تفسير سورة الفتح

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ هذه السورة مدنية فعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة والصحيح أنها نزلت بالطريق منصرفه من الحديبية سنة ست من الهجرة فهي تعد من المدني، ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم وإن تتولوا وهو خطاب لكفار قريش أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالفتح العظيم ولما قال: وأنتم الأعلون ناسب ذلك علو الإِسلام بهذ الفتح العظيم وعلل المغفرة باجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل يسرنا فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين وإغراض العاجل والآجل والسكينة هي الطمأنينة والسكون فقيل بسبب الصلح والأمن ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والهدنة بعد القتال فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم والظاهر أن اللام في ليدخل تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام وذلك أنه قال ولله جنود السماوات والأرض فكان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي بتلك الجنود من يشاء فيقبل الخير من قضى له بالخير والشر من قضى له بالشر ليدخل المؤمنين جنات ويعذب الكافرين فاللام تتعلق بيبتلي هذه قرىء: لتؤمنوا وعطف عليه ما بعد بتاء الخطاب وبياء الغيبة والضمير في وتعززوه وتوقروه عائد للرسول عليه السلام وفي تسبحوه عائد لله تعالى وتقدم لفظ التعزير.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ﴾ هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة حين أخذ الرسول عليه السلام الأهبة لقتال قريش حين أرجف بقتل عثمان بن عفان وقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمراً لا محارباً وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية بايعهم صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا على الموت وقال ابن عمر وجابر على أن لا نفر. وقال الزمخشري: لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيداً على طريقة التخييل فقال: يد الله فوق أيديهم يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما كقوله:﴿ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ﴾[النساء: ٨٠] ومن نكث فإِنما ينكث على نفسه فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه " انتهى ".﴿ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ المخلفون قبائل من العرب مذكورون في البحر.﴿ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا ﴾ هذا اعتلال مهم من تخلفهم أي لم يكن لهم من يقول بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم فبدؤوا بذكر الأموال لأن بها قوام العيش وعطفوا الأهل عليها لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال وكان الرسول صلى الله عليه وسلم استنفرهم حين أراد المسير إلى مكة فتحللوا بهذا الاعتلال.﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ﴾ الظاهر أنه راجع إلى الجملتين من الشغل وطالب الاستغفار لأن قولهم شغلتنا كذب وطلب الاستغفار خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون.﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ ﴾ أي من يمنعكم من قضاء الله.﴿ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً ﴾ من قتل أو هزيمة.﴿ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ﴾ من ظفر وغنيمة إذ هو تعالى المتصرف فيكم ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور ذكر ما دل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال ومن لم يؤمن ثم ذكر جزاءهم وهو السعير.﴿ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية لغنيمة خيبر وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً وأمره تعالى أن يقول لهم لن تتبعونا وأتى بصيغة لن وهي للمبالغة في النفي أي لا يتم لكم ذلك ان وقد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط.﴿ كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ يريد وعده قبل اختصاصهم بها.﴿ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾ أي يعز عليكم أن نصيب مغنماً معكم وذلك على سبيل الحسد ان نقاسمكم فيما تغنمون ثم ردّ تعالى عليهم كلامهم هذا فقال:﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ أي لا يفهمون.﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ من أمور الدنيا.﴿ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك ودل على أنهم كانوا يظهرون الإِسلام ولو لم يكن الأمر كذلك لم يكونوا أهلاً لهذا الأمر وأبهم تعالى في قوله:﴿ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ قال ابن عباس: هم الفرس وقيل غير ذلك والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإِسلام. قال الزمخشري: وفي هذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإِنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن بعد وفاته " انتهى ". وهذا ليس بصحيح قد حضر كثير منهم مع جعفر في موته وحضروا حرب هوازن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضروا معه في سفرة تبوك ولا يتم قول الزمخشري إلا على قول من عين أنهم من أهل الردة.﴿ فَإِن تُطِيعُواْ ﴾ أي فيما تدعون إليه.﴿ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ أي في الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في زمان الحديبية.﴿ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة.﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الآية لما ذكر حال من تخلف عن السفر مع الرسول ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ولذا سميت بيعة الرضوان والعامل في إذ رضي والرضا بمعنى إظهار النعم عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك أو حال من المفعول لأنه عليه السلام كان تحتها جالساً في أصلها وكانت الشجرة سمرة.﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ من الإِيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ قيل هو فتح خيبر وكان عقب انصرافهم من مكة.
﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ﴾ هذه المغانم المدعو بها هي المغانم التي كانت بعد هذه وتكون إلى يوم القيامة.﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ ﴾ الإِشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح قاله ابن عباس.﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ ﴾ أي أهل مكة بالصلح.﴿ وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ﴾ قال ابن عباس بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾ أي قضى بينكم المكافئة والمحاجزة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون عزة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أحس بها المسلمون بعث عليه السلام خالد بن الوليد وسماه حينئذٍ سيف الله في جملة من المسلمين ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمنّ عليهم وأطلقهم.﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي أهل مكة ومعكوفاً حال أي محبوساً.﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ﴾ كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفي الأماكن. فقال تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ ﴾ أي ولولا كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم.﴿ فَتُصِيبَكُمْ ﴾ بإِهلاكهم مكروه ومشقة ما كف أيديكم عنهم وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير للولا رجال مؤمنون لمرجعهما إلى معنى واحد ويكون لعذبنا هو الجواب انتهى قوله لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية فالمعنى في الأولى ولولا وطء قوم مؤمنين والمعنى في الثانية لو تميزوا من الكفار وهذا المعنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة.﴿ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ﴾ قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الاقرار للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمٰن الرحيم والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو والسكينة الوقار والاطمئنان فتوقروا وحلموا وكلمة التقوى لا إله إلا الله روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والظاهر أن الضمير في وكانوا عائد على المؤمنين والمفضل عليهم محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه عليه السلام.﴿ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ﴾ الآية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه قبل خروجه من الحديبية. وقال مجاهد: كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: ان رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وناس معه: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما استأنف واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه السلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه وصدقت رؤياه عليه السلام.﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ﴾ أي ما قدره من ظهور الإِسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم. قال الزمخشري: فعلم ما لم تعلموا من الحكمة من الحكمة والصواب في تأخر فتح مكة إلى العام القابل " انتهى ". لم يكن فتح مكة في العام القابل إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة وكان خروجه من المدينة عام الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.﴿ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾ من شهد الحديبية.﴿ أَشِدَّآءُ ﴾ جمع شديد.﴿ رُكَّعاً سُجَّداً ﴾ دليل على كثرة ذلك منهم وهذه السيما قال مالك بن أنس: كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب.﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ هذا التوراة ومثلهم هذا مبتدأ وكزرع خبره. وقال قتادة: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإِنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد قوم ينبتون نباتاً كالزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. شطأ الزرع واشطا إذا خرج فراخه وهو في الحنطة والشعير والضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل فإِذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى وكذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا أقلة ضعفاء فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين.﴿ فَٱسْتَغْلَظَ ﴾ أي صار من الرقة إلى الغلظ.﴿ فَٱسْتَوَىٰ ﴾ أي تم نباته.﴿ عَلَىٰ سُوقِهِ ﴾ جمع ساق كناية عن أصوله.﴿ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ ﴾ جملة في موضع الحال وإذا عجب الزراع فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ولو كان معيباً لم يعجبهم وهنا تم المثل وليغيظ متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره جعلهم الله بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار والأجر العظيم الجنة.
Icon