تفسير سورة الفتح

تفسير ابن أبي زمنين
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين .
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة الفتح وهي مدنية كلها.

قَوْله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿مُسْتَقِيمًا﴾.
يَحْيَى: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن مَرْجِعِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصْحَابِهِ مُخَالِطُو الْحُزْنَ وَالْكَآبَةِ، قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنَاسِكِهِمْ وَنَحَرُوا الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. فَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا! فَلَمَّا تَلاهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَنِيئًا مَرِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَنَا مَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿فوزا عَظِيما﴾.
248
قَالَ محمدٌ: قَوْله: ﴿فَتَحْنَا لَكَ فتحا مُبينًا﴾ قبل: الْمَعْنى: قضينا لَك بِإِظْهَار دين الْإِسْلَام والنصرة على عَدوك، وحكمنا لَك بذلك، وَيُقَال للْقَاضِي: الفتاح، وَالْحُدَيْبِيَة اسمُ بِئْر يُسَمَّى بِهِ الْمَكَان.
249
قَوْله: ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ يذل بِهِ أعداءك
﴿هُوَ الَّذِي أنزل﴾ يَعْنِي: أثبت ﴿السكينَة﴾ الْوَقار، فِي تَفْسِير الْحسن ﴿فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم﴾ أَي: تَصْدِيقًا مَعَ تصديقهم، يَعْنِي: يصدقونه بِكُل مَا أُنْزِلَ من الْقُرْآن.
﴿وَللَّه جنود السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ ينْتَقم لبَعْضهِم من بعض.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيما﴾ وَهِي النجَاة من النَّار إِلَى الْجنَّة.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ٦ إِلَى آيَة ٩.
قَوْله: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ كَانُوا يَقُولُونَ: يهلكُ محمدٌ وَأَصْحَابه وَدينه ﴿عَلَيْهِم دَائِرَة السوء﴾ يَعْنِي: الْهَلَاك فِي الْآخِرَة ﴿وَسَاءَتْ مصيرا﴾ أَي: وبئست الْمصير.
﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا﴾ فِي نقمته ﴿حكيما﴾ فِي أمره.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا﴾ على أمتك ﴿وَمُبشرا﴾ بِالْجنَّةِ ﴿وَنَذِيرا﴾ من النَّار
﴿لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله﴾ يَقُوله للنَّاس ﴿وتعزروه﴾ أَي: وتنصروه ﴿وتوقروه﴾ أَي: وتعظموه؛ يَعْنِي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ ﴿وتسبحوه﴾ تسبِّحوا اللَّه: تصلوا لَهُ ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ بكرَة: صَلَاة الصُّبْح، وَأَصِيلا: صَلَاة الظّهْر وَالْعصر.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ١٠ إِلَى آيَة ١٣.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ من بَايع رَسُول الله فَإِنَّمَا يُبَايع اللَّه، وَهَذَا يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَهِي بيعَة الرضْوَان؛ بَايعُوهُ على أَلا يَفروا ﴿يَدُ اللَّهِ فَوق أَيْديهم﴾ تَفْسِير السُّدي يَقُول: فعل اللَّه بهم الْخَيْر أفضل من فعلهم فِي أَمر الْبيعَة.
يَحْيَى: عَنِ ابْن لَهِيعَة (
(ل ٣٣٠)) يَوْم بيعَة رَسُول الله تَحْتَ الشَّجَرَةِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمَّا رَاثَ عَلَيْهِ - أَيْ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ - ظن رَسُول الله أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ غُدِرَ بِهِ فَقُتِلَ؛ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي لَا أَظُنُّ عُثْمَانَ إِلا قَدْ غُدِرَ بِهِ؛ فَإِنْ فَعَلُوا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَبَايِعُونِي عَلَى الصَّبْرِ وَأَلا تَفِرُّوا ".
قَوْله: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه﴾ أَي: فَمن نكث؛ يَعْنِي: يرجع مُحَمَّد فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما﴾ يَعْنِي: الْجنَّة.
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين المتخلِّفين عَن الْجِهَاد؛ فِي تَفْسِير الْحسن ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ خِفْنَا عَلَيْهِم الضَّيْعَةَ، فَذَلِك الَّذِي منعنَا أَن نَكُون مَعَك فِي الْجِهَاد.
﴿فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم﴾ أَي: يَعْتَذِرُونَ بِالْبَاطِلِ ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِن أَرَادَ بكم ضرا﴾ أَن يهلككم بنفاقكم فيدخلكم النَّار ﴿أَو أَرَادَ بكم نفعا﴾ أَن يَرْحَمكُمْ بِإِيمَان يَمُنُّ بِهِ عَلَيْكُم، وَقد أخبر نبيَّه بعد هَذِه الْآيَة أَنه لَا يَتُوب عَلَيْهِم فِي قَوْله: ﴿لن يغْفر الله لَهُم﴾.
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ كَانَ المُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: لن يرجع مُحَمَّد إِلَى الْمَدِينَة أبدا ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بورا﴾ يَعْنِي: فاسدين.
قَالَ محمدٌ: البور فِي بعض اللُّغَات: الفاسدُ، يُقَال: أَصبَحت أَعْمَالهم بورًا؛ أَي: مُبْطَلة، وأصبحت ديارُهم بورًا؛ أَي: معطلة خرابا.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ١٤ إِلَى آيَة ١٥.
﴿وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ من يَشَاء﴾ وَلَا يَشَاء أَن يغْفر إِلَّا لمن تَابَ من الشّرك وَبرئ من النِّفَاق، ويعذِّب من أَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى
252
يَمُوت ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (لمن) آمن.
253
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِم لتأخذوها﴾ وهم المُنَافِقُونَ: ﴿ذرونا﴾ يَقُولُونَهُ للْمُؤْمِنين ﴿نتبعكم﴾ وَهَذَا حِين أَرَادوا أَن يخرجُوا إِلَى خَيْبَر أَحبُّوا الْخُرُوج ليصيبوا من الْغَنِيمَة، وَقد كَانَ اللَّه وعدها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يتركْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا من الْمُنَافِقين يخرج مَعَه إِلَى خَيْبَر أمره اللَّه بذلك، وَإِنَّمَا كَانَت لمن شهد بيعَة الرضْوَان يَوْم الْحُدَيْبِيَة ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قل لن تتبعونا﴾ أَي: لن تخْرجُوا مَعنا ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ الله من قبل﴾ أَلا تخْرجُوا ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ إِنَّمَا تمنعوننا من الْخُرُوج مَعكُمْ للحسد، قَالَ اللَّه: ﴿بَلْ كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا﴾ عَن اللَّه، ثمَّ اسْتثْنى الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: ﴿إِلَّا قَلِيلا﴾ فهم الَّذين يفقهُونَ عَن اللَّه.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ١٦ إِلَى آيَة ١٧.
﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ والبأس: الْقِتَال.
﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أَي: تقاتلونهم على الْإِسْلَام.
قَالَ الْحسن وَمُجاهد: هم أهل فَارس ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ من قبل﴾ قَالَ الْكَلْبِيّ: يَوْم الْحُدَيْبِيَة.
عَذَر اللَّه عِنْد ذَلِك أهلَ الزّمانة فَقَالَ: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حرج﴾ إثمٌ ﴿وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ أَن يتخلَّفوا عَن الْغَزْوَة ﴿وَلا على الْمَرِيض حرج﴾ فَصَارَت رخصَة لَهُم فِي الْغَزْو، وَوضع عَنْهُم.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ١٨ إِلَى آيَة ٢٣.
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة﴾ قَالَ جَابر بْن عبد اللَّه: " كَانَت سَمُرةً بَايَعْنَاهُ تحتهَا وَكُنَّا أَربع عشرَة مائَة - يُرِيد ألفا وَأَرْبَعمِائَة - وَعمر آخذٌ بِيَدِهِ فَبَايَعْنَاهُ كلنا غير جد بْن قيس اخْتَبَأَ تَحت إبط بعيره. قَالَ جَابر: وَلم نُبَايِع عِنْد شَجَرَة إِلَّا الشَّجَرَة الَّتِي بِالْحُدَيْبِية ".
قَالَ: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبهم﴾ أَنهم صَادِقُونَ ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ تَفْسِير الْحسن: السكينَة: الْوَقار ﴿وَأَثَابَهُمْ فتحا قَرِيبا﴾ خَيْبَر
(وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً
254
يَأْخُذُونَهَا} يَأْخُذهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
255
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ﴾ وهم أَسد وغَطَفَان كَانُوا خَيْبَر، وَكَانَ (ل ٣٣١) اللَّه قد وعد نبيه خَيْبَر؛ فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يوجهوا راياتهم إِذا هموا إِلَى غطفان وَأسد ذَلِك، فَألْقى اللَّه فِي قُلُوبهم الرعب، فَهَرَبُوا من تَحت ليلتهم فَهُوَ قَوْله: ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُم﴾ إِلَى آخر الْآيَة؛ هَذَا تَفْسِير الْكَلْبِيّ.
قَوْله: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ ﴿بعد﴾ (قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} يَقُول: أعلم أَنكُمْ ستظفرون بهَا وتفتحونها؛ يَعْنِي: كل غنيمَة يغنمها الْمُسلمُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فِي تِلْكَ الْحَال ﴿لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يمنعهُم من ذَلِك الْقَتْل الَّذِي يقتلهُمْ الْمُؤْمِنُونَ ﴿وَلاَ نَصِيرًا﴾ ينتصر لَهُم
﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ﴾ أَي: بقتل من أظهر الشّرك؛ إِذْ أَمر النَّبِي بِالْقِتَالِ.
قَالَ محمدٌ: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ مَنْصُوب بِمَعْنى: سنّ اللَّه سنة.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ٢٤ إِلَى آيَة ٢٦.
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم﴾ قَالَ الكَلْبي: كَانَ هَذَا يَوْم الْحُدَيْبِيَة؛ فَإِن الْمُشْركين من أهل مَكَّة كَانُوا قَاتلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ شيءٌ من رمْي نَبْلٍ وحجارة بَين الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ هزم اللَّه الْمُشْركين وهم بِبَطن مَكَّة، فهُزِمُوا حَتَّى دخلُوا مَكَّة، ثمَّ كفّ الله بَعضهم عَن بعض.
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ صدّ الْمُشْركُونَ رَسُول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْت، فَنحر وَنحر أَصْحَابه الْهَدْي بِالْحُدَيْبِية، وَهُوَ قَوْله: ﴿وَالْهَدْي معكوفا﴾ أَي: مَحْبُوسًا ﴿أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: عَكَفْتُه عَن كَذَا إِذا حبَسْته، وَمِنْه: العاكف فِي الْمَسْجِد، إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَحْبِس نَفسه فِيهِ: والمحِلُّ: المَنْحَرُ. وَنصب (وَالْهَدْي) على معنى: صدوكم وصدوا الهَدْيَ معكوفًا.
﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مؤمنات﴾ بِمَكَّة يدينون بالتقية ﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ﴾ فتقتلوهم ﴿فتصيبكم مِنْهُم معرة﴾ إِثْم ﴿بِغَيْر علم﴾ أَي: فتقتلوهم بِغَيْر علم ﴿لِيُدْخِلَ الله فِي رَحمته﴾ يَعْنِي: الْإِسْلَام ﴿من يَشَاء﴾
256
فيسلموا، وَقد فعل اللَّه ذَلِك.
قَالَ الله: ﴿لَو تزيلوا﴾ أَي: زَالَ الْمُسلمُونَ من الْمُشْركين، وَالْمُشْرِكُونَ من الْمُسلمين، فَصَارَ الْمُشْركُونَ مَحْضًا ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عذَابا أَلِيمًا﴾ أَي: لسلطناكم عَلَيْهِم فَقَتَلْتُمُوهُمْ.
257
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبهم الحمية﴾ هم الْمُشْركُونَ؛ صدوا نبيَّ اللَّه يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وحُبِسَ الْهَدْي أَن يبلغ مَحَله، وَإِنَّمَا حملهمْ على ذَلِك حمية الجاهية والتَّمَاسُك بهَا ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كلمة التَّقْوَى﴾ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ﴿وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا﴾ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَيْهَا وَقع الثَّوَاب فِي الْآخِرَة.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة ٢٧ إِلَى آيَة ٢٨.
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ﴾ كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم - فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ - رأى فِي الْمَنَام فِي خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة كَأَنَّهُ بمكَة، وَأَصْحَابه قد حَلقُوا وَقصرُوا؛ فَأخْبر رَسُول الله بذلك الْمُؤمنِينَ، فاستبشروا وَقَالُوا: وَحْيٌ. فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله من الْحُدَيْبِيَة ارتاب نَاس؛ فَقَالُوا: رأى فَلم يكن الَّذِي رأى، فَقَالَ اللَّه - عز وَجل -: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنين﴾.
257
قَالَ محمدٌ: ذكر بعض الْعلمَاء أَن الْعَرَب تستثني فِي الْأَمر الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَمِنْه قَول اللَّه - عز وَجل -: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ فعزم لَهُم بِالدُّخُولِ، وَاسْتثنى فِيهِ.
قَالَ يحيى: وَكَانَ رَسُول الله صَالح الْمُشْركين على أَن يرجع عَامه ذَلِك، وَيرجع من قَابل، وَيُقِيم بِمَكَّة ثَلَاثَة أَيَّام، فَنحر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه الْهَدْي بالحُدَيبية، وحلقوا وَقصرُوا ثمَّ أدخلهُ اللَّه الْعَام الْمقبل مَكَّة وَأَصْحَابه آمِنين فحلقوا وَقصرُوا.
﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبا﴾ فتح خَيْبَر.
258
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدين الْحق﴾ (ل ٣٣٢) الْإِسْلَام ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ تَفْسِير الْحسن: حَتَّى يحكم على الْأَدْيَان. وَتَفْسِير ابْن عَبَّاس: حَتَّى يظْهر النَّبِي على الدّين كُله؛ أَي: على شرائع الدّين كلهَا، فَلم يقبض رَسُول الله حَتَّى أتم الله ذَلِك.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح الْآيَة ٢٩.
﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ يَعْنِي: متوادين ﴿تراهم ركعا سجدا﴾ يَعْنِي: الصَّلَوَات الْخمس ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا من الله ورضوانا﴾ بِالصَّلَاةِ والصَّوْم وَالدّين كُله ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ قَالَ بَعضهم: سِيمَاهُمْ فِي الآخرين يقومُونَ غرًّا مُحجَّلين من أَثَرِ الْوضُوء ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾
258
أَي: نَعْتُهم ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ﴾ أَي: ونعتهم فِي الْإِنْجِيل ﴿كَزَرْعٍ أخرج شطأه﴾ النَّعْت الأول فِي التَّوْرَاة، والنعت الآخر فِي الْإِنْجِيل و (شطأه): فِرَاخه ﴿فآزره﴾ فشده ﴿فاستغلظ﴾ أَي: فَاشْتَدَّ ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ أَي: أُصُوله
قَالَ محمدٌ: يُقَال: قد أشطأ الزَّرْع فَهُوَ مُشْطِئ إِذا أفرخ.
وَمعنى (آزره): أَعَانَهُ وَقواهُ، و (السُّوق) جمع: سَاق.
﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بهم الْكفَّار﴾ أَي: يخرجُون فيكونون قَلِيلا كالزرع حِين يخرج ضَعِيفا فيكثرون ويَقْوَوْن، فشبَّههم بالزرْع يعجب الزراع ليغيظ بهم الْكفَّار. يَقُول: إِنَّمَا يفعل ذَلِك بهم ليغيظ بهم الْكفَّار ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ يَعْنِي: الْجنَّة.
259
تَفْسِير سُورَة الحجرات
وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا

بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة ١ إِلَى آيَة ٣.
260
Icon