تفسير سورة الأعلى

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ١٩

الحق والباطل، كما قيل له فرقان وَما هُوَ بِالْهَزْلِ يعنى أنه جدّ كله لا هوادة فيه. ومن حقه- وقد وصفه الله بذلك- أن يكون مهيبا في الصدور، معظما في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبار السماوات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده وبوعده، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل، فقد نعى الله ذلك على المشركين في قوله وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ، وَالْغَوْا فِيهِ.
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١٥ الى ١٧]
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
إِنَّهُمْ يعنى أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق، وأنا أقابلهم بكيدى: من استدراجى لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ يعنى لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أى إمهالا يسيرا، وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» «١».
سورة الأعلى
مكية، وآياتها ١٩ [نزلت بعد التكوير] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥)
تسبيح اسمه عز وعلا: تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه، كالجبر
(١). أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.
والتشبيه ونحو ذلك، مثل أن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة، وأن يصان عن الابتذال والذكر، لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الْأَعْلَى صفة للرب، والاسم، وقرأ على رضى الله عنه: سبحان ربى الأعلى. وفي الحديث لما نزلت: فسبح باسم ربك العظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال: «اجعلوها في سجودكم» «١» وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود:
اللهم لك سجدت خَلَقَ فَسَوَّى أى خلق كل شيء فسوّى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم قَدَّرَ فَهَدى قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به. يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوى تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله. وهدايات الله للإنسان إلى مالا يحدّ من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض:

باب واسع، وشوط بطين «٢»، لا يحيط به وصف واصف، فسبحان ربى الأعلى. وقرئ:


قدر، بالتخفيف أَحْوى صفة لغثاء، أى أَخْرَجَ الْمَرْعى أنبته فَجَعَلَهُ بعد خضرته ورفيفه غُثاءً أَحْوى دربنا «٣» أسود. ويجوز أن يكون أَحْوى حالا من المرعى، أى:
أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة والري، فجعله غثاء بعد حوّيه.
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ٦ الى ٧]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧)
بشره الله بإعطاء آية بينة، وهي: أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحى وهو أمى لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته، كقوله أَوْ نُنْسِها وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل، فقيل: لا تعجل، فإنّ جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه، ثم لا تنساه إلا ما شاء الله، ثم تذكره بعد النسيان. أو قال: إلا ما شاء الله، يعنى: القلة والندرة، كما روى أنه أسقط آية في
(١). أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وأحمد من رواية إياس بن عامر عن عقبة بن عامر به.
(٢). قوله «وشوط بطين» أى بعيد أفاده الصحاح. (ع)
(٣). الدرين: حطام المرعى إذا قدم، كذا في الصحاح. (ع)
قراءته في الصلاة، فحسب أبى أنها نسخت، فسأله فقال: نسيتها «١». أو قال: إلا ما شاء الله، الغرض نفى النسيان رأسا كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ولا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي. وقيل: قوله فَلا تَنْسى على النهى، والألف مزيدة للفاصلة، كقوله السَّبِيلَا يعنى: فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ يعنى أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت، والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، فلا تفعل، فأنا أكفيك ما تخافه. أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وبطن من أحوالكم، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه، فينسى من الوحى ما يشاء، ويترك محفوظا ما يشاء.
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢)
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معطوف على سَنُقْرِئُكَ وقوله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعتراض ومعناه: ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعنى: حفظ الوحى «٢». وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل: نوفقك لعمل الجنة. فإن قلت: كان الرسول ﷺ مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع، فما معنى اشتراط النفع؟
قلت: هو على وجهين، أحدهما: أنّ رسول الله ﷺ قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّا وطغيانا، وكان النبي ﷺ يتلظى حسرة وتلهفا، ويزداد جدا في تذكيرهم وحرصا عليه، فقيل له وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. والثاني: أن يكون ظاهره شرطا، ومعناه ذمّا للمذكرين، وإخبارا عن حالهم، واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ المكاسين إن سمعوا منك. قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون سَيَذَّكَّرُ فيقبل التذكرة
(١). أخرجه ابن أبى شيبة والنسائي والبخاري في جزء القراءة. والطبري من رواية زر عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى عن أبيه قال: صلى رسول الله ﷺ الفجر فقرأ آية فذكر الحديث» وأخرجه أبو بشر الدولابي من هذا الوجه فقال: عن سعيد عن أبيه عن أبى بن كعب... فذكره.
(٢). قوله «يعنى حفظ الوحي» لعله: يعنى في حفظ الوحي. (ع)
وينتفع بها مَنْ يَخْشى الله وسوء العاقبة، فينظر ويفكر حتى يقوده النظر إلى اتباع الحق:
فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك يَتَجَنَّبُهَا
ويتجنب الذكرى ويتحاماهاَْشْقَى
الكافر، لأنه أشقى من الفاسق. أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة النَّارَ الْكُبْرى السفلى من أطباق النار «١» وقيل الْكُبْرى نار جهنم. والصغرى: نار الدنيا. وقيل ثُمَّ لأنّ الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلى، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة: والمعنى: لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه.
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١٤ الى ١٧]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧)
تَزَكَّى تطهر من الشرك والمعاصي. أو تطهر للصلاة. أو تكثر من التقوى، من الزكاء وهو النماء. أو تفعل من الزكاة، كتصدق من الصدقة فَصَلَّى أى الصلوات الخمس، نحو قوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وعن ابن مسعود: رحم الله امرأ تصدق وصلى. وعن على رضى الله عنه أنه التصدق بصدقة الفطر وقال: لا أبالى أن لا أجد في كتابي غيرها «٢»، لقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أى أعطى زكاة الفطر، فتوجه إلى المصلى، فصلى صلاة العيد، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له. وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا فلا تفعلون ما تفلحون به. وقرئ:
(١). قال محمود: «الأشقى: الكافر، لأنه أشقى من الفاسق. والبار الكبرى: السفلى من أطباق النار» قال أحمد: يشير إلى خلود الفاسق مع الكافر في أسافل النار، والفاسق أعلى منه، كما تقدم له التصريح بذلك كثيرا.
(٢). قال محمود: «وعن على أنه قال هو التصدق بصدقة الفطر وقال لا أبالى أن لا أجد في كتابي غيرها... الخ» قال أحمد: في تلقى هذين الحكمين الأخيرين من الآية تكلف: أما الأول، فلأن العطف وإن اقتضى المغايرة فيقال بموجبها: فنحن إن قلنا إن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة، فالجزء مغاير للكل، فلا غرو أن يعطف عليه، والمغايرة مع الجزئية ثابتة والحالة هذه. وأما الثاني، فلأن الاسم معرف بالاضافة، وتعريف الاضافة عهدى عند محققي الفن، حتى إن القائل إذا قال: جاءني غلام زيد، ولزيد غلامان، فإنما تفهم من قوله معينا منهم بسابق عهد بينك وبينه، هذا مهيع تعريف الاضافة، والمعهود في افتتاح الصلاة: ما استمر النبي ﷺ على العمل به قولا وفعلا: وهو التكبير المعروف، ولو تنزلنا على أنه في الآية مطلق، فالحصر في قوله: تحريمها التكبير قيد إطلاقه.
﴿ هذا ﴾ إشارة إلى قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾ إلى ﴿ أبقى ﴾ يعني أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل : إلى ما في السورة كلها.
وروي : عن أبي ذر رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم أنزل الله من كتاب ؟ فقال : مائة وأربعة كتب، منها على آدم : عشر صحف، وعلى شيث : خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس : ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم : عشر صحائف والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان » وقيل : إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه.
Icon