تفسير سورة الليل

فتح البيان
تفسير سورة سورة الليل من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة والليل
هي إحدى وعشرون آية وهي مكية عند الجمهور، وقيل مدنية قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، عن جابر بن سمرة قال :" كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر ﴿ والليل إذا يغشى ﴾ ونحوها " أخرجه البيهقي في سننه.
وعن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الهاجرة فرفع صوته فقرأ والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فقال له أبيّ بن كعب يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء قال لا ولكن أردت أن أوقت لكم " أخرجه الطبراني في الأوسط وقد تقدم حديث فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى.
وعن ابن عباس إني لأقول أن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل، قال الرازي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإنفاقه على المسلمين، وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(والليل إذا يغشى) أي يغطي بظلمته ما كان مضيئاً، قال الزجاج يغشى الليل الأفق وجميع ما بين السماء والأرض، فيذهب ضوء النهار وقيل يغشى النهار وقيل يغشى الأرض، والأول أولى، قال ابن عباس إذا يغشى إذا أظلم.
وعن ابن مسعود قال " إن أبا بكر الصديق اشترى بلالاً من أميَّة بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله فأنزل الله (والليل إذا يغشى) إلى قوله، (إن سعيكم لشتى) سعى أبي بكر وأمية وأبيّ إلى قوله (وكذب بالحسنى) قال لا إله إلا الله إلى قوله (فسنيسره للعسرى) قال النار " أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر.
أقسم سبحانه بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق فيه عن التحرك ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم، وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار فقال
(والنهار إذا تجلى) أي ظهر وانكشف ووضح لزوال الظلمة التي كانت في الليل بطلوع الشمس لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوام من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة فكانت المصلحة في تعاقبهما.
(وما خلق الذكر والأنثى) (ما) هنا الموصولة أي والذي خلقهما وعبر عن من بما للدلالة على الوصفية ولقصد التفخيم أي والقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، قال الحسن والكلبي معناه الذي خلق الذكر والأنثى، فيكون قد أقسم بنفسه الكريمة، قال أبو عبيدة وما خلق أي ومن خلق.
وقال مقاتل يعني وخلق الذكر والأنثى فتكون (ما) على هذا مصدرية قال الكلبي ومقاتل يعني آدم وحواء والظاهر العموم.
قرأ الجمهور (وما خلق الذكر والأنثى) وقرأ ابن مسعود (والذكر والأنثى) بدون ما خلق، قال المحلي والخنثى المشكل عندنا ذكر أو أنثى عند الله تعالى فيحنث بتكليمه من حلف لا يكلم ذكراً ولا أنثى انتهى، وعبارة الخطيب الخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل معلوم بالمذكورة أو الأنوثة انتهت، وقال الكرخي يحنث بتكليمه لأن الله تعالى لم يخلق من ذوي الأرواح من ليس ذكراً ولا أنثى، والخنثى إنما هو مشكل بالنسبة إلينا، خلافاً لأبي الفضل الهمداني فيما حكاه وجهاً أنه نوع ثالث، ويدفعه قوله (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور) ونحو ذلك قاله الأسنوي.
(إن سعيكم لشتى) هذا جواب القسم أي أن عملكم مختلف فمنه عمل للجنة ومنه عمل للنار أو منكم مؤمن وكافر أو منكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار، أو منكم راحم وقاس وحليم وطائش وجواد وبخيل (١).
قال جمهور المفسرين السعي العمل، فساع في فكاك نفسه وساع في عطبها، وشتى جمع شتيت كمرضى جمع مريض، وقيل للمختلف شتى لتباعد
_________
(١) روى مسلم في " صحيحه " ١/ ٢٠٣ عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " كل الناس يغدوُ، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها " أي: كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعها فيوبقها، أي: يهلكها.
264
ما بين بعضه وبعض، والشتات هو الافتراق، وسعيكم مصدر مضاف فيفيد العموم فهو جمع معنى وإن كان مفرداً في اللفظ ولذا أخبر عنه بالجمع وهو شتى فهو بمعنى مساعيكم.
265
(فأما من أعطى) أي بذل ماله في وجوه الخير (واتقى) محارم الله التي نهى عنها
(وصدق بالحسنى) أي أيقن بالخلف الذي من الله، قال المفسرون فأما من أعطى المعسرين، وقال قتادة أعطى حق الله الذي عليه، وقال الحسن أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى أي بـ (لا إله إلا الله) وبه قال الضحاك والسلمي وابن عباس. وقال مجاهد بالحسنى بالجنة، وقال زيد ابن أسلم بالصلاة والزكاة والصوم، والأول أولى، قال قتادة بالحسنى أي بموعود الله الذي وعده أن يثيبه، قال الحسن بالخلف من عطائه، واختار هذا ابن جرير، وقال ابن عباس أعطى من الفضل واتقى ربه وصدق بالخلف من الله.
(فسنيسره لليسرى) أي فسنهيئه للخصلة التي هي حسنى وهي عمل الخير حتى يسهل عليه فعله، والمعنى فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله، والسين في الموضوعين للتسويف وهو من الله محقق، وذكر القسطلاني أن هذه السين للتلطيف.
قال الشريف الصفوي مرادهم به ترقيق الكلام بمعنى أن لا يكون نصاً في المقصود بل يكون محتملاً لغير المقصود فهو كالشيء الرقيق الذي يمكن تغييره ويسهل ويقابله الكثيف بمعنى أن يكون نصاً في القصود لأنه لا يمكن تغييره، وتبديله فهو كالشيء الكثيف الذي لا يمكن فيه ذلك.
فالمقصود ههنا أن التيسير حاصل في الحال لكن أتى بالسين الدالة على الاستقبال والتأخير لتلطيف الكلام وترقيقه باحتمال أن لا يكون التيسير حاصلاً في الحال لنكات تقتضي ذلك والله أعلم.
قال الواحدي قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق
265
اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبوهم في الله، قال ابن عباس لليسرى للخير من الله، وقال زيد بن أسلم للجنة.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال " كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه أي بني أراك تعتق ناساً ضعفاء فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك قال أي أبت إنما أريد ما عند الله، قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (١) ".
_________
(١) رواه الواحدي في أسباب النزول ٣٣٥.
266
(وأما من بخل) بماله فلم يبذله في سبل الخير (واستغنى) أي زهد في الأجر والثواب أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، قال ابن عباس بخل بماله واستغنى عن ربه، وعنه قال يقول من أغناه الله فبخل بالزكاة، وعنه هو أبو سفيان بن حرب
(وكذب بالحسنى) أي بالخلف من الله عز وجل، وقال مجاهد بالجنة، وعنه قال بلا إله إلا الله.
(فسنيسره للعسرى) أي فسنهيئه للخصلة العسرى ونسهلها له حتى يتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ويضعف عن فعلها فيؤديه ذلك إلى النار، قال مقاتل يعسر عليه أن يعطي خيراً، قيل العسرى الشر، وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب، والعسرة في العذاب والمعنى سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه، قال الفراء سنيسره سنهيئه، والعرب تقول قد يسرت الغنم إذا ولدت أو تهيأت للولادة، قال ابن عباس للعسرى للشر من الله وقيل للنار.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن علي بن أبي طالب قال " كنا مع النبي ﷺ في جنازة فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر
266
لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ فأما من أعطى، إلى قوله، للعسرى ".
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن سراقة بن مالك قال " يا رسول الله في أي شيء يعمل، أفي شيء ثبتت فيه المقادير وجرت به الأقلام أم في شيء يستقبل فيه العمل، قال بل في شيء ثبتت فيه المقادير، وجرت فيه الأقلام، قال سراقة: ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية فأما من أعطى، إلى آخرها ".
وقد تقدم حديث عمران بن حصين في السورة التي قبل هذه، وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة قال الفراء: لقائل أن يقول كيف قال ذلك وهل في العسرى تيسير؟ انتهى.
وإيضاح الجواب عن هذا ما ورد في الحديث " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " أي عليكم بشأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به، وكلوا أمور الربوبية الغيبية إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب في العمر مع المعالجة بالطب، فإنك تجد المغيب فيهما علة موجبة، والظاهر البادي سبباً مخيلاً وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم أن الظاهر فيهما لا يترك بسبب الباطن، قاله الكرخي.
267
(وما) أي لا (يغني عنه) شيئاًً (ماله) الذي بخل به وتركه لوارثه ولم يصحبه منه إلى آخرته التي هي موضع فقره وحاجته شيء أو أي شيء يغني عنه (إذا تردى) أي هلك، يقال ردي الرجل يردى ردى وتردى يتردى إذا هلك، وقال قتادة وأبو صالح وزيد بن أسلم إذا تردى إذا سقط في جهنم، يقال ردى في البئر وتردى إذا سقط فيها، ويقال ما أدري أين ردي أي أين ذهب.
267
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)
268
(إن علينا للهدى) مستأنفة مقررة لما قبلها أي علينا البيان بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة، قال الزجاج: علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال أي وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه حيث بينا حل من سلك كلا الطريقين ترغيباً وترهيباً.
قال قتادة على الله البيان، بيان حرامه وطاعته ومعصيته، قال الفراء من سلك الهدى فعلى الله سبيله لقوله (وعلى الله قصد السبيل) يقول من أراد الله فهو على السبيل القاصد، قال الفراء أيضاًً المعنى إن علينا للهدى والإضلال فحذف الإضلال كقوله (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وقيل المعنى أن علينا ثواب هداه الذي هديناه، والأول أولى.
(وإن لنا للآخرة والأولى) أي لنا كل ما في الآخرة وكل ما في الدنيا نتصرف به كيف نشاء، فمن أرادهما أو أخذهما ذلك منا، وقيل المعنى أن لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ الطريق.
(فأنذرتكم ناراً تلظى) أي حذرتكم وخوفتكم ناراً تتوقد وتتوهج، وأصله تتلظى فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً، وقرىء على الأصل
(لا يصلاها) صلياً لازماً على جهة الخلود (إلا الأشقى) وهو الكافر وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه والمعنى يدخلها أو يجد صليها وهو حرها.
ثم وصف الأشقى فقال
(الذي كذب وتولى) أي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وأعرض عن الطاعة والإيمان، قال الفراء إلا الأشقى إلا من
268
كان شقياً في علم الله جل ثناؤه، وقال أيضاًً لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة فجعل تكذيباً كما تقول لقي فلان العدو فكذب، إذا نكل ورجع عن إتباعه.
قال الزجاج: هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر.
ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والله سبحانه كلما وعد عليه بجنس من العذاب فجدير أن يعذب به، وقد قال الله (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فلو كان من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فائدة.
وقال في الكشاف الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل الأشقى وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له.
وقيل المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف، وبالأتقى أبو بكر الصديق.
قال المحلي وهذا الحصر مؤول لقوله تعالى (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فيكون المراد الصلي المؤبد انتهى أي مصروف عن ظاهره فلا يرد الفاسق لأنه إما أن لا يدخلها إن عفي عنه أو يدخلها ويخلص منها، فالمعنى لا يدخلها دخولاً مؤبداً إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب النبي.
والأولى أن يقال مؤول بحمل الصلي على التأبيد والخلود.
وعن أبي هريرة قال " لتدخلن الجنة إلا من يأبى قالوا ومن يأبى أن يدخل الجنة فقرأ (الذي كذب وتولى) " أخرجه ابن جرير.
وعن أبي أمامة " لا يبقى أحد من هذه الأمة إلا أدخله الجنة إلا من
269
شرد على الله كما يشرد البعير السوء على أهله فمن لم يصدقني فإن الله يقول (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) كذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتولى عنه ". أخرجه سعيد بن منصور وغيره.
وعنه أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله ﷺ فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول " ألا كلكم يدخل الله الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله " أخرجه أحمد والحاكم والضياء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ " لا يدخل النار إلا الأشقى، قيل ومن الشقي قال: الذي لا يعمل لله بطاعة ولا يترك لله معصية " أخرجه أحمد وابن ماجه وابن مردويه.
وعنه قال: قال رسول الله ﷺ " كل أمتي يدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " أخرجه أحمد والبخاري.
270
(وسيجنبها الأتقى) أي سيباعد عنها التقي للكفر اتقاء بالغاً، قال الواحدي الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين اهـ، والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متصف بالصفتين المذكورتين، ويكون المعنى أنه لا يصلاها صلياً تاماً لازماً إلا الكامل في الشقاء وهو الكافر، ولا يجنبها ويبعد عنها تبعيداً كاملاً بحيث لا يحوم حولها فضلاً عن أن يدخلها إلا الكامل في التقوى، فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولاً غير لازم، ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيداً غير بالغ تبعيد الكامل في التقوى عنها.
والحاصل أن من تمسك من المرجئة بقوله (لا يصلاها إلا الأشقى) زاعما أن الأشقى الكافر لأنه الذي كذب وتولى، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين.
فيقال له فماذا تقول في قوله (وسيجنبها الأتقى) فإنه يدل على أنه
270
لا يجنب النار إلا الكامل في التقوى، فمن لم يكن كاملاً فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار، فإن أولت الأتقى بوجه من وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى. فخذ إليك هذه مع تلك وكن كما قال الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى وأخرج منه لا علي ولا ليا
وقيل أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي كما قال طرفة بن العبد:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي بواحد، ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب، فإن ذلك لا يكون إلا من الكافر فلا يتم ما أراده قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين.
عن عروة " أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها وزنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت (وسيجنبها الأتقى) إلى آخر السورة " أخرجه ابن أبي حاتم، وفي الباب روايات.
ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال
271
(الذي يؤتي ماله) أي يعطيه ويصرفه في وجوه الخير، وقوله (يتزكى) في محل يصب على الحال من فاعل يؤتي أي حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكياً لا يطلب رياء ولا سمعة، ويجوز أن يكون بدلاً من يؤتي داخلاً معه في حكم الصلة، قرأ الجمهور يتزكى مضارع تزكى، قرأ علي بن الحسين رضي الله عنهما بإدغام التاء في الزاي.
(وما لأحد عنده من نعمة تجزى) قال أبو السعود أي من شأنها أن تجازى وتكافأ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون التزكي على جهة الخلوص غير مشوب بشائبة تنافي الخلوص، أي ليس ممن يتصدق بماله ليجازي بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها، وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى.
271
ومعنى الآية أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها، وإنما قال نجزي مضارعاً مبنياً للمفعول لأجل الفواصل، والأصل يجزيها إياه أو يجزيه إياها.
272
(إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) قرأ الجمهور بالنصب على الإستثناء المنقطع لعدم اندراجه تحت جنس النعمة أي لكن ابتغاء وجه ربه، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول له على المعنى أي لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة، قال الفراء هو منصوب على التأويل أي ما أعطيتك ابتغاء جزائك بل ابتغاء وجه الله، وقرىء بالرفع على البدل من محل نعمة لأن محلها الرفع إما على الفاعلية وإما على الابتداء أو (من) مزيدة والرفع لغة تميم لأنهم يجوزون البدل في المنقطع في غير الإيجاب ويجرونه مجرى المتصل.
قال مكي وأجاز الفراء في ابتغاء على البدل من موضع نعمة وهو بعيد.
قلت كأنه لم يطلع عليها قراءة، واستبعاده هو البعيد فإنها لغة فاشية، وقرأ الجمهور أيضاًً ابتغاء بالمد، وقرىء بالقصر. والأعلى نعت للرب.
(ولسوف يرضى) اللام هن الموطئة للقسم أي وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم، وهو وعد من الكريم تعالى لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجلها إذ به يتحقق الرضا، قاله أبو السعود، وقرأ الجمهور يرضى مبنياً للفاعل وقرىء مبنياً للمفعول من أرضاه الله وهو قريب من قوله تعالى في آخر طه (لعلك ترضى) وترضى.
272
سورة الضحى
هي إحدى عشرة آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن المقري قال: " سمعت عكرمة ابن سليمان يقول قرأت على إسماعيل بن قسطنطين، فلما بلغت (والضحى) قال كبر حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أخبره بذلك، وأخبره أبيّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره بذلك " وأبو الحسن المقري المذكور هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقري.
قال ابن كثير فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن المقري وكان إماماً في القراءات، وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقليلي قال هو منكر الحديث.
قال ابن كثير ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته فقال بعضهم يكبر من آخر الليل إذا يغشى، وقال آخرون من آخر الضحى، وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر.
273
وذكروا في مناسبة التكبير من أول الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله - ﷺ - وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه (والضحى) كبر فرحاً وسروراً، ولم يرووا ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جندب البجلي قال: " اشتكى النبي - ﷺ - فلم يقم ليلتين أو ثلاثة فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فلم يقربك ليلتين أو ثلاثة فأنزل الله والضحى ". (١)
وعن جندب قال: " أبطأ جبريل عن النبي - ﷺ - فقال المشركون قد ودع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فنزلت (ما ودعك) وعنه قال: " احتبس جبريل عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت بعض بنات عمه ما أرى صاحبك إلا قد قلاك، فنزلت (والضحى) " (٢) وقيل في سبب نزولها غير ذلك وما ذكرنا هو الأولى.
_________
(١) رواه البخاري في " صحيحه " ٨/ ٥٤٥ ومسلم ٣/ ١٤٢٣ وأحمد في " المسند " ٤/ ٣١٢ وابن جرير الطبري ٣٠/ ٢٣١ والواحدي في " أسباب النزول " وأورده السيوطي في " الدر " ٦/ ٣٦٠ وزاد نسبته للترمذي، والنسائي، والبيهقي وأبي نعيم معاً في " الدلائل " عن جندب بن عبد الله بن شفيان البجلي - رضي الله عنه -.
(٢) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " ٨/ ٥٤٥: وجدت في الطبري بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب نزولها وجود جرو كلب تحت سريره - ﷺ - لم يشعر به، فأبطأ عن جبريل لذلك، وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح والله أعلم. وورد لذلك سبب ثالث، وهو ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما نزل على رسول الله - ﷺ - القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً، فتغير بذلك، قالوا: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).. ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير قال: فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي - ﷺ - وأحزنه، فقال: لقد خشيت أن...
274

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)
275
Icon