ﰡ
وما في الأرض.
عن أبى هريرة رضى الله عنه: سألت حبيبي ﷺ عن اسم الله الأعظم فقال:
«عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته» «١» فأعدت عليه فأعاد علىّ، فأعدت عليه فأعاد علىّ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» «٢»
سورة الممتحنة
مدنية، وهي ثلاث عشرة آية «٣» [نزلت بعد الأحزاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢)وفي الواحدي من حديث ابن عباس رفعه «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر.
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية يزيد بن أبان عن أنس بهذا.
(٣). قوله «مدنية وهي ثلاث عشرة آية» لفظ مكية ومدنية ساقط من النسخة المنقول منها، ولعله من سهو الناسخ. وفي المصاحف وفي كتب التفسير: أنها مدنية، ولذا وضعناه في هذه النسخة كما ترى، ثم رأيت في بعض المصاحف أنها مكية، لكن آياتها وسبب نزولها يفيدان أنها مدنية، فليحرر. (ع)
(٢). هكذا رواه البيهقي في الدلائل وابن مردويه من طريق الحاكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس. وسماهم:
عبد العزيز بن حنظل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وأم سارة مولاة لقريش ولفظه قريب من لفظ الكتاب وفي الدارقطني من طريق عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي عن أبيه عن جده قال «أمن رسول الله ﷺ الناس إلا أربعة وسماهم، إلا أنه قال «الحويرث بن نقيذ وسارة» وذكره ابن إسحاق بغير إسناد فذكر الخمسة، وقال فيه: وسارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب» ورواه الدارقطني أيضا والحاكم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه، وجعل عوض سارة عكرمة بن أبى جهل. وقال الواقدي في المغازي، وتبعه ابن سعد «أمر النبي ﷺ يوم الفتح بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة وهبار بن الأسود، وعبد الله بن حنظل وابن أبى سرح، ومصعب بن صبابة. والحويرث بن نفيل، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمر بن هاشم ومرينا ومرينة «فقتل منهم ابن حنظل ومقيسا والحويرث».
أو حال من كفروا. وأَنْ تُؤْمِنُوا تعليل ليخرجون، أى يخرجونكم لإيمانكم. وإِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ متعلق بلا تتخذوا، يعنى: لا تتولوا أعدائى إن كنتم أوليائى. وقول النحويين في مثله: هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. وتُسِرُّونَ استئناف، ومعناه: أىّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمى لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون وَمَنْ يَفْعَلْهُ ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب. وقرأ الجحدري: لما جاءكم، أى: كفروا لأجل ما جاءكم، بمعنى: أن ما كان يجب
أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا: من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردّكم كفارا، وردكم كفارا أسبق المضارّ عندهم وأوّلها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذّالون لها دونه، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٣]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أى قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذي توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم، ثم قال يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وبين أقاربكم وأولادكم يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ... الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غدا:
خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلا، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانيا، ليربهم أن ما أقدموا عليه من أى جهة نظرت فيه وجدته باطلا.
قرئ: يفصل ويفصّل، على البناء للمفعول. ويفصل ويفصّل، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل. ونفصل ونفصل، بالنون.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٥]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)
فإن قلت: مم استثنى قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ؟ قلت: من قوله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لأنه أراد بالأسوة الحسنة: قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها. فإن قلت:
فإن كان قوله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة، فما بال قوله وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وهو غير حقيق بالاستثناء. ألا ترى إلى قوله قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً؟ قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبنىّ عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. فإن قلت: بم اتصل قوله رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا؟ قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا، أمرا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليما منه لهم تتميما لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيها على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم. وقرئ: برآء كشركاء، وبراء كظراف. وبراء على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. وبراء «٢» على الوصف بالمصدر. والبراء والبراءة كالظماء والظماءة.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٦]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريرا وتأكيدا عليهم، ولذلك جاء به مصدرا بالقسم لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل عن قوله لَكُمْ قوله لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وعقبه بقوله وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فلم يترك نوعا من التأكيد إلا جاء به.
(٢). قوله «كرخال ورباب» في الصحاح: الرخل- بكسر الخاء-: الأنثى من أولاد الضأن، والذكر حمل، والجمع رخال ورخال أيضا بالضم. وفيه أيضا: «الربى» بالضم على فعلى: الشاة التي وضعت حديثا.
وجمعها رباب بالضم. (ع)
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ٧]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)ولما نزلت هذه الآيات: تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة: رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم، فأسلم قومهم، وتمّ بينهم من التحاب والتصافي ما تمّ. وقيل: تزوّج رسول الله ﷺ أمّ حبيبة، فلانت عند ذلك عريكة أبى سفيان واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبى جحش إلى الحبشة، فتنصر وأرادها على النصرانية، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله ﷺ إلى النجاشي فخطبها عليه «١»، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه «٢». وعَسَى وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل: فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين، والله قدير على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أسلم من المشركين.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ٩]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
(٢). قوله «ذلك الفحل لا يقدع أنفه» اى لا يضرب أنفه ولا يكف وذلك لكونه كريما. أفاده الصحاح. (ع)
والمعنى: لا ينهاكم عن مبرّه هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء. وهذا أيضا رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله ﷺ على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد:
هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا. وقيل: هم النساء والصبيان. وقيل قدمت على أسماء بنت أبى بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول، فنزلت، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها «١». وعن قتادة: نسختها آية القتال وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم.
وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
ومن هذا الوجه أحمد والبزار وأبو داود وأبو يعلى والطبري والطبراني وابن أبى حاتم وغيرهم. وحديث أسماء في الصحيحين عن عروة عنها بغير هذا السياق.
(٢). قال محمود: «معناه لأحل بين المؤمنة والمشرك» قال أحمد: هذه الآية مما استدل بها على خطاب الكفار بالفروع لأنه تعالى قال لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ والضمير الأول للمؤمنات، والثاني الكفار، والمراد به يحرمن على الكفار لأن قسيمه متفق على أن المراد به تحريم الكفار على المؤمنات، فيكون كل من القبيلين المؤمنات والكفار مخاطبا بالحرمة، ولما كان المذهب المعزى إلى أصحاب أبى حنيفة أن الكفار غير مخاطبين لك الزمخشري يتفسر الآية ما يوافق ذلك، فحملها على أن المراد نفى الحل بين المؤمنة والكافر على الإجمال، حتى لا يتمحض نسبة الحرمة إلى الكافر، وهذا لا متخلص فيه فان الحل المنفي بين المؤمنة والكافر إلى الحرمة، لا بد وأن يتعلق بفعل أحدهما أو كليهما، إذ هو حكم فان تعلق بفعل كل واحد منهما أعنى التمكين من المرأة والفعل من الرجل: تحقق خطاب الكافر بالحرمة، وتعليقه بفعل المرأة دون فعل الرجل: يأباه نظم الآية، فانه نفى الحل من الجهتين جميعا ولو كان كذلك، لكفى قوله وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ والتحقيق الممتحن على قواعد الأصول: هو ما نذكره إن شاء الله تعالى فنقول: كل من فعلى المؤمنة والكافر ينفى عنه الحل بالتفسير اللائق، فأما فعل المؤمنة وهو التمكين فلا شك في تعلق الحرمة للشرع. باعتبار أنها مخاطبة بأن لا يحصل في الوجود على وجه لو حصل لكانت متوعدة على حصوله وأما فعل الكافر وهو الوطء مثلا، فمنفى حله باعتبار أن الشرع قصد إلى أن لا يحصل الوطء، لما يشتمل عليه من المفسدة، وللشرع قصد في أن لا تقع المفاسد، وليس الكافر موردا للخطاب، ولكن الأئمة مثلا أو من يقوم مقامهم. مخاطبون بأن يمنعوا الكافر كى لا يقع هذا الفعل المنطوى على المفسدة في نظر الشرع، فكلا الفعلين إذا من جانب المرأة والرجل غرض في أن لا يقع، لكن مورد الخطاب المنطوى على السلامة من المفسدة في حق المرأة هي وفي حق الكافر الأئمة مثلا، ويتفق المختلفون فيه في خطاب الكفار على أن للشرع غرضا في أن لا تحصل المفاسد في الوجود. ألا ترى أن الكافر إذا جهر بالفساد بين المسلمين يتفق على وجوب ردعه عن ذلك ومنعه عنه، وما ذاك إلا لما فهم عن الشرع من طلب سلامة الوجود عن المفاسد، ومورد الخطاب يردع الكافر كى لا يجهر بالفساد يعم الأئمة، والله الموفق.
أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي ﷺ من الشرط مثل ذلك. وعن قتادة: ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد براءة، فاستحلفها رسول الله ﷺ فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر. فإن قلت: كيف سمى الظنّ علما في قوله فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ؟
قلت: إيذانا بأن الظن الغالب وما يفضى إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فإن قلت: فما فائدة قوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وذلك معلوم لا شبهة فيه؟ قلت: فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإنّ ذلك مما استأثر به علام الغيوب، وأن ما يؤدى إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك، وأن تكليفكم لا يعدوه، ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ أجورهنّ أى مهورهنّ، لأن المهر أجر البضع، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق، وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا: وقعت الفرقة، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملا وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب، يعنى: إياكم وإياهنّ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية. قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر.
وعن مجاهد: أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا من مهور نسائهم المهاجرات. وقرئ:
ولا تمسكوا بالتخفيف. ولا تمسكوا بالتثقيل. ولا تمسكوا، أى: ولا تتمسكوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يعنى جميع ما ذكر في هذه الآية يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف. أو حال من حكم الله على
فعاقبتم فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، والذي ذهبت زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم، أى: فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم.
وقيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة:
أم الحكم بنت أبى سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبى أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبدودّ، وهند بنت أبى جهل كانت تحت هشام بن العاص. وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم رسول الله ﷺ مهور نسائهم من الغنيمة «١».
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات. وقيل: كل ما وافق طاعة الله فهو معروف. فإن قلت: لو اقتصر على قوله وَلا يَعْصِينَكَ فقد علم أن رسول الله ﷺ لا يأمر إلا بمعروف؟ قلت: نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب. وروى أنّ رسول الله ﷺ لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال:
أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا «١» وعمر بن الخطاب رضى الله عنه أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبى سفيان متقنعة متنكرة خوفا من رسول الله ﷺ أن يعرفها «٢» فقال عليه الصلاة والسلام: «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا فرفعت هند رأسها وقالت: والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: و «لا يسرقن» «٣» فقالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، وإنى أصبت من ماله هنات، فما أدرى، أتحل لي أم لا. فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله ﷺ وعرفها فقال لها: وإنّك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبى الله عفا الله عنك، فقال: «ولا يزنين»، فقالت: أو تزنى الحرة؟ وفي رواية: ما زنت منهن امرأة قط، فقال عليه الصلاة والسلام «ولا يقتلن أولادهن» فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبى سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله ﷺ فقال: «ولا يأتين ببهتان» فقالت:
والله إنّ البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: «ولا يعصينك في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وقيل في كيفية
(٢). قوله «خوفا من رسول الله ﷺ أن يعرفها» لما صنعت بحمزة، كذا في النسفي، وذلك في غزوة أحد. (ع)
(٣). قوله «فقال عليه السلام ولا يسرقن» في النسفي قبل هذا: فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا. (ع)
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
روى أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم «٤». فقيل لهم لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً مغضوبا عليهم قَدْ يَئِسُوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. وقيل مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ بيان للكفار، أى: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة «٥»..
(٢). رواه أبو داود في المراسيل عن الشعبي «أن رسول الله ﷺ حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده. وقال: لا أصافح النساء» وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال «كان رسول الله ﷺ يصافح النساء على يده ثوب قطري».
(٣). أخرجه ابن حبان والطبراني والبزار وأبو يعلى والطبري وغيرهم من حديث أم عطية قالت «لما قدم رسول الله ﷺ المدينة أمر نساء الأنصار فجمعهن في بيت ثم أرسل إليهن عمر. فجاء عمر فسلم- فذكر القصة- وفيها: ثم مد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت.
(٤). قال محمود «كان طائفة من ضعفاء المسلمين قد والوا اليهود ليصيبوا من أثمارهم، فنزلت هذه الآية، والمراد بالكفار المشركون... الخ» قال أحمد: قد كان الزمخشري ذكر في قوله وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إلى قوله وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان مبوب عليه عند أهله، وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جدا، فانه ذم اليهود واستطرد ذمهم بذم المشركين على نوع حسن من النسبة، وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا هذا الفن به قوله:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه | فليس به بأس وإن كان من جرم |
إن كنت كاذبة التي حدثتني | فنجوت منجى الحرث بن هشام |
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم | ونجا برأس طمرة ولجام |