ﰡ
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ.
(١٤٢٥) ذكر أهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وذلك أن سارة مولاة عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة، فقال لها:
«أمسلمةً جئتِ؟» قالتْ: لا، قال: «فما جاء بكِ؟» قالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجةً شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني. قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأين أنتِ من شباب أهل مكة؟» وكانت مغنية، فقالت: ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد وقعة بدر، فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني عبد المطّلب وبني المطلب، فَكَسَوْها، وحملوها، وأعطَوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة: وكتب في الكتاب مِن حاطب إلى أهل مكة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مَرْثَدٍ، وقال:
«انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ»، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟
فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً، فهمُّوا بالرجوع، فقال عليٌّ: والله ما
(١٤٢٦) وقد أخرج هذا الحديث في «الصحيحين» مختصراً، وفيه ذكر عليّ، والزّبير، وأبي مرثد فقط.
قوله عزّ وجلّ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وفيه قولان: أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودَّة، ومثله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «١»، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور. والثاني: تلقون إليهم أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلم وسيره بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَقَدْ كَفَرُوا الواو للحال والمعنى، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي تفعلوا ذلك لإيمانكم بالله
وأخرجه البخاري ٣٠٠٧ و ٤٨٩٠ ومسلم ٢٤٩٤ وأبو داود ٢٦٥٠ والترمذي ٣٣٠٥ والحميدي ٤٩ وأحمد ١/ ٧٩ وأبو يعلى ٣٩٤ و ٣٩٨ وابن حبان ٦٤٩٩ والبيهقي ٩/ ١٤٦ وفي «دلائل النبوة» ٥/ ١٧ والبغوي في «شرح السنة» ٢٧٠٤ والواحدي في «الأسباب» ٨١٢ وفي «الوسيط» ٤/ ٢٨١- ٢٨٢ من طرق عن سفيان به كلهم من حديث علي.
ولفظ البخاري: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها» قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش- يقول: كنا حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه قد صدقكم». فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطّلع على من شهد بدرا، قال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
__________
(١) الحج: ٢٥.
قوله عزّ وجلّ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الباء في «المودّة» حكمها حكم الأولى. قال المفسرون:
والمعنى: تُسِرُّون إليهم النصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ من المودَّة للكفار وَما أَعْلَنْتُمْ أي: أظهرتم بألسنتكم. وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستترون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟! قوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي:
أخطأ طريق الهدى. ثم أخبر بعداوة الكفّار فقال عزّ وجلّ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً لا موالين وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالضرب والقتل وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وهو: الشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فترجعون إلى دينهم. والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرُّب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله عزّ وجلّ: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قراباتكم. والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعَكم الذين عصيتم الله لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يُفصَل» برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد. وقرأ ابن عامر: «يُفصَّل بينكم» برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد. وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب، بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس، وأبو العالية: «نُفصِّل» بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة، وقرأ أبو رزين، وعكرمة، والضحاك: «نَفصِل» بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده. قال القاضي أبو يعلى «١» : في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم. وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة، وإِنما قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، ولهذا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٩]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
قوله عزّ وجلّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وقرأ عاصم: «أُسوة» بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنبياء. والثاني: المؤمنون إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ قال الفرّاء: تقول أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!.
قوله عز وجل: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ قال المفسرون: والمعنى: تأسّوا بإبراهيم إلّا في استغفاره لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله عزّ وجلّ:
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكّلنا. وقد بيّنّا معنى قوله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في يونس «١». ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال عزّ وجلّ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله.
قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من قوله عزّ وجلّ: لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة.
قوله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه الْحَمِيدُ إلى أوليائه. فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم. فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي: من كفار مكة مَوَدَّةً ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام وَاللَّهُ قَدِيرٌ على جعل المودّة وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم بعد ما أسلموا.
قوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «٢» :
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٦٣: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، لأن الله عز وجل عمّ بقوله جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرّم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.
(١٤٢٨) والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحداً، قاله ابن عباس. وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به.
(١٤٢٩) والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطيّة العوفيّ ومرّة الهمدانيّ.
والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله عزّ وجلّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١»، قاله قتادة. والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج. قال المفسرون:
وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي: من مكة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم.
قوله عزّ وجلّ: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي: أعانوا على ذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تَولّوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم موالاة. وذكر بعض المفسّرين أنّ معنى
والأشبه في نزول الآية أنه مدرج من كلام أحد الرواة والله أعلم، ويؤيد ذلك هو أن البخاري أخرج حديث أسماء من طريق ابن عيينة، برقم ٥٩٧٨ وقال في آخره: قال ابن عيينة: فأنزل الله هذه الآية.
وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٣ بتخريجنا.
لم أره مسندا، عزاه المصنف لابن عباس وكذا البغوي في «التفسير» ٤/ ٣٣١ ساقه بدون إسناد، فالخبر ساقط، لا حجة فيه.
عزاه المصنف لعطية العوفي، وهو واه إن وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! وعزاه أيضا لمرّة الهمداني، ولم أقف عليه، وهو تابعي فهو مرسل.
__________
(١) التوبة: ٥.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
(١٤٣٠) قال ابن عباس: إنّ مشركي مكّة صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم. ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال: يا محمد اردد عليَّ امرأتي فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ، فنزلت هذه الآية.
(١٤٣١) وذكر جماعة من العلماء منهم محمّد بن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمّد أوف لنا بشروطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله أنا امرأة، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله العهد في النِّساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم، ونزل في أم كلثوم: فَامْتَحِنُوهُنَّ فامتحنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها يقول: والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن.
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها
ذكره ابن سعد في «الطبقات» ٨/ ١٨٣- ١٨٤ هكذا بدون عزو لأحد.
وذكر أم كلثوم صح عند البخاري ٢٧١١ و ٢٧١٢ في أثناء حديث مطول.
__________
(١) تقدم أن الحديث متفق عليه، دون ذكر نزول الآية.
فقالت طائفة: قد كان شرط ردّهنّ في عقد الهدنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد، ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان. وقالت طائفة من العلماء: لم يشترط ردُّهن في العقد صريحاً، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عزّ وجلّ خروجهنَّ عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرّمن عليهم. والثاني: أنهن أرقُّ قلوباً، وأسرع تقلُّباً منهم فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم. وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يردَّ النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل وإِن لم يقع الفعل.
قال المفسّرون: والمراد بقوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولَّى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلّى الله عليه وسلم. قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقنّ بمحمّد صلّى الله عليه وسلم وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال:
(١٤٣٢) أحدها: أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» رواه العوفي عن ابن عباس.
(١٤٣٣) والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجتِ من بغض زوج، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض، ولا التماس دنيا، ما خرجتِ إلا حباً لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضاً.
(١٤٣٤) والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة عليها السّلام.
قوله عزّ وجلّ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ وذلك يعلم من إقرارهنّ، فحينئذ لا يحل ردُّهن إِلَى الْكُفَّارِ لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك وَآتُوهُمْ يعني أزواجهن الكفار ما أَنْفَقُوا يعني: المهر. قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم. فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وهي المهور.
فصل:
عندنا إذا هاجرت الحربيّة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها. فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدّتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، ومالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة:
أخرجه الحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» ٣٧٧٧ عن أبي نصر الأسدي عن ابن عباس به، وهو معلول. سكت عليه الحافظ، وكذا البوصيري في «الإتحاف» وقال البخاري في ترجمة أبي نصر: لم يعرف له سماع من ابن عباس «الميزان» ٤/ ٥٧٩. وأخرجه الطبري ٣٣٩٥٧ و ٣٣٩٥٨ من طريق أبي نصر عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور. وانظر «أحكام ابن العربي» ٢٠٨٥ بتخريجنا.
والصحيح ما بعده.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩١ ومسلم ١٨٦٦ والترمذي ٣٣٠٦ والنسائي في «التفسير» ٦٠٦ وابن ماجة ٢٨٧٥ من حديث عائشة. وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٦ بتخريجنا
قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «تُمسِكوا» بضم التاء، والتخفيف، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: «تُمسِّكوا» بضم التاء، وبالتشديد، وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة: «تَمسَّكوا» بفتح التاء، والميم، والسين مشددة. و «الكوافر» جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهنّ. وقال الزّجّاج: المعنى: أنها كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عَقْدُ النكاح. وأصل العصمة: الحبل، وكلُّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه.
قوله عزّ وجلّ: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفّار من تزوّجهنّ منكم «ما أنفقوا» وهو المهر. والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم.
قال أهل السِّيَر: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا «١» لم يكن لها زوج فبعثت إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة «٢».
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعني ما ذكر في هذه الآية.
فصل:
وذكر بعضهم في قوله عزّ وجلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله عزّ وجلّ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «٣»، وهذا تخصيص لا نسخ.
قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: «فعَقَبتم» بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها. وقرأ ابن عباس، وعائشة والحسن وحميد، والأعمش «فعقّبتم» مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة. قال الزجاج: المعنى في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم. وقرأ أُبي بن كعب، وعكرمة، ومجاهد: «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: «فعَقِبتم» بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي: أعطُوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر.
(١٤٣٥) وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدَّتْ، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إِليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله عزّ وجلّ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «٤» إلى رأس الخمس...
__________
(١) العاتق: الشابة أول ما تدرك. انظر «النهاية» ٣/ ١٧٨. [.....]
(٢) انظر الحديث المتقدم ١٤٣١.
(٣) المائدة: ٥.
(٤) التوبة: ١.
فصل:
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزّوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب ردُّه على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نصّ الإمام أحمد رضي الله عنه على هذا. قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ.
(١٤٣٦) قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهنّ هذه الشرائط المذكورة في الآية، فبايَعهن وهو على الصفا، فلما قال: ولا يزنين، قالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن، فقالت: ربَّيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم.
(١٤٣٧) وقد صحّ في الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام.
وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب «التلقيح» على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسين امرأة، والله الموفّق.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال المفسرون: هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، وذلك البهتان المفترى. وإِنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ لأنّ الولد إذا وضعته الأمّ يسقط بين يديها ورجليها. وقيل: معنى يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ: ما أخذته لقيطا وَأَرْجُلِهِنَّ ما ولدنه من زنا. والثاني: أنه السحر. والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيه ثلاثة أقوال:
(١٤٣٨) أحدها: أنه النَّوح، قاله ابن عباس: وروي مرفوعا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
الخلاصة: أصل الخبر صحيح بطرقه وشواهده. وانظر «الكشاف» ١١٦٤ و «الجامع لأحكام القرآن» ٥٩٠٩ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩١ ومسلم ١٨٦٦ من حديث عائشة. وانظر «تفسير ابن العربي» ٢٠٩٠ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩٢ والبغوي ٢١٨٤ في «معالم التنزيل» بترقيمنا عن أبي معمر به.
والثالث: أنه جميع ما يأمرهنّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام، وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون المحظور.
قوله عزّ وجلّ: فَبايِعْهُنَّ المعنى: إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهنّ.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود.
(١٤٤٠) وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمداً، وهم يعرفون صدقه قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح.
وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه قولان: أحدهما: كما يئس الكفار، مِن بعث مَن في القبور، قاله ابن عباس. والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد.
وأخرجه مسلم ٩٣٦ ح ٣٣ وأحمد ٦/ ٤٠٧ وابن أبي شيبة ٣/ ٣٨٩ والحاكم ١/ ٣٨٣ وابن حبان ٣١٤٥ والطبراني ٢٥/ (١٣٦) والبيهقي ٤/ ٦٢ من طرق عن أبي معاوية عن عاصم عن حفصة به. وأخرجه النسائي ٧/ ١٤٨- ١٤٩ وأحمد ٦/ ٤٠٨ والطبري ٣٤٠٢٠ من طريق عن محمد بن سيرين عن أم عطية بنحوه.
مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة كما في «الدر» ٦/ ٣١٥ عن زيد بن أسلم مرسلا.
وورد من مرسل الضحاك بنحوه، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٦/ ٣١٤.
ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨١٦ بدون إسناد ولا عزو لأحد، فهو لا شيء، وليس له أصل.