنْدَلَ بْنَ سُهَيْلٍ مِنْ أيْدِيهِمْ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً كَرِهُواْ أنْ يَقْعُدُواْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلِمُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لاَ يَقْبَلُهُمْ حَتَّى تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، فَجَعَلُواْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إلَى النَّبيِّ ﷺ يُنَاشِدُونَهُ أنْ يَقْبضَهُمْ إلَيْهِ، وَقالُواْ : أنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنِ اخْتَارَكَ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ ؛ فَإنَّهُمْ إنْ يَكُونُوا مَعَكَ كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا، فَلَحِقُوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ ؛ قال ابنُ الأنباريِّ :(سَأَلْتُ أبَا عَبَّاسٍ عَنِ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ ﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ﴾، فَقَالَ : هُوَ لاَمُ كَيْ، مَعْنَاهَا : إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبيْناً لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْفَتْحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إلَى الْمَغْفِرَةِ حادثٌ واقعٌ حَسُنَ مَعْنَى (كي).
وقولهُ تعالى :﴿ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ المرادُ بالذنب ههُنا الصغائرُ، فأما الكبائرُ فالأنبياء معصُومون منها أبداً ؛ لأنَّهم الأُمَناء على الوحيِ والرسالةِ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال :" كَانَ النَّبيُّ ﷺ يَقُومُ حَتَّى تَدْمَى قَدَمَاهُ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أتَصْنَعُ هَذا وَقَدْ جَاءَكَ مِنَ اللهِ أنْ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ : أفَلاَ أكُونُ عَبْداً شَكُوراً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ ؛ أي بالنبوَّة والمغفرةِ، والمعنى ليجتمعَ لكَ مع الفتحِ تَمامُ النِّعمة بالمغفرةِ والهداية إلى صراطٍ مستقيم وهو الإسلامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾ ؛ أي ينصُرَك بالحجَّةِ والسيفِ على عدُوِّك نصراً قوياً لا ذُلَّ معه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قِيْلَ : السَّكينةُ هي ما أسكنَ اللهُ قلوبَهم من التعَظُّيم للهِ ولرسولهِ والوَقَار لئَلاَّ تُزعَجَ نفوسُهم لِمَا يَرِدُ عليهم. وقوله تعالى :﴿ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ ؛ أي ليَزدَادُوا تَصديقاً إلى تصدِيقهم السابقِ. قال الكلبيُّ :(لَمَّا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَصَدَّقُوا بَها ازْدَادُواْ تَصْدِيقاً إلَى تَصْدِيقِهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي جُمُوعُ أهلِ السَّموات والإرضِ، يعني الملائكةَ والإنس والشياطين، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً ﴾ ؛ بمصالِحِ خَلقهِ، ﴿ حَكِيماً ﴾ ؛ فيما يأمُرهم به وينهاهُم عنه.
قال ابنُ عبَّاس :(فَلَمَّا نَزَلَ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾[الفتح : ١-٢] قَالَ الصَّحَابَةُ : هَنِيئاً لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا أعْطَاكَ اللهُ، فَمَا لَنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ ؛ أي نجاةً عظيمةً من النار وظَفَراً بالجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّا فتَحنا لكَ ليُدخِلَ اللهُ المؤمنين والمؤمناتِ جنَّاتٍ تجري من تحتِها الأنْهارُ ولِيُعَذِّبَ المنافقين من الرِّجال والمنافقاتِ من النساءِ، وهُم أظهَرُوا الإيمانَ باللِّسان وأسَرُّوا الكفرَ من أهلِ المدينة، ﴿ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ﴾ ؛ مِن أهلِ مكَّة، ﴿ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ ؛ ومعنى ظنُّهم السوءَ : أنَّهم ظَنُّوا أن مُحَمَّداً صلى الله عليه لا يُنصَرُ عليهم وأنَّهم هم الذين ينصرُهم اللهُ على رسولهِ، وذلك قبيحٌ لا يجوز في صفةِ الله تعالى : وقوله :﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ ﴾ ؛ أي العذابُ والهلاكُ، ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ أي وطردَهم عن رحمتهِ، ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ ليس على وجهِ التِّكرار ؛ لأنَّ الأولَ في أعانةِ المؤمنين، وهذا متَّصلٌ بذكرِ المنافقين في الانتقامِ منهم، ومعنى ذلك : أنَّ في الأولِ ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ فاللهُ قادرٌ على أن يُسَخِّرهم لينتقمَ بهم من أعدائهِ مِن كلِّ ما دبَّ ودرجَ من ذلك حتى البرغوث والعقربَ ؛ لأنَّ اللهَ لم يأمُرِ المسلمين بالقتالِ لأجلِ هلاك المشركين، وإنما أمَرَهم بالقتالِ ليُعوِّضَهم بذلكَ جزيلَ الثواب الذي لا يُنَالُ إلاَّ بالقتالِ، وههنا متَّصل ذكرُ الانتقامِ من المنافقين.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ ؛ أي لم يَزَلْ مَنِيعاً مستغنياً من الكفَّار، حَكِيماً في أمرهِ وقضائه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ ؛ معناهُ : إنا أرسلناكَ يا مُحَمَّدُ شَاهداً على أُمَّتِكَ بتبليغِ الرسالة، وَقِيْلَ : شاهدٌ على أقوالِهم وأفعالهم فإنَّها تُعرَضُ عليه، ﴿ وَمُبَشِّراً ﴾ بالجنةِ للمطيعين، ﴿ وَنَذِيراً ﴾ أي مُخَوِّفاً بالنار لِمَن عصَى اللهَ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ ؛ أي قُرِئ بالتاءِ في الأربعةِ على معنى قولِهم : لتُؤمِنَ باللهِ ورسوله، وقُرئ بالياءِ في الأربعة أيضاً ؛ يعني : مَن آمنَ به وصدَّقَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتُعَزِّرُوهُ ﴾ راجعٌ إلى النبيِّ ﷺ ؛ أي يُعِينُوهُ ويَنصرُونَهُ بالسَّيْفِ واللسان، وقرأ محمَّد بن السُّمَيقِعِ :(وَتُعَزِّزُوهُ) بزائين، وقولهُ ﴿ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ أي وتُعَظِّموهُ وتُبجِّلوهُ، وهذا وقفٌ تامٌّ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾ ؛ أي وتسَبحون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، ﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ ؛ أي يُصَلُّونَ له بالغَداةِ والعشِيِّ، وفي قراءةِ ابن عبَّاس :(وَتُسَبحُوا اللهَ بُكْرَةً وَأصِيلاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ﴾، يعني بيعةَ الرِّضوان بالحديبيةِ، ﴿ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ بايَعُوا النبيَّ ﷺ على أنْ لا يفِرُّوا ويقاتِلُوا، بايعَهم النبيُّ ﷺ تحتَ شجرةٍ استظلَّ بها بالحديبيةِ، وكان الذين بايعوهُ نحوَ ألفِ رجُلٍ وخمسمائة رجل، بايعوهُ على النُّصرَةِ والنُّصحِ والسمعِ والطاعة، وأن لا يفِرُّوا من العدوِّ.
ومعنى الآيةِ : إنَّ الذين يُبايعونكَ يا مُحَمَّدُ بالحديبيةِ على أن لا يفِرُّوا، إنما يُبايعُون في ذاتِ الله، ليس أنتَ المرادُ بذلك، بل المرادُ به القيامُ بعبادةِ الله. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك أنَّهم بَاعُوا اللهَ أنفُسَهم بالجنَّة.
وقولهُ تعالى :﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾، أي نِعمَةُ اللهِ في الهدايةِ فوقَ أيديهم في الطاعة، يعني إحسانَ اللهِ إليهم بأن هدَاهُم للإيمانِ أبلغُ وأتَمُّ من إحسانِهم إليكَ بالنُّصرة والبيعةِ، وقال ابنُ كَيسان :(مَعْنَاهُ : قُوَّةُ اللهِ وَنُصْرَتُهُ فَوْقَ أيْدِيهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ ؛ أي اتَّقِ باللهِ وَنُصْرَتِهِ لَكَ لاَ بنُصْرَتِهِمْ، وَإنْ بَايَعُوكَ)، وقال : مَعْنَاهُ : يَدُ اللهِ فِي الثَّوَاب وَالْوَفَاءِ لَهُمْ فَوْقَ أيْدِيهِمْ في الوفاء، فَإنَّهُمْ لَوْ وَفَّوا بمَا ضَمِنُوا فَاللهُ أوْفَى بمَا ضَمِنَ، وَأقْدَرُ عَلَى ذلِكَ). واليدُ ههنا هي القُدْرَةُ.
قولهُ :﴿ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ ؛ أي مَن نقضَ عقدَ البيعةِ فضررُ نقضهِ عائدٌ عليه، وليس له الجنَّةُ ولا كرامةٌ، ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ ﴾ ؛ مِن البيعة فتَمَّ على ذلك واستقامَ، ﴿ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ فسيعطيهِ اللهُ في الآخرةِ ثَواباً عظيماً في الجنة.
ورُوي أنَّ هؤلاء المبايعين لم ينقُضْ أحدٌ منهم البيعةَ ؛ لأنَّهم كانوا مُخلِصين، ولذلك قالَ اللهُ﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾[الفتح : ١٨] رضاهُ عنهم دليلٌ على أنَّهم كانوا مُؤمنين على الحقيقةِ، أولياءَ الله أهلَ النُّصرة، والذي لَمْ يدخُلْ معهم في البيعةِ يومئذٍ إلا رجلٌ من المنافقِين يقال له جَدُّ بن قيسٍ، اختبأ يومئذ تحتَ إبطِ بَعيرهِ ولم يدخُلْ في بيعتِهم، أماتَهُ اللهُ على نفاقهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾ أخبرَ اللهُ النبيُّ ﷺ أنه إذا رجعَ من الحديبيةِ إلى المدينةِ، أتاهُ الأعرابُ الذين يخلِفُون عنه بغيرِ عُذرٍ، ولم يَخرُجوا معه وهم مُزَينَةُ وجُهَيْنَةُ وغطَفَانُ وقومٌ من الدَّيلِ، فيقولون له : شَغَلَتْنَا أموالُنا وأهلُونا عن الخروجِ معك يا محمد، أي شغلَتنا النساءُ والذراري فلم يكن لنا مَن يخلِفُنا فيهم، ﴿ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ ؛ من التخلُّفِ عنكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ أي يسأَلُون المغفرةَ بأَلسِنَتِهم ﴿ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني : لأنَّهم لا يُبَالُونَ أسْتَغْفَرْتَ لَهم أمْ لم تستغفِرْ لَهم.
وقد كَانَ النَّبيُّ ﷺ حِينَ أرَادَ الْمَسِيرَ إلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ، اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الأَعْرَاب وَأهْلِ الْبَوَادِي لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذراً مِنْ قُرَيْشٍ أنْ يُحَاربُوهُ وَيَصْرِفُوهُ عَنِ الْبَيْتِ، وَأحْرَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ أنَّهُ لاَ يُرِيدُ حَرْباً، فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَعْرَاب وَقَالُواْ : نَذْهَبُ مَعَهُ إلَى قَوْمٍ قَدْ جَاءُوا يَقْتُلُونَ أصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ، فَتَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَاعْتَلُّوا بالشُّغْلِ، فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ الآيةُ.
قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ﴾ ؛ معناهُ : مَن يمنعُكم من عذاب الله إنْ أقَمتُم على الكفرِ والنفاق، ﴿ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ ؛ معناهُ : بل كان اللهُ عالِماً بتخلُّفِكم عن القتالِ من غير عُذرٍ.
قرأ حمزةُ والكسائي وخلفٌ (ضُرّاً) بضم الضاد وهو سُوءِ الحالِ، وقرأ الباقون (ضَرّاً) بفتح الضادِ لأنه قابَله بالنفعِ، وأرادَ بالنفعِ الغنيمةَ. وذلك أنَّهم ظَنُّوا أن تَخلُّفَهم عن النبيِّ ﷺ يدفعُ عنهم الضُّرَّ، ويعجِّلُ لهم النفعَ بالسلامةِ في أنفسهم وأموالِهم، فأخبرَهم اللهُ تعالى أنه إنْ أرادَ بهم شيئاً لم يقدِرْ أحدٌ على دفعهِ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ﴾ أظهرَ اللهُ نفاقَهم، وبيَّن أنَّ تخلُّفَهم عنه لم يكن بسبب أموالهم وأهلِيهم، ولكن كانوا يقُولون فيما بينهم : يَسْتَأْصِلُ مُحَمَّداً وأصحابَهُ عدُوُّهم في هذِه الكرَّة فلا يرجِعون إلى المدينةِ أبداً فنَستريحُ منهم.
وقولهُ تعالى :﴿ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ ؛ أي زَيَّنَ الشيطانُ لكم ذلك الظنَّ في قُلوبكم، ﴿ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ ؛ أي ظنَنتُم نبيَّ اللهِ وأصحابَهُ أنَّهم لن يرجِعُوا من سفَرِهم هذا وأنَّهم سيهلَكُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾ ؛ أي هَلْكَى فاسدِي القلُوب لا تَصلُحون لخيرٍ، والبَوَارُ الهلاكُ، وما بعدَ هذا، ﴿ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾، ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ﴾ ؛ يعني هؤلاءِ المخَلَّفين سيقولون لرَسُول اللهِ ﷺ وأصحابهِ :﴿ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ ﴾، خيرٍ، ﴿ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ ؛ نخرُجْ معَكم، فأمرَ اللهُ النبيَّ ﷺ أنْ يَمنَعَهم من ذلك بعدَ تخلُّفهم من غزوةِ الحديبية.
فلما رجعَ النبيُّ ﷺ من الحديبيةِ وانطلقَ إلى خيبرَ، قال هؤلاءِ المخلَّفون ﴿ ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي أنَّ اللهَ تعالى خصَّ أهلَ الحديبيةِ بمغانمِ خَيبرَ، وأمرَ النبيَّ ﷺ أن لا يَأْذنَ للمنافقين أن يُخرِجُوهم معهم إلاَّ متطوِّعين ليس لهم من المغانمِ شيءٌ. فأرادَ المنافقون أن يُشاركوا فيها ليُبطِلُوا حكمَ اللهِ تعالى :﴿ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ يعني : أمَرَ اللهُ نَبيَّهُ ﷺ أنْ لا يُسَيِّرَ معه منهم أحداً.
ومعنى قوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي قالَ اللهُ في ذلك بالحديبيةِ قبلَ خيبرَ، وقبلَ خروجنا إليكم : أنَّ غينمةَ خيبر لِمَن شَهِدَ الحديبيةَ، ﴿ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾ ؛ أي سيقُولون للنبيِّ ﷺ لم يأمُرْكم اللهُ بذلك، ولكن تحسُدُونَنا أن نُشاركَكم في الغنيمةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي لا يعلَمُون عن اللهِ ما لهم وعليهم مِن الدين إلاَّ قليلاً منهم، وهو مَن صدَّقَ الرسول ولم يُنافِقْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ ﴾ ؛ أي قُل لهؤلاء المخلَّفين عن الحديبيةِ :﴿ سَتُدْعَوْنَ ﴾ ؛ بعدَ موتِ النبي ﷺ ﴿ إِلَى ﴾ ؛ قتالِ ؛ ﴿ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ ؛ أي أهلِ اليمَامَةِ، قال الزهريُّ :(هُمْ أهْلُ الْيَمَامَةِ بَنُو حَنِيفَةَ أتْبَاعُ مُسَيْلَمَةَ، فَأَتَاهُ أبُو بَكْر ٍ رضي الله عنه)، قال رافعُ بن خَديج :(كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ وَلاَ نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَا أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أنَّهُمْ هُمْ).
وقال ابنُ جُريج :(سَيَدْعُوكُمْ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى قِتَالِ فَارسَ وَالرُّومَ) ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ ؛ معناهُ : تُقاتِلُوهم أن يكون منهم الإسلام، ﴿ فَإِن تُطِيعُواْ ﴾ ؛ أبَا بكرٍ وعمر، ﴿ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً ﴾ ؛ عَظيماً في الجنَّة، ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ ؛ عن طاعةِ مُحَمَّدٍ ﷺ في المسيرِ إلى الحديبية، ﴿ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ؛ شَديداً.
قرأ أُبَيُّ (أوْ يُسْلِمُوا) بحذفِ النُّون ؛ أي حتى يُسلِمُوا، وكقولِ امرئِ القيسِ :(أوْ نَمُوتَ)، وقرأ الكافَّة بإثباتِ النُّون في محل الرفعِ عطفاً على ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ ؛ أي ليس على هؤلاءِ إثْمٌ في قُعودِهم عن القتالِ لعَجزِهم عنه، ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ؛ عائدٌ إلى مَن يلزمهُ الجهادُ، ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ ؛ عن الجهادِ مع قُدرتهِ عليه، ﴿ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ ؛ يعني بيعةَ الرُّضوانِ بالحديبيةِ، وإنما سُميت بيعةُ الرضوانِ بهذه الآية، وكان سببُ هذه البيعةِ :" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا سَارَ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحُدَيْبيَةَ وَقَفَتْ نَاقَتُهُ، فَزَجَرَهَا فَلَمْ تَنْزَجِرْ وَبَرَكَتْ، فَقَالَ ﷺ :" مَا هَذا بعَادَةٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابسُ الفِيْلِ ".
وَدَعَا عُمَرَ رضي الله عنه لِيُرْسِلَهُ إلَى أهْلِ مَكَّةَ، فَيَأْذنُوا لَهُ بأَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَيُحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا لِي بهَا حَمِيمٌ وَلَيْسَ بمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ يَمْنَعُنِي، وَإنِّي أخَافُ قُرَيْشَ عَلَى نَفْسِي لأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ عَدَاوَتِي إيَّاهَا، وَلَكِنْ أدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أعَزُّ بهَا مِنِّي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ، قالَ :" صَدَقْتَ ". فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عُثْمَانَ بْنُ عَفَّانٍ فَأَرْسَلَهُ.
فَجَاءَ الشَّيْطَانُ وَصَاحَ فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ : بأَنَّ أهْلَ مَكَّة قَتَلُواْ عُثْمَانَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى الشَّجَرَةِ فَاسْتَنَدَ إلَيْهَا، وَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى قِتَالِ أهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَعْقِلٍ : كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذلِكَ الْيَوْمَ، وَبيَدِي غُصْنٌ مِنَ الشَّجَرَةِ أذبُّ بهِ عَنْهُ وَهُوَ يُبَايعُ النَّاسَ، كَانَ أوَّلُ مَنْ بَايَعَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَدٍ يُقَالُ لَهُ أبُو سِنَانِ بْنِ وَهَبٍ ".
واختلَفُوا في عددِ أهلِ البيعة، فقال قتادةُ :(كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً)، وقال ابنُ عبَّاس :(كَانُوا ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ)، وقال جابرُ :(كَانُوا ألفاً وَأرْبَعَمِائَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ أي فعَلِمَ اللهُ ما في قلوبهم من الصِّدق والوفاءِ والإخلاصِ والعزمِ على القتال، ﴿ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ يعني الطُّمَأنِينَةَ والصبرَ والرضا حين بايَعُوا على أن يُقاتِلوا ولا يفِرُّوا، ﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ ؛ أي وأعطَاهم فتحَ خيبرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ﴾ ؛ معناهُ : ومغانِمَ كثيرةً يأخذُونَها من أموالِ يهود خيبرَ، وكانت خيبرُ ذات عقارٍ وأموالٍ، ﴿ وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً ﴾ ؛ أي غَالباً، ﴿ حَكِيماً ﴾ ؛ في أمرهِ، حكَمَ لهم بالغنيمةِ، ولأهلِ خيبرَ بالسَّبي والهزيمةِ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه :" وأنَا رَدِيفَ أبي طَلْحَةَ يَوْمَ أتَيْنَا إلَى خَيْبَرَ، فَصَبَّحَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَدْ أخَذُواْ مَسَاحِيهِمْ وَفُؤُسَهُمْ وَغَدَوا عَلَى حُرُوثِهِمْ، فَلَمَّا رَأوْنَا ألْقَواْ ما بأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" اللهُ أكْبَرُ، خَرِبَتْ خيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةٍ قَوْمٍ فَسٍَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذرينَ " ".
وعن عبدِاللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبيِهِ قَالَ :" خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلَى خَيْبَرَ، سَرَيْنَا لَيْلاً وَعَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ مَعَنَا وَكَانَ شَاعِراً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : ألاَ تُسْمِعُنَا يَا عَامِرُ، فَنَزَلَ يَحْدُوا بالْقَوْمِ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ :" اللَّهُمَّ لَوْلاَ أنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَاهُمُ الَّذِينَ بَغَواْ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَافَاغْفِرْ بفَضْلِكَ مَا أتَيْنَا وَثَبتِ الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَاوَألْقِيَنَّ السَّكِينَةَ عَلَيْنَا " قَالَ ﷺ :" مَنْ هَذا ؟ " قَالُوا : عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، قَالَ :" قَدْ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ يَا عَامِرُ " فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أمْتَعْتَنَا بهِ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وإنما قالَ ذلكَ ؛ لأنَّ رسولَ الله ﷺ ما استغفرَ لرجُلٍ قطُّ إلاَّ استُشهِدَ.
قالَ :(فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ وَتَصَافَّ الْقَوْمُ، خَرَجَ يَهُودِيٌّ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ وَهُوَ يَقُولُ :" قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي عَامِرُ شَاكِي السِّلاَحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ " وَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ الْيَهُودِيِّ فِي تِرْسِ عَامِرٍ، وََوَقَعَ سَيْفُ عَامِرٍ عَلَى رُكْبَةِ نَفْسِهِ وَسَاقِهِ فَمَاتَ مِنْهَا. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ : فَمَرَرْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ : بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، فَأَتَيْتُ النَّبيَّ ﷺ وَأنَا أبْكِي فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَقَالَ :" كَذبَ مَنْ قَالَ ذلِكَ، بَلْ لَهُ أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ ".
ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلِيّاً رضي الله عنه وَكَانَ حِيْنَئِذٍ أرْمَدَ قَدْ عَصَبَ عَيْنَهُ بشِِقِّ بُرْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ : فَجِئْتُ بهِ أقُودُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَا لَكَ يَا عَلِيُّ ؟ " قَالَ : رَمَدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" أُدْنُ مِنِّي " فَدَنَا مِنْهُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرِئَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَمَا وُجِعَتْ عَيْنَاهُ بَعْدَ ذلِكَ أبَداً حَتَّى مَضَى سَبيلُهُ. ثُمَّ أعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرَّايَةَ فَهَدَى بهَا وَعَلَيْهِ حُلَّةُ أُرْجُوَانٍ حَمْرَاءُ، فَأَتَى مَدِينَةَ خَيْبَرَ، فَخَرَجَ مَرْحَبُ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ وَحَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأسِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ :"
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ ؛ أي وعدَكم اللهُ في المستقبلِ من زمانٍ غنائمَ كثيرةً تأخُذونَها، قال مقاتلُ :(مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبيِّ ﷺ وَمَنْ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِهِ ﴾ ؛ يعني غنيمةَ خيبر، ﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ﴾ ؛ أي مَنَعَ أسَداً وغطفانَ من قتالِكم، وكانوا حُلفاء لأهلِ خيبرَ، وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمَّا قَصَدَ خَيْبَرَ وَحَاصَرَ أهْلََهَا، هَمَّتْ قَبَائِلُ مِنْ أسَدٍ وَغَطَفَانَ أنْ يُغِيرُواْ عَلَى عِيَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذرَاريهِمْ بالْمَدِينَةِ، فَكَفَّ اللهُ أيْدِيَهُمْ بإلْقَاءِ الرُّعْب فِي قُلُوبهِمْ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي ولتكون غنيمةُ خيبرَ دلالةً على المؤمنين على صدقِكَ يا مُحَمَّدُ، حيث إنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أنَّهم يُصيبونَها في المستقبلِ، ثم وجدَ المخبر على وفق الخبر، وقولهُ تعالى :﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ ؛ أي ويُثِيبَكم على دينِ الإسلامِ، ويُرشِدَكم إلى الأدلَّة في الدينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ﴾ ؛ أي وعدَكم فتحَ بلدةٍ أُخرى لم يقدِرُوا عليها الآن، ﴿ قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ﴾ ؛ يفتَحُها عليكم، قال الفرَّاءُ :(حَفِظَهَا لَكُمْ وَمَنَعَهَا مِنْ غَيْرِكُمْ حَتَّى يَفْتَحَهَا لَكُمْ).
واختلَفُوا فيها، فقالَ ابنُ عبَّاس وابن أبي ليلى والحسن ومقاتل :(هِيَ فَارسُ وَالرُّومُ) وَكَانَتِ الْعَرَبُ لاَ تَقْدِرُ عَلَى قِتَالِ فَارسَ وَالرُّومَ، وَفَتْحِ مَدَائِنِهَا حَتَّى قَدِرُواْ عَلَيْهَا بالإسْلاَمِ. وقال قتادةُ :(هِيَ مَكَّةُ)، وقال عكرمةُ :(هِيَ خَيْبَرُ). وقولهُ تعالى ﴿ قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ﴾ أي أحاطَتْ قدرتهُ بها وبأهلِها، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾ ؛ كلِّ شيءٍ من فتحِ القُرَى والنصرِ وغير ذلك قديرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ قَـاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ ﴾ ؛ يعني أسَداً وغطفانَ الذين أرَادُوا نَهب ذراري المسلمين فانْهَزَمُوا عنكم لأنَّ الله ينصرُكم عليهم، ﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ اللهِ خَذلَهُ اللهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي سُنة اللهِ التي قد خلَتْ من قبلُ في نَصرِ أوليائهِ وقهرِ أعدائه ؛ أي هذه سُنَّتي في أهلِ طاعةٍ وأهلِ معصية أنصُر أوليائي وأخذلُ أعدائي، ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ ﴾ ؛ لحكمِ الله، ﴿ تَبْدِيلاً ﴾ ؛ تغييراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى منعَ أيدِي أهلِ مكَّة يومَ الحديبيةِ عن قتالِ المسلمين بالرُّعب، ومنعَ أيدينا عن قتالِهم بالنَّهي.
وَقِيْلَ : إنَّ المؤمنين لم يُنهَوا عن قتالِهم يومئذٍ، ولكن لم يقدِّرْ الله ذلك للمؤمنين إبقاءً للمؤمنين المستضعَفين الذين كانوا في أيدِي المشركين كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾.
وقولهُ تعالى :﴿ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾، قال أنسُ رضي الله عنه :(وَذلِكَ أنَّ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ أهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنْ جَبلِ التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبيِّ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ، فَأَخَذهُمْ رَسُولُ اللهِ وَأعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾.
وقال ابنُ عبَّاس :(بَعَثَتْ قُرَيْشُ أرْبَعِينَ رَجُلاً أوْ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ، وَأمَرُوهُمْ أنْ يَطُوفُواْ بعَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أصْحَابهِ أحَداً، فَأُخِذُواْ فَأُتِيَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ بالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ أي همُ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ والقرآنِ، يعني كفَّارَ مكة، وصَدُّوكم عن المسجدِ الحرام أن تطُوفوا به للعُمرة ويحلوا من عمرتِكم.
وقولهُ تعالى ﴿ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً ﴾ أي وصَدُّوا الهديَ مَمْنُوعاً أن يبلغَ مَحِلَّهُ الذي إذا صارَ إليه حلَّ نحرهُ وهو الحرمُ، وكان النبيُّ ﷺ ساقَ في ذلك العام سَبعين بَدْنَةً إلى مكَّة. ﴿ مَعْكُوفاً ﴾ في اللغة هو الممنوعُ عن الذهاب في جهته بالإقامةِ في مكانه، يقالُ : عَكَفَ على الأمر عكوفاً، واعْتَكَفَ في المسجدِ إذا أقامَ به.
ومعنى الآيةِ : هم الذين كفَرُوا وصدُّوكم عن المسجدِ الحرام، وصدُّوا الهديَ وهي البُدْنُ التي ساقَها رسولُ الله ﷺ وكانت سَبعين بَدْنَةً معكوفاً أي مَحْبُوساً أن يبلُغَ مَحِلَّهُ أي مسجدَهُ، وهذه الآيةُ دلالةٌ على أن محِلَّ الهدي الحرمُ، ولو كان محلهُ غيرُ الحرمِ لَمَا كان مَعْكُوفاً عن بلوغِ محلَّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : ولو تطَأُوا رجالاً مُؤمِنين ونساءً مُؤمِنات مُقِيمَات بمكَّة لم تعلَمُوهم فتقتلوهم، ﴿ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ قِبَلَهم، ﴿ مَّعَرَّةٌ ﴾ ؛ أي عَيْبٌ ومسَبَّة في العرب بأنَّكم قتَلتُم أهلَ دينِكم، ويقالُ : أراد بالْمَعَرَّةِ الغَمَّ والجزعَ. وجوابُ (لَوْلاَ) محذوفٌ تقديرهُ : لولا ذلك لدَخلتُم على أهلِ مكَّة ولوطأتموهم لَيْلاً ولضَربتُم رقابَ المشركين بنَصرِنا إيَّاكم، ولكنَّ اللهَ منعَ من ذلك كراهةَ وطئِ المؤمنين المستضعَفين الذين كانوا بمكَّة، والمؤمناتِ بالقتلِ لأنَّهم لو دخَلُوا مكَّة لم يتميَّز لهم المؤمنون من الكفَّار، فلم يأْمَنوا أن يَقتُلوا المؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ قال مقاتلُ :(إنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْحُدَيْبيَةَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ، قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ : قَتَلَ مُحَمَّدٌ أبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنَا، ثُمَّ أتَانَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا فِي مَنَازلِنَا، فَتُحَدِّثُ الْعَرَبُ أنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ آنَافِنَا، واللاَّتِ وَالعُزَّى لاَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا. فَهَذِهِ الْحَمِيَّةُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ حتى لم يدخُلوا، ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ ؛ وهو كلمةُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، الكلمةُ التي يُتَّقَي بها من الشِّرك.
والحميَّةُ في اللغة : هي الأَنَفَةُ التي تَحمِي الإنسانِ كأنَّ قُلوبَهم حَمِيَّةٌ لِمَعصِيَةِ اللهِ، فأنزلَ اللهُ بدلُّ ذلك على قلب نَبيِّهِ عليه السلام وعلى قلوب المؤمنين من الطُّمأنينةِ والسُّكون والوقَار والهيبةِ، وألزَمَهم توحيدَ اللهِ والإيمان برسولهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ﴾ ؛ أي كانُوا أحَقَّ بكلمةِ التوحيد من كفَّار مكَّة وكانوا أهلَها في علمِ الله تعالى مستحقِّين لها في الدُّنيا، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ ؛ من أمرِهم، ﴿ عَلِيماً ﴾.
وعن وعثمانِ بن عفان رضي الله عنه قال :" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقّاً مِنْ قَلْبهِ إلاَّ حَرَمَهُ عَلَى النَّار "، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :(أنَا أُحَدِّثُكَ بهَا، هِيَ كَلِمَةُ الإخْلاَصِ الِّتِي ألْزَمَهَا اللهُ مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى).
وقال عطاءُ الخراساني :(هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ). وعن عليٍّ رضي الله عنه أنْ سُئِلَ عَنْ كَلِمَة ِالتَّقْوَى فَقَالَ :(هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ)، وهو قولُ ابنِ عمر. وقال عطاءُ بن رَباح :(هِيَ لاَ إلََهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وَقِيْلَ : إنَّ الْحَمِيَّةَ التي جعلَها الكفارُ في قلوبهم، هي مَا رُوي :" أنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُواْ رَسُولَ اللهِ ﷺ أنْ يَكْتُبَ لَهُمْ بكِتَاب الصُّلْحِ، قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" أكْتُبْ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : أمَّا الرَّحْمَنُ فَلاَ نَدْري مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ : باسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللهِ لاَ يَكْتُبُهَا إلاَّ بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فَقَالَ ﷺ لِعَلِيٍّ :" أُكْتُبْ : باسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ اكْتُبْ : هَذا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ ". فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو : وَاللهِ لَوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، لَكِنِ اكْتُبْ باسْمِكَ وَاسْمِ أبيكَ، فَقَالَ ﷺ :" إنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَلَقَدْ كَذبْتُمُونِي ".
وَقَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" أمْحُ رَسُولَ اللهِ ﷺ " فََقَالَ عَلِيٌّ : لاَ أمْحُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَمَحَاهُ النَّبيُّ ﷺ، ثُمَّ قَالَ :" أكْتُبْ : هَذا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ سُهَيْلَ ابْنَ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْب بَيْنَ النَّاسِ بكَفِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أنَّهُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مِنْ أصْحَاب مُحَمَّدٍ حَاجّاً أوْ مُعْتَمِراً أوْ يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللهِ فَهُوَ آمِنٌ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ. وَمَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ قُرَيْشٍ مُجْتَازاً إلَى مِصْرَ أو الشَّامِ فَهُوَ آمِنٌ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ ﴾ ؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأى فِي الْمَنَامِ وَهُوَ بالْمَدِينَةِ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَى الْحُدَيْبيَةِ كَأَنَّهُ هُوَ وَأصْحَابُهُ حَلَقُواْ وَقَصَّرُواْ، فَأَخْبَرَ بذلِكَ أصْحَابَهُ فَفَرِحُوا وَحَسِبوا أنَّهُمْ دَاخِلُوا مَكَّةَ عَامَهُمْ ذلِكَ، وَقَالُواْ : إنَّ رُؤْيَةَ النَّبيِّ ﷺ حَقٌّ.
فَلَمَّا رَجَعَ وَأصْحَابُهُ مِنَ الْحُدَيْبيَةِ وَلَمْ يَدْخُلُواْ مَكَّةَ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ : وَاللهِ مَا حَلَقْنَا وَلاَ قَصَّرْنَا وَلاَ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فأنزلَ اللهُ الآيةَ وأخبرَ أنه أرَى رسولَ الله الصِّدقَ في منامهِ، وأنَّهم يدخلونَهُ فقالَ اللهُ :﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ﴾ ؛ يعني العامَ المقبل، ﴿ إِن شَآءَ اللَّهُ ﴾ ؛ قال أبو عُبيدة :(إنَّ مَعْنَى : إنْ شَاءَ اللهُ) حَيْثُ أُريَ رَسُولَ اللهِ فِي الْمَنَامِ. وقال أبو العبَّاس أحمدُ بن يحيى :(اسْتَثْنَى اللهُ فِيْمَا يَعْلَمُ، ليَسْتَثْنِي الْخَلْقُ فِيْمَا لاَ يَعْلَمُونَ).
وَقِيْلَ : معناهُ : بمشيئةِ اللهِ، وقال بعضُهم : هذا اللفظُ حكايةُ الرُّؤيا التي رَآها النبيُّ ﷺ، وذلك أنَّهُ رأى في المنامِ أنَّ ملَكاً يُنادي :﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾. وَقِيْلَ : إنما كان ذلك تَأدِيباً للعبادِ ليَدخُلوا كلمةَ الاستثناءِ فيما يُخبرونَ عنه في المستقبلِ من نفيٍ وإثبات، قوله :﴿ آمِنِينَ ﴾ ؛ أي آمِنين من العدوِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾ ؛ قَريباً أنَّهم يدخُلون مكَّة إلى أنْ يبلُغوا آخرَ النُّسُكِ، ﴿ لاَ تَخَافُونَ ﴾ ؛ العدوَّ، بخلافِ عامِ الحديبية. فيه دليلٌ أن الحلقَ والتقصيرَ قُرْبَةٌ في الإحرامِ من حيث إن الإحلالَ يقعُ بهما، وفيه دليلٌ أن المحرِمَ بالخيار عند التحليلِ من الإحرام إنْ شاءَ حَلَقَ وإنْ شاء قصَّرَ. وفي الحديثِ :" أنَّ النَّبيَّ ﷺ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاَثاً، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ تَخَافُونَ ﴾ أي لا تخافُون من المشركين، ﴿ فَعَلِمَ ﴾ ؛ اللهُ ما في تأخيرِ الدُّخول عامَ الحديبيةِ من الخير والصَّلاحِ، ﴿ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ﴾ ؛ أنتم، ﴿ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ ﴾ ؛ أي من قبلِ الدُّخول، ﴿ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ ؛ يعني فتحَ خيبر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ ؛ أي أرسلَ رسولَهُ بالطريقِ المؤدِّي إلى الجنَّة ودينِ الإسلامِ ليُظهِرَ دينَ الإسلامِ على الأديانِ كُلِّها بالحجَّة والغلَبَة، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ ؛ على نبُوَّتكَ ورسالتكَ إنْ لم يشهَدْ سُهَيلُ وأمثالهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ﴾ ؛ هذا مبتدأ وخبرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ ﴾ ؛ أي والَّذين معَهُ من المؤمنينِ أشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار، غِلاَظٌ عليهم، والأشِدَّاءُ جمعُ الشَّديدِ، وهو قويُّ في دينِ الله تعالى، القويُّ على أعداءِ الله، كانوا لا يَمِيلُونَ إلى الكفَّار لقَرابَةٍ ولا غيرِها، بل أظهَرُوا لهم العداوةَ في الدينِ، وكانوا على الكفَّار كالأَسَدِ على فرسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي مُتَوادِدُون فيما بينَهم، مُتعَاطِفُون حتى أنَّهم كانوا بعضَهم لبعضٍ كالوالدِ لولدهِ، والعبدِ لسيِّدهِ، وقولهُ تعالى :﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ﴾ ؛ أي رَاكعين وساجِدين يُكثرون الصلاةَ للهِ، ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾ ؛ يعني الجنَّةَ، ورضَى اللهِ تعالى.
قولهُ :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ ؛ أي علامةُ التهَجُّد ظاهرةٌ على وجوهِهم من كَثرَةِ السُّجود بالليلِ، والمعنى يتبيَّن في وُجوهِهم أثرُ السَّهَرِ، قال الضحَّاك :(إذا سَهِرَ أصْبَحَ مُصْفَرّاً) وقال عطيَّةُ :(مَوَاضِعُ السُّجُودِ أشَدُّ بَيَاضاً فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقال مجاهدُ :(يَعْنِي الأَثَرُ : الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ). وقال عكرمةُ :(هُوَ التُّرَابُ عَلَى الْجِبَاهِ لأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَاب لاَ عَلَى الثِّبَاب).
وقال الحسنُ في وصفِهم :(إذا رَأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى، وَمَا بالْقَوْمِ مَرَضٌ، وَيَقُولُ : لَعَلَّهُمْ خُولِطُواْ فِي عُقُولِهِمْ، وَاللهِ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ). يريدُ بذلك ما في قلوبهم من خوفِ الآخرةِ.
وقال بعضُهم :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ هو نورٌ يجعلهُ الله في وجوهِهم يومَ القيامةِ، يُعرَفون بتلك العلامةِ أنَّهم سجَدُوا في الدُّنيا كما قالَ اللهُ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾[آل عمران : ١٠٦]، وقال النبيُّ ﷺ :" تُحْشَرُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَار الْوُضُوءِ ".
وقال منصورُ :(سَأَلْتُ مُجَاهِدَ عَنْ قَوْلِهِ :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ قَالَ : لَيْسَ هُوَ الأَثَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي جَبْهَةِ الرَّجُلِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْبَعِيرِ، فَقَدْ يَكُونُ ذلِكَ برَجُلٍ هُوَ أقْسَى قَلْباً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نُورٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْخُشُوعِ). وقال ابن جُريج :(هُوَ الْوَقَارُ)، وقال سَمُرة :(هُوَ الْبَهَاءُ)، وقال سفيانُ :(يُصَلُّونَ باللَّيْلِ، فَإذا أصْبَحُوا عُرِفَ ذلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ ؛ بيانهُ قولهُ عليه السلام :" مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ باللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهَار " ورُوي في بعضِ الأخبار :" أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِِيَامَةِ : يَا نَارُ أنْضِجِي، يَا نَارُ أحْرِقِي وَمَوْضِعَ السُّجُودِ لاَ تقرَبي ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ﴾ ؛ أي ذلك الَّذي ذكرَهُ في القرآنِ مَن وصفَهم هو ما وُصِفوا به في التَّوراةِ، ﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ ﴾ ؛ أيضاً، ثم ذكَرَ اللهُ وَصْفَهم في الإنجيلِ :﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾ ؛ أي سبيلَهُ، وقال ابنُ زيدٍ :(أوْلاَدَهُ). والشَّطْأُ : فِرَاخُ الزَّرعِ، يقالُ : الشَّطْأُ الزَّرْعُ أنْ يُخْرِجَ سَبْعاً أو ثَمَانياً أو عَشْراً، وهذا مثَلٌ ضربَهُ اللهُ لأصحاب النبيِّ ﷺ، يعني أنَّهم يكُونون قَليلاً ثم يَزدَادون ويَكثَرون ويَقْوَوْنَ، قال قتادةُ :(مَكْتُوبٌ فِي الإنْجِيلِ : أنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
Icon