ﰡ
(مكية [إلا الآيات ١٢ و ١٧ و ١١٤ فمدنية] وهي مائة وثلاث وعشرون آية [نزلت بعد سورة يونس] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة هود (١١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف.
ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة، من «حكم» بضم الكاف، إذا صار حكيما: أى جعلت حكيمة، كقوله تعالى آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وقيل: منعت من الفساد، من قولهم: أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. قال جرير:
أبَنِى حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ | إنِّى أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا «١» |
أحكمت آياته ثم فصلت: أى أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك: ثم فصلت، أى فرّقت بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل. وكتاب: خبر مبتدإ محذوف. وأحكمت: صفة له. وقوله مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أى: من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأنَّ المعنى: أحكمها حكيم وفصلها: أى بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢ الى ٤]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)أَلَّا تَعْبُدُوا مفعول له على معنى: لئلا تعبدوا. أو تكون «أن» مفسرة، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا أى أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ كأنه قال: ترك عبادة غير الله، إننى لكم منه نذير، كقوله تعالى فَضَرْبَ الرِّقابِ والضمير في مِنْهُ لله عز وجل، أى: إننى لكم نذير وبشير من جهته، كقوله رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أو هي صلة لندير، أى: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
فإن قلت: ما معنى ثم في قوله ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ؟ قلت: معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله ثُمَّ اسْتَقامُوا. يُمَتِّعْكُمْ يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن يتوفاكم، كقوله فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه.
أو فضله في الثواب، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات وَإِنْ تَوَلَّوْا وإن تتولوا عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ: وإن تولوا، من ولى.
[سورة هود (١١) : آية ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يزورّون عن الحق وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ يعنى:
[سورة هود (١١) : آية ٦]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
فإن قلت: كيف قال عَلَى اللَّهِ رِزْقُها بلفظ الوجوب «٤» وإنما هو تفضل؟ قلت: هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم، رجع التفضل واجباً كنذور العباد. والمستقرّ:
مكانه من الأرض ومسكنه. والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار، من صلب، أو رحم،
(٢). قوله «ويزيدون الاستخفاء» الظاهر أن هذا هو الخبر عن قوله: ومعنى ألا حين الخ، كما قال أولا، يعنى ويريدون. (ع)
(٣). قوله «من الثن» في الصحاح «الثن» بالكسر: يبس الحشيش. (ع)
(٤). قال محمود «إن قلت كيف قال على الله رزقها بلفظ الوجوب... الخ» قال أحمد: كل ما يسديه الله تعالى من رزق لبهيمة أو مكلف في الدنيا أو ثواب في الآخرة، فذلك كله فضل ولا واجب على الله تعالى، وإن ورد مثل هذه الصيغة فمحمول على أن الله عز وجل لما وعدهم فضله- ووعده خبر، وخبره صدق- وجب وقوع الموعود: أى يستحيل في العقل أن لا يقع، للزوم الخلف في خبر الصادق، فعبر عن ذلك بما يعبر به عن وجوب التكليف، وبينهما هذا الفرق المذكور. هذه قاعدة أهل الحق. وقد مر الكلام عليها عند قوله تعالى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ، والله الموفق.
[سورة هود (١١) : آية ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أى ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض. وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض.
وقيل: وكان الماء «١» على متن الريح، والله أعلم بذلك، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بخلق، أى خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: ليبلوكم. يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعملون. فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق إليه فهو ملابس له، كما تقول: انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتا، لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم. فإن قلت: كيف قيل: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه، وليكون ذلك لطفاً للسامعين، وترغيباً في حيازة فضلهم. وعن النبي ﷺ «ليبلوكم أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله «٢» » قرئ: ولئن قلت إنكم مبعوثون، بفتح الهمزة.
ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق عنك تشترى لنا لحماً، وأنك تشترى بمعنى علك، أى:
ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون، بمعنى: توقعوا بعثكم وظنوه، ولا تبتوا القول بإنكاره، لقالوا:
(٢). أخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل والحرث في مسنده عنه، والطبري وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن زيد عن كليب بن وائل عن ابن عمر. وداود ساقط. وأخرجه ابن مردويه أيضا من طريق محمد ابن أمرس عن سليمان بن عيسى عن الثوري عن كليب كذلك، وإسناده أسقط من الأول.
[سورة هود (١١) : آية ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
الْعَذابَ عذاب الآخرة. وقيل عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين إِلى أُمَّةٍ إلى جماعة من الأوقات ما يَحْبِسُهُ ما يمنعه من النزول استعجالا له على وجه التكذيب والاستهزاء. ويَوْمَ يَأْتِيهِمْ منصوب بخبر ليس، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر ليس على ليس، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها، كان ذلك دليلا على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلا حيث يقع العامل وَحاقَ بِهِمْ وأحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ العذاب الذي كانوا به يستعجلون. وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون، لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء. والمعنى: ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
الْإِنْسانَ للجنس رَحْمَةً نعمة من صحة وأمن وجدة ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ثم سلبنا تلك النعمة إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة. قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع كَفُورٌ عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نَسَّاءٌ له ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أى المصائب التي ساءتني إِنَّهُ لَفَرِحٌ أشر
[سورة هود (١١) : آية ١٢]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله ﷺ أن يلقى إليهم مالا يقبلونه ويضحكون منه، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أى لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ بأن تتلوه عليهم أَنْ يَقُولُوا مخافة أن يقولوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أى هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، ثم قال إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أى ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحى إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحى بقلب فسيح وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم. فإن قلت: لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت: ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأنّ رسول الله ﷺ كان أفسح الناس صدرا. ومثله قولك: زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجواد الثابتين المستقرّين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد ونحوه كانوا قوماً عامين في بعض القراآت، وقول السمهري العكلي:
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللّئِيمُ فَسَامِنٌ | بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا «١» |
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى.
[سورة هود (١١) : آية ١٤]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
فإن قلت: ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله لَكُمْ فَاعْلَمُوا بعد قوله قُلْ؟
قلت: معناه: فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله ﷺ والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، وقد قال في موضع آخر: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله ﷺ كقوله:
فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ «٢»
ووجه آخر: وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم، يعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أى أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه وَاعلموا عند ذلك أَنْ لا إِلهَ إِلَّا الله وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة، وهذا وجه حسن مطرد. ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد.
ومعنى فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فهل أنتم مخلصون؟
(٢). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ٢٩٤ فراجعه إن شئت. اه مصححه.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)نُوَفِّ إِلَيْهِمْ نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل: هم أهل الرياء. يقال للقراء منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحمن وتصدّق: فعلت حتى يقال، فقيل. ولمن قاتل فقتل: قاتلت حتى يقال فلان جريء، فقد قيل: وعن أنس بن مالك: هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحماً، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله ﷺ فأسهم لهم في الغنائم. وقرئ: يوفّ، بالياء على أن الفعل لله عزّ وجلّ. وتوفَّ إليهم أعمالهم بالتاء، على البناء للمفعول. وفي قراءة الحسن:
نوفى، بالتخفيف وإثبات الياء، لأنّ الشرط وقع ماضياً، كقوله:
يَقُولُ لَا غائِبٌ مَالِى وَلَا حَرِمُ «١»
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم، يعنى: لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى كان عملهم في نفسه باطلا، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له.
وقرئ: وبطل على الفعل. وعن عاصم: وباطلا بالنصب، وفيه وجهان: أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون، ومعناه: وباطلا، أىّ باطل كانوا يعملون. وأن تكون بمعنى المصدر على:
وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون.
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ معناه: أمّن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة «٢» أى لا يعقبونهم في المنزلة
(٢). قوله «فمن كان على بينة» عبارة النسفي: كمن كان يريد... الخ. (ع)
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم الْأَشْهادُ من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكا، ويقال أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فوا خزياه ووا فضيحتاه. والأشهاد: جمع شاهد أو شهيد، كأصحاب أو أشراف وَيَبْغُونَها عِوَجاً يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوجوا
اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم مالا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم وَضَلَّ عَنْهُمْ
وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة وشفاعتها لا جَرَمَ فسر في مكان آخر هُمُ الْأَخْسَرُونَ لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم.
[سورة هود (١١) : آية ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
(٢). قوله «ولعل بعض المجبرة» إن كان مراده بهم أهل السنة كعادته، فهم لا يسلبون عن العبد الاستطاعة في الفعل، بل يثبتون له الكسب والاستطاعة مع الفعل، وإن كان مراده القائلين بالجبر المحض وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء فلا ضير. ونقل الخازن عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: أخبر الله تعالى أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فانه قال: ما كانوا يستطيعون السمع، وهو طاعته. وما كانوا يبصرون. وأما في الآخرة فانه قال لا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ. (ع)
(٣). قوله «فيوعوع به» في الصحاح: الوعوعة صوت الذئب. (ع)
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّزْ | قِ وَلَا يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ «١» |
[سورة هود (١١) : آية ٢٤]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع «٢» وهو من اللف والطباق. وفيه معنيان: أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم، أو الذي جمع بين البصر والسمع «٣». على أن تكون الواو في وَالْأَصَمِّ وفي وَالسَّمِيعِ لعطف الصفة على الصفة، كقوله:
الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ «٤»
هَلْ يَسْتَوِيانِ يعنى الفريقين مَثَلًا تشبيهاً.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
أى أرسلنا نوحاً بأنى لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ بالكسر، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في كَأَنْ والمعنى على الكسر،
(٢). قال محمود: «شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع إلى قوله أن تكون الواو... الخ» قال أحمد: بخلافها على الوجه الأول، فإنها لعطف الموصوف على الموصوف. وأما تنظيره الآية بتشبيه امرئ القيس في كونه شبه تشبيهين اثنين ففيه نظر. فان امرأ القيس شبه كل واحد من الرطب واليابس تشبيهاً واحداً، والآية على التفسير الأول شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين، وإنما ينظر ببيت امرئ القيس على الوجه الثاني، فان مقتضاه أن كل واحد منهما شبه تشبيهاً واحداً، ولكن في صفتين متعددتين، والأمر في ذلك قريب، والله أعلم.
(٣). قوله «أو الذي جمع بين البصر والسمع» لعله: والذي. (ع)
(٤). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ٤١ فراجعه إن شئت اه مصححه.
[سورة هود (١١) : آية ٢٧]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
الْمَلَأُ الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملؤوا بالأمر، لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالئون أى يتظاهرون ويتساندون، أو لأنهم يملئون القلوب هيبة والمجالس أبهة «١» أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة «٢» وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشر. والأراذل جمع الأرذل، كقوله أَكابِرَ مُجْرِمِيها «أحاسنكم أخلاقاً» وقرئ: بادى الرأى، بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأى أو ظاهر الرأى، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم
(٢). قال محمود: «هو تعريض بأنهم كانوا أحق منه بالنبوة... الخ» قال أحمد: ويحتمل في الوجهين أن يكون المراد أول الرأى. ولكنه ترك الهمز استثقالا، إلا أن يكون القارئ بها ياء ليس من مذهبه تسهيل الهمز، والمعنيان متقاربان، وقد زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين، أحدهما: أن المتبعين أراذل ليسوا قدوة ولا أسوة. والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه. ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية. وغرض هؤلاء أن لا يقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به، والله أعلم
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)
أَرَأَيْتُمْ أخبرونى إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ على برهان مِنْ رَبِّي وشاهد منه يشهد بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة. فإن قلت: فقوله فَعُمِّيَتْ ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ:
فعميت بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبى: فعماها عليكم. فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت:
فما معنى قراءة أبىّ؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله «١» وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ يعنى
أنلزمكم إياها. ونحوه فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكى عن أبى عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكونا. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ راجع إلى قوله لهم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وقرئ: وما أنا بطارد الذين آمنوا، بالتنوين على الأصل. فإن قلت:
ما معنى قوله إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ؟ قلت: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم.
أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به «١» من بناء إيمانهم على بادىء الرأى من غير نظر وتفكر.
وما علىّ أن أشق عن قلوبهم وأ تعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون.
ونحوه وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية. أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة تَجْهَلُونَ تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا «٢»
أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من انتقامه إِنْ طَرَدْتُهُمْ وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء أَعْلَمُ الْغَيْبَ معطوف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أى لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب. ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله فأدعى فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلى بقولكم وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ولا أدعى علم الغيب حتى تنسبونى إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعى وضمائر قلوبهم وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولا على هواكم إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء: افتعال من زرى عليه إذا عابه.
وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.
(٢).
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
جاد فلان فأكثر وأطاب فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ أى ليس الإتيان بالعذاب إلىّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه إِنْ شاءَ يعنى إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: فأكثرت جدلنا. فإن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ «١» قلت: قوله إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جزاؤه ما دلّ عليه قوله لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إلىّ أحسنت إليك إن أمكننى. فإن قلت:
فما معنى قوله «٢» إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالا، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوى فلطف به:
سمى إرشاداً وهداية. وقيل أَنْ يُغْوِيَكُمْ أن يهلككم من غوى الفصيل غوى، إذا بشم فهلك «٣». ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله
والمنقول عن الشافعية أنها إن شربت ثم أكلت لم يحنث. وإن أكلت ثم شربت حنث. وهذا الفرق مبناه على جعل الجزاء للشرط الآخر، أى الذي يليه، ثم جعلهما معا جزاء للشرط المتوسط، ولذلك سر في العربية لا نطول بذكره وعليه أعرب الزمخشري هذه الآية كما رأيت، والله أعلم. [.....]
(٢). قوله «فان قلت فما معنى... الخ» السؤال وجوابه مبنى على مذهب المعتزلة: أن الله لا يخلق الشر. أما على مذهب أهل السنة فالاغواء على ظاهره: خلق الغى- أى الضلال- في القلب. (ع)
(٣). قوله «إذا بشم فهلك» في الصحاح «البشم» التخم. يقال: بشمت من الطعام- بالكسر. وبشم الفصيل من كثرة شرب اللبن. (ع)
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
لَنْ يُؤْمِنَ إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، وقد للتوقع وقد أصابت محزها فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن حزن بائس مستكين. قال:
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ | مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ «٢» |
لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضى به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله:
(٢). لحسان، يقال: ابتأس إذا حزن من كثرة وقوع البأس والمكاره به. والبال القلب أو الشأن. يقول:
ما يقسمه الله لك من نعمة أو نقمة فاقبله حال كونك غير متحزن منه، أى مما قسمه الله لك. واقعد كريما غير مهان طيب الحال والشأن، أو مستريح القلب من نصب الدنيا. وروى: وأقعد بقطع الهمزة، من أقعد المتعدي، فكريما حال على الأول، ومفعول على الثاني، وفيه تجريد.
(٣). قوله «وأن لا يحول بينه» لعله: وأن يحول. (ع)
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية سَخِرُوا مِنْهُ ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء «١» في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبيا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ يعنى في المستقبل كَما تَسْخَرُونَ منا الساعة، أى: نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وروى أنّ نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط:
الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وعن الحسن: كان طولها ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة. وقيل: إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب بن حام. قال:
فضرب الكثيب «٢» بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام: هكذا أهلكت؟ قال لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت. قال: حدّثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير.
ثم قال له: عد بإذن الله كما كنت، فعاد تراباً مَنْ يَأْتِيهِ في محل النصب بتعلمون. أى:
(٢). قوله «قال فضرب الكثيب» أى راوى هذه القصة، لكنه غير معلوم. (ع)
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن قلت:
وقعت غاية لماذا؟ قلت: لقوله: ويصنع الفلك، أى: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
فإن قلت: «فإذا اتصلت «حتى» بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت: هو حال من يصنع، كأنه قال: يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه. فإن قلت: فما جواب كلما؟
قلت: أنت بين أمرين: إما أن تجعل سَخِرُوا جواباً وقالَ استئنافا، على تقدير سؤال سائل. أو تجعل سَخِرُوا بدلا من مَرَّ أو صفةل مَلَأٌ وقالَ جوابا. وَأَهْلَكَ عطف على اثنين، وكذلك وَمَنْ آمَنَ يعنى: واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه «١» وإرادته به- تعالى الله عن ذلك- قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته إِلَّا قَلِيلٌ روى عن النبي ﷺ أنه قال: «كانوا ثمانية: نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم» «٢» وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال وخمس نسوة. وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث، ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون: نصفهم رجال ونصفهم نساء. ويجوز أن يكون كلاما واحداً وكلامين، فالكلام الواحد: أن يتصل بِسْمِ اللَّهِ باركبوا حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله. أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج.
ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في بِسْمِ اللَّهِ من معنى الفعل، أو بما فيه
(٢). لم أره مرفوعا. وذكره الطبري بإسناد عن قتادة قال: ذكر لنا أن لم يتم في السفينة إلا نوح وامرأته وبنوه الثلاثة ونساؤهم. فجميعهم ثمانية.
ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا «٢»
ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أى بقدرته وأمره. وقرئ مَجْراها وَمُرْساها بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين. وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها، بلفظ اسم الفاعل، مجرورى المحل، صفتين لله. فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضية؟ قلت: معناه أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضية بأن تكون في موضع الحال كقوله:
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَينَا «٣»
فلا تكون كلاما برأسه، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل، وانتصاب هذه الحال عن
(٢).
تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما | وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر |
فان حان يوما أن يموت أبو كما | فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر |
وقولا هو المرء الذي لا صديقه | أهان ولا خان الأمين ولا غدر |
إلى الحول تم اسم السلام عليكما | ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر |
(٣).
وجاءونا بهم سكر علينا | فأجلى القوم والسكران صاحى |
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
فإن قلت: بم اتصل قوله وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ؟ قلت: بمحذوف دل عليه ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم الله، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ أى تجرى وهم فيها فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ يريد موج الطوفان، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها. فإن قلت:
الموج: ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره «١» وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض، وكانت الفلك تجرى في جوف الماء كما تسبح السمكة، فما معنى جريها في الموج؟
قلت: كان ذلك قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء. قيل: كان اسم ابنه: كنعان. وقيل: يام. وقرأ على رضى الله عنه:
ابنها، والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن على وعروة بن الزبير: ابنه، بفتح الهاء، يريدان ابنها، فاكتفيا بالفتحة عن الألف، وبه ينصر مذهب الحسن. قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه، فقلت: إنّ الله حكى عنه إن ابني من أهلى، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل بقوله مِنْ أَهْلِي ولم يقل: منى، ولنسبته إلى أمّه وجهان، أحدهما: أن يكون ربيباً له، كعمر بن أبى سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لغير رشدة، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام. وقرأ السدى: ونادى نوح ابناه، على الندبة والترثى. أى: قال يا ابناه. والمعزل:
مفعل، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده، يعنى: وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل: كان في معزل عن دين أبيه «يا نبىّ» قرئ بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك: يا بنيا، أو سقطت
[سورة هود (١١) : آية ٤٤]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز «٢» على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله يا أَرْضُ، وَيا سَماءُ ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله ابْلَعِي ماءَكِ وأَقْلِعِي من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته
(٢). قال محمود: «نداء الأرض والسماء بما ينادى به العاقل... الخ» قال أحمد: ومن هذا النمط في السكوت عن ذكر الموصوف اكتفاء بصفاته لانفراده بها السكوت عن ذكر الأوصاف أحيانا، اكتفاء بذكر الموصوف لتبينه بها وتوحده فيها، وأنه متى ذكر مكانها قد ذكرت بذكره في مثل قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ الآية.
والمراد: وهو الله الموصوف بصفات الكمال المشهور بها في العالمين. ومنه:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ولقد تحيل الشعراء على التعلق بأذيال هذه المعاني اللطيفة، فقال أبو الطيب يمدح عضد الدولة:
لا تحمدنها واحمدن هماما... إذ لم يسم حامد سواكا
يعنى لا تمنح نفسك فإنك المنفرد بالممادح، حتى إذا ذكرت ولم يسم المعنى بها لم يسبق إلى ذهن أحد غيرك لتفردك بها.
عبارة عن النشف. والإقلاع: الإمساك. يقال: أقلع المطر وأقلعت الحمى وَغِيضَ الْماءُ من غاضه إذا نقصه وَقُضِيَ الْأَمْرُ وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه وَاسْتَوَتْ واستقرّت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالموصل وَقِيلَ بُعْداً يقال بعد بعدا وبعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى، ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم، لا لتجانس الكلمتين، وهما قوله ابْلَعِي وأَقْلِعِي وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور. وعن قتادة: استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرّت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء. وروى أنها مرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد أعتقه الله من الغرق. وروى أنّ نوحا صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
نداؤه ربه: دعاؤه له، وهو قوله رَبِّ مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله.
فإن قلت: فإذا كان النداء هو قوله رَبِّ فكيف عطف فَقالَ رَبِّ على نادى بالفاء؟
قلت: أريد بالنداء إرادة النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء، كما جاء قوله إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ بغير فاء إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أى بعض أهلى، لأنه كان ابنه من صلبه، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلى، فما بال ولدى؟ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ
أى أعلم الحكام وأعدلهم «١»، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل
ثم حدث بعد الزمخشري ترفع عن أقضى القضاة إلى قاضى القضاة، والذي تلاحظوا به في ارتفاع هذه الثانية على الأولى:
أن الأولى تقتضي مشاركة القضاة لأقضاهم في الوصف، وأن يزاد عليهم، فترفعوا أن يشركهم أحد في وصفهم ممن دونهم في المنصب، فعدلوا عما يشاركه فيه إلى ما ليس كذلك، فأفردوا رئيسهم بتلقيبه بقاضى القضاة: أى هو الذي يقضى بين القضاة ولا يشاركهم منهم أحد في وصفه، وجعلوا الذي يليه في الرتبة أقضى القضاة إلا أنهم إنما يعنون قاضى قضاة زمانه أو إقليمه. وإذا جاز أن يطلق على أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه أقضى قضاة الصحابة في زمانه كما أطلقه عليه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال «أقضاكم على» فدخل في المخاطبين القضاة وغيرهم، فلا حرج إن شاء الله أن يطلق على أعدل قضاة الزمان أو الإقليم وأعلمهم: قاضى القضاة، وأقضى القضاة، أى قضاة زمانه وبلده، وكل قرن ناجم في زمن فهو شبيه زمن فيه بدا هذا اللقب.
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ «٢»
وقيل: الضمير لنداء نوح، أى: إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك- فإن قلت:
فهلا قيل: إنه عمل فاسد «٣» ؟ قلت: لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك، كقوله كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وقرئ: عمل غير صالح أى عمل عملا غير صالح. وقرئ:
فلا تسئلنّ، بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء، يعنى فلا تلتمس منى ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. وذكر المسألة
(٢). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢١٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). قال محمود: «فهلا قيل: إنه عمل فاسد قلت لما نفاه عن أهله نفى عنه... الخ» قال أحمد. ولهذا المعنى والله أعلم قيل له عليه الصلاة والسلام وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وإن كان مأموراً بالإنذار على العموم، ولكن لما كانت أهلية النبي عليه الصلاة والسلام مظنة الاتكال والفتور عن العمل، خص أهله بالإنذار إيذانا بذلك، والله أعلم. ولهذا لما نزلت أنذرهم النبي ﷺ وقال: إنى لا أملك لكم من الله شيئاً، أو قال ذلك ولكل واحد منهم بخصوصه.
[سورة هود (١١) : آية ٤٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
أَنْ أَسْئَلَكَ من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط منى من ذلك وَتَرْحَمْنِي بالتوبة علىّ أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا.
[سورة هود (١١) : آية ٤٨]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)وقرئ: يا نوح اهبط، بضم الباء بِسَلامٍ مِنَّا مسلماً محفوظاً من جهتنا أو مسلماً عليك مكرّماً وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ ومباركا عليك، والبركات الخيرات النامية. وقرئ: وبركة، على التوحيد وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يحتمل أن تكون من للبيان. فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعات. أو قيل لهم أمم، لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لإبداء الغاية أى:
على أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه. وقوله وَأُمَمٌ رفع بالابتداء. وسَنُمَتِّعُهُمْ صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأنّ قوله مِمَّنْ مَعَكَ يدل عليه. والمعنى: أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. وعن كعب بن محمد القرظي:
دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر.
وعن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا، منهم من رحم ومنهم من عذب.
وقيل: المراد بالأمم الممتعة: قوم هود وصالح ولوط وشعيب.
[سورة هود (١١) : آية ٤٩]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. ومحلها الرفع على الابتداء، والجمل بعدها أخبار، أى تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك، مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا من قبل إيحائى إليك وإخبارك بها. أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي. أو من قبل هذا الوقت فَاصْبِرْ على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه إِنَّ الْعاقِبَةَ في الفوز والنصر والغلبة لِلْمُتَّقِينَ. وقوله وَلا قَوْمُكَ معناه: إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)أَخاهُمْ واحداً منهم، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا. وهُوداً عطف بيان. وغَيْرُهُ بالرفع: صفة على محل الجار والمجرور. وقرئ: غيره، بالجرّ صفة على اللفظ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء. ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأنّ شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع أَفَلا تَعْقِلُونَ إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، قيل اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ آمنوا به ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان، والمدرار: الكثير الدرور، كالمغزار. وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة، لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حرّاصاً عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين «١» بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدوّ، مهيبين في كل ناحية. وقيل: أراد القوّة في المال.
وقيل: القوّة على النكاح وقيل: حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إنى رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلمني شيئاً لعلّ الله يرزقني ولداً، فقال: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته ممَّ قال ذلك، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السلام وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وقول نوح عليه السلام وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ.
وَلا تَتَوَلَّوْا ولا تعرضوا عنى وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه مُجْرِمِينَ مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
[سورة هود (١١) : آية ٥٣]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)
لولا أُنزل عليه آية من ربه، مع فوت آياته الحصر عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه، إقناطاً له من الإجابة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥)
اعْتَراكَ مفعول نقول، وإلا لغو. والمعنى: ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أى خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين «١». وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنونا والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة، وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة «٢» أراد أن يطلع رأسه.
وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت «٣» ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد، فيقول الرجل:
الله شهيد على أنى لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أنى لا أفعله. فإن قلت:
هلا قيل: إنى أشهد الله وأشهدكم؟ «٤» قلت: لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد
(٢). قوله «وضب من الزندقة» في الصحاح «الضب» الحقد. والضب: واحد ضباب النخل، وهو طلعه. (ع)
(٣). قوله «لا يبالون بالبهت» رمى الشخص بما ليس فيه. (ع)
(٤). قال محمود: «إن قلت هلا قيل أشهد الله وأشهدكم... الخ» قال أحمد: وتلخيص ما قاله أن صيغة الخبر لا تحتمل سوى الاخبار بوقوع الاشهاد منه، فلما كان إشهاده لله واقعا محققا عبر عنه بصيغة الخبر، لأنه إشهاد صحيح ثابت، وعبر في جانبهم بصيغة الأمر التي تتضمن الاستهانة بدينهم وقلة المبالاة به، وهو مراده في هذا المقام معهم. ويحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة، والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما عدل إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر، التمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم، بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر، والله الموفق الصواب.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولوا. فإن قلت:
الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسالات به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول وَيَسْتَخْلِفُ كلام مستأنف، يريد: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم وَلا تَضُرُّونَهُ بتوليكم شَيْئاً من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد الله: ويستخلف، بالجزم.
وكذلك: ولا تضروه، عطفاً على محل فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ والمعنى: إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أى رقيب عليه مهيمن، فما تخفى
[سورة هود (١١) : آية ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف. فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟
قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على معنى:
وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله: برحمة منا، يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
وَتِلْكَ عادٌ إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.
ومعنى اتباع أمرهم: طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله. وأَلا وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم، تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.
فإن قلت: بُعْداً دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت: معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له: ألا ترى إلى قوله:
إخْوَتِى لَا تَبْعَدُوا أبَداً... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا «١»
إخوتى لا تبعدوا أبدا... وبلى والله قد يعدوا
ما أمرّ العيش بعدكم... كل عيش بعدكم نكد
ليت شعري كيف شربكم... إن شربى بعدكم ثمد
لفاطمة بنت الأحجم الخزاعية. وتقول العرب: بعد بالضم في ضد القرب، وبالكسر في الهلاك، ومضارع الأول مضموم، ومضارع الثاني مفتوح. وما في البيت منه. وما أمر: تعجب، وشبهت العيش وهو الحياة أو ما يعاش به بشيء مر على طريق المكنية، وإثبات المرارة تخييل، أو استعارتها للنقص على طريق التصريحية. والنكد:
العسر الضيق المنغص. والثمد: الماء القليل الذي لا مادة له فينقطع سريعاً. ورجل مثمود، إذا كثر عليه السؤال من العلم أو المال حتى نفد ما عنده. والمعنى: أن سروري بعدكم منقطع كالماء القليل، وعبرت بذلك لمشاكلة ما قبله.
ويروى لها بعد البيت الأول:
لو تملتهم عشيرتهم... لاقتناء العز أو ولدوا
هان من بعض الرزية أو... هان من بعض الذي أجد
كل ما حى وإن أمروا... وارد والحوض الذي وردوا
ومعنى تملتهم: عاشوا معهم مليا من الزمان، وأقحمت «من» مع إغباء «بعض» عنها، للدلالة على تبغيض البغض.
و «ما» مقحمة، بنى كل حى مبالغة في العموم. وأمروا بالكسر: كثروا. والحوض: تمثيل للموت.
قلت: الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه، ولأنّ عاداً عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٨]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
فيه أيضا فائدتان جليلتان، إحداهما: النسبة بذكر هود الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه على موجب الدعاء عليهم، وكأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه، والأخرى تناسب الآي بذلك، فان قبلها وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وقبل ذلك حفيظ وغليظ، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القوافي، والله أعلم.
لَيْسَ الفَتَى بِفَتيً لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ | وَلَا تَكُونُ لَهُ فِى الأَرْضِ آثَارُ «١» |
فبم يتعلق لَكُمْ قلت: بآية حالا منها متقدّمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأجر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم تَمَتَّعُوا استمتعوا بالعيش فِي دارِكُمْ في بلدكم. وتسمى البلاد الديار، لأنه يدار فيها أى يتصرف. يقال: ديار بكر، لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالى مكة:
نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. وقيل: في دار الدنيا. وقيل: عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت غَيْرُ مَكْذُوبٍ غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود، من قوله:
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ. «٢»....
أو على المجاز، كأنه قيل للوعد: نفى بك، فإذا وفي به فقد صدق ولم يكذب. أو وعد غير كذب، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قرئ مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ، وهو غير متمكن، كقوله:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا «٣»
(٢).
ويوم شهدناه سليما وعامرا | قليل سوى الطعن النهال نوافله |
ووصف المفرد بالجمع باعتبار أنواعه أو مراته، فهو متعدد أيضا. والنهال: جمع ناهل، أى ريان أو عطشان على التشبيه هنا، فهو من الأضداد، ووصف الطعن بأنه ناهل مجاز عقلى، لأن الذي يوصف به الرمح أو الفارس.
والمعنى: أنهم يتشفون من غيظ قلوبهم بذلك الطعن.
(٣).
على حين عاتبت المشيب على الصبا | فقلت ألما أصح والشيب وازع |
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٣]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
رُسُلُنا يريد الملائكة. عن ابن عباس: جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه. وقيل:
جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة. وعن السدى: أحد عشر بِالْبُشْرى هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط، والظاهر الولد سَلاماً سلمنا عليك سلاما سَلامٌ أمركم سلام. وقرئ: فقالوا سلما قال سلم، بمعنى السلام. وقيل: سلم وسلام، كحرم وحرام، وأنشد:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ | كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ «١» |
واكتل اكتلالا: لمع لمعانا واللوائح الظواهر: صفة الغمام، لتعدده معنى.
وَأَنْكَرَتْنِى وَمَا كَانَ الَّذِى نَكِرَتْ | مِنَ الْحَوَادِثِ إلّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا «٢» |
أو عرفوه بتعريف الله. أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ قيل: كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم. وقيل: كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم. وفي مصحف عبد الله: وامرأته قائمة وهو قاعد فَضَحِكَتْ سروراً بزوال الخيفة «٥» أو بهلاك أهل الخبائث. أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد
(٢). للأعشى. ويقال: أنكره ونكره: جهله ونفر منه: أى جهلتنى المحبوبة، وما كان الذي أنكرته من الحوادث إلا الشيب والصلع وهو انحسار شعر الرأس. وقيل: إن أبا عبيدة سمع بشارا ينكر نسبة هذا البيت للأعشى ويقول: إنه مصنوع عليه لا يشبه كلامه، فتعجب أبو عبيدة من فطنته، كأنه صح عنده إنكاره.
(٣). قال محمود: «قيل إنه كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها... الخ» قال أحمد:
وقد وردت قصة إبراهيم هذه في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، وهو دال على أنه إنما أوجس منهم خيفة لعلمه أنهم ملائكة وعدم علمه فيم جاءوا. الثاني: في الحجر قوله وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إلى قوله لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ فلم يطمئنوا بإعلامه أنهم ملائكة، ولكن بأنهم يبشرون له، فدل على استشعارهم أنه علم كونهم ملائكة ووجل مما جاءوا فيه. الثالث: في الذاريات فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ فهو أيضا كذلك. وأما لوط فلم يشعر أنهم ملائكة حتى أعلموه بذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فأول ما أعلموا به أنهم رسل، فالفرق بين هذه الآية وبين آي إبراهيم، مصداق لأن إبراهيم علم كونهم ملائكة ولوطا لم يعلم ذلك، ولا يبعد من فضل إبراهيم على لوط أن يبعد على فراسته أن يعلم أنهم ملائكة دون لوط عليهما السلام.
(٤). عاد كلامه. قال: «ومعنى أوجس أضمر وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف... الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل وهم فيه الزمخشري والله أعلم، لأنهم إنما علموا خوفه ووجله باخباره إياهم بذلك، ويدل عليه قوله تعالى في آية أخرى قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ والقصة واحدة، والله الموفق للصواب.
(٥). عاد كلامه. قال: «وضحك زوجته لأنها سرت بذهاب الخيفة... الخ» قال أحمد: ويبعد هذا التأويل أنها قالت بعد يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ فلو كان حيضها قبل بشارتها لما تعجبت، إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة مهماز على إمكان الحمل، والله الموفق.
وقرأ محمد بن زياد الأعرابى فَضَحِكَتْ بفتح الحاء يَعْقُوبَ رفع بالابتداء، كأنه قيل:
ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود، أى من بعده. وقيل الوراء: ولد الولد، وعن الشعبي أنه قيل له: أهذا ابنك؟ فقال نعم، من الوراء، وكان ولد ولده. وقرئ يَعْقُوبَ بالنصب، كأنه قيل. ووهبنا لها إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله:
... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً... وَلَا نَاعِبٍ «١»...
الألف في يا وَيْلَتى مبدلة من ياء الإضافة، وكذلك في «يا لهفاً» و «يا عجباً» وقرأ الحسن:
يا ويلتى، بالياء على الأصل. وشَيْخاً نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة. وقرئ شيخ، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هذا بعلى هو شيخ. أو بعلى: بدل من المبتدأ، وشيخ:
خبر، أو يكونان معاً خبرين. قيل: بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها «٢» ما يزدهى سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب. وأمر الله: قدرته وحكمته: وقوله رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بنى إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده مَجِيدٌ كريم كثير الإحسان إليهم. وأهل البيت: نصب على النداء أو على الاختصاص، لأن أَهْلَ الْبَيْتِ مدح لهم: إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن.
(٢). قوله «ولا يزدهيها» في الصحاح: زهاه وازدهاه: استخفه وتهاون به. (ع)
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥)الرَّوْعُ ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى: أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف ومليء سرورا بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة، فإن قلت: أين جواب لما؟
قلت: هو محذوف كما حذف قوله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا وقوله يُجادِلُنا كلام مستأنف دال على الجواب. وتقديره: اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت:
ثم ابتدأ فقال يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ وقيل في يُجادِلُنا: هو جواب لما، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال: وقيل: إن «لما» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل: معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى: يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا.
حتى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا.
فعند ذلك قال إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ. فِي قَوْمِ لُوطٍ في معناهم. وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وعن قتادة:
ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير «١». وقيل: كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على كل من أساء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الذنوب مُنِيبٌ تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه.
[سورة هود (١١) : آية ٧٦]
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول: أى قالت له الملائكة أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مردّ له بحدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
[سورة هود (١١) : آية ٧٧]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)كانت مساءة لوط وضيق ذرعه «١» لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. روى أنّ الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا:
وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها. يقال: يوم عصيب، وعصبصب، إذا كان شديداً من قولك: عصبه، إذا شدّه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩)
يُهْرَعُونَ يسرعون كأنما يدفعون دفعاً وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل معناه: وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك هؤُلاءِ بَناتِي أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد: هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً، كما زوّج رسول الله ﷺ ابنتيه من عتبة بن أبى لهب وأبى العاص بن وائل قبل الوحى وهما كافران «٢»
(٢). قلت: قوله «أبو العاص بن وائل» غلط فاحش وإنما هو أبو العاص بن الربيع، ليس في نسبته من اسمه وائل. وكأنه انتقل ذهنه إلى العاص بن وائل السهمي والد عمرو، وليس له في هذه القضية مدخل، وأما قصة تزويج أبى العاص بن الربيع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا عتبة بن أبى لهب فذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبراني من طريقه قال: كان أبو العاص بن الربيع من رجال مكة مالا وأمانة وكانت خديجة خالته. فسألت خديجة رسول الله ﷺ أن يزوجه بزينب وكان لا يخالفها. وذلك قبل أن ينزل عليه فلما أكرم الله نبيه ﷺ بالنبوة آمنت خديجة وبناته وثبت أبو العاص على شركه. قال: وكان رسول الله ﷺ قد زوج عتبة بن أبى لهب بنته رقية. فلما دعا قريشا إلى أمرين قال بعضهم لبعض: قد فرغتم محمدا من همه ببناته. فردوهن عليه فمشوا إلى أبى العاص. فأبى عليهم. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب. ففارق رقية. وزوجوه بنت سعيد بن العاص. فتزوجها بعده عثمان بن عفان. فذكر قصة أبى العاص وأسره ببدر» وروى البيهقي في الدلائل من طريق قتادة «أن النبي ﷺ زوج ابنته أم كلثوم في الجاهلية عتبة ابن أبى لهب. ورقية أخاه. فلما جاء الإسلام أمر أبو لهب ولديه فطلقا البنتين. [.....]
خذوا هؤلاء، وبناتي: بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، وهُنَّ فصل، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأى الجملة، ولا يقع بين الحال وذى الحال، وقد خرّج له وجه لا يكون هُنَّ فيه فصلا، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ وبَناتِي هُنَّ جملة في موضع خبر المبتدإ، كقولك: هذا أخى هو، ويكون أَطْهَرُ حالا فَاتَّقُوا اللَّهَ بإيثارهنّ عليهم وَلا تُخْزُونِ ولا تهينونى ولا تفضحوني، من الخزي. أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء فِي ضَيْفِي في حق ضيوفى فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ رجل واحد يهتدى إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء. وقرئ: ولا تخزون، بطرح الياء. ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه «١» مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم، ومن ثمّ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مستشهدين بعلمه ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض سابرىّ «٢». وقيل: لما اتخذوا إتيان الذكران مذهبا ودينا لتواطؤهم عليه، كان عندهم أنه هو الحق، وأنّ نكاح الإناث من الباطل، فلذلك قالوا: ما لنا في بناتك من حق قط، لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه. ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة، والغرض نفى الشهوة لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة.
[سورة هود (١١) : آية ٨٠]
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
(٢). قوله «وما هو إلا عرض سابري» عرض سابري بفتح العين: نوع من الثياب رقيق، منسوب إلى سابور من الأكاسرة، كذا بهامش. وفي الصحاح: عرضت له الشيء. أى أظهرته له وأبرزته إليه. يقال: عرضت له ثوبا مكان حقه. وفي المثل: عرض سابري، لأنه ثوب جيد يشترى بأول عرض ولا يبالغ فيه. (ع)
لَلبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِى «٢»
وقرئ «إلى ركن» بضمتين. وروى أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم، فتسوّروا الجدار.
[سورة هود (١١) : آية ٨١]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فلما رأت الملائكة ما لقى لوط من الكرب قالوا: يا لوط، إن ركنك لشديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه- وله جناحان وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا- فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال الله تعالى فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوماً سحرة لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ جملة موضحة للتي قبلها، لأنهم إذا كانوا
(٢).
لبيت تخفق الأرواح فيه | أحب إلى من قصر منيف |
ولبس عباءة وتقر عينى | أحب إلى من لبس الشفوف |
أريد أسرع من ذلك. فقالوا أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ وقرئ «الصبح» بضمتين. فإن قلت:
ما وجه قراءة من قرأ إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب؟ قلت: استثناها من قوله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ والدليل عليه قراءة عبد الله: فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك. ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعنى قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن أحد. وفي إخراجها مع أهله روايتان: روى أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماء، فأدركها حجر فقتلها.
وروى أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها جعل جبريل جناحه في أسفلها، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم مِنْ سِجِّيلٍ قيل هي كلمة معربة من سنككل، بدليل قوله حجارة من طين. وقيل: هي من أسجله، إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين. ويدل عليه قوله لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً وقيل: مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان مَنْضُودٍ «١» نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب. وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة. وقيل عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض. وقيل: مكتوب على كل واحد اسم من يرمى به وَما هِيَ من كل ظالم ببعيد. وفيه وعيد لأهل مكة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال: يعنى ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة «٢». وقيل الضمير للقرى، أى هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم بِبَعِيدٍ بشيء بعيد. ويجوز أن يراد: وما هي بمكان بعيد، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه.
(٢). ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يريد: بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، كقول مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا يَوْمٍ مُحِيطٍ مهلك من قوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وأصله من إحاطة العدوّ. فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها؟ قلت: بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. فإن قلت: النهى عن النقصان أمر بالإيفاء «١» فما فائدة قوله أوفوا؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي وتعييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيداً بالقسط: أى ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمراً بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوى بالوفاء بالقسط، لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد.
البخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير:
وروى: مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثى في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض بَقِيَّتُ اللَّهِ ما يبقى لكم من الحلال «٢» بعد التنزه عما هو حرام عليكم خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت: بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس «٣» والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ قلت: لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر.
وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد: إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير «٤» لكم،
أفى كل أسواق العراق إتاوة | وما كل ما باع امرؤ مكس درهم |
ألا تستحي منا ملوك وتتقى | محارمنا لا تتقى الدم بالدم |
يقال: أتوته أأتوه أتوا وإتاوة: أعطيته الخراج، فهي في الأصل مصدر. والمكس: ما يأخذه العشار. ويروى «بخس درهم» أى نقص درهم» وكان أهل العراق يفعلون ذلك في أسواقهم مع العرب وغيرهم، فقال زهير: لا ينبغي ذلك. و «ألا» في الأصل مركبة من همزة الاستفهام التوبيخي ولا النافية، فصارت أداة تحضيض. ويقال: استحيا واستحى كما هنا، بنقل حركة الياء إلى الحاء وحذفها، أى: لتستح منا الملوك، وتتوقى عقوبة التعرض لمحارمنا وأموالنا، لئلا تتوقى القتل منا لهم بقتلنا لبعضهم، أى لئلا ترجع إلا بذلك، أو لئلا تتوقى أخذ الدم بدل الدم.
وروى «ألا يستحى منا المليك ويتقى» إلى آخره، وهو لغة في الملك، والمراد به ملك العراق.
(٢). قال محمود: «بقية الله ما يبقى لكم من الحلال... الخ» قال أحمد: المنقول عن المعتزلة أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لا نهيا ولا أمرا، وقد جوز بعضهم خطابهم بالنهى. وهذه الآية تدل على أنهم مخاطبون في حال الكفر بشرط الايمان، وقد قررها الزمخشري على ذلك.
(٣). عاد كلامه. قال: «فان قلت بقية الله خير للكفرة لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من إقرار الزمخشري للآية على ظاهرها، ومعنى السؤال: أن الكفار إذا قدرنا خطابهم بالفروع، انتفعوا باجتناب المنهيات في الدار الآخرة، لأن ثمرة الخلاف في مسألة خطاب الكفار إنما تظهر في الدار الآخرة، وإذا كانوا ينتفعون بذلك فلا معنى لاشتراط الايمان والحال مع وجوده وعدمه في الانتفاع بالامتثال سواء. ومعنى الجواب: أن ظهور الانتفاع بالامتثال إنما يتحقق مع الايمان، وأما مع الكفر فهم مخلدون في العذاب، فإنما تظهر الفائدة على خفاء في تحقيق مأمن العذاب، والله الموفق.
(٤). عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يراد ما يبقى لكم من الطاعات عند الله... الخ» قال أحمد: قد تقدم أن عقيدة أهل السنة: أن لا خالق ولا رازق إلا الله، إيمانا بقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ وإذا كان الرزق عبارة عن كل ما يقيم به الخلق بنيتهم، لزم اندراج الحرام في هذا الإطلاق عقداً وحقيقة. وأما إطلاق القول بإضافته على الخصوص إلى الله تعالى، فأمر خارج عن الاعتقاد راجع إلى الاتباع، والله الموفق.
[سورة هود (١١) : آية ٨٧]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلى تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ السخرية والهزء- والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وأن يقال:
إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال: تدعو إليه وتبعث عليه- إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز «٢» وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعى عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال. ومعنى تأمرك أَنْ نَتْرُكَ تأمرك بتكليف أن نترك «٣» ما يَعْبُدُ آباؤُنا لحذف المضاف الذي هو التكليف، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرئ أَصَلاتُكَ بالتوحيد. وقرأ ابن أبى عبلة: أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء، بتاء الخطاب فيهما، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير.
(٢). قوله «مساق الطنز» في الصحاح: الطنز السخرية. وطنز يطنز فهو طناز، وأظنه مولداً أو معربا اه. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه تأمرك بتكليف أن نترك ما يعبد آباؤنا إلى قوله بتاء الخطاب فيهما» قال أحمد: فعلى هذه القراءة يكون أَنْ نَفْعَلَ معطوفا على أن نترك، وعلى المشهور: لا يجوز ذلك والله أعلم لاستحالة المعنى، فيتعين العطف فيها على ما يَعْبُدُ كأنهم قالوا: أصلواتك تأمرك أن نترك عبادة آبائنا أو معبود آبائنا، على أنها مصدرية أو موصولة، ثم قالوا: أو أن نفعل، أى أو أن نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء، هذه لطيفة فتنبه لها، ولا حاجة إلى إضمار الزمخشري لمضاف تقديره: تأمرك بتكليف أن نترك، واحتجاجه لذلك بأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره إذاً والمسألة فرع من فروع خلق الأفعال، ومع ذلك كله فتقدير المضاف في الآية متوجه ليس بناء على القراءة المذكورة، ولكن لأن عرف التخاطب في مثله يقتضى ذلك، والله أعلم. [.....]
[سورة هود (١١) : آية ٨٨]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
وَرَزَقَنِي مِنْهُ أى من لدنه رِزْقاً حَسَناً وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة. وقيل رِزْقاً حَسَناً حلالا طيباً من غير بخس ولا تطفيف. فإن قلت: أين جواب أَرَأَيْتُمْ وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط؟ قلت: جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادى عليه. والمعنى: أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربى وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه؟
فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً. ومنه قوله تعالى وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعنى أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتى ونصيحتي وأمرى بالمعروف ونهي عن المنكر مَا اسْتَطَعْتُ ظرف، أى: مدّة استطاعتي «٣» للإصلاح،
(٢). قوله «لا يبض حجره» في الصحاح: بض الماء بضيضاً: سال قليلا قليلا. وفي المثل: ما يبض حجره، أى ما تندى صفاته. (ع)
(٣). قال محمود: «ما استطعت ظرف أى مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه، ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو يكون مفعولا للمصدر كقوله: «ضعيف النكاية أعداءه» قال أحمد: والظاهر أنه ظرف. كهو في قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وأما جعله مفعولا للمصدر وقد عرف بالألف واللام فبعيد، لأن إعمال المصدر المعرف في المفعول الصريح ليس بذاك. قالوا: ولم يوجد في القرآن عاملا في مفعول صريح ولا في غيره إلا في قوله لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فأعمله في الجار والعدول عن إقفاء الاعراب إلى وجوعه وهي ممكنة عنيدة متعين خصوصا في أفصح الكلام. والله أعلم،
ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت.
أو مفعول له كقوله:
ضَعِيفُ النِّكايِة أَعْدَاءَهُ «١»
أى ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتى وأذر، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده. والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
«جرم» مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين تقول: جرم ذنباً وكسبه، وجرمته ذنباً وكسبته إياه، قال:
جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا «٢»
ومنه قوله تعالى لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ أى لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب.
وقرأ ابن كثير بضم الياء، من أجرمته ذنباً، إذا جعلته جار ما له، أى كاسباً، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، كما نقل: أكسبه المال، من كسب المال. وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه. والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلا أن المشهورة أفصح لفظاً، كما إن كسبته مالا أفصح من أكسبته.
ضعيف النكاية أعداءه | يخال الفرار يراخى الأجل |
(٢).
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة | جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا |
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ «١»
وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يعنى أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أولا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فان قلت:
ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه «٢» ؟ قلت: إما أن يراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد، وقليل وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما رَحِيمٌ وَدُودٌ عظيم الرحمة للتائبين، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه، من الإحسان والإجمال.
ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا | فيها فصرت إلى وجناء شملال |
تعطيك مشيا وإرقالا ودأدأة | إذا تسربلت الآكام بالآل |
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت | حمامة فوق غصن ذات أو قال |
الخفيفة السريعة. والإرقال والدأدأة: نوعان من السير، وقد شبه استتار الآكام وهي الجبال الصغيرة بالآل، وهو السراب الذي يرى في الهاجرة أبيض يشبه الماء في جريانه على وجه الأرض، بالتسربل وهو لبس السرابيل: أى الثياب على طريق التصريحية، ثم وصفها بحدة الفؤاد وهو محمود عندهم، أو بحنينها إلى وطنها، وعطفها لما سمعت صوت الحمامة. والشرب- بالكسر: - النصيب من الماء. وبالضم المصدر. والأوقال: جمع وقل كجبل وهي الحجارة، أو البقايا التي بقيت في جذع الشجرة بعد تقليم بعض أغصانها، بارزة يمكن الارتقاء عليها. يقول: لم يمنع نصيبها من الماء عنها، أو لم يمنعها من شربها الماء. ففيه قلب على الثاني وغير فاعل لأنه تضرع إليه العامل» وبنى على الفتح لاضافته إلى مبنى، واستعار النطق لتغريد الحمامة على سبيل التصريحية، وكأنها كانت داخل الغصون فسمعت الناقة صوتها ولم ترها ففزعت. أو كانت على غصن من الشجرة فكان تغريدها مطربا لذيذا، فحنت الناقة إلى وطنها. وذات أو قال: وصف لغصن، لأنه جمع غصن كما قيل في فلك، المفرد والجمع باعتبار التغير التقديري.
ويجوز أن يقرأ باضافة غصن إلى ذات، والمعنى: غصن أرض أو شجرة ذات أو قال، لكن الأول أحسن في الوزن.
وقد روى: في غصون ذات أو قال، أى: ذات قطع بارزة بعد التعليم، فتكون مشوهة المنظر توجب النفرة والوحشة، أو صاحبه أحجار، فتكون أنضر حيث ترى مخضرة وسط أرض قفرة، أو لتكون في غير محلها فتوجب حنين الناقة إلى محلها أو فزعها لغرابة ذلك. وقيل: إنه جمع «وقل» بالسكون، وهو شجر المقل. وقيل: يجوز أنه من وقل كوعد إذا صعد، أى ذات ارتفاعات.
(٢). قوله «على ما يقتضيه قوم من عمله» وذلك بأن بعامل معاملة المؤنث، نحو كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أو معاملة جمع الذكور، نحو إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ لأن الأول مقتضى حمله على لفظه، كما سيأتى في سورة الشعراء، من أن القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة، والثاني مقتضى حمله على معناه وهو ظاهر. (ع)
[سورة هود (١١) : الآيات ٩١ الى ٩٥]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه:
ما أدرى ما تقول. أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً، لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء، وقيل: كان ألثغ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك ولا عز فيما بيننا «١»، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وعن الحسن ضَعِيفاً مهيناً. وقيل ضَعِيفاً أعمى. وحمير تسمى المكفوف: ضعيفاً، كما يسمى ضريراً، وليس بسديد، لأنّ فِينا يأباه.
ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاما، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطا. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى السبعة.
وإنما قالوا: ولولاهم، احتراما لهم واعتدادا بهم، لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم لَرَجَمْناكَ لقتلناك شرّ قتلة وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أى لا تعزّ علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعزّ علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع
فإن قلت: فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ قلت: تهاونهم به- وهو نبىّ الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والظهرىّ: منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس:
أمسىّ بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط بأعمالكم علماً، فلا يخفى عليه شيء منها عَلى مَكانَتِكُمْ لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى: اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها إِنِّي عامِلٌ على حسب ما يؤتينى الله من النصرة والتأييد ويمكنني مَنْ يَأْتِيهِ يجوز أن تكون مَنْ استفهامية، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقىّ الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.
فإن قلت: أى فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سَوْفَ تَعْلَمُونَ؟ قلت: إدخال الفاء: وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها: وصل خفى تقديرىّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه وَارْتَقِبُوا وانتظروا العاقبة وما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أى منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت:
قد ذكر عملهم على مكانتهم «١» وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم،
والتعريض كما علمت في كثير من مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح، وهذا منه، والذي يدل على أن الكلامين لهما وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر، استغناء عنها بذكر عاقبتهم، كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة، وهي قوله تعالى قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ألا تراه كيف اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، وكذلك قوله في سورة الأنعام قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك، كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ واستغنى عن ذكر مقابلتها، والله أعلم. فتأمل هذا الفصل فانه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز، وضم بعضها إلى بعض، والله الموفق للصواب.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
(٢). قوله «كاللابد» أى المتلبد اللاصق بالأرض، أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «بحيث هو قعصا» في الصحاح: يقال مات فلان قعصا، إذا أصابته ضربة فمات مكانه. (ع)
ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت: لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به، فكأنه قيل: يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة. والْوِرْدُ المورود. والْمَوْرُودُ الذي وردوه. شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء. وشبه أتباعه بالواردة، ثم قيل: بئس الورد الذي يردونه النار، لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضدّه وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ في هذه الدنيا لَعْنَةً أى يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ رفدهم. أى: بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
ذلِكَ مبتدأ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر، أى: ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك مِنْها الضمير للقرى، أى: بعضها باق وبعضها عافى الأثر،
[سورة هود (١١) : آية ١٠٢]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
محل الكاف الرفع، تقديره: ومثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ والنصب فيمن قرأ:
وكذلك أخذ ربك، بلفظ الفعل. وقرئ: إذ أخذ القرى وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع صعب على المأخوذ. وهذا تحذير من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه. فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٣]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)
ذلِكَ إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم لَآيَةً لِمَنْ خافَ لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى. ونحوه إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى. ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة، لأنّ عذاب الآخرة دلّ عليه. والنَّاسُ رفع باسم المفعول «١» الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس. فإن قلت: لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟ «٢» قلت: لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً
(٢). قوله «من دلالة» عبارة النسفي: دلالته. (ع) [.....]
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْما وَعَامِراً «٢»
أى يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد. والمراد بالمشهود: الذي كثر شاهدوه.
ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور. قال:
فِى مَحْفِلٍ مِنْ نَوَاصِى النَّاسِ مَشْهُودِ «٣»
فإن قلت: فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه، كما قال الله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؟ قلت: الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه، لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده، وكذلك قوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الشهر منتصب ظرفاً لا مفعولا به، وكذلك الضمير في فَلْيَصُمْهُ والمعنى: فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه، يعنى: فمن كان منكم مقيما حاضراً لوطنه في شهر رمضان
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٤٠٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣).
من الخصوم إذا حد الضجاج بهم | بعد ابن سعد ومن الضمر القود |
ومشهد قد كفيت الغائبين به | في محفل من نواصي القوم مشهود |
فرجته بلسان غير ملتبس | عند الحفاظ وقلب غير مزؤد |
جمع ضامر. وفرس أقود: طويل العنق. ورجل أقود: يقبل بوجهه ولا ينثني. والقرد: جمعه. ومشهد:
عطف على الخصوم. ويجوز جره برب، أى مجلس كفيت فيه الغائبين عنه بالتكلم عنهم بين محفل من رؤساء الناس وأشرافهم، فالنواصى: استعارة لهم. وفرجته، فككت كربته، وكشفت غمته بكلام واضح الدلالة صادر عن قلب مطمئن غير خائف عند الحفاظ، أى غيرة الخصوم ومحافظة كل منهم على رأيه أو المغاضبة. ويقال: أحفظه إحفاظاً إذا أغضبه.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٤]
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
الأجل: يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها، فيقولون: انتهى الأجل، وبلغ الأجل آخره، ويقولون: حل الأجل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يراد آخر مدة التأجيل، والعدّ إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرئ: وما يؤخره بالياء.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٥]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)
قرئ يَوْمَ يَأْتِ بغير ياء. ونحوه قولهم: لا أدر، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت: فاعل يأتى ما هو؟ قلت: الله عز وجل، كقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، وَجاءَ رَبُّكَ وتعضده قراءة: وما يؤخره، بالياء. وقوله بِإِذْنِهِ ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم، كقوله تعالى أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ. فإن قلت: بما انتصب الظرف؟ قلت: إمّا أن ينتصب بلا تكلم. وإمّا بإضمار «اذكر» وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أى ينتهى الأجل يوم يأتى، فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت: المراد إتيان هو له وشدائده لا تَكَلَّمُ لا تتكلم، وهو نظير قوله لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ. فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وقوله تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، قلت: ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها: يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم فَمِنْهُمْ الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا، لأنّ ذلك معلوم، ولأنّ قوله لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ يدل عليه، وقد مرّ ذكر الناس في قوله مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ والشقي الذي وجبت له النار لإساءته، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)
بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ | زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ «١» |
إخراج النفس بشدة. والمحشرج اسم مفعول: الصوت الذي يردده في حلقه وصدره.
(٢). قوله «ولا يخدعنك عنه قول المجبرة» يريد أهل السنة. أما المعتزلة فيقولون: فاعل الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر وخلوده في النار أبدى، وتحقيق بطلانه في علم التوحيد. (ع)
(٣). قوله «لما روى لهم بعض النوابت» في الصحاح: إن بنى فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحداث الأعمار. (ع)
ما كان لابن عمرو في سيفيه، ومقاتلته بهما على بن أبى طالب رضى الله عنه، ما يشغله عن عن تسيير هذا الحديث.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية، كقوله لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
لما قصّ قصص عبدة الأوثان، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه، وما أعدّ لهم من عذابه قال:
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أى: فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّصهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهى عن المرية. و «ما» في مما، وكما: يجوز أن تكون مصدرية وموصولة، أى: من عبادتهم، وكعبادتهم. أو مما يعبدون من الأوثان، ومثل ما يعبدون منها وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أى حظهم من العذاب «٢» كما وفينا آباءهم أنصباءهم. فإن قلت:
(٢). قال محمود: «أى حظهم من العذاب، وإنما نصب غير منقوص حالا من النصيب الموفى، لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وحقه كاملا» قال أحمد: وهم والله أعلم، فان التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصاً، فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصانه، فما وجه انتصابه حالا عنه؟ والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء، كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ. ومن قال:
أعطيت فلانا حقه. كان جديراً أن يؤكده بقوله «غير منقوص» والله أعلم.
[سورة هود (١١) : آية ١١٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
فَاخْتُلِفَ فِيهِ آمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف في القرآن وَلَوْلا كَلِمَةٌ يعنى كلمة الإنظار إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى أو قومك. وهذه من جملة التسلية أيضاً.
[سورة هود (١١) : آية ١١١]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض من المضاف إليه، يعنى: وإنّ كلهم، وإنَّ جميع المختلفين فيه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف. واللام في لَمَّا موطئة للقسم، و «ما» مزيدة. والمعنى:
وإن جميعهم والله ليوفينهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ من حسن وقبيح وإيمان وجحود. وقرئ:
وإن كلا بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة، اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل. وقرأ أبىّ: وإن كل لما ليوفينهم، على أنّ إن نافية. ولما بمعنى إلا. وقراءة عبد الله مفسرة لها.
وإن كل إلا ليوفينهم، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا لما ليوفينهم، بالتنوين، كقوله أَكْلًا لَمًّا والمعنى: وإن كلا ملمومين، بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنّ كلا جميعاً، كقوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.
[سورة هود (١١) : آية ١١٢]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق، غير عادل عنها وَمَنْ تابَ مَعَكَ معطوف على المستتر في استقم. وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. والمعنى: فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عن حدود الله إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم فهو مجازيكم به، فاتقوه. وعن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله ﷺ في جميع القرآن آية كانت
ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
وعن جعفر الصادق رضى الله عنه فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قال: افتقرْ إلى الله بصحة العزم.
[سورة هود (١١) : آية ١١٣]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
قرئ: ولا تركنوا، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبى عمرو: بكسر التاء وفتح الكاف، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم. ونحوه قراءة من قرأ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بكسر التاء. وقرأ ابن أبى عبلة: ولا تركنوا، على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله، والنهى متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله وَلا تَرْكَنُوا فإن الركون هو الميل اليسير.
وقوله إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أى إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين. وحكى أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشى عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم. وعن الحسن رحمه الله: جعل الله الدين بين لاءين: وَلا تَطْغَوْا، وَلا تَرْكَنُوا ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك: أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخفّ
وأخرجه البزار من هذا الوجه. وقال: اختلف فيه على أبى إسحاق، فقال شيبان كذا. وقال على بن صالح: عن أبى إسحاق عن أبى حجية قال: وقال زكريا عن أبى إسحاق عن مسروق أن أبا بكر قال. وأطال الدارقطني في ذكر علله- واختلاف طرقه في أوائل كتاب العلل- ورواه البيهقي في الدلائل من رواية عطية بن سعيد قال قال عمر ابن الخطاب: يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب. فقال شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» وأخرجه ابن سعد وابن عدى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس. وفيه «الواقعة والقارعة وسأل وإذا الشمس كورت».
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حال من قوله فَتَمَسَّكُمُ أى: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه: وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه، لا يقدر على منعكم منه غيره ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: معناها الاستبعاد، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له.
[سورة هود (١١) : آية ١١٤]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)
طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة وعشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه، وصلاة الغدوة: الفجر. وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأنّ ما بعد الزوال عشىّ. وصلاة الزلف: المغرب والعشاء. وانتصاب طرفى النهار على الظرف، لأنهما مضافان إلى الوقت، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار
(٢). قد رواه البيهقي في السادس والستين من الشعب من رواية يونس بن عبد عن الحسن من قوله. وذكره أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري.
اتق الله، فتركها وندم، فأتى رسول الله ﷺ فأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتظر أمر ربى، فلما صلى صلاة العصر نزلت، فقال: نعم، اذهب فإنها كفارة لما عملت: وروى أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال: استر على نفسك وتب إلى الله، فأتى عمر رضى الله عنه فقال له مثل ذلك، ثم أتى رسول الله ﷺ فنزلت، فقال عمر: أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. وروى أنّ رسول الله ﷺ قال له:
توضأ وضوآ حسنا وصل ركعتين إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «٢» ذلِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ فما بعده ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين.
(٢). كان في الأصل أبو اليسر عمرو بن غزية وهو غلط. وإنما هو أبو اليسر كعب بن عمرو. وكذا هو في كتب أسماء الصحابة. وإنما تبع المصنف الثعلبي فانه قال كذلك نزلت في عمرو بن غزية الأنصارى. والحديث عند الترمذي والنسائي والبزار والطبراني والطبري من رواية عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة بن أبى اليسر ابن عمرو قال: أتتنى امرأة تبتاع تمرا- فقلت لها: في البيت تمر أطيب من هذا فدخلت معى في البيت. فأهويت إليها فقبلتها. فقالت: اتق الله. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له: فقال استر على نفسك وتب. فأتيت عمر فقال مثل ذلك. فأتيت النبي ﷺ فذكرت ذلك له فأطرق طويلا حتى أوحى إليه أَقِمِ الصَّلاةَ... الآية قال ابن أبى اليسر: أتيته فقرأها على. فقال أصحابه: يا رسول الله، ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة.
وفي رواية لأحمد فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أله وحده أم للناس كافة؟» وللدارقطنى والحاكم والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ أنه كان قاعداً عند النبي ﷺ فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يأتيه الرجل من امرأته إلا أصاب منها غير أنه لم يجامعها.
فقال له النبي ﷺ توضأ وضوآً حسنا ثم صل. فأنزل الله تعالى الآية. فقال معاذ: أهى له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن مسعود وجاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة وإنى أصبت منها دون أن أمسها وأنا هذا فاقض فىّ ما شئت.
فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك ولم يرد عليه النبي ﷺ شيئا فانطلق الرجل فأتبعه النبي ﷺ رجلا. فدعاء فتلا عليه أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ... الآية فقال رجل من القوم: يا رسول الله أله خاصة أم للناس؟ فقال: بل للناس كافة».
[سورة هود (١١) : آية ١١٥]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله، كأنه قال: وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، فلا يتم شيء منه إلا به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات.
[سورة هود (١١) : آية ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ فهلا كان. وقد حكوا عن الخليل: كل «لولا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ.
أُولُوا بَقِيَّةٍ أو لو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال: فلان من بقية القوم، أى من خيارهم.
وبه فسر بيت الحماسة:
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِى بَقِيَّتُكُمْ «١»
يا أيها الراكب المزجى مطيته | سائل بنى أسد ما هذه الصوت |
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا | قولا يبرئكم إنى أنا الموت |
إن تذنبوا ثم يأتينى بقيتكم | فما علىّ بذنب عندكم فوت |
ويجوز أن المعنى: إن تجتمعوا على للمحاربة أو للاعتذار، فلا تفوتني مؤاخذتكم بل لا بد منها. وإثبات الياء في «يأتينى» للإشباع، لكن الأخير غير مناسب لقوله «بادروا بالعذر». [.....]
وقرئ: أولو بقية، بوزن لقية، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه: «بقينا رسول الله ﷺ «١» » والبقية المرّة من مصدره. والمعنى: فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم إِلَّا قَلِيلًا استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهى. ومِنَ في مِمَّنْ أَنْجَيْنا حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض، لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله تعالى أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام، كان المعنى فاسداً، لأنه يكون تحضيضاً لأولى البقية على النهى عن الفساد، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول:
هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهى عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً، وكان انتصابه على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أراد بالذين ظلموا: تاركي النهى عن المنكرات، أى: لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرياسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، واتبع الذين ظلموا، يعنى: واتبعوا جزاء ما أتوفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة: أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قوىّ لتقدم الإنجاء، كأنه قيل: إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر. فإن قلت: علام عطف قوله وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا؟ قلت: إن كان معناه: واتبعوا الشهوات، كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت: فقوله وَكانُوا مُجْرِمِينَ؟ قلت: على أترفوا أى: اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام
[سورة هود (١١) : آية ١١٧]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
كانَ بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. وبِظُلْمٍ حال من الفاعل. والمعنى:
واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وَأَهْلُها قوم مُصْلِحُونَ تنزيها لذاته عن الظلم، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل: الظلم الشرك، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أى ملة واحدة وهي ملة الإسلام، كقوله إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وهذا الكلام يتضمن نفى الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك قال وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه، يعنى: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وهي قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لعلمه بكثرة من يختار الباطل.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
وَكُلًّا التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل. وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ ومِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بيان لكل. ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بدل من كلا. ويجوز أن يكون المعنى: كل واقتصاص
أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ من أهل مكة وغيرهم اعْمَلُوا على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.
[سورة هود (١١) : آية ١٢٣]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تخفى عليه خافية مما يجرى فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك وكافلك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وقرئ: تعملون، بالتاء:
أى أنت وهم على تغليب المخاطب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك «١»