تفسير سورة الفتح

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
وهي مكية
قال الإمام أحمد١ حدثنا وَكِيع، حدثنا شُعْبَة، عن معاوية بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها - قال معاوية : لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته، أخرجاه من حديث شعبة به٢.
نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله. فلما نحر هديه حيث أحصر، ورجع، أنزل الله، عز وجل، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روى عن ابن مسعود، رضي الله عنه، وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية ٣.
وقال٤ البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر. فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا ٥.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبيه ٦، عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قال : فسألته عن شيء - ثلاث مرات – فلم يرد علي، قال : فقلت لنفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال : فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء، قال : فإذا أنا بمناد ينادي : يا عمر، أين عمر ؟ قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" نزلت٧ علي الليلة ٨ سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾.
ورواه البخاري، والترمذي، والنسائي من طرق، عن مالك، رحمه الله٩، وقال علي بن المديني : هذا إسناد مديني [ جيد ]١٠ لم نجده إلا عندهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض "، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله، لقد بين الله، عز وجل، ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه :﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ ﴾ حتى بلغ :﴿ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [ الفتح : ٥ ]، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به١١.
وقال١٢ الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب، قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد١٣ القراء الذين قرءوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله، وفتح هو ؟ قال :" إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح ". فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما.
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى، عن مجمع بن يعقوب، به١٤.
وقال١٥ ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، حدثنا جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول١٦ : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال : فقلنا :" امضوا " ١٧. فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال :" افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [ يفعل ] ١٨ من نام أو نسي ". قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها ١٩، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، قال : وكان إذا أتاه [ الوحي ]٢٠ اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾.
وقد رواه أحمد وأبو داود، والنسائي من غير وجه، عن جامع بن شداد به ٢١.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة، قال : سمعت المغيرة بن شعبة٢٢ يقول : كان النبي ٢٣ صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال :" أفلا أكون عبدًا شكورًا ".
أخرجاه٢٤ وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به٢٥.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر، عن ابن قسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه٢٦.
فقالت له عائشة : يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال :" يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ".
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب، به٢٧.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عون الخراز - وكان ثقة بمكة - حدثنا محمد بن بشر٢٨ حدثنا مسعر، عن قتادة، عن أنس، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال :" أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ " غريب من هذا الوجه ٢٩.
١ - (١) في ت: "وروى البخاري ومسلم والإمام أحمد"..
٢ - (٢) المسند (٥/٢٤) وصحيح البخاري برقم (٤٨٣٥) وصحيح مسلم برقم (٧٩٤)..
٣ - (٣) رواه الطبري (٢٦/٤٤)..
٤ - (٤) في ت: "وروى"..
٥ - (٥) صحيح البخاري برقم (٤١٥٠)..
٦ - (٦) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده"..
٧ - (١) في م: "نزل"..
٨ - (٢) في ت، م: "البارحة"..
٩ - (٣) المسند (١/٣١) وصحيح البخاري برقم (٤٨٣٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٦٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٩٩)..
١٠ - (٤) زيادة من م..
١١ - (٥) المسند (٣/١٩٧) وصحيح البخاري برقم (٤١٤٨) وصحيح مسلم برقم (١٧٨٦)..
١٢ - (٦) في ت: "وروى"..
١٣ - (٧) في ت: "أحب"..
١٤ - (٨) المسند (٣/٤٢٠) وسنن أبي داود برقم (٢٧٣٦)..
١٥ - (٩) في ت: "وروى"..
١٦ - (١٠) في ت: "عن ابن مسعود قال"..
١٧ - (١) في م: "انصتوا"..
١٨ - (٢) زيادة من ت، أ..
١٩ - (٣) في ت: "فركب"..
٢٠ - (٤) زيادة من م..
٢١ - (٥) تفسير الطبري (٢٦/٤٣) والمسند (١/٤٦٤) وسنن أبي داود برقم (٤٤٧) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٨٨٥٣)..
٢٢ - (٦) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده"..
٢٣ - (٧) في أ: "رسول الله"..
٢٤ - (٨) في ت: "أخرجه البخاري ومسلم"..
٢٥ - (٩) المسند (٤/٥٥) وصحيح البخاري برقم (٤٨٣٦) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٩) وسنن الترمذي برقم (٤١٢) وسنن النسائي (٣/٢١٩) وسنن ابن ماجه برقم (١٤١٩)..
٢٦ - (١٠) في أ: "ينفطر قدماه"..
٢٧ - (١١) المسند (٦/١١٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٢٠)..
٢٨ - (١٢) في ا: "بشير"..
٢٩ - (١٣) ورواه أبو يعلى في المسند (٥/٢٨٠) من طريق عبد الله بن عون الخراز به، ورواه البزار في مسنده برقم (٢٣٨٠) "كشف الأستار" من طريق الحسين بن الأسود عن محمد بن بشر به، وقال البزار: "لا نعلم أحدا حدث بهذا الحديث بهذا الإسناد إلا الحسين بن بشر وعبد الله بن عون الخراز، وقد رواه غيرهما عن محمد بن بشر عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة، وهو الصواب" فكلام الإمام البزار هنا موضح لقول الحافظ ابن كثير: "غريب من هذا الوجه".
.

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفَتْحِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (١) حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فرجَّع فِيهَا -قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ (٢).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) ﴾.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِيَقْضِيَ عُمْرَتَهُ فِيهِ، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَأَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ هَذَا ثُمَّ يَأْتِيَ مِنْ قَابِلٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ عَلَى تَكَرُّهٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَرَجَعَ، أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَذِهِ السُّورَةَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعُدُّونَ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا كُنَّا نَعُدُّ الْفَتْحَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ (٣).
وَقَالَ (٤) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ. فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرَكَائِبُنَا (٥).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ (٦)، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-فلم
(١) في ت: "وروى البخاري ومسلم والإمام أحمد".
(٢) المسند (٥/٢٤) وصحيح البخاري برقم (٤٨٣٥) وصحيح مسلم برقم (٧٩٤).
(٣) رواه الطبري (٢٦/٤٤).
(٤) في ت: "وروى".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤١٥٠).
(٦) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
325
يَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ لِنَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا ابن الْخَطَّابِ، نَزَرْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي فَتَقَدَّمْتُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، قَالَ: فَإِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي: يَا عُمَرُ، أَيْنَ عُمَرُ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٍ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَزَلَتْ (١) عَلَيَّ اللَّيْلَةَ (٢) سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ (٣)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا إِسْنَادٌ مَدِينِيٌّ [جَيِّدٌ] (٤) لَمْ نَجِدْهُ إِلَّا عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قتادة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ"، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مَاذَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الْفَتْحِ: ٥]، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ بِهِ (٥).
وَقَالَ (٦) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ -وَكَانَ أَحَدَ (٧) الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ-قَالَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إِذَا النَّاسُ يُنَفِّرُونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ؟ قَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كَرَاعِ الْغَمِيمِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أي رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "إِي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَفَتْحٌ". فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْجِهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ، بِهِ (٨).
وَقَالَ (٩) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَحْرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ (١٠) : لما
(١) في م: "نزل".
(٢) في ت، م: "البارحة".
(٣) المسند (١/٣١) وصحيح البخاري برقم (٤٨٣٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٦٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٩٩).
(٤) زيادة من م.
(٥) المسند (٣/١٩٧) وصحيح البخاري برقم (٤١٤٨) وصحيح مسلم برقم (١٧٨٦).
(٦) في ت: "وروى".
(٧) في ت: "أحب".
(٨) المسند (٣/٤٢٠) وسنن أبي داود برقم (٢٧٣٦).
(٩) في ت: "وروى".
(١٠) في ت: "عن ابن مسعود قال".
326
أَقْبَلْنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَعْرَسْنَا فَنِمْنَا، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِالشَّمْسِ قَدْ طَلَعَتْ، فَاسْتَيْقَظْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: "امْضُوا" (١). فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: "افْعَلُوا مَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ وَكَذَلِكَ [يَفْعَلُ] (٢) مَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ". قَالَ: وَفَقَدْنَا ناقة رسول الله ﷺ فطلبنها، فَوَجَدْنَاهَا قَدْ تَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِشَجَرَةٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَرَكِبَهَا (٣)، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ أَتَاهُ الْوَحْيُ، قَالَ: وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ [الْوَحْيُ] (٤) اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾.
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ بِهِ (٥).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ (٦) يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ (٧) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".
أَخْرَجَاهُ (٨) وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ زِيَادٍ بِهِ (٩).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رَجُلَاهُ (١٠).
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ".
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، بِهِ (١١).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ الْخَرَّازُ -وَكَانَ ثِقَةً بِمَكَّةَ-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (١٢) حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ -أَوْ قَالَ سَاقَاهُ-فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ " غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (١٣).
(١) في م: "انصتوا".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت: "فركب".
(٤) زيادة من م.
(٥) تفسير الطبري (٢٦/٤٣) والمسند (١/٤٦٤) وسنن أبي داود برقم (٤٤٧) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٨٨٥٣).
(٦) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(٧) في أ: "رسول الله".
(٨) في ت: "أخرجه البخاري ومسلم".
(٩) المسند (٤/٥٥) وصحيح البخاري برقم (٤٨٣٦) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٩) وسنن الترمذي برقم (٤١٢) وسنن النسائي (٣/٢١٩) وسنن ابن ماجه برقم (١٤١٩).
(١٠) في أ: "ينفطر قدماه".
(١١) المسند (٦/١١٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٢٠).
(١٢) في ا: "بشير".
(١٣) ورواه أبو يعلى في المسند (٥/٢٨٠) من طريق عبد الله بن عون الخراز به، ورواه البزار في مسنده برقم (٢٣٨٠) "كشف الأستار" من طريق الحسين بن الأسود عن محمد بن بشر به، وقال البزار: "لا نعلم أحدا حدث بهذا الحديث بهذا الإسناد إلا الحسين بن بشر وعبد الله بن عون الخزار، وقد رواه غيرهما عن محمد بن بشر عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبةن وهو الصواب" فكلام الإمام البزار هنا موضح لقول الحافظ ابن كثير: "غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".
327
وقوله :﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ : هذا من خصائصه - صلوات الله وسلامه عليه - التي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأكثرهم١ تعظيما لأوامره٢ ونواهيه. قال حين بركت به الناقة :" حبسها حابس الفيل " ثم قال :" والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها " ٣ فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح، قال الله له :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ أي : في الدنيا والآخرة، ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ أي : بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم.
١ - (٢) في ت، أ: "وأشدهم".
٢ - (٣) في ت: "لأوامر الله"..
٣ - (٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٢٧٣١، ٢٧٣٢)..
﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ أي : بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح :" وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " ١. وعن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] ٢ أنه قال : ما عاقبت - أي في الدنيا والآخرة - أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
١ - (٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٥٨٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ - (٦) زيادة من ت..
فَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ أَيْ: بَيِّنًا ظَاهِرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ جَزِيلٌ، وَآمَنَ النَّاسُ وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ (١)، وَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْكَافِرِ، وَانْتَشَرَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْإِيمَانُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ : هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-الَّتِي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَالِاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، لَا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنَ الْآخِرِينَ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ أَطْوَعَ خَلْقِ اللَّهِ لِلَّهِ، وَأَكْثَرَهُمْ (٢) تَعْظِيمًا لِأَوَامِرِهِ (٣) وَنَوَاهِيهِ. قَالَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ النَّاقَةُ: "حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ" ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا" (٤) فَلَمَّا أَطَاعَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أَيْ: بِمَا يُشَرِّعُهُ لَكَ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ.
﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ أَيْ: بِسَبَبِ خُضُوعِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ يَرْفَعُكَ اللَّهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" (٥). وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٦) أَنَّهُ قَالَ: مَا عَاقَبْتَ -أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ-أَحَدًا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
﴿هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ﴾ أَيْ: جَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ: الرَّحْمَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهُمُ الصَّحَابَةُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَانْقَادُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ لِذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتْ، زادهم إيمانًا مع إيمانهم.
(١) في م: "بعضا".
(٢) في ت، أ: "وأشدهم"
(٣) في ت: "لأوامر الله".
(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٢٧٣١، ٢٧٣٢).
(٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٥٨٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٦) زيادة من ت.
ثم قال تعالى :﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾، قد تقدم حديث أنس : قالوا : هنيئا لك يا رسول الله، هذا لك فما لنا ؟ فأنزل الله :﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي : ماكثين فيها أبدا. ﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي : خطاياهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، بل يعفو ويصفح ويغفر، ويستر ويرحم ويشكر، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾، كقوله ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [ آل عمرن : ١٨٥ ].
وقوله :﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ أي : يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ؛ ولهذا قال :﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ أي : أبعدهم من رحمته ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾.
ثم قال مؤكدا لقدرته على الانتقام من الأعداء - أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين - :﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَفَاضِلِ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ مِنَ الْكَافِرِينَ، فقال: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: وَلَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى شَرَّعَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، قَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ: قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكَ فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا. ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أَيْ: خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبَهُمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ، وَيَسْتُرُ وَيَرْحَمُ وَيَشْكُرُ، ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، كَقَوْلِهِ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمرن: ١٨٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ أَيْ: يَتَّهِمُونَ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ، وَيَظُنُّونَ بِالرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ أَنْ يُقْتَلُوا وَيَذْهَبُوا بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ أَيْ: أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.
ثُمَّ قَالَ مُؤَكِّدًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ -أَعْدَاءِ الإسلام من الكفرة والمنافقين-: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (٩) ﴾
﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ ﴾، قال ابن عباس وغير واحد : يعظموه، ﴿ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام، ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾ أي : يسبحون الله، ﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلا ﴾ أي : أول النهار وآخره.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (١) ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا﴾ أَيْ: عَلَى الْخَلْقِ، ﴿وَمُبَشِّرًا﴾ أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ، ﴿وَنَذِيرًا﴾ أَيْ: لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ "الْأَحْزَابِ" (٢).
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يُعَظِّمُوهُ، ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ الِاحْتِرَامُ وَالْإِجْلَالُ وَالْإِعْظَامُ، ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ أَيْ: يُسَبِّحُونَ اللَّهَ، ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النِّسَاءِ: ٨٠]، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: هُوَ حَاضِرٌ مَعَهُمْ يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ، وَيَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وَظَوَاهِرَهُمْ، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسوله
(١) في ت، م: "صلى الله عليه وسلم".
(٢) عند الآية الخامسة والأربعين.
329
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١١].
وَقَدْ قَالَ (١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى الْأَنْبَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ" (٢).
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الْحَجَرِ: "وَاللَّهِ لَيَبْعَثُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يَنْظُرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، بِهِ وَيَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ، فَمَنِ اسْتَلَمَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (٣).
وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى النَّاكِثِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا. وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ هِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُر بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قيل: ألف وثلثمائة. وَقِيلَ: أَرْبَعُمِائَةٍ. وَقِيلَ: وَخَمْسُمِائَةٍ. وَالْأَوْسَطُ (٤) أَصَحُّ.
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (٥). وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى رَوَوْا كُلُّهُمْ (٦).
وَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ سِيَاقٍ آخَرَ حِينَ ذَكَرَ قِصَّةَ عَطَشِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَوَضَعُوهُ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَجَاشَتْ بِالْمَاءِ، حَتَّى كَفَتْهُمْ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا (٧). وَفِي رِوَايَةٍ [فِي] (٨) الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مائة (٩).
(١) في ت: "وروى".
(٢) ورواه ابن مردويه كما في الجامع الصغير، ورمز له السيوطي بالضعف.
(٣) ورواه الترمذي في السنن برقم (٩٦١) من طريق قتيبة عن جرير بإسناده إلى قوله: "يشهد على من استلمه بالحق" ولم يذكر الآية، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(٤) في ت: "والأول".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٨٤٠) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٦).
(٦) صحيح البخاري برقم (٤١٥٤) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٦).
(٧) رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٦٣٩).
(٨) زيادة من م، أ.
(٩) صحيح البخاري برقم (٤١٥٢) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٦).
330
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَمْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً.
قُلْتُ: فَإِنَّ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً (١).
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَهْمَ فَقَالَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (٢).
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ. وَالْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْهُ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْعَبَّاسِ الدُّورِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ شَبَّابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ (٣). وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. وَبِهِ يَقُولُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَتْ أَسْلَمُ يَوْمَئِذٍ ثُمُنَ الْمُهَاجِرِينَ (٤).
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ المسور بن مخرمة، ومروان بن الْحَكَمِ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ يَقُولُ: كُنَّا أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (٥).
كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ أَوْهَامِهِ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ كَانُوا بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً.
ذِكْرُ سَبَبِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ الْعَظِيمَةِ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلَظِي (٦) عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بِهَا مِنِّي، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
(١) صحيح البخاري برقم (٤١٥٣).
(٢) دلائل النبوة للبيهقي (٤/٩٧).
(٣) دلائل النبوة للبيهقي (٤/٩٨).
(٤) صحيح البخاري برقم (٤١٥٥) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٧).
(٥) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/٣٠٨).
(٦) في ت، م: "غلظتي".
331
فَخَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (١) مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: "لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ". وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ. وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْهُمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَلَّا نَفِرَّ.
فَبَايَعَ النَّاسُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا إِلَّا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبِطِ نَاقَتِهِ، قَدْ ضَبَأَ إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ. (٢)
وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ (٣). عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَزَادَ فِي سِيَاقِهِ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا وَعِنْدَهُمْ عُثْمَانُ [بْنُ عَفَّانَ] (٤) سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُمْ إِذْ وَقَعَ كَلَامٌ بَيْنَ (٥) بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا، وَارْتَهَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ، فَاخْرُجُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ فَبَايِعُوا، فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إلى رسول الله ﷺ وَهُوَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا أَبَدًا، فَأَرْعَبَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ (٦)، وَأَرْسَلُوا مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَوْا إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَالصُّلْحِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا تَمْتَامٌ (٧)، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ (٨)، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ (٩) بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١٠) رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ". فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم (١١).
(١) زيادة من ت، م.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام (٢/٣١٥).
(٣) في ت: "أبي الأسود".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في م: "من".
(٦) في ت: "المشركون" وهو خطأ.
(٧) في أ، م: "هشام".
(٨) في أ: "بشير".
(٩) في ت: "وروى البيهقي بسنده".
(١٠) زيادة من ت.
(١١) لم أجده في دلائل النبوة ولعله في غيره.
332
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ (١) : حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ، عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ (٢)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ النَّحْوِيُّ: فَذَكَرَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ (٣).
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ أَبُو سِنَانٍ [الْأَسَدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤)، فَقَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَامَ تُبَايِعُنِي؟ ". فَقَالَ أَبُو سِنَانٍ: عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ. هَذَا أَبُو سِنَانِ [بْنُ] (٥) وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٦) (٧).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، سَمِعَ النَّضْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا صَخْرُ [بْنُ الرَّبِيعِ] (٨)، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ عُمَرَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ عبد الله إلى الفرس لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ، وَعُمَرُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْفَرَسِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، وَعُمَرُ يَسْتَلْئِمُ لِلْقِتَالِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَانْطَلَقَ، فَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ (٩) أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ، فَإِذَا النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ -يَعْنِي عُمَرُ-: يَا عَبْدَ اللَّهِ، انْظُرْ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَدْ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ، فَبَايَعَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عُمَرَ فَخَرَجَ فَبَايَعَ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي (١٠) عَمْرٍو الْأَدِيبِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ دُحَيْمٍ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فَذَكَرَهُ (١١).
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَبَايَعْنَاهُ، وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ (١٢).
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يبايع الناس (١٣)، وأنا رافع
(١) في أ: "شهاب".
(٢) في أ: "عن أبي بكر بن أبي مليكة".
(٣) السيرة النبوية (٢/٣١٦).
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (٤/١٣٧) من طريق الحميدي به.
(٨) زيادة من ت، أ.
(٩) في أ: "عبد الله بن عمر".
(١٠) في أ: "ابن".
(١١) صحيح البخاري برقم (٤١٨٧).
(١٢) صحيح مسلم برقم (١٨٥٦).
(١٣) في م: "والناس يبايعون النبي".
333
غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نَفِرَّ (١).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ يَزِيدُ: قُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ (٢)، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ (٣).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ تَنَحَّيْتُ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ أَلَا تُبَايِعُ؟ " قُلْتُ: بَايَعْتُ، قَالَ: "أَقْبِلْ فَبَايِعْ". فَدَنَوْتُ فَبَايَعْتُهُ. قُلْتُ: عَلَامَ بَايَعْتَهُ يَا سَلَمَةُ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ (٤). وَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ (٥).
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أبو الفضل بن إبراهم، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبراهم، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ الْيَمَامِيُّ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ سَلَمَةَ (٦) بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تَرْوِيهَا، فَقَعَدَ رسول الله ﷺ على جَبَاهَا -يَعْنِي الرَّكِيَّ-فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، فَجَاشَتْ، فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دعا إِلَى الْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ. فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ، ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّاسِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَايِعْنِي يَا سَلَمَةُ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُكَ فِي أَوَّلِ النَّاسِ. قَالَ:"وَأَيْضًا". قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزِلًا فَأَعْطَانِي حَجَفَةً -أَوْ دَرَقَةً-ثُمَّ بَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا تُبَايِعُ يَا سَلَمَةُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُكَ (٧) فِي أَوَّلِ النَّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ. قَالَ: "وَأَيْضًا". فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ، أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقِيَنِي عَامِرٌ عَزِلًا فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللَّهُمَّ أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَاسَلُونَا فِي الصُّلْحِ حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ فَاصْطَلَحْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ خَادِمًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَسْقِي فَرَسَهُ وَأُحِسُّهُ (٨) وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ (٩) فِي أَصْلِهَا فِي ظِلِّهَا، فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْغَضْتُهُمْ، وَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى فَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنَ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ. فَاخْتَرَطْتُ سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم
(١) صحيح مسلم برقم (١٨٥٨).
(٢) في م: "مسلمة".
(٣) صحيح البخاري برقم (٢٩٦٠).
(٤) صحيح مسلم برقم (١٨٦٠).
(٥) صحيح البخاري برقم (٢٩٥٩).
(٦) في ت: "وقال البيهقي بسنده عن سلمة".
(٧) في ت: "بايعت".
(٨) في ت، م: "وأجنبه".
(٩) في تن م، أ: "واضطجعت".
334
رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ وَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، ثُمَّ قُلْتُ (١) : وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ العَبَلات يُقَالُ لَهُ: "مِكْرَزٌ" مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُودُهُ، حَتَّى وَقَفْنَا بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ"، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٢) :﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ الْآيَةَ [الْفَتْحِ: ٢٤].
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْهِ بِسَنَدِهِ نَحْوَهُ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ (٣).
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَ أَبِي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا مِنْ قَابَلٍ حَاجِّينَ، فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا، فَإِنْ كَانَ تَبَيَّنَتْ لَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ (٤).
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا (٥) جَابِرٌ، قَالَ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، وَجَدْنَا رَجُلًا مِنَّا يُقَالُ لَهُ "الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ" مُخْتَبِئًا تَحْتَ إِبِطِ بَعِيرِهِ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، بِهِ (٦).
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (٧)، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ". قَالَ جَابِرٌ: لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ (٨) لَأَرَيْتُكُمْ مَوْضِعَ الشَّجَرَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهَا. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ (٩).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ. عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" (١٠).
وَقَالَ (١١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْفَلَّاسُ الْمَخْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ خِدَاشِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدْخُلُ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كُلُّهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ". قَالَ: فَانْطَلَقْنَا نَبْتَدِرُهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ أَضَلَّ بَعِيرُهُ، فَقُلْنَا: تَعَالَ فَبَايِعْ. فَقَالَ: أُصِيبُ بِعِيرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبَايِعَ (١٢).
(١) في تن م: "وقلت".
(٢) زيادة من ت، م.
(٣) دلائل النبوة للبيهقي (٤/١٣٨)، وصحيح مسلم برقم (١٨٠٧).
(٤) صحيح البخاري برقم (٤١٦٤) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٩) واللفظ لمسلم.
(٥) في م: "عن".
(٦) مسند الحميدي (٢/٥٣٧) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٦).
(٧) في ت: "وفي الصحيحين من حديث سفيان".
(٨) في ت، م: "انظر".
(٩) مسند الحميدي (٢/٥١٤) وصحيح البخاري برقم (٤١٥٤) وصحيح مسلم برقم (١٨٥٦).
(١٠) المسند (٣/٣٥٠).
(١١) في ت: "وروى".
(١٢) وفي إسناده محمد بن ثابت العبدي، ضعفه ابن معين وشيخه خداش بن عياش وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: "لا نعرف خداشا هذا من هو".
335
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (١)، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ، ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ". فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ خَيْلُ بَنِي (٢) الْخَزْرَجِ، ثُمَّ تَبَادَرَ النَّاسُ بَعْدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ". فَقُلْنَا: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٣). فَقَالَ: وَاللَّهُ لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ. فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ يُنْشِدُ ضَالَّةً (٤). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، بِهِ (٥).
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ-مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا أَحَدٌ". قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ لِحَفْصَةَ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا﴾ [مَرْيَمَ: ٧١]، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ قَالَ اللَّهُ: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٧٢]، رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٦).
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا؛ فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" (٧).
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الْفَتْحِ: ١٠]، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الْفَتْحِ: ١٨].
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤) ﴾
(١) في ت: "وقال عبد الله بن أحمد بسنده".
(٢) في أ: "من".
(٣) زيادة من ت.
(٤) في أ: "ضالته".
(٥) صحيح مسلم برقم (٢٧٨٠).
(٦) صحيح مسلم برقم (٢٤٩٦).
(٧) صحيح مسلم برقم (٢٤٩٤).
ثم قال :﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ﴾ أي : لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق، ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ﴾ أي : اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم، ولا يرجع منهم مخبر، ﴿ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ أي : هلكى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد. وقال قتادة : فاسدين. وقيل : هي بلغة عمان.
ثم قال :﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي : من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر.
ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض :﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ أي : لمن تاب إليه وأناب، وخضع لديه.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ (١) -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (٢) -بِمَا يَعْتَذِرُ بِهِ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْمُقَامَ فِي أَهْلِيهِمْ وَشُغْلِهِمْ (٣)، وَتَرَكُوا الْمَسِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْتَذَرُوا بِشُغْلِهِمْ بِذَلِكَ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمُ الرَّسُولُ (٤) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُمْ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ وَالْمُصَانَعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّ مَا أَرَادَهُ فِيكُمْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِسَرَائِرِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ، وَإِنْ صَانَعْتُمُونَا وَتَابَعْتُمُونَا (٥) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.
ثُمَّ قَالَ: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُكُمْ تَخَلُّفَ مَعْذُورٍ وَلَا عَاصٍ، بَلْ تَخَلُّفَ نِفَاقٍ، ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ أَيْ: اعْتَقَدْتُمْ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَتُسْتَأْصَلُ شَأْفَتُهُمْ وَتُسْتَبَادُ خَضْرَاؤُهُمْ، وَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ أَيْ: هَلْكَى. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَاسِدِينَ. وَقِيلَ: هِيَ بِلُغَةِ عُمَانَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أَيْ: مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِلَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُعَذِّبُهُ فِي السَّعِيرِ، وَإِنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ في أهل السموات وَالْأَرْضِ: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أَيْ: لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ، وَخَضَعَ لَدَيْهِ.
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (١٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ (٦) الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى خَيْبَرَ يَفْتَتِحُونَهَا: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ وَقْتِ مُحَارَبَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَمُصَابَرَتِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَأْذَنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، مُعَاقَبَةً لَهُمْ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِهِمْ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَغَانِمِ خَيْبَرَ وَحْدَهُمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ الْمُتَخَلِّفِينَ، فَلَا (٧) يَقَعُ غَيْرُ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَجُوَيْبِرٌ: وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وُعِدَ بِهِ أهل الحديبية. واختاره ابن جرير (٨).
(١) في ت، م: "لرسوله".
(٢) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٣) في ت، أ: "والشغل بهم".
(٤) في م: "رسول الله".
(٥) في ت: "أو نافقتمونا".
(٦) في ت، م، أ: "عمرة".
(٧) في ت: "ولا".
(٨) تفسير الطبري (٢٦/٥٠).
337
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٨٣].
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي "بَرَاءَةَ" نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ غَزْوَةِ (١) الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: بِتَثْبِيطِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ.
﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ سُؤَالِكُمُ (٢) الْخُرُوجَ مَعَهُمْ، ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أَيْ: أَنْ نُشْرِكَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا﴾ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَكِنْ لَا فَهْمَ لهم (٣).
(١) في ت، م، أ: "عمرة".
(٢) في ت، م: "قبل أن يسألوكم".
(٣) في ت، أ: "لأنهم عدو لهم".
338
﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦) لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧) ﴾
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَيْهِمْ، الَّذِينَ هُمْ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ هَوَازِنُ. رَوَاهُ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْر، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ -أَوْ عِكْرِمَةَ (١)، أَوْ جَمِيعًا-وَرَوَاهُ هُشيم عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْهُمَا. وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.
الثاني: ثقف، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ: بَنُو حَنِيفَةَ، قَالَهُ جُوَيْبِرٌ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدٍ وَعِكْرِمَةَ.
الرَّابِعُ: هُمْ أَهْلُ فَارِسَ. رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُمُ الرُّومُ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هُمْ رِجَالٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ فِرْقَةً. وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَوَارِيرِيُّ، عَنْ مَعْمَر (٢)، عن
(١) في ت: "هوازن قاله عكرمة".
(٢) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
ثم ذكر الأعذار في ترك الجهاد، فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.
ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله :﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ ﴾ أي : ينكل عن الجهاد، ويقبل على المعاش ﴿ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قَالَ: لَمْ يَأْتِ أُولَئِكَ بَعْدُ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قَالَ: هُمُ الْبَارِزُونَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ، ذُلْفَ الْآنُفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ". قَالَ سُفْيَانُ: هُمُ التُّرْكُ (١).
قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: وَجَدْتُ فِي مَكَانٍ (٢) آخَرَ: ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَفَسَّرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعْر" قَالَ: هُمُ الْبَارِزُونَ، يَعْنِي الْأَكْرَادَ (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ يَعْنِي: يُشْرِّعُ لَكُمْ جِهَادَهُمْ وَقِتَالَهُمْ، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمْ، وَلَكُمُ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُسْلِمُونَ فَيَدْخُلُونَ فِي دِينِكُمْ بِلَا قِتَالٍ بَلْ بِاخْتِيَارٍ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا﴾ أَيْ: تَسْتَجِيبُوا وَتَنْفِرُوا فِي الْجِهَادِ وَتُؤَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ فِيهِ، ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ يَعْنِي: زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ دُعِيتُمْ (٤) فَتَخَلَّفْتُمْ، ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، فَمِنْهَا لَازِمٌ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ الْمُسْتَمِرِّ، وَعَارِضٌ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَطْرَأُ أَيَّامًا ثُمَّ يَزُولُ، فَهُوَ فِي حَالِ مَرَضِهِ مُلْحِقٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ اللَّازِمَةِ حَتَّى يَبْرَأَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُرَغِّبًا فِي الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ أَيْ: يَنْكُلُ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْمَعَاشِ ﴿يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فِي الدُّنْيَا بِالْمَذَلَّةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ.
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عِدَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.
(١) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (١٩١٩٩) والبخاري في صحيحه برقم (٢٩٢٩) من طريق سفيان عن الزهري بإسناده: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة" ورواه البخاري في صحيحه برقم (٢٩٢٨) من طريق صالح، عن الأعرج عن أبي هريرة بنحوه.
(٢) في ت: "وقال ابن أبي عمرو حديث في موضع".
(٣) وقد ذكر بعض المؤرخين أن أصحاب بابك المخرمي كانوا ينتعلون الشعر، فهم المقصودون بهذا الحديث.
(٤) في ت: "ذهبتم".
قال١ ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا موسى، أخبرنا موسى - يعني ابن عبيدة - حدثني إياس ٢ بن سلمة، عن أبيه، قال : بينما نحن قائلون. إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس. قال : فَثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى٣ :﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [ قال ]٤ : فبايع لعثمان بإحد يديه على الأخرى، فقال الناس : هنيئا لابن عفان، طوف بالبيت ونحن٥ هاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف " ٦.
١ - (٤) في ت: "وروى"..
٢ - (٥) في ت: "عن أبان"..
٣ - (٦) في ت، م: "فذلك قوله تعالى"..
٤ - (٧) زيادم من ت، م..
٥ - (٨) في ت، م: "وذكر"..
٦ - (٩) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٩٠) من طريق عبيد الله بن موسى به، قال الهيثمي في المجمع (٩/٨٤): "فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف"..
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ (١) مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ، حَيْثُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ: مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ﴿فَأَنزلَ السَّكِينَةَ﴾ : وَهِيَ الطُّمَأْنِينَةُ، ﴿عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ : وَهُوَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ، وَمَا حَصَلَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَامِّ الْمُسْتَمِرِّ الْمُتَّصِلِ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ فَتْحِ سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا (٣) وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾
قَالَ (٤) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُوسَى -يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدَةَ-حَدَّثَنِي إِيَاسُ (٥) بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ. إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ، الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ. قَالَ: فَثُرنا إلى رسول الله ﷺ وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةٍ فَبَايَعْنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (٦) :﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [قَالَ] (٧) : فَبَايَعَ لِعُثْمَانَ بإحد يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لِابْنِ عَفَّانَ، طَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ (٨) هَاهُنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ مَكَثَ كَذَا كَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ" (٩).
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (٢٣) ﴾
(١) في م: "وقلت".
(٢) صحيح البخاري برقم (٤١٦٣).
(٣) في ت: "تأخذونها".
(٤) في ت: "وروى".
(٥) في ت: "عن أبان".
(٦) في ت، م: "فذلك قوله تعالى".
(٧) زيادم من ت، م.
(٨) في ت، م: "وذكر".
(٩) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٩٠) من طريق عبيد الله بن موسى به، قال الهيثمي في المجمع (٩/٨٤) :"فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".
وقوله :﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ أي : وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها، قد يَسَّرها الله عليكم، وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون.
وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة، ما المراد بها ؟ فقال العَوْفي عن ابن عباس : هي خيبر. وهذا على قوله في قوله تعالى :﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ﴾ إنها صلح الحديبية. وقاله الضحاك، وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة : هي مكة. واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي ليلى، والحسن البصري : هي فارس والروم.
وقال مجاهد : هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي، عن ابن عباس :﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ﴾ قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم١.
١ - (٣) في ت: "إلى يوم القيامة"..
وقوله :﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ﴾ يقول تعالى مبشرا لعباده المؤمنين : بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفار٢ فارا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا ؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه٣ المؤمنين.
ثم قال :﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ﴾ أي : هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلى نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدد المسلمين وعُدَدهم، وكثرة المشركين وعددهم١.
١ - (٦) في ت، م: "ومددهم"..
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤) ﴾
340
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ : هِيَ جَمِيعُ الْمَغَانِمِ إِلَى الْيَوْمِ، ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ يَعْنِي: فَتْحَ خَيْبَرَ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ يَعْنِي: صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾ أَيْ: لَمْ يَنَلْكُمْ سُوءٌ مِمَّا كَانَ أَعْدَاؤُكُمْ أَضْمَرُوهُ لَكُمْ مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ. وَكَذَلِكَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ [عَنْكُمْ] (١) الَّذِينَ خَلَّفْتُمُوهُمْ وَرَاءَ أَظْهُرِكُمْ عَنْ عِيَالِكُمْ وَحَرِيمِكُمْ، ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ: يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَاءِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا بِصَنِيعِ اللَّهِ هَذَا بِهِمْ أَنَّهُ الْعَلِيمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْخِيَرَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كِرِهُوهُ فِي الظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦].
﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أَيْ: بِسَبَبِ انْقِيَادِكُمْ لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعِكُمْ طَاعَتَهُ، وَمُوَافَقَتِكُمْ رَسُولَهُ (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ أَيْ: وَغَنِيمَةً أُخْرَى وَفَتْحًا آخَرَ مُعَيَّنًا لَمْ تَكُونُوا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، قَدْ يَسَّرها اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَأَحَاطَ بِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ لَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ، مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ فَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ خَيْبَرُ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ إِنَّهَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَكَّةُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ كُلُّ فَتْحٍ وَغَنِيمَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ قَالَ: هَذِهِ الْفُتُوحُ الَّتِي تُفْتَحُ إِلَى الْيَوْمِ (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ يَقُولُ تَعَالَى مُبَشِّرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَنَّهُ لَوْ نَاجَزَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَنَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَانْهَزَمَ جَيْشُ الْكُفَّارِ (٤) فَارًّا مُدْبِرًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا؛ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِحِزْبِهِ (٥) الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾ أَيْ: هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ وَعَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ، مَا تَقَابَلَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فِي مَوْطِنٍ فَيَصِلُ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ الْإِيمَانُ عَلَى الْكُفْرِ، فَرَفَعَ الْحَقَّ وَوَضَعَ الْبَاطِلَ، كَمَا فَعَلَ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ قِلَّةِ عدد المسلمين وعُدَدهم، وكثرة المشركين وعددهم (٦).
(١) زيادة من ت.
(٢) في ت، م: "لرسوله".
(٣) في ت: "إلى يوم القيامة".
(٤) في م: "الكفر".
(٥) في ت، أ: "ولعباده".
(٦) في ت، م: "ومددهم".
341
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ : هَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَصِلْ (١) إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ سُوءٌ، وَكَفَّ أَيْدِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَلْ صَانَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَوْجَدَ بَيْنَهُمْ صُلْحًا فِيهِ خيَرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَاقِبَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ حِينَ جَاءُوا بِأُولَئِكَ السَّبْعِينَ الْأُسَارَى فَأَوْثَقُوهُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: "أَرْسِلُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وثنَاه". قَالَ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ هَبَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي السِّلَاحِ، مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأُخِذُوا -قَالَ عَفَّانُ: فَعَفَا عَنْهُمْ-وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (٢).
وَقَالَ أَحْمَدُ -أَيْضًا-: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ البُنَاني، عَنْ (٣) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّل المُزَنِي قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيَّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وسهلُ بْنُ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فَأَخَذَ سَهْلٌ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ. اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ. قَالَ: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ"، وَكَتَبَ: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ مَكَّةَ". فَأَمْسَكَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ وَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ، اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ. فَقَالَ: "اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَثَارُوا فِي (٤) وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَسْمَاعِهِمْ، فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ؟ أَوْ: هَلْ (٥) جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ " فَقَالُوا: لَا. فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، بِهِ (٦).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْد، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ القُمّي، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عن ابن أبْزَى قال: لما
(١) في ت: "تصل".
(٢) المسند (٣/١٢٢) وصحيح مسلم برقم (١٨٠٨) وسنن أبي داود برقم (٢٦٨٨) وسنن الترمذي برقم (٣٢٦٤) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٥١٠).
(٣) في ت: "بن".
(٤) في ت، م: "إلى".
(٥) في ت: "وهل".
(٦) المسند (٤/٨٦) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٥١١).
342
خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ وَانْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، تَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ لَكَ حَرْب بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَلَا كُرَاع؟ قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا إِلَّا حَمَلَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ مَنَعُوهُ أَنْ يَدْخُلَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى مِنًى، فَنَزَلَ بِمِنًى، فَأَتَاهُ عَيْنُهُ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ قَدْ خَرَجَ عَلَيْكَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: "يَا خَالِدُ، هَذَا ابْنُ عَمِّكَ أَتَاكَ فِي الْخَيْلِ (١)، فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا سَيْفُ اللَّهِ، وَسَيْفُ رَسُولِهِ -فَيَوْمَئِذَ سُمِّيَ سَيْفَ اللَّهِ-يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْمِ بِي أَيْنَ شِئْتَ. فَبَعَثَهُ عَلَى خَيْلٍ، فَلَقِيَ عِكْرِمَةَ فِي الشِّعْبِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّانِيَةِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ] ﴾ (٢) إِلَى: ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾. قَالَ: فَكَفَّ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْهُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَهُ (٣) عَلَيْهِمْ لِبَقَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بَقُوا فِيهَا كَرَاهِيَةَ أَنْ تَطَأَهُمُ الْخَيْلُ (٤).
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبْزَى بِنَحْوِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ خَالِدًا لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ؛ بَلْ قَدْ كَانَ طَلِيعَةَ الْمُشْرِكِينَ (٥) يَوْمَئِذٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَاضَوْهُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ (٦) فَيَعْتَمِرَ وَيُقِيمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يُمَانِعُوهُ، وَلَا حَارَبُوهُ وَلَا قَاتَلُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَكُونُ يَوْمَ الْفَتْحِ؟ فَالْجَوَابُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسُقْ عَامَ الْفَتْحِ هَديًا، وَإِنَّمَا جَاءَ مُحَارِبًا مُقَاتِلًا فِي جَيْشٍ عَرَمْرَم، فَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ خَلَلٌ، قَدْ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصِيبُوا مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فأُخذُوا أَخْذًا، فأُتي بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا إِلَى (٧) عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٨) بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ الْآيَةَ (٩).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: "ابْنُ زُنَيْم" اطَّلَعَ عَلَى الثَّنِيَّةِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَرَمَاهُ الْمُشْرِكُونَ بِسَهْمٍ فَقَتَلُوهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا فَأَتَوْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَارِسًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ لَكَمْ عَلَيَّ عَهْدٌ؟ هَلْ لَكَمْ عَلَيَّ ذِمَّةٌ؟ ". قَالُوا: لَا. فَأَرْسَلَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ الآية.
(١) في أ: "الجبل".
(٢) زيادة من ت.
(٣) في أ: "أظفركم".
(٤) تفسير الطبري (٢٦/٥٩).
(٥) في أ: "للمشركين".
(٦) في ت: "قابل".
(٧) في أ: "في".
(٨) في ت، م: "عسكر المسلمين".
(٩) رواه الطبري في تفسيره (٢٦/٥٩).
343
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَالَأَهُمْ (١) عَلَى نُصْرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَيْ: هُمُ الْكُفَّارُ دُونَ غَيْرِهِمْ، ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أَيْ: وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ أَيْ: وَصَدُّوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ (٢) إِلَى مَحَلِّهِ، وَهَذَا مِنْ بَغْيِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَكَانَ الهديُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ أَيْ: بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِمَّنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْهُمْ خِيفَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَكُنَّا سَلَّطناكم عَلَيْهِمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ وَأَبَدْتُمْ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَفْنَائِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَقْوَامٌ لَا تَعْرِفُونَهُمْ حَالَةَ (٣) الْقَتْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ﴾ أَيْ: إِثْمٌ وَغَرَامَةٌ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ: يُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُمْ لِيُخَلِّصَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَرْجِعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ أَيْ: لَوْ تَمَيَّزَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أَيْ: لَسَلَّطْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ فَلَقَتَلْتُمُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْباع -رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ-حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (٤) أَبُو سَعِيدٍ -مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-حَدَّثَنَا حُجْر بْنُ خَلَفٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَوْفٍ (٥) يَقُولُ (٦) : سَمِعْتُ (٧) جُنَيْدَ بْنَ سَبُعٍ يَقُولُ (٨) : قَاتَلْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ النَّهَارِ كَافِرًا، وَقَاتَلْتُ مَعَهُ آخِرَ النَّهَارِ مُسْلِمًا، وَفِينَا نَزَلَتْ: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ قَالَ: كُنَّا تِسْعَةَ نَفَرٍ: سَبْعَةَ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ (٩).
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَكِّيِّ بِهِ، وَقَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِي جمعة جنيد بن سبيع، فَذَكَرَهُ (١٠) وَالصَّوَابُ أَبُو جَعْفَرٍ: حَبِيبُ بْنُ سِبَاعٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُجْرِ بن خلف (١١)،
(١) في ت، أ: "ولا هم".
(٢) في ت: "يبلغ".
(٣) في أ: "حال".
(٤) في م، أ: "عبيد الله".
(٥) في أ: "عمرو".
(٦) في ت: "روى الحافظ الطبراني بسنده".
(٧) في ت: "عن".
(٨) في ت: "قال".
(٩) المعجم الكبير (٢/٢٩٠).
(١٠) المعجم الكبير (٤/٢٤).
(١١) في أ: "حنيف".
344
بِهِ. وَقَالَ: كُنَّا ثَلَاثَةَ (١) رِجَالٍ وَتِسْعَ نِسْوَةٍ، وَفِينَا نَزَلَتْ: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ (٢)، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (٣)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ يَقُولُ: لَوْ تَزَيَّلَ الْكَفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا بِقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وَأَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، ﴿فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾، وَهِيَ قَوْلُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثُوَيْرٍ (٤)، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الطُّفَيْلِ -يَعْنِي: ابْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (٥) [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٦) -عَنْ أَبِيهِ [أَنَّهُ] (٧) سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ قَزْعَةَ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَة عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٨).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ (٩)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بحقه، وحسابه على الله"، وأنزل الله في كِتَابِهِ، وَذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٣٥]، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ وَهِيَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، فَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ (١٠) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَاتَبَهُمْ رسول الله ﷺ على قَضِيَّةِ الْمُدَّةِ..
وَكَذَا رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (١١)، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ : الْإِخْلَاصُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ، لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كل شيء قدير.
(١) في م: "ثلاث".
(٢) في أ: "عن أبي هريرة".
(٣) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(٤) في أ: "ثور".
(٥) في ت: "كما روى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب".
(٦) زيادة من ت.
(٧) زيادة من ت، م.
(٨) تفسير الطبري (٢٦/٦٦) وزوائد عبد الله على المسند (٥/١٣٨) وسنن الترمذي برقم (٣٢٦٥).
(٩) في ت: "وروى بن أبي حاتم بسنده".
(١٠) في أ: "قريش".
(١١) تفسير الطبري (٢٦/٦٦).
345
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبَاية بْنِ رِبْعِي، عَنْ عَلِيٍّ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قوله: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: يَقُولُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ رَأْسُ كُلِّ تَقْوَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَر عن الزُّهْرِيِّ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَحَقَّ بِهَا، وَكَانُوا أَهْلَهَا.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يستحق الخير من يَسْتَحِقُّ الشَّرَّ.
وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الْفَتْحِ: ٢٦]، وَلَوْ حَمَيْتُمْ كَمَا حَمُوا لَفَسَدَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ عِنْدَكَ عِلْمٌ وَقُرْآنٌ، فَاقْرَأْ وَعَلِّمْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (١).
وَهَذَا ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ الصُّلْحِ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعَسَفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ (٢)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ فَخَرَجَتْ مَعَهَا العُوذ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسَتْ جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَلَّا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهُ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ! قَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بيني وبين سائر
(١) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٥٠٥).
(٢) في ت: "بشر بن كعب الكلبي".
346
النَّاسِ؟ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرْنِي اللَّهُ [عَلَيْهِمْ] (١) دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ؟ فَوَاللَّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَنِي اللَّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ". ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَسَلَكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحَمْضِ عَلَى طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ (٢) عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ. قَالَ: فَسَلَكَ بِالْجَيْشِ تِلْكَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ، رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلَأَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَأَتْ، وَمَا ذَلِكَ (٣) لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ، إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا" [ثُمَّ] (٤) قَالَ لِلنَّاسِ: "انْزِلُوا". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ. فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ، فَغَرَزَهُ فِيهِ فَجَاشَ بِالْمَاءِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا بُدَيل بْنُ وَرْقَاءَ فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَالَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ مُعَظِّمًا لِحَقِّهِ، فَاتَّهَمُوهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: [وَ] (٥) كَانَتْ خُزَاعَةُ فِي عَيْبَة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكُهَا وَمُسْلِمُهَا، لَا يُخْفُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِذَلِكَ فَوَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا عَلَيْنَا عَنْوة، وَلَا يَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ الْعَرَبُ. ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ مِكْرَز بْنَ حَفْصٍ، أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ". فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ مَا كَلَّم بِهِ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٦) ؛ فَبَعَثُوا إِلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ الْكِنَانِيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ، فَابْعَثُوا الهَدْي" فِي وَجْهِهِ، فَبَعَثُوا الْهَدْيَ، فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عُرْض الْوَادِي فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْتَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلِّهِ، رَجَعَ وَلَمْ يَصِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْظَامًا لِمَا رَأَى (٧)، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ رَأَيْتُ مَا لَا يَحِلُّ صَده، الْهَدْيُ فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْتَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلِّهِ. قَالُوا: اجْلِسْ، إِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ لَا عِلْمَ لَكَ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنْ قَدْ رَأَيْتُ مَا يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ تَبْعَثُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ إِذَا جَاءَكُمْ، مِنَ التَّعْنِيفِ وَسُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ والد وأنا وَلَدٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ بِالَّذِي نَابَكُمْ، فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي. قَالُوا: صَدَقْتَ مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. فَخَرَجَ (٨) حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جَمَعْتَ أَوْبَاشَ النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ لِبَيْضَتِكَ لِتَفُضَّهَا، إِنَّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ الله
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "يحرصه".
(٣) في ت: "وما ذاك".
(٤) زيادة من ت، م، أ.
(٥) زيادة من ت، م.
(٦) زيادة من ت، م.
(٧) في ت: "فلما رجع إلى أصحابه".
(٨) في أ: "ثم خرج".
347
أَلَّا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا. قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ! أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ؟! قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ". قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَكَافَأْتُكَ بِهَا، وَلَكِنْ هَذِهِ بِهَا. ثُمَّ تَنَاوَلَ لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ (١)، قَالَ: فَقَرَعَ يَدَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَمْسِكْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ -وَاللَّهِ-لَا تَصِلُ إِلَيْكَ. قَالَ: وَيْحَكَ! مَا أَفْظَعَكَ وَأَغْلَظَكَ! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا ابْنُ أَخِيكَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ". قَالَ: أَغُدَرُ، وَهَلْ غَسَلْتَ سَوْأَتَكَ إِلَّا بِالْأَمْسِ؟! قَالَ فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا كَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا. قَالَ: فَقَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٢) وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ، لَا يَتَوَضَّأُ وَضُوءًا إِلَّا ابْتَدَرُوهُ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا إِلَّا ابْتَدَرُوهُ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ. فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّى جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ، وَجِئْتُ قَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِمَا، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلكا قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءٍ أَبَدًا، فَرَوْا رَأْيَكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ بَعَثَ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: "الثَّعْلَبُ" فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَقَرَتْ (٣) بِهِ قُرَيْشٌ، وَأَرَادُوا قَتْلَ خِرَاشٍ، فَمَنَعَتْهُمُ الْأَحَابِيشُ، حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّى أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَدَفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٤) قَالَ: وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، قَالَ: وَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سَهْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ وَلَا يَكُونُ فِي صُلْحِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللَّهِ لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا. فَأَتَاهُ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ". فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَا وَأَطَالَا الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعَا حَتَّى جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فأت أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أو ليس برسول الله؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ،
(١) في ت: "بالحدد".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت: "عثرت".
(٤) زيادة من ت، أ.
348
الْزَمْ غَرْزَهُ حَيْثُ كَانَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. [ثُمَّ] (١) قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ. ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: "بَلَى" قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ: "أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي". ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأُصَلِّي وَأَتَصَدَّقُ وَأُعْتِقُ مِنَ (٢) الَّذِي صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٣) فَقَالَ: اكْتُبْ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنِ اكْتُبْ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ رَسُولُ الله: "اكتب باسمك اللهم. هذا ما صلح (٤) عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، سَهْلَ بْنَ عَمْرٍو"، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَوْ شَهِدْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُقَاتِلْكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو، عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (٥) مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٦) لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنَّهُ لَا إِسُلَالَ وَلَا إِغْلَالَ، وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ: أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ، دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ، وَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ لَا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ، إِذَا جَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْحَدِيدِ قَدِ انْفَلَتَ إلى رسول الله ﷺ (٧) قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وَمَا تَحَمَّلَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٨) عَلَى نَفْسِهِ، دَخَلَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا. فَلَمَّا رَأَى سَهْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ لَجَّتِ (٩) الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا. قَالَ: "صَدَقْتَ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِتَلَابِيبِهِ. قَالَ: وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟ قَالَ: فَزَادَ النَّاسَ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا (١٠)، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ". قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَجَعَلَ يَمْشِي مَعَ [أَبِي] (١١) جَنْدَلٍ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ، قَالَ: يَقُولُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ. قَالَ: وَنَفَذَتِ الْقَضِيَّةُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْكِتَابِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحَلِّ، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْحَرُوا (١٢) وَاحْلِقُوا". قَالَ: فَمَا قَامَ أَحَدٌ. قَالَ: ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ حَتَّى عَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ.
فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلَهُمْ مَا رَأَيْتَ، فَلَا تُكَلِّمن (١٣) مِنْهُمْ إِنْسَانًا، وَاعْمِدْ إِلَى هَدْيِكَ حَيْثُ كَانَ فَانْحَرْهُ وَاحْلِقْ، فَلَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَهُ، ثُمَّ جَلَسَ فَحَلَقَ، قَالَ: فَقَامَ النَّاسُ يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ. قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ.
هَكَذَا سَاقَهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر وَزِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِهِ (١٤)، وَفِيهِ إِغْرَابٌ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ الزُّهْرِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ (١٥) وَخَالَفَهُ فِي أَشْيَاءَ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي صَحِيحِهِ، فَسَاقَهُ سِيَاقَةً (١٦) حَسَنَةً مُطَوَّلَةً بِزِيَادَاتٍ جَيِّدَةٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ (١٧) مِنْ صَحِيحِهِ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُرْوة بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مُخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خزاعة، وسار حتى إذا كان بغير الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ وَمَانِعُوكَ. فَقَالَ: "أَشِيرُوا أَيُّهَا الناس عليّ، أترون أن نميل عل عِيَالِهِمْ، وَذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ صَدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ؟ " وَفِي لَفْظٍ: "أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ عَلَى ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ. فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ قَدْ قَطَعَ عُنُقا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْزُونِينَ"، وَفِي لَفْظٍ: "فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَجْهُودِينَ محرُوبين وَإِنْ نَجَوْا يَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١٨) : يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ، لَا نُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبًا، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ عِلِمَ إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرُوحُوا إِذَنْ"، وَفِي لَفْظٍ: "فَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ".
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ في خيل لقريش طليعة،
(١) زيادة من م، أ.
(٢) في ت: "عن".
(٣) زيادة من ت.
(٤) في أ: "ما صالح".
(٥) في أ: "محمدا".
(٦) زيادة من ت.
(٧) زيادة من ت.
(٨) زيادة من ت، أ.
(٩) في ت، أ: "تمت".
(١٠) في ت، م، أ: "عهدنا".
(١١) زيادة من ت، م، أ.
(١٢) في ت، أ: "انحروا في الحرم".
(١٣) في ت، أ: "فلا تكلمن".
(١٤) المسند (٤/٣٢٣) والسيرة النبوية لابن هشام (٢/٣١٦).
(١٥) رواه أحمد في مسنده (٤/٣٢٨) من طريق عبد الرزاق به.
(١٦) في م: "بسياقات".
(١٧) في ت، م: "الشرط".
(١٨) زيادة من أ.
349
فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ". فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بقَتَرة الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَقَالَ النَّاسُ: حَلِّ حَلِّ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ، إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا". ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يَلْبَثِ (١) النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ (٢) إلى رسول الله ﷺ الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ مِنْ كِنَانَتِهِ سَهْمًا ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٣) مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ، نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نهكتهم الحرب فأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددنهم مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ (٤) اللَّهُ أَمْرَهُ" قَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ نَحَوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ. فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْوَابًا (٥) مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدْعُوَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْصُصْ بَظْر اللَّاتِ! أَنَحْنُ نَفِرُّ وَنَدَعُهُ؟! قَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا، لَأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ مِنْ لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأَسَهُ وَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟! وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيٍّ".
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ (٦)، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٧) نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذ تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، تَعْظِيمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحدون النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رشْد فَاقْبَلُوهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْن، فَابْعَثُوهَا لَهُ" فبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّون، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ البُدْن قَدْ قُلِّدت وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ (٨) رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: "مِكْرَز بْنُ حَفْصٍ"، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مِكْرَزُ [بْنُ حَفْصٍ] (٩) وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ"، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سَهْلَ بْنُ عَمْرٍو.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قال: لما جاء سهل بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ سَهُل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ".
قَالَ معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهل بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ أَكْتُبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ (١٠) كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " [اكتب] (١١) : بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهل [بْنُ عَمْرٍو] (١٢) : أَمَّا "الرَّحْمَنُ" فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ"، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبْ: بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فَقَالَ سَهْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي. اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: "وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ". فَقَالَ سَهْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سَهْلٌ: "وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا". فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سهل
(١) في ت، م: "يلبثه".
(٢) في أ: "شكوا".
(٣) زيادة من م.
(٤) في ت، م: "أو لينفذن".
(٥) في أ: "أوشابا".
(٦) في ت: "بعينه".
(٧) زيادة من ت.
(٨) في أ: "فقام".
(٩) زيادة من أ.
(١٠) في ت: "بينكم".
(١١) زيادة من أ.
(١٢) زيادة من ت، م.
351
بْنِ عَمْرٍو يرسُفُ فِي قُيُودِهِ قَدْ (١) خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سَهْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدّه إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ". قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَجِزْهُ لِي" فَقَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزٍ ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: "بَلَى فَافْعَلْ". قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أرَدّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟! وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ] (٢) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلَى". قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى". قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، ولستُ أَعْصِيهِ، وهو ناصري"، قلت: أو لست كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ (٣) الْعَامَ؟ " قُلْتُ: لَا قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ ومُطوِّف بِهِ". قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بغَرْزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أو ليس كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ تَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ (٤) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ!! فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الْمُمْتَحِنَةِ: ١٠]. فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ -رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ-وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ! وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ مِنْهُ ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَد، وفَرّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: "لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعرًا"، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(١) فِي ت: "حتى".
(٢) زيادة من ت.
(٣) في ت: "أنك تأتيه".
(٤) في ت: "النبي".
(٥) في م: "االنبي".
353
قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ. فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ -وَاللَّهِ-أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ نَجَّانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ! لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ". فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سَيْفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سَهْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. فَأَرْسَلَتْ قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: "فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ". فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
هَكَذَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا (١)، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٢) وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مَرْوَانَ والمِسْوَر بْنِ [مَخْرَمة] (٣)، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ (٤). وَهَذَا أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يَسُقْهُ أَبْسَطَ مِنْ هَاهُنَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ تَبَايُنٌ فِي مَوَاضِعَ، وَهُنَاكَ فَوَائِدُ يَنْبَغِي إِضَافَتُهَا إِلَى مَا هَاهُنَا، وَلِذَلِكَ سُقْنَا تِلْكَ الرِّوَايَةَ وَهَذِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِي، حَدَّثَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَعَمْ. فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْف: اتهمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ -يَعْنِي: الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ-وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ فَقَالَ: "بَلَى" قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يحكم الله بيننا؟ فقال: "يا ابن الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا"، فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْنَا على الحق وهم على الباطل، فقال: يا ابن الْخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ (٥).
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طرق أخر عن أبي وائل سفيان (٦)
(١) صحيح البخاري برقم (٢٧٣١، ٢٧٣٢).
(٢) صحيح البخاري برقم (٤١٨٠).
(٣) زيادة من م.
(٤) رواه البخاري في صحيحه في أول الشروط برقم (٢٧١١).
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٨٤٤).
(٦) في هـ: "شقيق".
354
وقوله :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾، وذلك حين أبوا أن يكتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم "، وأبوا أن يكتبوا :" هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله "، ﴿ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾، وهي قول :" لا إله إلا الله "، كما قال ابن جرير، وعبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن ثوير١، عن أبيه عن الطفيل - يعني : ابن أبي بن كعب ٢ [ رضي الله عنه ] ٣ - عن أبيه [ أنه ] ٤ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال :" لا إله إلا الله ".
وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وسألت أبا زُرْعَة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه٥.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب٦، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله "، وأنزل الله في كتابه، وذكر قوما فقال :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، وقال الله جل ثناؤه :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ﴾ وهي :" لا إله إلا الله، محمد رسول الله "، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون٧ يوم الحديبية، وكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة. .
وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري٨، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري، والله أعلم.
وقال مجاهد :﴿ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ : الإخلاص. وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال : لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وقال الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن عَبَاية بن رِبْعِي، عن علي :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال : لا إله إلا الله، والله أكبر. وكذا قال ابن عمر، رضي الله عنهما.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال : يقول : شهادة أن لا إله إلا الله، وهي رأس كل تقوى.
وقال سعيد بن جبير :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال : لا إله إلا الله والجهاد في سبيله.
وقال عطاء الخراساني : هي : لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر عن الزهري :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال : بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال قتادة :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال : لا إله إلا الله.
﴿ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ﴾ : كان المسلمون أحق بها، وكانوا أهلها.
﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ أي : هو عليم بمن يستحق الخير من يستحق الشر.
وقد قال النسائي : حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا شبابة بن سوار، عن أبي رزين، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [ الفتح : ٢٦ ]، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام. فبلغ ذلك عمر فأغلظ له، فقال : إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله. فقال عمر : بل أنت رجل عندك علم وقرآن، فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله ٩.
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يَسَار، عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي١٠، فقال : يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العُوذ المطافيل، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله [ عليهم ]١١ دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة ". ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه١٢ على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة. قال : فسلك بالجيش تلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك ثنية المرار، بركت ناقته، فقال الناس : خلأت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما خلأت، وما ذلك١٣ لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها " [ ثم ] ١٤ قال للناس :" انزلوا ". قالوا : يا رسول الله، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدًا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق : قال الزهري :[ و ]١٥ كانت خزاعة في عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركها ومسلمها، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بمكة، فقالوا : وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوة، ولا يتحدث بذلك العرب. ثم بعثوا إليه مِكْرَز بن حفص، أحد بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" هذا رجل غادر ". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كَلَّم به أصحابه، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]١٦، فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني، وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهَدْي " في وجهه، فبعثوا الهدي، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى١٧، فقال : يا معشر قريش، قد رأيت ما لا يحل صَده، الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله. قالوا : اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي، فقال : يا معشر قريش، إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج١٨ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، فقال : يا محمد جمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال : وأبو بكر قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ ! قال : من هذا يا محمد ؟ قال :" هذا ابن أبي قحافة ". قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد ١٩، قال : فقرع يده. ثم قال : أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل - والله - لا تصل إليك. قال : ويحك ! ما أفظعك وأغلظك ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم :" هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ". قال : أغدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ ! قال فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. قال : فقام من عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]٢٠ وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش، إنى جئت كسرى في ملكه، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت مَلكا قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم. قال : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له :" الثعلب " فلما دخل مكة عقرت ٢١ به قريش، وأرادوا قتل خراش، فمنعتهم الأحابيش، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال : يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني : عثمان بن عفان. قال : فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته. فخرج عثمان حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ٢٢ قال : واحتبسته قريش عندها، قال : وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل.
قال محمد : فحدثني الزهري : أن قريشًا بعثوا سهل بن عمرو، وقالوا : ائت محمدًا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها
١ - (٤) في أ: "ثور"..
٢ - (٥) في ت: "كما روى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب"..
٣ - (٦) زيادة من ت..
٤ - (٧) زيادة من ت، م..
٥ - (٨) تفسير الطبري (٢٦/٦٦) وزوائد عبد الله على المسند (٥/١٣٨) وسنن الترمذي برقم (٣٢٦٥)..
٦ - (٩) في ت: "وروى بن أبي حاتم بسنده"..
٧ - (١٠) في أ: "قريش"..
٨ - (١١) تفسير الطبري (٢٦/٦٦)..
٩ - (١) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٥٠٥)..
١٠ - (٢) في ت: "بشر بن كعب الكلبي"..
١١ - (١) زيادة من أ..
١٢ - (٢) في أ: "يحرصه"..
١٣ - (٣) في ت: "وما ذاك"..
١٤ - (٤) زيادة من ت، م، أ..
١٥ - (٥) زيادة من ت، م..
١٦ - (٦) زيادة من ت، م..
١٧ - (٧) في ت: "فلما رجع إلى أصحابه"..
١٨ - (٨) في أ: "ثم خرج"..
١٩ - (٢) زيادة من ت، أ..
٢٠ - (٢) زيادة من ت، أ..
٢١ - (٣) في ت: "عثرت"..
٢٢ - (٤) زيادة من ت، أ..
ابن سَلَمَةَ، عَنْ سَهْلِ (١) بْنِ حَنِيفٍ بِهِ (٢)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُهُ" وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فَقَالَ سَهْلٌ: لَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". فَقَالَ: "اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ". قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ (٣) أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ: اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبْ: مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ". وَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ (٤) مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (٥).
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سِمَاكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "امْحُ يَا عَلِيُّ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". وَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُهُ ذَلِكَ يَمْحَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْيَمَامِيِّ، بِنَحْوِهِ (٦).
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا صُدَّت عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تَحِنُّ إِلَى أَوْلَادِهَا (٧).
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨) ﴾.
(١) في م: "سهل".
(٢) صحيح البخاري برقم (٣١٨١، ٧٣٠٨، ٤١٨٩، ٣١٨٢) وصحيح مسلم برقم (١٧٨٥) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٥٠٤).
(٣) في م: "علمنا".
(٤) في م: "أنه".
(٥) المسند (٣/٢٦٨) وصحيح مسلم برقم (١٧٨٤).
(٦) المسند (١/٣٤٢) وسنن أبي داود برقم (٤٠٣٧).
(٧) المسند (١/٣١٤).
355
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُرِىَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا سَارُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَشُكَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا تَتَفَسَّرُ (١) هَذَا الْعَامَ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ قَضِيَّةِ الصُّلْحِ وَرَجَعُوا عَامَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَعُودُوا مِنْ قَابَلَ، وَقَعَ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، حَتَّى سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: أَفَلَمْ تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ (٢) عَامَكَ هَذَا" قَالَ: لَا قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ". وَبِهَذَا أَجَابَ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْضًا حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ :[وَ] (٣) هَذَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَوْكِيدِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ، [وَقَوْلُهُ] (٤) :﴿آمِنِينَ﴾ أَيْ: فِي حَالِ دُخُولِكُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾، حَالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ حَرَمِهِمْ (٥) لَمْ يَكُونُوا مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي ثَانِي الْحَالِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَهُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ" فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ (٦).
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَخَافُونَ﴾ : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْأَمْنَ حَالَ الدُّخُولِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخَوْفَ حَالَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْبَلَدِ لَا يَخَافُونَ مِنْ أَحَدٍ. وَهَذَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَخَرَجَ فِي صِفْرَ إِلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا عَنْوَةً وَبَعْضَهَا صُلْحًا، وَهِيَ إِقْلِيمٌ عَظِيمٌ كَثِيرُ النَّخْلِ (٧) وَالزُّرُوعِ، فَاسْتَخْدَمَ (٨) مَنْ فِيهَا مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهَا عَلَى الشَّطْرِ، وَقِسَّمَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَحْدَهُمْ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَغِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِلَّا أَبَا دُجَانَةَ سِمَاك بْنَ خَرَشَة، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ [فِي] (٩) سَنَةِ سَبْعٍ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا هُوَ وَأَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، قِيلَ: كَانَ سِتِّينَ بَدَنَةً، فَلَبَّى وَسَارَ أَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ أَمَامَهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ رُعِبُوا رُعْبًا شَدِيدًا، وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ، وَأَنَّهُ قَدْ نكث العهد الذي بينه بينهم مِنْ وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ، وَذَهَبُوا فَأَخْبَرُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، بَعَثَ السِّلَاحَ مِنَ الْقِسِيِّ وَالنَّبْلِ وَالرِّمَاحِ إِلَى بَطْنِ يَأْجُجَ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ بِالسَّيْفِ مُغْمَدَةً فِي قُرُبِهَا، كَمَا شَارَطَهُمْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بعثت قريش مِكْرَز
(١) في أ: "تتعين".
(٢) في ت، م: "آتيه".
(٣) زيادة من ت.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في م، أ: "دخولهم".
(٦) صحيح البخاري برقم (١٧٢٧) وصحيح مسلم برقم (١٣٠١) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(٧) في أ: "النخيل".
(٨) في ت: "واستخدم".
(٩) زيادة من ت.
356
بْنَ حَفْصٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا عَرَفْنَاكَ تَنْقُضُ الْعَهْدَ. قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ (١) : دَخَلْتَ: عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وَالْقِسِيِّ وَالرِّمَاحِ. فَقَالَ: "لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثْنَا بِهِ إِلَى يَأْجُجَ"، فَقَالَ: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الْكُفَّارِ مِنْ مَكَّةَ لِئَلَّا يَنْظُرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ [لَا] (٢) إِلَى أَصْحَابِهِ غَيْظًا وَحَنَقًا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فَجَلَسُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ، وَالْهَدْيُ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى ذِي طُوًى، وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ الَّتِي كَانَ رَاكِبُهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُودُهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
بِاسْمِ الَّذِي لَا دِينَ إِلَّا دينُه... بِاسْمِ الَّذِي محمدٌ رَسُولُهُ...
خَلُّوا بَنِي الكُفَّار عَنْ سَبِيله... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْويله...
كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ... ضَرْبًا يزيلُ الهام عَن مَقِيله...
ويُذْهِل الخليل عن خليله... قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ...
فِي صُحف تُتْلَى عَلَى رسُوله... بِأَنَّ خَيْرَ القَتْل فِي سَبِيلِهِ...
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
فَهَذَا مَجْمُوعٌ مِنْ رِوَايَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ (٣) بْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٤)، وَهُوَ يَقُولُ:
خُلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ... إِنِّي شَهيدٌ أَنَّهُ رَسُولُهُ...
خَلُّوا فَكُلُّ (٥) الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ...
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ...
ضَرْبًا يُزيل الْهَامَ عن مقيله... ويذهل الخليل عن خليله...
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بغرزه، وهو يقول:
(١) في ت، م: "فقال".
(٢) زيادة من ت، م، أ.
(٣) في ت: "محمد".
(٤) في ت: "مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ".
(٥) في ت: "وكل".
357
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ... قَدْ نَزَّلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ...
بَأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ...
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ...
ضربا يزيل الهام عن مقيله... ويذهل الخليل عَنْ خَلِيلِهِ...
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي: ابْنَ زَكَرِيَّا-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ-عَنْ أَبِي الطُّفَيْل (١)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عُمْرَتِهِ، بَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قُرَيْشًا [تَقُولُ] (٢) : مَا يَتَبَاعَثُونَ مِنَ العَجَف. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ انْتَحَرْنَا مِنْ ظَهْرِنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وحَسَونا مِنْ مَرَقه، أَصْبَحْنَا غَدًا حِينَ نَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَبِنَا جَمَامَة. قَالَ: "لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنِ اجْمَعُوا لِي (٣) مِنْ أَزْوَادِكُمْ". فَجَمَعُوا لَهُ وَبَسَطُوا الْأَنْطَاعَ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا وَحَثَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جِرَابِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَعَدَتْ قُرَيْشٌ نَحْوَ الْحِجْرِ، فَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَرَى (٤) الْقَوْمُ فِيكُمْ غَمِيرَةً" فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ رَمَل، حَتَّى إِذَا تَغَيَّبَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَشَى إِلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا تَرْضَوْنَ بِالْمَشْيِ أَمَا إِنَّكُمْ لتنقُزُون نَقْزَ الظِّبَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، فَكَانَتْ سُنَّة. قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: فَأَخْبَرَنِي ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (٥).
وَقَالَ (٦) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ؛ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمّى يَثْرِبَ، وَلَقُوا مِنْهَا سُوءًا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا، وَجَلَسَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي تَلِي الْحِجْرَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَصْحَابَهُ] (٧) أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ؛ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، قَالَ: فَرْمَلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَمْنَعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَّنَتْهُمْ؟ هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ (٨) وَفِي لَفْظٍ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، أَيْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كلها إلا الإبقاء عليهم.
(١) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(٢) زيادة من تن أ.
(٣) في ت، أ: "إلي".
(٤) في ت: "ألا ترى".
(٥) المسند (١/٣٠٥).
(٦) في ت: "وروى".
(٧) زيادة من ت.
(٨) المسند (١/٢٩٥) وصحيح البخاري برقم (٤٢٥٦) وصحيح مسلم برقم (٢٢٦٦).
358
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَزَادَ ابْنُ سَلَمَةَ -يَعْنِي حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ-عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِ الَّذِي اسْتَأْمَنَ قَالَ: "ارْمُلُوا". لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلَ قُعَيْقِعَانَ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُ (١).
وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (٢).
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: لَمَّا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَرْنَاهُ مِنْ غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ؛ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ (٣).
وَقَالَ (٤) الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا، وَلَا يُقِيمُ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا. فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ قَامَ بِهَا ثَلَاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا (٥).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعوه يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا: "هَذَا مَا قَاضَانَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". قَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: "أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "امْحُ رَسُولُ اللَّهِ". قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ السِّلَاحُ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ، وَأَلَّا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَلَّا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا" فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ: اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ. فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكَ فَحَمَلَتْهَا، فاختصم فيها علي وزيد
(١) صحيح البخاري برقم (٤٢٥٧٩.
(٢) صحيح البخاري برقم (١٦٤٩) وصحيح مسلم برقم (١٢٦٦) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٣٩٧٣٩.
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٢٥٥).
(٤) في ت: "روى".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٢٥٢).
359
وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الْخَالَةُ بمنزلة الأم"، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لِزَيْدٍ: "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا" قَالَ عَلِيٌّ: أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: "إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ" انْفَرَدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (١).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ أَيْ: فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْخِيَرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي صَرْفِكُمْ عَنْ مَكَّةَ وَدُخُولِكُمْ إِلَيْهَا عَامَكُمْ ذَلِكَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ، ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ أَيْ: قَبْلَ دُخُولِكُمُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ : وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى، مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِنُصْرَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ [وَسَلَامُهُ] (٢) عَلَيْهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عِلْمٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ الشَّرْعِيُّ مَقْبُولٌ، فَإِخْبَارَاتُهَا حَقٌّ وَإِنْشَاءَاتُهَا عَدْلٌ، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ أَيْ: عَلَى أَهْلِ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ وَمِلِّيِّينَ (٣) وَمُشْرِكِينَ، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ أَيْ: أنه رسوله، وهو ناصره.
(١) صحيح البخاري برقم (٤٢٥١).
(٢) زيادة من ت.
(٣) في أ: "مسلمين".
360
ثم قال تعالى، مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلوات الله [ وسلامه ] ١ عليه على عدوه وعلى سائر أهل الأرض :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ﴾
أي : بالعلم النافع والعمل الصالح ؛ فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل، ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ أي : على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم ومليين ٢ ومشركين، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ أي : أنه رسوله، وهو ناصره.
١ - (٢) زيادة من ت..
٢ - (٣) في أ: "مسلمين"..
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ (١)، أَنَّهُ رَسُولُهُ حَقًّا بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، فَقَالَ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾، وَهَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ جَمِيلٍ، ثُمَّ ثَنَّى بِالثَّنَاءِ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٥٤] وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ شَدِيدًا عَنِيفًا عَلَى الْكَفَّارِ، رَحِيمًا بَرًّا بِالْأَخْيَارِ، غَضُوبًا عَبُوسًا فِي وَجْهِ الْكَافِرِ، ضَحُوكًا بَشُوشًا فِي وَجْهِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٣]، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الواحد، إذا اشتكى
(١) في ت: "صلى الله عليه وسلم" وفي م: "صلوات الله وسلامه عليه".
360
مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالحمَّى والسَّهر" (١)، وَقَالَ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (٢) كِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ : وَصَفَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ (٣) الصَّلَاةِ، وَهِيَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ (٤) الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ سَعَةُ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُ، تَعَالَى، عَنْهُمْ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التَّوْبَةِ: ٧٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ يَعْنِي: السَّمْتَ الْحَسَنَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي: الْخُشُوعَ وَالتَّوَاضُعَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّنَافسي، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الجَعْفي، عَنْ زَائِدَةَ (٥)، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ قَالَ: الْخُشُوعُ قُلْتُ: مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا هَذَا الْأَثَرَ فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْ مَنْ هُوَ أَقْسَى قَلْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الصَّلَاةُ تُحَسِّنُ وُجُوهَهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّلْحي، عَنْ ثَابِتِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (٦) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ" وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (٧).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ.
وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَات وَجْهِهِ، وفَلتَات لِسَانِهِ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَامِنَ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوَجْهِ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ سَرِيرَتُهُ صَحِيحَةً مَعَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ ظَاهِرَهُ لِلنَّاسِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حدثنا حامد بن آدم المروزي،
(١) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٠١١) ومسلم فس صحيحه برقم (٢٥٨٦) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٨١) ومسلم في صحيحه برقم (٢٥٨٥) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(٣) في ت، م: "وذكر".
(٤) في م: "المحبة".
(٥) في م: "المحبة".
(٦) في ت: "عن النبي".
(٧) سنن ابن ماجة برقم (١٣٣٣).
361
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العَرْزَمي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل (١)، عَنْ جُنْدَب بْنِ سُفْيَانَ البَجَلي قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسُهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ"، الْعَرْزَمِيُّ مَتْرُوكٌ (٢).
وَقَالَ (٣) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ (٤) مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا (٥) كَانَ" (٦).
وَقَالَ (٧) الْإِمَامُ أَحْمَدُ [أَيْضًا] (٨) : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْر، حَدَّثَنَا قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَان: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ، وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ، وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيِّ، عَنْ زُهَيْرٍ، بِهِ (٩).
فَالصَّحَابَةُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] (١٠) خَلُصَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُوهُ فِي سَمْتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا رَأَوُا الصَّحَابَةَ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ يَقُولُونَ: "وَاللَّهِ لَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِيمَا بَلَغَنَا". وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُعَظَّمَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نَوَّهَ اللَّهُ بِذِكْرِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَدَاوَلَةِ (١١) ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ :﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ] ﴾ (١٢) أَيْ: فِرَاخَهُ، ﴿فَآزَرَهُ﴾ أَيْ: شَدَّهُ ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ أَيْ: شَبَّ وَطَالَ، ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ أَيْ: فَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْعِ، ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾.
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انْتَزَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-بِتَكْفِيرِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ، وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَةُ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِمَسَاءَةٍ كَثِيرَةٌ (١٣)، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
(١) في ت: "وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده".
(٢) المعجم الكبير (٢/١٧١) وحامد بن آدم كذاب.
(٣) في ت: "وروى".
(٤) في أ: "عن".
(٥) في ت: "من".
(٦) المسند (٣/٢٨).
(٧) في ت: "وروى".
(٨) زيادة من ت.
(٩) المسند (١/٢٩٦) وسنن أبي داود برقم (٤٧٧٦).
(١٠) زيادة من ت، م، أ.
(١١) في م: "المقدسة".
(١٢) زيادة من م.
(١٣) في م: "كبيرة".
362
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ﴾ مِنْ" هَذِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، ﴿مَغْفِرَةً﴾ أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ. ﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا وَرِزْقًا كَرِيمًا، وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَكُلُّ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ (١)، وَقَدْ فَعَلَ.
قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أحدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (٢).
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
(١) في ت، م، أ: "مثواهم".
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٥٤٠).
363
Icon