تفسير سورة الفتح

تفسير التستري
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تفسير التستري المعروف بـتفسير التستري .
لمؤلفه سهل التستري . المتوفي سنة 283 هـ

السورة التي يذكر فيها الفتح
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)
قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [١] قال: يعني أسرار العلوم في قلبك حتى ظهر عليك آثارها، وهي من أعلام المحبة وتمام النعمة. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [٢] قال: أي ما تقدم من ذنب أبيك آدم صلوات الله عليه وأنت في صلبه، وما تأخر من ذنوب أمتك، إذ كنت قائدهم ودليلهم.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [٤] يعني الطمأنينة. فأول ما كاشف الله به عباده المعارف، ثم الوسائل، ثم السكينة، ثم البصائر. فمن كاشفه الحق بالبصائر عرف الأشياء بما فيها من الجواهر، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه ما أخطأ في نطق.
قوله: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [٤] قال: جنوده مختلفة، فجنوده في السماء الأنبياء، وفي الأرض الأولياء وجنوده في السماء القلوب، وفي الأرض النفوس ما سلط الله عليك فهو من جنوده وإن سلط الله عليك نفسك أهلك نفسك بنفسك، وإن سلط عليك جوارحك أهلك جوارحك بجوارحك، وإن سلط نفسك على قلبك قادتك إلى متابعة الهوى، وإن سلط قلبك على نفسك وجوارحك زمها بالأدب، وألزمها العبادة، وزينها بالإخلاص في العبودية، فهذا كله جنود الله.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٨ الى ١١]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)
قوله: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [٨] قال: شاهداً عليهم بالتوحيد، ومبشراً لهم بالمعونة والتأييد، ومحذراً عن البدع والضلالات.
قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [٩] قال: أي تعظموه غاية التعظيم في قلوبكم، وتطيعوه بأبدانكم ولهذا سمى التعزير تعزيراً لأنه أكبر التأديب.
قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [١٠] قال: أي حول الله وقوته فوق قوتهم وحركتهم، وهو قولهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم عند البيعة: «بايعناك على أن لا نفر ونقاتل لك». وفيها وجه آخر:
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [١٠] أي منة الله عليهم في الهداية لبيعتهم وثوابه لهم فوق بيعتهم وطاعتهم لك.
قوله: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [١١] اعتذروا به، فحكاه الله لك لتعلم أن الإقبال على الله عزَّ وجلَّ بترك الدنيا وما فيها، فإنها تشغل عن الله ألا ترى المنافقين كيف اعتذروا بقولهم:
شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [١١].
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ [٢٥] قال:
المؤمن على الحقيقة من لا يغفل عن نفسه، وقلبه يفتش أحواله ويراقب أوقاته، فيرى زيادته من نقصانه، فيشكر عند رؤية الزيادة، ويتفرغ ويدعو عند النقصان، هؤلاء الذين بهم يدفع الله البلاء عن أهل الأرض، ولا يكون المؤمن متهاوناً بأدنى التقصير، فإن التهاون بالقليل يستوجب الكثير.
قال: فإن العبد لا يجد طعم الإيمان حتى يدع ست خصال: يدع الحرام والسحت والشبهة والجهل والمسكر والرياء، ويتمسك بالعلم وتصحيح العمل والنصح بالقلب والصدق باللسان والصلاح مع الخلق في معاشرتهم والإخلاص لربه في معاملته. قال: وكتاب الله مبني على خمس: الصدق والاستخارة والاستشارة والصبر والشكر.
قوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [٢٦] قال: هي كلمة لا إله إلا الله فإنها رأس التقوى. ثم قال: خير الناس المسلمون، وخير المسلمين المؤمنين، وخير المؤمنين العلماء العاملون، وخير العاملين الخائفون، وخير الخائفين المخلصون المتقون الذين وصلوا إخلاصهم وتقواهم بالموت، فإن مثله كمثل راكب السفينة بالبحر، لا يدري أينجو منه أن يغرق فيه، والذين تم لهم ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [٢٦].
قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [٢٧] قيل: ما هذا الاستثناء؟
قال: هذا تعليم للعباد وتأديب لهم بشدة الافتقار إليه في كل وقت وحال وتأكيد، فإن الحق إذا استثني مع كمال علمه لم يكن لأحد من عباده مع قصور علمهم أن يحكم في شيء من غير استثناء.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
قوله تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [٢٩] قال: المؤمن بالله وجه بلا قفا، مقبل عليه غير معرض عنه، ذلك سيما المؤمن. وقال عامر ابن عبد قيس: كاد المؤمن يخبر عن مكنون علمه، وكذلك وجه الكافر، وذلك قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [٢٩] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: سر المؤمن يكون رداء عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
Icon