تفسير سورة الفتح

الدر المصون
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله﴾ : متعلقٌ بفَتَحْنا، وهي لامُ العلةِ. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف جُعِل فتحُ مكةَ علةً للمغفرة؟ قلت: لم يُجْعَلْ علةً للمغفرةِ، ولكن لِما عَدَّد من الأمور الأربعة وهي: المغفرةُ، وإتمامُ النعمةِ، وهدايةُ الصراطِ المستقيمِ، والنصرُ العزيزُ؛ كأنه قال: يَسَّرْنا لك فتح مكة ونَصَرْناك على عدوِّك؛ لنجمعَ لك بين عِزِّ الدارَيْن وأغراضِ العاجلِ والآجل. ويجوزُ أَنْ يكونَ فَتْحُ مكةَ من حيث إنَّه جهادٌ للعدو سبباً للغفران والثواب». وهذا الذي قاله مخالِفٌ لظاهرِ الآية؛ فإنَّ اللامَ داخلةٌ على المغفرة، فتكونُ المغفرةُ علةً للفتح، والفتحُ مُعَلَّلٌ بها، فكان ينبغي أَنْ يقولَ: كيف جُعِل فتحُ مكةَ مُعَلَّلاً بالمغفرةِ؟ ثم يقول: لم يُجْعَلْ مُعَلَّلاً. وقال ابنُ عطية: «المرادُ هنا أنَّ اللَّهَ تعالى فَتَح لك لكي يجعلَ الفتح علامةً لغفرانه لك، فكأنها لامُ صيرورة» وهذا كلامٌ ماشٍ على الظاهر. وقال بعضُهم: إنَّ هذه اللامُ لامُ القسمِ والأصلُ: لَيَغْفِرَنَّ فكُسِرَتْ اللامُ تشبيهاً ب لام كي، وحُذِفَتْ النونُ. ورُدَّ هذا: بأنَّ اللامَ لا تُكْسَرُ. وبأنَّها لا تَنْصِبُ المضارعَ. وقد
709
يقال: إنَّ هذا ليس بنصبٍ، وإنما هو بقاءُ الفتحِ الذي كان قبل نونِ التوكيد، بقي ليدُلَّ عليها، ولكنه قولٌ مردودٌ.
710
قوله: ﴿لِّيُدْخِلَ﴾ : في متعلَّق هذه اللامِ أربعةُ أوجهٍ، أحدها: محذوفٌ تقديرُه: يَبْتَلي بتلك الجنود مَنْ شاء فيقبلُ الخيرَ مِمَّنْ أهَّله له، والشرَّ مِمَّنْ قضى له به ليُدْخِلَ ويُعَذِّب. الثاني: أنها متعلقةٌ بقولِه: «إنَّا فَتَحْنا». الثالث: أنَّها متعلقةٌ ب «يَنْصُرَك». الرابع: أنها متعلقة ب «يَزْدادوا». واسْتُشْكل هذا: بأنَّ قولَه تعالى: «ويُعَذِّبَ» عطفٌ عليه، وازديادُهم الإِيمانَ ليس مُسَبَّباً عن تعذيبِ اللَّهِ الكفارَ. وأجيب: بأنَّ اعتقادَهم أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الكفارَ يزيدُ في إيمانِهم لا محالة. وقال الشيخ: «والازديادُ لا يكونُ سبباً لتعذيب الكفارِ. وأُجيب: بأنَّه ذُكِر لكونِه مقصوداً للمؤمنِ. كأنه قيل: بسببِ ازديادِكم في الإِيمانُ يُدْخِلُكم الجنة، ويُعَذِّبُ الكفار بأيديكم في الدنيا». وفيه نظرٌ؛ كان ينبغي أن يقولَ: لا يكونُ مُسَبَّباً عن تعذيب الكفارِ، وهذا يُشْبِهُ ما تقدَّم في ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله﴾ [الفتح: ٢].
قوله: «عندَ الله» متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنه حال مِنْ «فوزاً» لأنَّه صفتُه في الأصل. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكون ظرفاً لمكانٍ، وفيه خلافٌ، وأَنْ يكونَ ظرفاً لمحذوفٍ دَلَّ عليه الفوز أي: يفوزون عند اللَّهِ. ولا يتعلَّق ب «فَوْزاً» لأنَّه مصدرٌ؛ فلا يتقدَّم معمولُه عليه. ومَنْ اغْتَفَر ذلك في الظرفِ جَوَّزَه.
قوله: ﴿الظآنين بالله﴾ : صفةٌ للفريقَيْن. وتقدَّم الخلافُ في «السوء» في التوبة. وقرأ الحسن «السُّوء» بالضم فيهما.
قوله: ﴿لِّتُؤْمِنُواْ﴾ : قرأ «ليؤمنوا» وما بعده بالياء مِنْ تحت ابنُ كثير وأبو عمروٍ رُجوعاً إلى قولِه: «المؤمنين والمؤمنات». والباقون بتاءِ الخطاب. وقرأ الجحدري «تَعْزُرُوْه» بفتح التاء وضمِّ الزاي. وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلاَّ أنهما كسرا الزاي. وابنُ عباس واليماني «ويُعَزِّرُوه» كالعامَّةُ، إلاَّ أنه بزاءَيْن من العزَّة. والضمائر المنصوبةُ راجعةٌ إلى الله تعالى. / وقيل: على الرسول إلاَّ الأخيرَ.
قوله: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ : خبرُ «إن الذين». و ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ جملةٌ حاليةٌ، أو خبرٌ ثانٍ. وهو ترشيحٌ للمجازِ في مبايعةِ الله. وقرأ تمام بن العباس «يُبايعون الله». والمفعولُ محذوفٌ أي: إنما يبايعونك لأجل الله.
قوله: يَنْكُثُ «قرأ زيد بن علي» يَنْكِثُ «بكسر الكاف. والعامَّةُ على نصب الجلالة المعظمة. ورَفَعَها ابنُ أبي إسحاق على أنَّه تعالى
711
عاهدهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر» فَسَنُؤْتيه «بنون العظمة. والباقون بالياءِ مِنْ تحت. وقرئ» عَهِد عليه «ثلاثياً.
712
قوله: ﴿شَغَلَتْنَآ﴾ : حكى الكسائيُّ عن ابن نُوح أنه قرأ «شَغَّلَتْنا» بالتشديد.
قوله: «ضَرَّاً» قرأ الأخَوان بضم الضاد. والباقون بفتحها فقيل: لغتان بمعنى كالفُقْر والفَقْر، والضُّعْف والضَّعْف. وقيل: بالفتح ضد النفع، وبالضم سوءُ الحال.
وقرأ عبد الله «إلى أهلِهم» دونَ ياءٍ، بل أضاف الأهل مفرداً. وقُرِئ «وزَيَّنَ» مبنياً للفاعل أي: الشيطان أو فِعْلُكم. و ﴿كُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أي: صِرْتُم. وقيل: على بابها من الإِخبار بكونِهم في الماضي كذا. والبُوْرُ: الهَلاك. وهو يحتمل أن يكونَ هنا مصدراً أُخْبر به عن الجمع كقولِه:
712
ولذلك يَسْتوي فيه المفردُ والمذكرُ وضدُّهما. ويجوز أن يكون جمع بائرِ كحائل وحُوْل في المعتلِّ. وبازِل وبُزْل في الصحيح.
713
قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يُؤْمِن﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً أو موصولةً. والظاهرُ قائمٌ مقامَ العائدِ على كلا التقديرَيْن أي: فإنَّا أَعْتَدْنا لهم.
قوله: ﴿يُرِيدُونَ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً من «المخلَّفون»، وأن يكونَ حالاً من مفعول «ذَرُوْنا».
قوله: «كلامَ الله» قرأ الأخَوان «كَلِمَ» جمع كِلْمة. والباقون «كلامَ». وقرأ أبو حيوة «تَحْسِدُوْننا» بكسرِ السين.
قوله: ﴿أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ : العامَّةُ على رَفْعِه بإثبات النون عطفاً على «تُقاتلونهم» أو على الاستئنافِ أي: أو هم يُسْلِمون. وقرأ أُبَيٌّ وزيد بن علي بحذفِ النون نَصَباه بحذِفها. والنصبُ بإضمارِ «أَنْ» عند جمهور البصريين وب «أو» نفسِها عند الجرميِّ والكسائي، ويكون قد عَطَفَ مصدراً مؤولاً على مصدر متوهَّم. كأنه قيل: يكنْ قتال أو إسلامٌ. ومثلُه في النصبِ قولُ امرئ القيس:
٤٠٧٧ - يا رسولَ الإِلهِ إنَّ لِساني راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ
713
وقال أبو البقاء: «أو بمعنى: إلاَّ أَنْ، أو حتى».
714
قوله: ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾ : منصوبٌ ب «رَضي» و «تحت الشجرة» يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «يُبايعونك»، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول. وفي التفسيرِ: أنه عليه السلام كان جالساً تحتها.
قوله: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ : أي: وآتاكم مغانمَ، أو آتاهم مغانمَ، أو أثابَهم مغانم، أو أثابكم مغانمَ، وإنما قدَّرْتُ الخطابَ والغَيْبَة؛ لأنه يُقرأ «يَأْخُذونها» بالغيبة - وهي قراءة العامَّةِ - «وتَأْخُذونها» بالخطاب، وهي قراءةُ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ في رواية سقلاب.
قوله: ﴿وَلِتَكُونَ﴾ : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعده، تقديرُه: ولِتَكونَ فَعَلَ ذلك. الثاني: أنَّه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ، تقديرُه: وَعَدَ فعجَّل وكَفَّ لتنتَفِعوا ولتكونَ، أو لتشكروه ولتكونَ. الثالث: أنَّ الواوَ مزيدةٌ، والتعليلُ لِما قبلَه أي: وكَفَّ لتكونَ.
قوله: ﴿وأخرى﴾ : يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ مرفوعةً بالابتداءِ، و ﴿لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا﴾ صفتُها. و ﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ خبرُها. الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ، مقدَّرٌ قبلها أي: وثَمَّ أُخْرى لم تَقْدِروا عليها. الثالث: أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ على شريطةِ التفسيرِ، فيُقَدَّرُ الفعلُ مِنْ معنى المتأخِّر، وهو قد أحاط اللَّهُ بها أي: وقَضى اللَّهُ أخرى.
714
الرابع: أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ لا على شريطةِ التفسير، بل لدلالةِ السِّياقِ أي: ووعَد أخرى، أو وآتاكم أخرى. الخامس: أنْ تكونَ مجرورةً ب «رُبَّ» مقدرةً، وتكونَ الواوُ واوَ «رُبَّ»، ذكره الزمخشريُّ. وفي المجرورِ بعد الواوِ المذكورة خلافٌ مشهورٌ: هو برُبَّ مضمرةً أم بنفسِ الواو. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: «ولم تَأْتِ رُبَّ جارَّةً في القرآنِ على كثرةِ دَوْرِها» يعني جارَّةً لفظاً، وإلاَّ فقد قيل: إنها جارَّةٌ تقديراً هنا وفي قولِه: «رُبَما» على قولنا: إنَّ «ما» نكرةٌ موصوفة.
قوله: ﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل «أُخْرى» كما تقدَّم، أو صفةً ثانيةً إذا قيل: بأنَّ «أُخْرى» مبتدأٌ، وخبرُها مضمرٌ أو حال أيضاً.
715
قوله: ﴿سُنَّةَ الله﴾ : مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ المتقدمة أي: سَنَّ اللَّهُ ذلك سُنَّةَ.
قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ : قرأ أبو عمروٍ «يَعْلمون» بالياء مِنْ تحتُ، رجوعاً إلى الغَيْبة في «أيديهم» و «عنهم» والباقون بالخطاب، رجوعاً إلى الخطاب في قوله: «أيديكم» و «عنكم».
قوله: ﴿والهدي﴾ : العامَّةُ على نصبِه. والمشهورُ أنَّه نسقٌ على الضميرِ المنصوبِ في «صَدُّوْكم». وقيل: نُصِبَ على المعيَّةِ. وفيه ضَعْفٌ لإِمكان العطفِ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بجرِّه عطفاً على «المسجد
715
الحرام»، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: وعن نَحْرِ الهَدْي. وقُرِئ برفعِه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ لم يُسَمَّ فاعلُه أي: وصُدَّ الهَدْيُ. والعامة على فتح الهاءِ وسكونِ الدالِ ورُوي عن أبي عمروٍ وعاصم وغيرِهما كسرُ الدالِ وتشديدُ الياء. وحكى ابن خالويه ثلاثَ لغاتٍ: الهَدْيُ وهي الشهيرةُ لغةُ قريشٍ والهَدِيُّ والهَدَى.
قوله: «مَعْكوفاً» حالٌ من الهدي أي: محبوساً يُقال: عَكَفْتُ الرجلَ عن حاجتِه. وأنكر الفارسيُّ تعديةَ «عَكَفَ» بنفسِه وأثبتَها ابنُ سيده والأزهريُّ وغيرُهما، وهو ظاهرُ القرآنِ لبناء اسمِ المفعول منه.
قوله: «أَنْ يَبْلُغَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه على إسقاطِ الخافضِ أي: عَنْ أَنْ، أو مِنْ أَنْ. وحينئذٍ يجوزُ في هذا الجارِّ المقدرِ أن يتعلَّقَ ب «صَدُّوكم»، وأن يتعلَّقَ بمعكوفاً أي: مَحْبوساً عن بلوغِ محلِّه أو من بلوغِ مَحِلِّه. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، وحينئذٍ يجوز أن يكونَ علة للصدِّ، والتقدير: صَدُّوا الهَدْيَ كراهةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه، وأن يكون علةً لمعكوفاً أي: لأجل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه، ويكون الحبسُ من المسلمين. الثالث: أنه بدلٌ من الهَدْي بدلُ اشتمالٍ أي: صَدُّوا بلوغَ الهَدْيِ مَحِلَّه.
قوله: «لم تَعْلَموهم» صفةٌ للصِّنفَيْن وغَلَّب الذكورَ.
قوله: «أَنْ تَطَؤُوْهم» يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ رجال ونساء، وغَلَّبَ الذكورَ كما تقدَّمَ، وأن يكونَ بدلاً مِنْ مفعول «تَعْلَموهم» فالتقدير على الأول: ولولا
716
وَطْءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وَطْأَهم، والخبرُ محذوفٌ تقديره: ولولا رجالٌ ونساء موجودون أو بالحضرة. وأمَّا جوابُ «لولا» ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه محذوفٌ لدلالةِ جواب لو عليه. والثاني: أنه مذكورٌ. وهو «لَعَذَّبْنا»، وجوابُ «لو» هو المحذوفُ، فَحَذَفَ من الأول لدلالةِ الثاني، ومن الثاني لدلالةِ الأول. والثالث: أنَّ «لَعَذَّبْنا» جوابُهما معاً وهو بعيدٌ إن أرادَ حقيقة ذلك. وقال الزمخشري قريباً مِنْ هذا، فإنَّه قال: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» لو تَزَيَّلوا «كالتكرير ل ﴿لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ﴾ لمَرْجِعِهما إلى معنىً واحدٍ، ويكون» لَعَذَّبْنا «هو الجوابَ». ومنع الشيخ مرجِعَهما لمعنى واحدٍ قال: «لأنَّ ما تعلَّق به الأولُ غيرُ ما تعلَّق به الثاني».
قوله: «فتُصيبَكم» نَسَقٌ على «أَنْ تَطَؤُوهم». وقرأ ابن أبي عبلةَ وأبو حيوة وابنُ عونٍ «لو تَزايَلوا» على تفاعَلوا.
والضمير في «تَزَيَّلوا» يجوز أَنْ يعودَ على المؤمنين فقط، أو على الكافرين أو على الفريقين أي: لو تَمَيَّز هؤلاء مِنْ هؤلاء لَعَذَّبْنا.
والوَطْءُ هنا: عبارةٌ عن القتلِ والدَّوْسِ. قال عليه السلام: «اللَّهم اشدُدْ وَطْأتك على مُضَرَ»، وأنشدوا:
717
٤٠٧٨ - فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنما نُحاول مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرا
٤٠٧٩ - ووَطِئْتَنا وَطْئاً على حَنَق وَطْءَ المقيَّدِ ثابِتَ الهَرْمِ
والمَعَرَّة: الإِثم.
قوله: «بغيرِ عِلْمٍ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مَعَرَّةٍ»، أو أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعول «تُصيبكم». وقال أبو البقاء: «من الضمير المجرورِ» يعني في «منهم» ولا يَظْهر معناه، أو أن يتعلَّقَ ب «يُصيبكم»، أو أن يتعلَّقَ ب «تَطَؤُوْهم».
قوله: «لِيُدْخِلَ اللَّهُ» متعلقٌ بمقدرٍ أي: كان انتفاءُ التسليطِ على أهلِ مكةَ وانتفاءُ العذابِ ليُدْخِلَ اللَّهُ.
718
قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ﴾ : العاملُ في الظرفِ: إما «لَعَذَّبْنا» أو «صَدُّوكم» أو اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به.
قوله: «في قلوبهم» يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب جَعَلَ على أنها بمعنى أَلْقى فتتعدَّى لواحدٍ أي: إذ ألقى الكافرونَ في قلوبِهم الحميةَ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على أنها بمعنى صَيَّرَ.
قوله: «حَمِيَّةَ الجاهليةِ» بدلٌ مِنْ «الحميةَ» قبلها. والحميَّةُ: الأنَفَةُ من الشيءِ. وأنشد للمتلمِّس:
718
وهي المَنْعُ، ووزنُها فعيلة، وهي مصدرٌ يقال: حَمَيْتُ عن كذا حَمِيَّةً.
قوله: «وكانوا أحَقَّ» الضميرُ يجوزُ أَنْ يعودَ على المؤمنين، وهو الظاهر أي: أحقَّ بكلمةِ التقوى من الكفار. وقيل: يعودُ على الكفار/ أي: كانت قُرَيْشٌ أَحَقَّ بها لولا حِرْمانُهم.
719
قوله: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ﴾ : صَدَقَ يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ يُقال: صَدَقْتُكَ في كذا. وقد يُحْذَفُ كهذه الآيةِ.
قوله: «بالحَقِّ» فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «صدق». الثاني: أَنْ يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أي: صِدْقاً مُلْتَبساً بالحق. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الرؤيا» أي: مُلْتبسةً بالحق. الرابع: أنَّه قسمٌ وجوابُه «لَتَدْخُلُنَّ» فعلى هذا يُوقف على «الرؤيا» ويُبْتَدَأُ بما بعدَها.
قوله: «لَتَدْخُلُنَّ» جوابُ قسمٍ مضمرٍ، أو لقوله: «بالحق» على ذلك القولِ. وقال أبو البقاء: «و» لَتَدْخُلُنَّ «تفسيرٌ للرؤيا أو مستأنَفٌ أي: والله لَتَدْخُلُنَّ»، فجعل كونَه جوابَ قسمٍ قسيماً لكونِه تفسيراً للرؤيا. وهذا لا يَصِحُّ البتةَ، وهو أَنْ يكونَ تفسيراً للرؤيا غيرَ جوابٍ لقسم، إلاَّ أَنْ يريدَ أنه جوابُ قسمٍ، لكنه يجوزُ أَنْ يكونَ هو مع القسم تفسيراً، وأن يكونَ مستأنفاً غيرَ تفسيرٍ وهو بعيدٌ من عبارته.
قوله: «آمِنين» حالٌ مِنْ فاعل «لَتَدْخُلُنَّ» وكذا «مُحَلِّقين ومُقَصِّرِين»، ويجوزُ أَنْ يكونَ «مُحَلِّقين» حالاً مِنْ «آمِنين» فتكونَ متداخلةً.
قوله: «لا تَخافون» يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأنْ يكونَ حالاً ثالثةً، وأَنْ يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ فاعل «لَتَدْخُلُنَّ» أو مِنْ ضميرِ «آمنين» أو «مُحَلِّقين»
719
أو «مقصِّرين». فإن كانَتْ حالاً مِنْ «آمِنين» أو حالاً من فاعل «لَتَدْخُلُنَّ» فهي حالٌ للتوكيد و «آمنين» حالٌ مقاربةٌ، وما بعدها حالٌ مقدرةٌ إلاَّ قولَه: «لا تَخافون» إذا جُعِل حالاً فإنها مقارنةٌ أيضاً.
720
قوله: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، لأنه لَمَّا تقدَّمَ: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ دَلَّ على ذلك المقدَّرِ أي: هو أي: الرسولُ بالهدى محمدٌ، و «رسولُ» بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ، وأن يكونَ مبتدأً أو خبراً، وأن يكونَ مبتدأً و «رسولُ اللَّهِ» على ما تقدَّم من البدلِ والبيانِ والنعتِ. و «الذين معه» عطفٌ على «محمدٌ» والخبرُ عنهم قوله: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار﴾. وابن عامر في روايةٍ «رسولَ الله» بالنصبِ على الاختصاصِ، وهي تؤيِّدُ كونَه تابعاً لا خبراً حالةَ الرفعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «والذين» على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي: ورسولُ الذين آمنوا معه؛ لأنه لَمَّا أُرْسِل إليهم أُضيف إليهم فهو رسولُ اللَّهِ بمعنى: أنَّ اللَّهَ أرسله، ورسولُ أمتِه بمعنى: أنه مُرْسَلٌ إليهم، ويكون «أشدَّاءُ» حينئذٍ خبرَ مبتدأ مضمر أي: هم أشدَّاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ تَمَّ الكلام على «رسولُ الله» و «الذين معه» مبتدأٌ و «أشدَّاءُ» خبره.
وقرأ الحسن «أشداءَ، رحماءَ» بالنصبِ: إمَّا على المدحِ، وإمَّا على الحال من الضميرِ المستكنِّ في «معه» لوقوعِه صلةً، والخبرُ حينئذٍ عن المبتدأ.
قوله: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ حالان؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ، وكذلك «يَبْتَغُون»
720
يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثالثةً مِنْ مفعول «تَراهم» وأن تكونَ من الضمير المستترِ في «رُكَّعاً سجداً». وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ «سُجَّداً» حالاً مِنَ الضمير في «رُكَّعاً» حالاً مقدرة. فعلى هذا يكونُ «يَبْتَغون» حالاً من الضميرِ في «سُجَّداً» فتكونُ حالاً مِنْ حال، وتلك الحالُ الأولى حالٌ مِنْ حال أخرى.
وقرأ ابن يعمر «أَشِدَّا» بالقصرِ، والقصرُ مِنْ ضرائر الأشعار كقوله:
٤٠٨١ - لا بدَّ مِنْ صَنْعا وإنْ طالَ السَّفرْ... فلذلك كانَتْ شاذَّةً. قال الشيخ: «وقرأ عمرو بن عبيد» ورُضوانا «بضم الراء». قلت: هذه قراءةٌ متواترةٌ قرأها عاصمٌ في روايةِ أبي بكرٍ عنه قَدَّمْتها في سورة آل عمران، واستثنيتُ له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة.
وقُرِئ «سِيْمِياؤهم» بياء بعد الميمِ والمدِّ، وهي لغةٌ فصيحةٌ وأُنْشِد:
٤٠٨٠ - ألا إنني منهمْ وعِرْضي عِرْضُهُمْ كذا الرأسُ يَحْمي أنفَه أَنْ يُهَشَّما
721
وتقدَّم الكلامُ عليها وعلى اشتقاقِها في آخر البقرة. و «في وجوههِم» خبرُ «سِيماهم».
قوله: ﴿مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ حال من الضمير المستتر في الجارِّ، وهو «في وجوههم».
والعامَّةُ «مِنْ أَثَرِ» بفتحتين، وابن هرمز بكسرٍ وسكون، وقتادة «مِنْ آثارَ» جمعاً.
قوله: «ذلك مَثَلُهم» «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من وَصْفِهم بكونهم أَشِدَّاءَ رُحَماءَ لهم سِيما في وجوههم، وهو مبتدأ خبرُه «مَثَلُهم» و «في التوراة» حالٌ مِنْ مَثَلُهم «والعاملُ معنى الإِشارة.
قوله: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل﴾ يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ وخبرُه»
كزَرْعٍ «فيُوقَفُ على قولِه:» في التوراة «فهما مَثَلان. وإليه ذهب ابن عباس. والثاني: أنه معطوفٌ على» مَثَلُهم «الأولِ، فيكونُ مَثَلاً/ واحداً في الكتابَيْن، ويُوْقَفُ حينئذٍ على» الإِنجيل «وإليه نحا مجاهدٌ والفراء، ويكون قولُه على هذا:» كزَرْع «فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: مَثَلُهم كزَرْعٍ، فَسَّر بها المثل المذكور. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في» مَثَلُهم «أي: مُماثِلين زَرْعاً هذه صفتُه. الثالث: أنها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: تمثيلاً كزرع، ذكره أبو البقاء. وليس بذاك. وقال الزمخشريُّ:» ويجوزُ أَنْ يكونَ «ذلك» إشارةً مُبْهَمَةً أُوْضِحَتْ بقولِه: «كَزَرْع» كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ﴾ «.
722
قوله:» أَخْرَجَ شَطْأَه «صفةٌ لزرع. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتح الطاء، والباقون بإسكانها، وهما لغتان. وفي الحرف لغاتٌ أخرى قُرِئَ بها في الشاذِّ: فقرأ أبو حيوةَ» شَطاءَه «بالمدِّ، وزيد بن علي» شَطاه «بألفٍ صريحةٍ بعد الطاءِ، فاحتملَتْ أَنْ تكونَ بدلاً من الهمزةِ بعد نقلِ حركتِها إلى الساكنِ قبلَها على لغةِ مَنْ يقولُ: المَراةُ والكَماةُ بعد النقلِ، وهو مقيسٌ عند الكوفيين، واحتملَ أَنْ يكونَ مقصوراً من الممدود. وأبو جعفر ونافعٌ في روايةٍ» شَطَه «بالنقل والحَذْفِ وهو القياسُ. والجحدري» شَطْوَه «أبدل الهمزة واواً، إذ تكونُ لغةً مستقلةً. وهذه كلُّها لغاتٌ في فراخِ الزَّرْع. يقال: شَطَأَ الزَّرْعُ وأَشْطَأ أي: أخرجَ فِراخَه. وهل يختصُّ ذلك بالحِنْطة فقط، أو بها وبالشعيرِ فقط، أو لا يختصُّ؟ خلاف مشهور قال:
٤٠٨٢ - غلامٌ رَماه اللَّهُ بالحُسْن يافعاً له سِيْمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ
٤٠٨٣ - أَخْرج الشَّطْءَ على وجهِ الثَّرى ومنَ الأشجارِ أفنانَ الثمرْ
قوله:» فآزَرَه «العامَّةُ على المدِّ وهو على أَفْعَل. وغَلَّطوا مَنْ قال: إنه فاعَلَ كمجاهدٍ وغيرِه بأنَّه لم يُسْمَعْ في مضارِعه يُؤَازِرُ بل يُؤْزِرُ. وقرأ ابن ذكوان» فَأَزَره «مقصوراً جعله ثلاثياً. وقُرِئ» فأَزَّرَه «بالتشديدِ والمعنى في الكلِّ: قَوَّاه.
723
وقيل: ساواه. وأُنْشد:
٤٠٨٤ - بمَحْنِيَةٍ قد آزَرَ الضالُّ نَبْتَها مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِميْنَ وخُيَّبِ
قوله:» على سُوْقِه «متعلِّقٌ ب» اسْتوى «، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: كائناً على سُوْقِه أي: قائماً عليها. وقد تقدَّم في النمل أن قنبلاً يقرأ» سُؤْقِه «بالهمزةِ الساكنة كقولِه:
٤٠٨٥ - أحَبُّ المُؤْقِدين إليَّ موسى .............................
وبهمزةٍ مضمومةٍ بعدها واوٌ كقُرُوْح، وتوجيهُ ذلك. والسُّوْق: جمع ساق.
قوله: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ»
حالٌ أي: مُعْجِباً، وهنا تَمَّ المَثَلُ.
قوله: «ليَغيظَ» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلِّقٌ ب «وَعَدَ» ؛ لأنَّ الكفارَ إذا سَمِعوا بعِزِّ المؤمنين في الدنيا وما أُعِدَّ لهم في الآخرة غاظَهم ذلك. الثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ دَلَّ عليه تشبيهُهم بالزَّرْعِ في نَمائِهم وتَقْويتِهم. قاله
724
الزمخشري أي: شَبَّههم اللَّهُ بذلك ليَغيظَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما دَلَّ عليه قولُه: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار﴾ إلى آخره أي: جعلهم بهذه الصفاتِ ليَغيظَ.
قوله: «مِنْهم» «مِنْ» هذه للبيانِ لا للتبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم كذلك فهي كقولِه: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]. وقال الطبري: «منهم أي: من الشَّطْء الذي أخرجه الزرعُ، وهم الداخلون في الإِسلامِ إلى يومِ القيامة»، فأعاد الضميرَ على معنى الشَّطْءِ، لا على لفظِه، وهو معنى حسنٌ.
725
Icon