وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ بِحَيَاتِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يُقْسِمْ فِي الْقُرْآنِ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَخْفَى.
وَلَا يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» .
وَقَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَمْرُكَ قَسَمِي، وَسُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ تَقْدِيمُ الرَّاءِ عَلَى اللَّامِ فِي لَعَمْرُكَ، فَتَقُولُ فِيهَا: رَعَمْلُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
رَعَمْلُكَ إِنَّ الطَّائِرَ الْوَاقِعَ الَّذِي تَعَرَّضَ لِي مِنْ طَائِرٍ لَصَدُوقُ
وَقَوْلُهُ: لَفِي سَكْرَتِهِمْ [١٥ ٧٢]، أَيْ: عَمَاهُمْ وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَالْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ، فَمَعْنَى يَعْمَهُونَ [١٥ ٧٢] : يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَعْرِفُونَ حَقًّا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا نَافِعًا مِنْ ضَارٍّ، وَلَا حَسَنًا مِنْ قَبِيحٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِ لُوطٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي [١١ ٧٨] فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُدَافَعَةَ عَنْ ضَيْفِهِ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدْ إِمْضَاءَ مَا قَالَ، وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بَنَاتُهُ لِصُلْبِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: دَعُوا فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ وَأُزَوِّجُكُمْ بَنَاتِي، وَعَلَى هَذَا فَتَزْوِيجُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، كَمَا كَانَتْ بَنَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الْكُفَّارِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ أَرْسَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِقْدَهَا الَّذِي زَفَّتْهَا بِهِ أُمُّهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، أَرْسَلَتْهُ إِلَيْهِ فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ الْمَذْكُورِ لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ عَقَدَهَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ:
وَابْنُ الرَّبِيعِ صِهْرُ هَادِي الْمِلَّةِ إِذْ فِي فِدَاهُ زَيْنَبُ أَرْسَلَتْ بِعِقْدِهَا الَّذِي بِهِ أَهْدَتْهَا لَهُ خَدِيجَةُ وَزَفَّفَتْهَا سَرَّحَهُ بِعَقْدِهَا وَعَهْدًا إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا لَهُ غَدَا إِلَخْ... الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَنَاتِ: جَمِيعُ نِسَاءِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّ نَبِيَّ الْقَوْمِ أَبٌ دِينِيٌّ لَهُمْ،
189
كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [٣٣ ٦] وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
«وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» وَرُوِيَ نَحْوُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ تُقَرِّبُهُ قَرِينَةٌ وَتُبْعِدُهُ أُخْرَى، أَمَّا الْقَرِينَةُ الَّتِي تُقَرِّبُهُ فَهِيَ: أَنَّ بَنَاتَ لُوطٍ لَا تَسَعُ جَمِيعَ رِجَالِ قَوْمِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِذَا زَوَّجَهُنَّ لِرِجَالٍ بِقَدْرِ عَدَدِهِنَّ بَقِيَ عَامَّةُ رِجَالِ قَوْمِهِ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ عُمُومُ نِسَاءِ قَوْمِهِ، وَيَدُلُّ لِلْعُمُومِ قَوْلُهُ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [٢٦ ١٦٥، ١٦٦]، وَقَوْلُهُ: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [٢٧ ٥٥]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الَّتِي تُبْعِدُهُ: فَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَيْسَ أَبًا لِلْكَافِرَاتِ، بَلْ أُبُوَّةُ الْأَنْبِيَاءِ الدِّينِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [٣٣ ٦].
وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي
«الذَّارِيَاتِ» : بِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَيْسَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِ لُوطٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [٥١ ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ لُوطًا وَعَظَ قَوْمَهُ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَفْضَحُوهُ فِي ضَيْفِهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءَ وَتَرْكَ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَتَمَادَوْا فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ إِرَادَةِ الْفَاحِشَةِ، فَقَالَ لُوطٌ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً الْآيَةَ [١١ ٨٠]، فَأَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ رَبِّهِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ الْخُبَثَاءَ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ بِسُوءٍ.
وَبَيَّنَ فِي الْقَمَرِ أَنَّهُ تَعَالَى طَمَسَ أَعْيُنَهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [٥٤ ٣٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ لُوطًا أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُوَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَوْ وَسَطِهِ أَوْ أَوَّلِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي
«الْقَمَرِ» أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقْتَ السَّحَرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [٥٤ ٣٤]، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ أَمَامَهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي
190
«الْحِجْرِ» بِقَوْلِهِ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [١٥ ٦٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [١١ ٨١]، قَرَأَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ إِلَّا امْرَأَتَكَ، بِالنَّصْبِ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ; لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَهْلِ، أَيْ أَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَلَا تُسْرِ بِهَا، وَاتْرُكْهَا فِي قَوْمِهَا فَإِنَّهَا هَالِكَةٌ مَعَهُمْ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [٢٩ ٣٢، ٣٣]، وَالْغَابِرُ: الْبَاقِي، أَيْ مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْهَلَاكِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: إِلَّا امْرَأَتُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَحَدٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمَرَ لُوطًا أَنْ يَنْهَى جَمِيعَ أَهْلِهِ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهَا هَالِكَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي نَهْيِهَا عَنْ الِالْتِفَاتِ لِكَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْهَالِكِينَ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ لَمْ يَسْرِ بِهَا، وَظَاهِرُ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ كَثِيرٍ: أَنَّهُ أَسْرَى بِهَا وَالْتَفَتَتْ فَهَلَكَتْ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمَّا سَمِعَتْ هَدَّةَ الْعَذَابِ الْتَفَتَتْ، وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ، فَأَدْرَكَهَا حَجَرٌ فَقَتَلَهَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَنَّ السِّرَّ فِي أَمْرِ لُوطٍ بِأَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ هُوَ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ صُبْحًا بِقَوْمِ لُوطٍ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ مُصِيبُها ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَهَا لَا مَحَالَةَ، فَنَتِيجَةُ إِسْرَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا امْرَأَتُهُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَالْعَدَمِ، فَيَسْتَوِي مَعْنَى أَنَّهُ تَرَكَهَا وَلَمْ يُسْرِ بِهَا أَصْلًا، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهَا وَهَلَكَتْ مَعَ الْهَالِكِينَ.
فَمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا هَالِكَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا نَفْعٌ فِي إِسْرَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا بَقِيَتْ مَعَهُمْ، أَوْ خَرَجَتْ وَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ.
فَإِذَا كَانَ الْإِسْرَاءُ مَعَ لُوطٍ لَمْ يُنَجِّهَا مِنَ الْعَذَابِ، فَهِيَ وَمَنْ لَمْ يُسْرِ مَعَهُ سَوَاءٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [١١ ٨١]، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ:
«فَاسْرِ» بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، مِنْ سَرَى يَسْرِي، وَقَرَأَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، مِنْ أَسْرَى الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَسَرَى وَأَسْرَى: لُغَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَمِنْ سَرَى الثُّلَاثِيَّةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي [٨٩ ٤]، فَإِنَّ فَتْحَ يَاءِ يَسْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ سَرَى
191
الثُّلَاثِيَّةِ.
وَجَمَعَ اللُّغَتَيْنِ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ تُزْجِي الشَّمَالُ عَلَيْهَا جَامِدَ الْبَرَدِ
فَإِنَّهُ قَالَ: أَسْرَتْ، رُبَاعِيَّةً فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيِ الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: سَارِيَةٌ، اسْمُ فَاعِلِ
«سَرَى» الثُّلَاثِيَّةِ، وَجَمَعَهُمَا أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ:
حَتَّى النَّضِيرَةِ رَبَّةِ الْخِدْرِ أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي
بِفَتْحِ تَاءِ
«تَسْرِي» وَاللُّغَتَانِ كَثِيرَتَانِ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَصْدَرُ الرُّبَاعِيَّةِ الْإِسْرَاءُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمَصْدَرُ الثُّلَاثِيَّةِ السُّرَى بِالضَّمِّ عَلَى وَزْنِ فُعَلٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ:
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى وَتَنْجَلِي عَنْهُمْ غَيَابَاتُ الْكَرَى
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَوْعِدَ إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ وَقْتُ الصُّبْحِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي
«الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [١٥ ٦٦]، وَزَادَ فِي
«الْحِجْرِ» أَنَّ صَبِيحَةَ الْعَذَابِ وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ وَقْتَ الْإِشْرَاقِ، وَهُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ الْآيَةَ.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِحِجَارَةِ السِّجِّيلِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّجِّيلِ: الطِّينُ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي
«الذَّارِيَاتِ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [٥١ ٣٣، ٣٤]، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا: أَنَّ اللَّهَ مَا عَذَّبَهُمْ بِهَا فِي حَالَةِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا لِأَنَّ النَّكَالَ بِهَا بَالِغٌ شَدِيدٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: السِّجِّيلُ وَالسَّجِّينُ: أُخْتَانِ، كِلَاهُمَا الشَّدِيدُ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالضَّرْبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا
وَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى مِنْ سِجِّيلٍ،: أَيْ مِنْ طِينٍ شَدِيدِ الْقُوَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ: اثْنَانِ مِنْهَا كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، وَوَاحِدٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ.
أَمَّا الَّذِي
192
يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ لَيْسَتْ بَعِيدَةً مِنْ قَوْمِ لُوطٍ، أَيْ لَمْ تَكُنْ تُخْطِئُهُمْ.
قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّ هَذَا يَكْفِي عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً [١١ ٨٢] وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. أَمَّا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْآنٌ:
فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ لُوطٍ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِنَبِيِّنَا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِمَا وَقَعَ لِأَهْلِهَا إِذَا مَرُّوا عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَيَخَافُوا أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَذَابِ بِأُولَئِكَ، بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لُوطًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٣٧ ١٣٧، ١٣٨]، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [١٥ ٧٦، ٧٧]، وَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [٥١ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢٩ ٣٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا هِيَ رَاجِعٌ إِلَى دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمَقَامِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ بِبَعِيدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ لِلْفَاعِلِينَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ، فَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [٤٧ ١٠]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ظَاهِرٌ جَدًّا فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
تَنْبِيهٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عُقُوبَةِ مَنِ ارْتَكَبَ فَاحِشَةَ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَأَدِلَّتَهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا نَسْتَعِينُ:
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُقْتَلَ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ بِكْرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ بِكْرًا.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ.
193
قَالَ بَعْضُهُمْ: يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْرَقُ بِالنَّارِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْبَلَدِ فَيُرْمَى مِنْهُ مُنَكَّسًا وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي اللِّوَاطِ مُطْلَقًا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا اهـ.
وَمَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ مِنْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِيهِ أَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَمَالكٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى.
وَيَعْتَضِدُ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ: أَنَّهُ يُرْجَمُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ.
وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا» قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
قَالَ ابْنُ الطَّلَّاعِ فِي أَحْكَامِهِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ فِي اللِّوَاطِ، وَلَا أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
«اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. اهـ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهُ، وَعَاصِمٌ مَتْرُوكٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ:
«فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» اهـ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَجَمَ لُوطِيًّا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ بِرَجْمِ اللُّوطِيِّ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: السُّنَّةُ أَنْ يُرْجَمَ اللُّوطِيُّ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ،
194
قَالَا: ثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، أَنْبَأَ دَاوُدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِ يَذْكُرُ لَهُ: أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ يَوْمَئِذٍ قَوْلًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، نَرَى أَنْ تَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْرِقَهُ بِالنَّارِ. هَذَا مُرْسَلٌ.
وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: يُرْجَمُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ.
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَمَ رَجُلًا مُحْصَنًا فِي عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الثَّوْرِيُّ عَنْهُ مُقَيَّدًا بِالْإِحْصَانِ. وَهُشَيْمٌ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مُطْلَقًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
فَهَذِهِ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِقَتْلِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي اللِّوَاطِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ بِالنَّارِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنِفًا.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَتْلَهُ بِالسَّيْفِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» ، وَالْقَتْلُ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَتْلَهُ بِالرَّجْمِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُرْجَمُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَجَمَ لُوطِيًّا، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَمَى أَهْلَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ بِحِجَارَةِ السِّجِّيلِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى بِنَاءٍ، أَوْ جَبَلٍ وَيُلْقَى مُنَكَّسًا، وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ بِقَوْمِ لُوطٍ، كَمَا قَالَ: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَكُنْ عِقَابُهُمْ عَلَى اللِّوَاطِ وَحْدَهُ، بَلْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ قَدْ جَمَعُوا إِلَى اللِّوَاطِ
195
مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ اللِّوَاطِ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَإِيذَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللِّوَاطَ زِنًى فَيُجْلَدُ مُرْتَكِبُهُ مِائَةً إِنْ كَانَ بِكْرًا وَيُغَرَّبُ سَنَةً، وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ إِلَى أَنَّ اللِّوَاطَ زِنًى، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَى، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ، وَإِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثَنَا أَبُو بَدْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا لَا أَعْرِفُهُ، وَهُوَ مُنْكَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي
«نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَذَّبَهُ أَبُو حَاتِمٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَعْرِفُهُ، وَالْحَدِيثُ مُنْكَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَفِيهِ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْبَجَلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ. اهـ مِنْهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِقِيَاسِ اللِّوَاطِ عَلَى الزِّنَى بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ ; لِأَنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي
«مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
وَالْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ التَّقْدِيرُ جَوَازُهُ فِيهَا هُوَ الْمَشْهُورُ
إِلَّا أَنَّ قِيَاسَ اللَّائِطِ عَلَى الزَّانِي يُقْدَحُ فِيهِ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى:
«فَسَادُ الِاعْتِبَارِ» ; لِمُخَالَفَتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ يُقْتَلَانِ مُطْلَقًا، أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحَصِنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا يَشْتَهِي اللِّوَاطَ، بَلْ يَنْفِرُ مِنْهُ غَايَةَ النُّفُورِ
196
بِطَبْعِهِ كَمَا لَا يَخْفَى.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّائِطَ لَا يُقْتَلُ وَلَا يَحُدُّ حَدَّ الزِّنَى، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، قَالُوا: وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الزِّنَى ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْمًا خَاصًّا بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ
قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُهُ بِالزِّنَى لِوُجُودِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الدَّاعِيَ فِي الزِّنَى مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ اللِّوَاطِ، وَلِأَنَّ الزِّنَى يُفْضِي إِلَى الِاشْتِبَاهِ فِي النَّسَبِ وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ بِخِلَافِ اللِّوَاطِ، قَالَ فِي
«مَرَاقِي السُّعُودِ» : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدَحْ إِبْدَاءٌ مُخْتَصٌّ بِالْأَصْلِ قَدْ صَلَحْ أَوْ مَانِعٌ فِي الْفَرْعِ... إِلَخْ...... وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا الْآيَةَ [٤ ١٦].
قَالُوا: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: اللِّوَاطُ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيذَاءِ: السَّبُّ أَوِ الضَّرْبُ بِالنِّعَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، قَالَ: الرَّجُلَانِ الْفَاعِلَانِ.
وَأَخْرَجَ آدَمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَآذُوهُمَا، يَعْنِي سَبًّا، قَالَهُ صَاحِبُ
«الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْآيَةَ.
ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ: أَنَّهُ إِذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ انْتَهَى هُوَ عَنْهُ وَأَنَّ فِعْلَهُ لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ، مُؤْتَمِرًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [٢ ٤٤]، وَقَوْلِهِ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ ٣].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ ! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ» ، أَيْ: تَتَدَلَّى أَمْعَاؤُهُ.
وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي
«الْحِلْيَةِ» ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي
«شُعَبِ الْإِيمَانِ» ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» ، قَالَهُ صَاحِبُ
«الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» . اهـ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ: وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْصَحُ بِهِ غَيْرَهُ أَدْعَى لِقَبُولِ غَيْرِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ بِهِ تَلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ نَبِيَّهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَعَزَّ جَانِبَهُ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ كُفَّارٌ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِدِينِهِ قَدْ يُعِينُهُ اللَّهُ، وَيُعِزُّهُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي صَالِحٍ وَقَوْمِهِ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ. الْآيَةَ [٢٧ ٤٩]
فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا السُّوءَ بِصَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا فِي حَالِ الْخَفَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ خَفَاءً وَسَرِقَةً لَكَانُوا يَحْلِفُونَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ عَصَبَتُهُ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا بِهِ سُوءًا، وَلَا شَهِدُوا ذَلِكَ وَلَا حَضَرُوهُ خَوْفًا مِنْ عَصَبَتِهِ. فَهُوَ عَزِيزُ الْجَانِبِ بِسَبَبِ عَصَبَتِهِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
198
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [٩٣ ٦]، أَيْ: آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ.
وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ الْعَصَبِيَّةِ، وَالْأَوَاصِرِ النَّسَبِيَّةِ، وَلَا صِلَةَ لَهُ بِالدِّينِ الْبَتَّةَ، فَكَوْنُهُ جَلَّ وَعَلَا يَمْتَنُّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيوَاءِ أَبِي طَالِبٍ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُنْعِمُ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِدِينِهِ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ.
وَمِنْ ثَمَرَاتِ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ أَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَنَمْنَعُهُ حَتَّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ لُوطٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ فِي قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ عَدَمِ الْعَصَبَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [١١ ٨٠].
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَنْفَعُهُمْ عَصَبِيَّةُ إِخْوَانِهِمُ الْكَافِرِينَ.
وَلَمَّا نَاصَرَ بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يُنَاصِرْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنُو نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ - عَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ تِلْكَ الْمُنَاصَرَةَ الَّتِي هِيَ عَصَبِيَّةٌ نَسَبِيَّةٌ لَا صِلَةَ لَهَا بِالدِّينِ، فَأَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ:
«إِنَّا وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ» وَمَنَعَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ.
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلٍ غَيْرَ آجِلِ بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ لَقَدْ سَفَهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا بَنِي خَلْفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
وَالْغَيَاطِلُ
«بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ» ، وَمُرَادُ أَبِي طَالِبٍ بِهِمْ: بَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ
«الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ» ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْغَيَاطِلَ ; لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ الْعِظَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِقَوْلِهِ يُرَقِّصُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَهُوَ صَغِيرٌ:
كَأَنَّهُ فِي الْعِزِّ قَيْسُ بْنُ عَدِيٍّ فِي دَارِ سَعْدٍ يَنْتَدِي أَهْلَ النَّدَى
199
تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كِنَانَةَ تُسَمَّى
«الْغَيْطَلَةَ» وَهِيَ أُمُّ بَعْضِ أَوْلَادِهِ. فَسُمِّيَ بَنُو سَهْمِ الْغَيَاطِلَ ; لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ الْمَذْكُورَ سَيِّدُهُمْ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُعِينُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ لِتَعَصُّبِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدَّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» ، وَفِي الْمَثَلِ:
«اجْتَنِ الثِّمَارَ وَأَلْقِ الْخَشَبَةَ فِي النَّارِ» .
فَإِذَا عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَنْتَفِعُ بِرَابِطَةِ نَسَبٍ وَعَصَبِيَّةٍ مِنْ كَافِرٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ النِّدَاءَ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ لَا يَجُوزُ. لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ بِـ
«يَا لَبَنِي فُلَانٍ» وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي
«صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ:
«دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«دَعُوهَا» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهَا ; لِأَنَّ صِيغَةَ
«افْعَلْ» لِلْوُجُوبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ الْأَمْرَ بِتَرْكِهَا بِأَنَّهَا مُنْتِنَةٌ، وَمَا صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِتَرْكِهِ وَأَنَّهُ مُنْتِنٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَعَاطِيهِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النِّدَاءُ بِرَابِطَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ كَأَنَّهُ جَسَدُ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، فَهِيَ تَرْبِطُكَ بِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ كَرَبْطِ أَعْضَائِكَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [٥٨ ٢٢]، تَحَقَّقْتَ أَنَّ الرَّوَابِطَ النَّسَبِيَّةَ تَتَلَاشَى مَعَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [٤٩ ١٠]، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [٩ ٧١].
وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَسْلَافَنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا فَتَحُوا الْبِلَادَ وَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ بِالرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا بِرَوَابِطَ عَصَبِيَّةٍ، وَلَا بِأَوَاصِرَ نَسَبِيَّةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ الْآيَةَ.
قَيَّدَ تَعَالَى خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [١١ ١٠٧]، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَقَالَ فِي خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
200
[١١ ١٠٨].
وَقَالَ فِي خُلُودِ أَهْلِ النَّارِ: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [١٧ ٩٧].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا فِي كِتَابِنَا
«دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [٦ ١٢٨] وَفِي سُورَةِ النَّبَإِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [٧٨ ٢٣].
201
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2024