هي تسع وعشرون آية، وهي مدنية
قال القرطبي : بالإجماع. وبه قال ابن عباس وابن الزبير. وعن المسور بن مخرمة ومروان قالا نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية، لأن المراد بالسور المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما. عن عبد الله ابن المغفل قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيرة سورة الفتح على راحلته فرجع فيها ".
وفي الصحيحين. عن زيد بن أسلم عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيب فقال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أما الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ".
وفي صحيح مسلم :" عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت إن فتحنا لك فتحا مبينا إلى قوله فوزا عظيما مرجعه من الحديبية. وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها " ١.
ﰡ
وقيل: هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل: هو ما فتح له من النبوة، والدعوة إلى الإسلام، وقيل: فتح الروم، ومعنى الفتح في اللغة
قال الشعبي: لقد أصاب رسول الله ﷺ في الحديبية ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدىُ محله، وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس، وقال الزجاج: كان في فتح الحديبية آية عظيمة، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله ﷺ ثم مجه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس.
" وعن مجمع بن جارية الأنصاري قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا منها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ فقالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله ﷺ على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس إليه فقرأ عليهم إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، فقال رجل: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله ﷺ ثمانية عشر سهماً وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً (١)، أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وغيرهم.
وعن ابن مسعود قال: " أقبلنا من الحديبية مع رسول الله ﷺ فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه، وبه
_________
(١) رواه أحمد.
وعن البراء قال: " تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية " (٢) أخرجه البخاري وغيره.
وعن عائشة قالت: " قال رسول الله ﷺ إنا فتحنا الخ فتح مكة أخرجه ابن مردويه وعن أنس نحوه ومذهب أبي حنيفة أن مكة فتحت عنوة ومذهب الشافعي أنها فتحت صلحاً وفي البويطي أن أسفلها فتحه خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحاً ودخل ﷺ من جهته فصار الحكم له وبهذا تجتمع الأخبار التي ظاهرها التعارض.
_________
(١) رواه أحمد.
(٢) البخاري في صحيحه.
وقال الرازي في توجيه التعليل: إن المراد بقوله: ليغفر لك الله
قال ابن عادل: وقد يقال: إن هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء للفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها، ولكن هذا قول مردود، وقال البيضاوي اللام علة للفتح، من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار، والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة، وقال الجلال المحلي: اللام: للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب.
واختلف في معنى قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فقيل: ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة وما تأخر بعدها، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم، وقال عطاء: (ما تقدم من ذنبك) يعني: ذنب أبويك آدم وحواء، وما تأخر من ذنوب أمتك، وما أبعد هذا عن معنى القرآن، وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله، وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد وقيل: لو كان ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له والأول أولى، ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنباً في حق غيره فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن المغيرة بن شعبة قال: " كان النبي ﷺ يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي الباب أحاديث.
قال ابن عباس في الآية إن الله بعث نبيه ﷺ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وعنه أيضاًً قال فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.
(ولله جنود السموات والأرض) يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحفظ
(ويكفر عنهم سيئاتهم) أي يغطيها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير، مع أن الترتيب في الوجود على العكس، للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى (وكان ذلك) أي المذكور من الإدخال والتكفير (عند الله) أي: في علمه وقضائه وحكمه (فوزاً عظيماً) أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غم وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضر والظرف متعلق بمحذوف على أنه حال من (فوزاً) لأنه صفة له في الأصل فلما قدم صار حالاً أي كائناً من عند الله، والجملة إعتراض مقرر لما قبله بين المعطوف -وهو يعذب- والمعطوف عليه - وهو يدخل.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهم، عن أنس رضي الله عنه قال: " لما نزلت على النبي ﷺ ليغفر لك الله الآية مرجعه من الحديبية قال: لقد نزلت عليّ آية هي أحب إليّ مما على الأرض، ثم قرأها عليهم فقالوا هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت عليه ليدخل المؤمنين، حتى بلغ فوزاً عظيماً " (١).
ثم لما فرغ الله سبحانه مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم فقال:
_________
(١) البخاري ومسلم.
(الظانين بالله ظن السوء) وهو ظنهم أن النبي ﷺ يغلب، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله، (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) والسوء صفة لموصوف محذوف أي ظن الأمر السوء.
(عليهم دائرة السوء) أي ما يظنونه ويتربصون بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم؛ الدائرة مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل من دار يدور، سمى به عاقبة الزمان أي حادثته، وهي في الأصل عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيط بمن وقعت عليه، إلا أن أكثر استعمالها في المكروه، والسوء بالضم معناه العذاب، والهزيمة والشر، وبالفتح معناه الذم وقد قرىء بهما، وهما لغتان، وفي الأصل مصدران وهذا إخبار عن وقوع السوء بهم، أو دعاء عليهم، والإضافة من باب إضافة العام للخاص، فهي للبيان وقال سيبويه: السوء هنا الفساد.
ولما بين الله سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بين ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم فقال:
(وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً) أي مرجعاً.
(وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً) أي غدوة وعشية، والخلاف بين القراء في هذه الأفعال الثلاثة، كالخلاف في لتؤمنوا كما سلف ومعنى تعزروه تعظموه أو تفخموه قاله الحسن، والتعزيز التوقير والتعظيم وقال
وعن جابر بن عبد الله قال: " لما نزلت على رسول الله ﷺ هذه الآية وتعزروه قال لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: لتنصروه " (١)، رواه ابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر في تاريخه، ومعنى توقروه تعظموه، وقال السدي: تسودوه، وقال ابن عباس: يعني التعظيم قيل: والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا وقف تام، ثم يبتدىء وتسبحوه، أي تسبحوا الله عز وجل وهو من التسبيح الذي هو التنزيه من جميع النقائض، أو من السبحة وهي الصلاة وقيل: الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عز وجل فيكون المعنى تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء وقيل تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله وزاد الزمخشري ومن فرق الضمائر فقد أبعد، ومثله في المدارك قال الحفناوي: وهذا أظهر لتكون الضمائر على وتيرة واحدة.
_________
(١) مسلم.
(إنما يبايعون الله) أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه
قال الرازي: وذلك يحتمل وجوهاً، لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين، فإن قلنا: إنها بمعنى واحد ففيه وجهان.
أحدهما يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق أجسامهم، كما قال: (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان).
وثانيهما نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال اليد لفلان أي الغلبة والنصرة والقوة، وإن قلنا إنها بمعنيين فنقول: اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين. بمعنى الجارحة، فيكون المعنى يد الله فوق أيديهم بالحفظ انتهى.
قلت: وهذا هو مذهب أهل التأويل والكلام، ومذهب السلف في هذه الآية وأمثالها السكوت عن التأويل، وإمرار آيات الله وأحاديث رسول الله ﷺ المتعلقة بالصفات كما جاءت مع الإيمان بها. من غير تشبيه، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا صرف عن الظاهر، ولا تأويل وهو الحق.
عن عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه نفوسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فمن وفّى وفى الله له، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه " (١)، أخرجه أحمد وابن مردويه.
وفي الصحيحين من حديث جابر " أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة "، و " فيهما عنه أنهم كانوا أربع عشرة مائة " (٢).
وفي البخاري من حديث قتادة. عن سعيد بن المسيب: " أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال خمس عشرة مائة، فقال له: إن جابراً قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال رحمه الله وهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ".
(ومن أوفى بما عاهد عليه الله) أي ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله، يقال وفيت بالعهد وأوفيت به، ومنه قوله: (أوفوا بعهد الله) (والموفون بعهدهم)، قرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء وقرىء بضمها (فسيؤتيه) بالياء والنون سبعيتان (أجراً عظيماً) وهو الجنة وهذه الآية فيها دلالة على مشروعية البيعة، وقد صدرت منه ﷺ مبايعات كثيرة اشتملت عليها الأحاديث الواردة في الصحيحين وغيرهما من
_________
(١) رواه أحمد.
(٢) رواه البخاري.
" وبايع ناساً من فقراء المهاجرين على أن لا يسألوا الناس شيئاًً فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل عن فرسه فيأخذه، ولا يسأل أحداً " رواه ابن ماجة في سننه.
وقد نطق به الكتاب العزيز كما في هذه الآية وفي قوله تعالى (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) الآية، ومما لا شك فيه ولا شبهة أنه إذا ثبت عن رسول الله ﷺ فعل على سبيل العبادة والاهتمام بشأنه، فإنه لا ينزل عن كونه سنة في الدين، بقي أنه ﷺ كان خليفة الله في أرضه، وعالماً بما أنزله الله تعالى من القرآن والحكمة، معلماً للكتاب والسنة، مزكياً للأمة فما فعله على جهة الخلافة كان سنة للخلفاء؛ وما فعله على جهة كونه معلماً للكتاب والحكمة ومزكياً للأمة كان سنة للعلماء الراسخين؛ وهذا صحيح البخاري شاهد على أنه:
" ﷺ اشترط على جرير عند مبايعته: والنصح لكل مسلم ".
وأنه " بايع قوماً من الأنصار فاشترط أن لا يخافوا في الله لومة لائم ويقولوا بالحق حيث كانوا فكان أحدهم يجاهر الأمراء والملوك بالرد والإنكار " إلى غير ذلك وكل ذلك من باب التزكية: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالبيعة على أقسام منها بيعة الخلافة ومنها بيعة الإسلام ومنها بيعة التمسك
أما في زمن الراشدين منهم فلأن دخول الناس في الإسلام في أيامهم كان غالباً بالقهر والسيف لا بالتأليف، وإظهار البرهان، ولا طوعاً ولا رغبة، وأما في غيرهم، فلأنهم كانوا في الأكثر ظلمة فسقة لا يهتمون، وكذلك بيعة التمسك بحبل التقوى كانت متروكة، أما في زمن الخلفاء الراشدين فلكثرة الصحابة الذين استناروا بصحبة النبي ﷺ وتأدبوا في حضرته فكانوا لا يحتاجون إلى بيعة الخلفاء، وأما في زمن غيرهم فخوفاً من افتراق الكلمة، وأن يظن بهم مبايعة الخلافة فتهيج الفتن، ثم لما اندرس هذا في الخلفاء انتهز أكابر العلماء والمشايخ الفرصة وتمسكوا بسنة البيعة، وأن الذي اعتاده الصوفية رحمهم الله من مبايعة المتصوفين، ففيه ما يقبل وما يرد، ويظهر ذلك بعرضها على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو السنة والصواب، وما خالفهما فهو الخطأ والتباب، وإنما هذه البيعة سنة وليست بواجبه، لأن الناس بايعوا رسول الله ﷺ وتقربوا بها إلى الله تعالى، ولم يدل دليل على تأثيم تاركها، ولم ينكر أحد من الأئمة على من تركها، فكان كالاتفاق على أنها ليست بواجبة.
وشرط من يأخذ البيعة أمور:
أحدها علم الكتاب والسنة، وإنما شرطنا ذلك لأن الغرض من البيعة أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإرشاده إلى تحصيل السكينة الباطنة، وإزالة الرذائل، وإكتساب الحمائد، متقيداً بظاهر القرآن الكريم، والحديث الشريف، ومن لم يكن عالماً بهما، وعاملاً بموجبهما لا يتصور منه ذلك أبداً وقد اتفقت كلمة المشايخ على أن لا يتكلم على الناس إلا من كتب الحديث، وقرأ القرآن.
وثانيها، العدالة والتقوى والصدق والضبط، فيجب أن يكون مجتنباً
ثالثها: أن يكون زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة مواظباً على الطاعات المؤكدة والأذكار المأثورة في صحاح الأحاديث مواظباً على تعلق القلب بالله سبحانه.
رابعها: أن يكون آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مستبداً برأيه، لا إمعة ليس له رأي، ولا أمرؤ ذا مروءة وعقل تام يعتمد عليه في كل ما يأمر به، وينهي عنه، قال تعالى (ممن ترضون من الشهداء)، فما ظنك بصاحب البيعة؟
خامسها: أن يكون صحب العلماء بالكتاب والسنة، وتأدب بهم دهراً طويلاً، وأخذ منهم العلم للظاهر، والنور الباطن والسكينة، وهذا لأن سنة الله جرت بأن الرجل لا يفلح إلا إذا رأى المفلحين، ولا يشترط في ذلك ظهور الكرامات وخوارق العادات ولا ترك الإكتساب؛ لأن الأول ثمرة المجاهدات، لا شرط الكمال، والثاني مخالف للشرع المطهر ولا تغتر بما فعله المغلوبون في أحوالهم، إنما المأثور القناعة بالقليل، والورع من الشبهات.
وإذا تقرر لك هذا عرفت ما هو صاف عما هو كدر، فاشدد يديك عليه ولا تلتفت إلى غير ما ذكرنا، وبالله التوفيق. ولما ذكر تعالى أهل بيعة الرضوان وأضافهم إلى حضرة الرحمن، ذكر من غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة بقوله:
(فاستغفر لنا) ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك لهذا السبب ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله بقوله: (يقولون بألسنتهم) من طلب الاستغفار وما قبله (ما ليس في قلوبهم) فهم كاذبون في إعتذارهم وفي طلب الإستغفار لهم وهذا هو صنيع المنافقين، والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم أو بدل من الجملة الأولى ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يجيب عنهم فقال:
(قل فمن يملك لكم من الله شيئاًً)؟ أي فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشر ونفع وضر والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد يقدر لأجلكم من مشيئته وقضائه فما في النظم مجاز عن هذا ثم بين ذلك فقال: (إن أراد بكم ضراً) أي إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل والقتل والهزيمة والعقوبة على التخلف قرأ الجمهور ضراً بفتح الضاد، وهو مصدر ضررته ضراً وقرىء بضمها وهو اسم ما يضر وقيل لغتان وسبعيتان.
(أو أراد بكم نفعاً) أي نصراً وغنيمة، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله ﷺ يدفع عنهم الضر، ويجلب لهم النفع، ثم أضرب سبحانه عن ذلك فقال: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أي إن تخلفكم ليس لما زعمتم، بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك، بل للشك والنفاق وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله، ولهذا قال:
(وزين) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل، وهو الشيطان (ذلك في قلوبكم) فقبلتموه (وظننتم ظن السوء) هو أن الله سبحانه لا ينصر رسوله، وهذا الظن إما هو الظن الأول والتكرير للتأكيد والتوبيخ أو المراد به ما هو أعم من الأول فيدخل الظن الأول تحته دخولاً أولياً (وكنتم قوماً بوراً) قال الزجاج: هالكين عند الله وكذا قال مجاهد، قال الجوهري: البور الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه، قال أبو عبيدة: بوراً هلكى، وهو جمع بائر مثل حائل وحول في المعتل وبازل وبزل في الصحيح وقد بار فلان أي: هلك، وأباره الله أي أهلكه، قيل: والبور الهلاك، وهو مصدر أخبر به عن الجمع.
وقال مقاتل: يعني أمر الله لرسوله ألا يسير معه أحد منهم، وقال ابن زيد هو قوله تعالى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) واعترض هذا
(قل لن تتبعونا) هذا النفي هو بمعنى النهي للمبالغة، والمعنى لا تتبعونا (كذلكم قال الله من قبل) أي: من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب (فسيقولون) يعني المنافقين عند سماع هذا القول، وهو قوله: (قل لن) الخ (بل) إضراب عن محذوف هو مقول القول كما علمت (تحسدوننا) أي بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلا الحسد لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك حكماً من الله كما تزعمون، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:
(بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: لا يعلمون إلا علماً قليلاً، وهو علمهم بأمر الدنيا وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا فقهاً قليلاً، وهو ما يصنعونه نفاقاً بظواهرهم دون بواطنهم، والفرق بين الإضرابين أن:
الأول: رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم، وإثبات الحسد.
والثاني: إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعم منه، وهو الجهل وقلة الفقه، وفيه إن الجهل غاية في الذم، وحب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل.
وقال الزهري ومقاتل: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين، وعن أبي هريرة: أنهم الأكراد وقال ابن عباس: هم فارس والروم وعنه قال: هوازن وبنو حنيفة، يعني: أهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.
وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد وظاهر الآية يرده، وفي هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر الصديق وعمر رضي الله تعالى عنهما لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، قال الخازن: وأقوى هذه الأقوال أنهم هوازن وثقيف، لأن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدها أنهم بنو حنيفة ثم ذكر الدليل على صحة القول الأول، وأطال فيه ولا يصح؛ لأنه قال: (لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(تقاتلونهم أو يسلمون) فلا تقاتلون أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام، ولا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية قال الزجاج: التقدير أو هم يسلمون، وقرىء أو يسلموا أي حتى يسلموا (فإن تطيعوا) إلى قتالهم (يؤتكم الله أجراً حسناً) وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة (وإن تتولوا) أي: تعرضوا (كما توليتم من قبل) وذلك عام الحديبية (يعذبكم عذاباً أليماً) بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة لتضاعف جرمكم.
وعن زيد بن ثابت قال: " كنت أكتب لرسول الله ﷺ وإني لواضع القلم على أذني إذا أمر بالقتال إذ جاء أعمى فقال: كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت (ليس على الأعمى حرج) الآية (١)، قال: هذا في الجهاد وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا "، أخرجه الطبراني، قال السيوطي بسند حسن: وهذه أعذار صحيحة ظاهرة، لأن أصحابها لا يقدرون على الكر والفر، وهناك أعذار أخر ذكرها الخازن وغيره، وموضعها كتب الفقه دون التفسير.
(ومن يطع الله ورسوله) فيما أمراه به ونهياه عنه، ومنه الجهاد (يدخله) بالياء وقرىء بالنون وهما سبعيتان (جنات تجري من تحتها
_________
(١) صحيح الجامع الصغير.
وعن نافع قال: " بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وقد تقدم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريباً، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير، وفي الباب أحاديث ذكرها الخازن وغيره (١)، والمعنى فعل بالراسخين في الإيمان فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح، وما قدر لهم من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا، مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور شاهدة، ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان.
_________
(١) ابن حجر في الفتح ٧/ ٣٤٥.
(وأثابهم فتحاً قريباً) هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية، قاله قتادة وابن أبي ليلى وغيرهما، وقيل: فتح مكة والأول أولى.
عن سلمة بن الأكوع قال: " بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله ﷺ أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فثرنا إلى رسول الله ﷺ وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه، فذلك قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين الآية فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف " (١) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى
_________
(١) رواه البخاري.
" وعن جابر عن النبي- ﷺ قال: " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
وعنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة، إلا صاحب الجمل الأحمر " أخرجه الترمذي واستغربه.
_________
(١) رواه البخاري.
(وكف أيدي الناس عنكم) أي أيدي قريش يوم الحديبية بالصلح وقيل: أيدي أهل خيبر وأبصارهم عن قتالكم وقذف في قلوبهم الرعب، وقال ابن عباس: يعني أهل مكة أن يستحلوا حرم الله، ويستحل بكم وأنتم حرم وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي ﷺ بالحديبية وخيبر ورجح هذا ابن جرير، قال: لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله: وهو الذي كف أيديهم عنكم، وقيل: الناس يعني عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري، ومن كان معهما إذ جاؤوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبي ﷺ لهم.
(قد أحاط الله بها) صفة ثانية لأخرى قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها، والمعنى أنه أعدها لهم وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شيء فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم، لا تفوتهم وقيل: المعنى إنه أحاط علمه بأنها ستكون لهم (وكان الله على كل شيء) من فتح القرى والبلدان (قديراً) لا يعجزه شيء ولا تختص قدرته ببعض المقدورات دون بعض.
(وكان الله بما تعملون بصيراً) لا يخفى عليه من ذلك شيء، قرىء بالتاء وبالياء وهما سبعيتان.
عن أنس قال: " لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله ﷺ وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن شيبة وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم.
وفي صحيح مسلم وغيره " أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية ".
وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه، وغيرهم في سبب نزول الآية: " أن ثلاثين شاباً من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح، فثاروا في وجوههم، فدعا عليهم رسول الله ﷺ فأخذ الله بأسماعهم، ولفظ الحاكم: بأبصارهم، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فنزلت هذه الآية ".
(أن يبلغ محله) أي عن أن يبلغ محله، أو مفعول لأجله، والمعنى صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله، ومحله منحره، وهو حيث يحل نحره من الحرم، أو هو بدل اشتمال من الهدي، وكان الهدي سبعين بدنة، وقال ابن عباس: نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها، ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلاً للنحر، فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم، وللعلماء في هذا الكلام معروف في كتب الفروع.
(ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة (لم تعلموهم) أي لم تعرفوهم، وقيل: لم تعلموا أنهم مؤمنون (أن تطأوهم) أي بالقتل، والإيقاع بهم يقال: وطأت القوم أي أوقعت بهم، وذلك أنهم لو كبسوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم
وذلك أن المشركين سيقولون: إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم، قال الزجاج: معرة أي إثم، وكذا قال الجوهري، وبه قال ابن زيد، وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما: المعرة كفارة قتل الخطأ، كما في قوله (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة)، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة، دون الدية، وقال ابن إسحق: المعرة غرم الدية، وقال قطرب: المعرة الشدة وقيل الغم، وقيل: هي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه.
(بغير علم) متعلق بأن تطأوهم أي: غير عالمين، وجواب لولا محذوف والتقدير: لأذن الله لكم، أو لما كف أيديكم عنهم (ليدخل الله) اللام متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر، أي ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم عنهم، ليدخل الله (في رحمته) بذلك أي في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام (من يشاء) من عباده وهم المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار، ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب، وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، والتقدير لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته والأول أولى.
وقيل إن: (من يشاء) عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين.
عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال: " قاتلت رسول الله ﷺ أول النهار كافراً وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت ولولا رجال
وفي رواية ابن أبي حاتم " كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة "، أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن قانع والبارودي والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي. بسند جيد، وعن ابن عباس في الآية قال: حين ردوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تطأوهم بقتلكم إياهم.
(لو تزيلوا) التزيل التميز أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم، قاله العتبي، وقال الكلبي لو تفرقوا، وقيل لو زال الذين آمنوا من بين أظهرهم والمعاني متقاربة، قرأ الجمهور لو تزيلوا، وقرىء لو تزايلوا والتزايل التباين (لعذبنا الذين كفروا منهم) أي من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها (عذاباً أليماً) قال القاضي بالقتل والسبي، وهو الظاهر، لأن المراد من تعذيبهم التعذيب الدنيوي الذي هو تسليط المؤمنين عليهم وقتالهم، فإن عدم التمييز لا يوجب عدم عذاب الآخرة، أفاده على القاري، قال ابن عباس: لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلكم إياهم، قال قتادة: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار، كما دفع بالستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.
(فأنزل الله سكينته) أي الطمأنينة والوقار (على رسوله وعلى المؤمنين) حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: " اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبي ﷺ وبين المشركين ولو نرى قتالاً لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة؟ وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولم يضيعني الله أبداً، فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار: قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبداً فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمر فأقرأه إياها، قال: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: نعم ".
(وألزمهم) أي أختار لهم، فهو إلزام تشريف وإكرام (كلمة التقوى) من الشرك وهي لا إله إلا الله، كذا قال الجمهور؛ وزاد بعضهم
عن أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وألزمهم كلمة التقوى قال لا إله إلا الله " أخرجه أحمد وابن جرير والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات، والترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه أي: الحسن بن قزعة، وكذا قال أبو زرعة، وأخرج ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً مثله، وعن علي بن أبي طالب مثله من قوله، ومن قول عمر ابن الخطاب نحوه، وعن ابن عباس نحوه، وعن مسور بن مخرمة ومروان نحوه، وروي عن جماعة من التابعين نحو ذلك.
(وكانوا أحق بها وأهلها) عطف تفسيري، أي وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار، والمستأهلين لها دونهم في علم الله تعالى، لأن الله سبحانه أهلهم لدينه، وأختارهم لصحبه رسوله ﷺ (وكان الله بكل شيء عليماً) أي من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير.
(بالحق) متعلق بصدق أي صدقة فيما رأى وفي كونه وحصر له صدقاً متلبساً بالحق، أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الإبتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض، ويجوز أن يكون بالحق قسماً إما بالحق الذي هو نقيض الباطل، أو بالحق الذي هو من أسمائه سبحانه وجوابه (لتدخلن المسجد الحرام) في العام القابل، وعلى الأول هو جواب قسم
_________
(١) زاد المسير ٤٤٣.
(آمنين) حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض، والمعنى: آمنين في حال الدخول، لا تخافون عدوكم أن يخرجكم في المستقبل (محلقين رؤوسكم ومقصرين) أي محلقاً بعضكم جميع الشعور، ومقصراً بعضكم، والحلق والتقصير خاص بالرجال، والحلق أفضل من التقصير، كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره ﷺ للمحلقين في المرة الأولى والثانية، والقائل يقول له: وللمقصرين، فقال في الثالثة: وللمقصرين، وقد ورد في الدعاء للمحلقين والمقصرين في البخاري ومسلم وغيرهما أحاديث منها ما قدمنا الإشارة إليه وهو من حديث ابن عمر، وفيهما من حديث أبي هريرة أيضاًً (١).
(لا تخافون) مستأنف، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله آمنين فلا تكرار.
(فعلم ما لم تعلموا) معطوف على صدق، أي صدق رسوله الرؤيا، فعلم ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح، لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين (فجعل من دون ذلك) أي دخولكم مكة كما أرى رسوله (فتحاً قريباً) ليقويكم به، فإنه كان موجباً
_________
(١) زاد المسير/٤٤٤.
(يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي: يطلبون ثواب الله لهم، ورضاه عنهم، وفيه لطيفة أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله، والمرائي بعمله لا ينبغي له أجر، وذكر بعضهم في الآية والذين معه أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب، رحماء بينهم عثمان بن عفان، تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(سيماهم في وجوههم من أثر السجود) السيما: العلامة، وفيها لغتان المد والقصر، أي: يظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة لكثرة التعبد بالليل والنهار، وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفراً فجعل هذا هو السيما، وقال الزهري: مواضع السجود أشد وجوههم بياضاً، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع وبالأول -أعنى كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود- قال سعيد بن جبير ومالك، وقال ابن جريج: هو الوقار وقال الحسن: إذا رأيتهم رأيتهم مرضى وما هم بمرضى، وقيل: هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه، وبه قال سفيان الثوري، قال ابن عباس: أما إنه ليس الذي ترونه، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وعنه قال: هو السمت الحسن.
وعن ابن عباس قال: " بياض يغشى وجوههم يوم القيامة "، قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس، قال البقاعي ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإن ذلك من سيماء الخوارج.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود "، ذكره الخطيب ولينظر في سنده.
(ذلك) أي ما تقدم من هذه الصفات الجليلة (مثلهم) أي وصفهم العجيب الشأن الذي وصفوا به (في التوراة) (ومثلهم) أي وصفهم الذي وصفوا به (في الإنجيل) تكرير ذكر المثل لزيادة تقريره، وللتنبيه على غرابته، وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة، قال ابن عباس: أي نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله السموات والأرض.
(كزرع أخرج شطأه) كلام مستأنف، أي هم كزرع، وقيل: هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدم من الأوصاف، وقيل هو خبر لقوله مثلهم في الإنجيل، أي: ومثلهم في الإنجيل كزرع قال الفراء: فيه وجهان.
إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، يعني كمثلهم في القرآن فيكون الوقف على الإنجيل.
وإن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ثم تبتدي ومثلهم في الإنجيل كزرع، قرأ الجمهور شطأه بسكون الطاء وقرىء بفتحها وهم سبعيتان وقرىء شطاه كعصاه. وقرىء شطه بغير همز، وكلها لغات قال الأخفش والكسائي:
(فآزره) أي قواه وشده وأعانه وقيل إن المعنى أن الشطء قوى الزرع قاله السمين وقيل: إن الزرع قوى الشطء وبه قال النسفي وهو أنسب فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه فهي تعينه وتقويه قرأ الجمهور فآزره بالمد وقرىء بالقصر وهما سبعيتان قال الفراء: أزرت فلاناً أزره أزراً إذا قويته (فاستغلظ) أي صار ذلك الزرع غليظاً بعد أن كان دقيقاً فهو من باب استحجر الطين، أو المراد المبالغة في الغلظة كما في استعصم ونحوه وإيثار الأول لأن بناء الساق على التدرج.
(فاستوى على سوقه) أي فاستقام على أعواده والسوق جمع ساق وقرىء سؤقه بالهمزة الساكنة (يعجب الزراع) أي يعجب هذا الزرع زراعه لقوته وحسن منظره وهنا تم المثل قاله السمين (قلت) وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي ﷺ وأنهم يكونون في الابتداء قليلاً ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع فإنه يكون في الابتداء ضعفياً ثم يقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ ساقه قال قتادة مثل أصحاب محمد ﷺ في الإنجيل مكتوب فيه، أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي، وهذا ونحوه ما تقدم ليس بتفسير للقرآن بل من لطائف الكلام.
وعن بعض الصحابة أنه لما قرأ هذه الآية قال: تم الزرع وقد دنا حصاده، قلت: وهذا المثل الذي أشار إليه القرآن موجود في إنجيل متى ولوقا وترجمته بالعربية انظروا إلى زارع خرج للزرع، وبينما هو يزرع سقط بعض
وهذا هو معنى الآية الكريمة بعينه وهذا في بعض أمثالهم في الإنجيل وقد غفل عنه النصارى وأولوه بتأويل ضعيف وقالوا: إن هذا المثل فيمن يعمل الخير ويسمع الواعظ وجعلوه من التهذيب، ولم يفكروا في قوله: فمن كانت له أذن سامعة فليستمع فإن فيه من الكناية ما لا يوجد في غيره، وذلك أن الذين أصفهم لكم في مثل هذا ليسوا بحاضرين حتى تستطيعوا أن تروهم. لكنكم اسمعوا كلامي هذا إن كانت لكم أذن واعية، وحدثوا به وأودعوه صفحات الكتب حتى يبلغ الكلام أجله.
وقوله سقط بعضه على الطريق الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي الفلاسفة اليونانيين الذين قلوبهم لا قابلية لها، أن تكون ظرفاً لمفهوم النواميس، لأن النواميس لم تصدر عن المبدىء جل اسمه إلا على سبيل السذاجة، فلا تؤثر في قلوبهم، لأنها لا تستقيم فيها، فيأتي الشيطان ويخطفها من قلوبهم بشبهاته السفسطية، وقوله سقط بعضه على الصخرة الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي اليهود، لأن قلوبهم كانت أقسى من الصخرة في قبولها، فلم تكن قابلة لأخذها، بل كانوا يتفوهون بها إلى مدة يسيرة، وهي تحولها من أيديهم إلى أيدي النصارى، وذلك هو طلوع الشمس فلما لم يذعنوا لما آتاهم به عيسى زال ما كان قد ألقى إليهم من ذلك من قلوبهم، واضمحل، كما يزول النبت المزروع على الصخرة بحرارة الشمس.
وقوله وبعضه وقع في الشوك الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي النصارى، والشوك عبارة عن مشتبهات الأمور التي كانت تصدر عن
قوله: وأثمر، المراد بمطلق الإثمار أبو بكر، بعضه مائة ضعف عمر، وبعضه ستون عثمان، وبعضه ثلاثون علي، ونسبة الإثمار إلى أبي بكر لاستقلال الخلافة في أيامه، ونسبة مائة إلى عمر لنمو الإسلام في عهده، ونسبة ستين إلى عثمان لإنخفاض ضعف ذلك النمو، الذي حصل في أيام عمر، ونسبة ثلاثين إلى علي لأنه هو آخر الخلفاء وخاتمهم.
ومصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون عاماً " (١)، وفيه مطابقة مع ما روي عن عكرمة في قوله: أخرج زرعه بأبي بكر فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي، وقد تقدم.
وتكرره في لوقا ضرب من لطيف التأكيد، فإن قيل: لم لا يحمل على ما حمله عليه النصارى، فيكون المراد بالزراع عمل الخير، وبالإثمار مطلق الجزاء، قلت إنه لا يجوز الحمل على هذا المعنى لوجوه:
الأول: أنا قد وجدنا ذلك في القرآن والمطابقة لازمة.
والثاني: أن التعريف يفيد العهد، والعهد يفيد التخصيص والتخصيص
_________
(١) مسلم.
(ليغيظ بهم الكفار) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكفار واللام متعلقة بمحذوف، أي فعل ذلك ليغيظ قيل: هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم: لا يعبد الله سراً بعد اليوم، وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله ﷺ فقد أصابته هذه الآية وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل أصحاب رسول الله ﷺ على الخصوص والعموم، ليس هذا محل بسطها.
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) أي وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد ﷺ أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم، بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة، وأعظم منة، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض وهذه الآية ترد قول الروافض أنهم كفروا بعد وفاة النبي ﷺ إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون لو أن ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته صلى الله عليه وسلم، قال الجلال المحلي: وهما أي المغفرة والأجر لمن بعدهم أيضاًً في آيات أي بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، كقوله تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم إلى قوله أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ونحو ذلك من الآيات.
(خاتمة) قد جمعت هذه الآية وهي: (محمد رسول الله) إلى آخر السورة جميع حروف المعجم، وفي ذلك بشارة تلويحيية مع ما فيها من البشارة التصريحيية باجتماع أمرهم، وعلو نصرهم، رضي الله تعالى عنهم وحشرنا
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات(ثماني عشرة آية وهي مدنية)
قال القرطبي: بالإجماع قال ابن عباس وابن الزبير: إنها نزلت بالمدينة.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)