ﰡ
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال ابن عباس: يغشى بظلمته النهار. وقال الزجاج: يغشى الأفق، ويغشى جميع ما بين السماء والأرض قوله: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي: بان وظهر من بين الظلمة، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) في «ما» قولان. وقد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: وَما بَناها «١». وفي «الذكر والأنثى» قولان: أحدهما: آدم وحواء، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنه عام، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم. قال ابن عباس: إن أعمالكم لمختلفة، عمل للجنة، وعمل للنار. وقال الزجاج: سعي المؤمن والكافر مختلف، بينهما بُعْدٌ. وفي سبب نزول هذه السورة قولان:
(١٥٣٥) أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من أميّة بن خلف وأبيّ بن خلف بِبُرْدةٍ وعشرة أواق، فأعتقه، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني: سعي أبي بكر، وأُميَّة وأُبَيٍّ، قاله عبد الله بن مسعود.
(١٥٣٦) والثاني: أن رجلاً كانت له نخلةٌ فرعُها في دار رجلٍ فقيرٍ ذي عيال، وكان الرجل إذا
واه. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية والواحدي في «أسباب النزول» ٨٥٢ وفي «الوسيط» ٤/ ٥٠٢ من طريق حفص عن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس مطوّلا. ولم يذكر اسم «أبو الدحداح». وإسناده واه لأجل حفص بن عمر بن ميمون، ضعفه الحافظ في «التقريب» وأخرجه ابن-
__________
(١) الشمس: ٥.
ما لي نخلة أعجب إليَّ منها، فقال له: أتريد بيعها؟ قال: لا، إلا أن أُعطى بها ما لا أظنني أعطى، قال: ما مناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال: أنا أعطيك أربعين نخلة، وأشهد له ناساً، ثم ذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: إن النخلة قد صارت في ملكي، وهي لك، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار، فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عطاء: الذي اشتراها من الرجل أبو الدحداح، أخذها بحائط له، فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو الدحداح، وصاحب النخلة.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى قال ابن مسعود: يعني: أبا بكر الصّدّيق وهذا قول الجمهور.
وقال عطاء: هو أبو الدحداح. وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال: أحدها: أعطى من فضل ماله، قاله ابن عباس. والثاني: أعطى الله الصّدق من قلبه، قاله الحسن. والثالث: أعطى حق الله عليه، قاله قتادة.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقى ثلاثة أقوال: أحدها: اتقى الله، قاله ابن عباس. والثاني: اتقى البُخْل، قاله مجاهد. والثالث: اتقى محارم الله التي نهى عنها، قاله قتادة.
وفي «الحسنى» ستة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله»، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: الخَلَف، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: الجنة، قاله مجاهد. والرابع: نِعَم الله عليه، قاله عطاء. والخامس: بوعد الله أن يثيبه، قاله قتادة، ومقاتل.
والسادس: الصلاة، والزكاة، والصوم، قاله زيد بن أسلم.
قوله عزّ وجلّ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ضم أبو جعفر سين «اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان:
أحدهما: للخير، قاله ابن عباس. والمعنى: نُيَسِّر ذلك عليه. والثاني: للجنّة، قاله زيد بن أسلم.
قوله وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ قال ابن مسعود: يعني بذلك أُميَّة وأُبي ابنَيْ خلف. وقال عطاء: هو صاحب النّخلة.
ثم إن السورة مكية، وذاك أنصاري؟! وورد بمعناه دون ذكر نزول الآية من حديث جابر. أخرجه أحمد ٣/ ٣٢٨ وقال الهيثمي في «المجمع» ٣/ ١٢٧: رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام وقد وثق.
- قلت: ضعفه غير واحد لسوء حفظه، وهو غير حجة. ورواية عطاء: وفيها اسم الرجل أبو الدحداح، هي من رواية علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء مرسلا، ومعلقا، فهو لا شيء.
وَاسْتَغْنى أي عن ثواب الله فلم يرغب فيه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى وقد سبقت الأقوال فيها.
وفي «العسرى» قولان: أحدهما: النار، قاله ابن مسعود. والثاني: الشر، قاله ابن عباس.
والمعنى: سنهيؤه للشر فيؤدِّيه إلى الأمر العسير، وهو عذاب النار.
ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه، فقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي يبخل به عن الخير إِذا تَرَدَّى وفيه قولان: أحدهما: إذا تردَّى في جهنم، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: إذا سقط فيها. والثاني: إذا مات فتردَّى في قبره، قاله مجاهد.
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٢ الى ٢١]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى قال الزجاج: المعنى: إن علينا أن نبيِّن طريق الهدى من طريق الضّلال. قوله: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي: فليطلبا منا فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى أي: تتوقّد وتتوهَّج لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يعني: المشرك الَّذِي كَذَّبَ الرسول وَتَوَلَّى عن الإيمان. قال أبو عبيدة: والْأَشْقَى بمعنى الشقيّ. والعرب تضع «أَفْعَلَ» في موضع «فاعل». قال طرفة:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وإن أمت | فتلك سبيل لست فيها بأوحد |
قوله عزّ وجلّ: وَسَيُجَنَّبُهَا أي: يُبْعَدُ عنها، فيجعل منها على جانب الْأَتْقَى يعني: أبا بكر الصديق في قول جميع المفسرين، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب الرياء، ولا السمعة وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي: لم يفعل ذلك مجازاة ليد أُسْدِيَتْ إليه.
قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى أي: بما يعطى في الجنّة من الثّواب.
ذكره الواحدي ٨٥٧ عن عطاء عن ابن عباس بدون إسناد.
__________
(١) النساء: ٤٨.
وهي مكّيّة بإجماعهم اتّفق المفسّرون: على أنّ هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدّة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال:
(١٥٣٨) أحدها: أنّ اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الرّوح، فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي.
والثاني: لقلّة النّظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين القولين في سورة مريم «١». والثالث:
لأجل جرو كان في بيته، قاله زيد بن أسلم «٢».
وفي مدّة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم «٣».
(١٥٣٩) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جندب قال: قالت امرأة من قريش
صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٥٠ والبغوي في «التفسير» ٢٣٤٩ بترقيمنا عن أحمد بن يونس به. من حديث جندي. وأخرجه البخاري ١١٢٥ و ١١٢٤ و ٤٩٨٣ والترمذي ٣٣٤٥ والطبري ٣٧٥٠٤ وابن حبان ٦٥٦٦ والطبراني ١٧٠٩ والبيهقي ٣/ ١٤ وفي «الدلائل» ٧/ ٥٨ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٥٠٧ وفي «أسباب النزول» ٨٥٨ من طرق عن سفيان عن الأسود بن قيس به. وأخرجه البخاري ٤٩٥١ ومسلم ١٧٩٧ ح ١١٥-
__________
(١) مريم: ٦٥، وتقدّم الحديث، وهو حديث ضعيف، والصواب ما رواه الشيخان وهو الآتي من حديث جندب البجلي.
(٢) ضعيف جدا، هو مرسل، وله علة ثانية، وهي كونه من رواية ابنه عبد الرحمن، وهو واه.
وصح هذا السياق، لكن ليس فيه نزول سورة الضحى عقب ذلك. فقد أخرج مسلم ٢١٠٥ وأبو داود ٤١٥٧ والنسائي ٧/ ١٨٦ وأحمد ٦/ ٣٣٠ وأبو يعلى ٧٠٩٣ و ٧١١٢ من طريق الزهري عن ابن السباق عن ابن عباس عن ميمونة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصبح يوما واجما فقالت ميمونة: يا رسول الله! لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني. أم والله ما أخلفني» فظل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومه ذاك على ذلك، ثم وقع في نفسه جر وكلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني في البارحة قال: «أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة». وأخرجه مسلم ٢١٠٤ وأحمد ٦/ ١٤٢- ١٤٣ وأبو يعلى ٤٥٠٨ من حديث عائشة بنحوه.
(٣) مريم: ٦٦.