ﰡ
﴿كِتَابٌ﴾ خبرٌ له على الوجه الثاني ولمبتدأ محذوفٍ على الوجوه الباقيةِ
﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ نُظمت نظماً مُتْقناً لا يعتريه خللٌ بوجه من الوجوه أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائِقها أو مُنعت من النسخ بمعنى التغييرِ مطلقاً أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على كونِها من عندِ الله عزَّ وجلَّ أو على ثبوتِ مدلولاتِها فالمرادُ بالآيات جميعُها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعيةِ فالمرادُ بها بعضُها المشتملُ عليها كما إذا فُسِّر الأحكامُ بالمنع من النسخ بمعنى تبديلِ الحُكمِ الشرعيِّ خاصةً وأما تفسيرُه بالمنع من الفساد أخذاً من قولهم أحكمتَ الدابة إذا وضعتَ عليها الحَكَمة لتمنعَها من الجِماح ففيه إيهامُ ما لا يكادُ يليقُ بشأن الآياتِ الكريمةِ من التداعي إلى الفساد لولا المانع وفي إسناد الإحكامِ على الوجوه المذكورةِ إلى الآيات الكتابِ دون نفسِه لا سيما على الوجوه الشاملةِ لكل آية آية منه من حسن الموقعِ والدِلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى
﴿ثُمَّ فُصّلَتْ﴾ أي جُعلت فصولاً من الأحكام والدلائل والمواعظِ والقِصصِ أو فُصّل فيها مَهمّاتُ العبادِ في المعاش والمعادِ على الإسناد المجازيِّ والتفسيرُ بجعلها آيةً آيةً لا يساعده المقام لأن ذلك من الأوصاف الأوليةِ فلا يناسب عطفُه على أحكامها بكلمة التراخي وأما المعنيان الأوّلانِ فهما وإن كانا مع الأحكام زماناً حيث لم تزَل الآياتُ مُحكمةً مفصّلة لا أنها أُحكِمَتْ أو فُصِّلَت بعد أن لم تكن كذلك إذ الفعلانِ من قَبيل قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوض وكبر الفيل إلا أنهما حيث كانا من صفات الآياتِ باعتبار نسبةِ بعضِها إلى بعضٍ على وجه يستتبِعُ أحكاماً مخصوصةً وآثاراً معتدًّا بها وبملاحظة مصالحِ العبادِ ناسبَ أن يشار إلى تراخي رتبتِهما عن رتبة الإحكام وإن حُمل جعلُها آية آيةً على معنى تفريقِ بعضِها عن بعض يكونُ من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثارِ أو فُرّقت في التنزيل منجّمة بحسب المصالحِ فإن أريد تنزيلُها المنجَّمُ بالفعل فالتراخي زمانيٌّ وإن أريد جعلُها في نفسها بحيث يكون نزولُها منجّماً حسبما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ فهو رُتبيٌّ لأن ذلك وصفٌ لازمٌ لها حقيقٌ بأن يُرتَّبَ على وصف إحكامها وقرئ أحكمت
﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ صفةٌ للكتاب وُصف بها بعد ما وصُف بإحكام آياتِه وتفصيلِها الدالّين على علو رتبتِه من حيث الذاتُ إبانةً لجلالة شأنِه من حيث الإضافةُ أو خبرٌ بعد خبرٌ للمبتدأ المذكور أو المحذوفِ أو صلةٌ للفعلين وفي بنائهما للمفعول ثم إيرادِ الفاعلِ بعنوان الحِكمة البالغةِ والإحاطةِ بجلائلها ودقائِقها منكراً بالتنكير التفخيميّ وربطِهما به لا على النهج المعهودِ في إسناد الأفاعيل إلى قواعدها مع رعاية حسنِ الطباقِ من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونِهما على أكمل ما يكون مالا يُكتنه كُنهُه
﴿إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ﴾ من جهة الله تعالى
﴿نَّذِيرٌ﴾ أُنذركمَ عذابَه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفر وعبادةِ غيرِ الله تعالى
﴿وَبَشِيرٌ﴾ أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحّضتم في عبادته ولمّا ذُكر شؤون الكتابِ من إحكام آياتهِ وتفصيلِها وكونِ ذلك من قِبَل الله تعالى وأُورد معظمُ ما نُظم في سلك الغايةِ والأمرِ من التوحيد وتركِ الإشراك وُسِّط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفارَ والتوبة ذِكرُ أن من نُزّل عليه ذلك الكتابُ مرسَلٌ من عند الله تعالى لتبليغ أحكامِه وترشيحِها بالمؤيدات من الوعد والوعيدِ للإيذان بأن التوحيدَ في أقصى مراتبِ الأهمية حتى أُفرد بالذكر وأُيِّد إيجابُه بالخطاب غِبَّ الكتابِ مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارنا للحكم برسالته ﷺ كذلك في الذكر لا ينفكّ أحدُهما عن الآخر وقد رُوعيَ في سَوق الخطابِ بتقديم الإنذار على التبشير ما رُوعيَ في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخليةِ على التحلية ليتجاوب أطرافِ الكلامِ ويجوز أنْ يكونَ قولُه تعالى أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله كلاماً منقطعا عما قبله وارادا على لسانه ﷺ إغراءً لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه ﷺ قال تركَ عبادةِ غيرِ الله أي الزموه على معنى اترُكوا عبادةَ غيرِ الله تركاً مستمراً إنني لكم من جهة الله تعالى نذيرٌ وبشير أي نذير أنذرُكم من عقابه على تقدير استمرارِكم على الكفر وبشيرٌ أبشرّكم بثوابه على تقدير تركِكم له وتوحيدكم ولما سبق إليهم حديثُ التوحيدِ وأُكد ذلك بخطاب الرسول ﷺ على وجه الإنذارِ والتبشيرِ شُرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمّن تفصيلَ ما أُجملَ في وصف البشير والنذير فقيل
مصدرية لجوازِ كون صلتِها أمراً أو نهياً كما في قوله تعالى وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دلالتُه على المصدر وهو موجودٌ فيهما ووجوبُ كونِها خبريةً في صلةِ الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا توصفُ بها إلا إذا كانت خبريةً وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبما ساغ وقوعِ الفعلِ فيتجرد عند ذلك عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضي والاستقبال
﴿ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ﴾ عطف على استغفروا والكلامُ فيه كالكلام فيه والمعنى فعلَ ما فعلَ من الإحكام والتفصيلِ لتخصّوا الله تعالى بالعبادة وتطلُبوا منه سَتر ما فرَط منكُم من الشرك ثم ترجِعوا إليه بالطاعة أو تستمرّوا على ما أنتُم عليهِ من التوحيد والاستغفارِ أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي وعلى الثاني أنْ مفسرةٌ أي قيل في أثناء تفصيلِ الآياتِ لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله واستغفِروه ثم توبوا إليه والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ تلقينٌ للمخاطَبين وإرشادٌ لهم إلى طريق الابتهالِ في السؤال وترشيحٌ لما يعقُبه من التمتيع وإيتاءِ الفضلِ بقوله تعالى
﴿يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا﴾ أي تمتيعاً وانتصابُه على أنه مصدرٌ حذف منه الزوائد كقوله تعالى أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً أو على أنَّه مفعولٌ به وهو اسمٌ لما يُتمتّع به من منافع الدنيا من الأموال والبنينَ وغيرِ ذلك والمعنى يعشكم عَيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيءٌ مما تشتهون ولا ينغصُه شيءٌ من المكدرات
﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ مقدر عند الله عز وجل وهو آخرُ أعمارِكم ولما كان ذلك غايةً لا يطمح وراءَها طامحٌ جرى التمتيع إليها مجرى التأبيد عادةً أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال
﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ في الطاعة والعملِ
﴿فَضْلَهُ﴾ جزاءَ فضلِه إما في الدنيا أو في الآخرة وهذه تكملةٌ لما أُجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتببين لما عسى يعسُر فهمُ حكمتِه من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحالِ بين العاملين فرب إنسانٍ له فضلٌ طاعةٌ وعملٌ لا يُمتّع في الدنيا أكثرَ مما مُتِّع آخرُ دونه في الفضل وربما يكون المفضولُ أكثرَ تمتيعاً فقيل ويُعطِ كلَّ فاضلٍ جزاءَ فضلِه إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مردَّ لهُ وهذا ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما سبق من البشارة ثم شرُع في الإنذار فقيل
﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي تتولوا عما أُلقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبةِ وإنما أُخّر عن البشارة جرياً على سنن تقدمِ الرحمةِ على الغضب أو لأن العذابَ قد علّق بالتولي عما ذكر من التوحيد والاستغفار والتوبة وذلك يستدعي سابقةَ ذكرِه وقرئ تُوَلّوا من ولى
﴿فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ بموجب الشفقة والرأفةِ أو أتوقع
﴿عَذَابَ يوم كبير﴾ هو يومُ القيامةُ وُصف بالكِبَر كما وصف بالعِظَم في قوله تعالى إِلاَّ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أنهم مبعثون لِيَوْمٍ عَظِيمٍ إما لكونه كذلك في نفسه أو وُصف بوصف ما يكون فيه كما وُصفَ بالثقل في قوله تعالى ثَقُلَتْ فِى السموات والارض وقيل يوُم الشدائد وقد ابتلُوا بقَحطٍ أكلوا فيه الجيَفَ وأيا ما كان ففي إضافةِ العذابِ إليه تهويلٌ وتفظيعٌ له
﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير﴾ فيندرج في تلك الكلية قدرتُه على إماتتكم ثم بعثِكم وجزائِكم فيعذبكم بأفانينِ
العذابِ وهو تقريرٌ لما سلف من كِبر اليوم وتعليلٌ للخوف ولمّا أُلقيَ إليهم فحوى الكتابِ على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وسيق إليهم ما ينبغي أن يُساقَ من الترغيب والترهيبِ وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمِعوا مثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صمُّ الجبالِ هل قابلوه بالإقبال أم تمادَوا فيما كانُوا عليهِ من الإعراضِ والضلالِ فقيل مصدّراً بكلمة التنبيهِ إشعاراً بأن ما يعقُبها من هَناتهم أمرٌ يجب أن يُفهم ويتعجَّبَ منه
﴿لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ التَجأ إلى إضمار الإرادةِ حيث قال ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يُطْلِعَ رسولَه والمؤمنين على إعراضهم وجعلُه في قَوْد المعنى إليه من قبيل الإضمار قي قوله تعالى اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فضرب فانفلق ولا يخفى أن انسياقَ الذهنِ إلى توسيط الإرادةِ بين ثنْيِ الصدورِ وبين الاستخفاءِ ليس كانسياقِه إلى توسيط الضربِ بين الأمرِ به وبين الانفلاقِ ولعل الأظهرَ أن معناه يعطِفون صدورَهم عَلى ما فَيها من الكفر والإعراضِ عن الحق وعداوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تُعطف الثيابَ عَلى ما فَيها من الأشياء المستورةِ وإنما لم يذكرْ ذلك استهجاناً بذكره أو إيماءً إلى أن ظهورَه مغنٍ عن ذكره أو ليذهبَ ذهنُ السامعِ إلى كل ما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ فيدخُل فيه ما ذُكر من تولّيهم عن الحق الذي أُلقيَ إليهم دخولاً أولياً فحينئذ يظهر وجهُ كونِ ذلك سبباً للاستخفاء ويؤيده ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنها نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ وكان رجلاً حلوَ المنطِق حسنَ السياقِ للحديث يُظهر لرسول الله ﷺ المحبةَ ويُضمِرُ في قلبه ما يضادُّها وقال ابن شداد أنَّها نزلتْ في بعضِ المنافقين كان إذا مرَّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ثنى صدرَه وظهرَه وطأطأ رأسَه وغطَّى وجهَه كيلا يراه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه لو رآه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يمكِنْه التخلّفُ عن حضور مجلِسه والمصاحبةِ معه وربما يؤدّي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاق وقرئ يَثْنَوْني صدورُهم بالياء والتاء من اثنونى افعوعل من الثَنْي كاحلولي من الحلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما لتثنونى وقرئ تثنون وأصله تثنونن من تفْعَوعِلُ من الثِّنِّ وهو ما هشّ من الكلأ وضعُف يريد مطاوعةَ صدروهم للثني كما يثنى الهشُّ من النبات أو أراد ضعفَ إيمانِهم ورَخاوةَ قلوبِهم وقرئ تثنن من اثنانّ افعالَّ منه ثم همزٌ كما قيل ابيأضت وادهامت وقرئ تثنوي بوزن ترعوي
﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ أي يتغطَّوْن بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد أو حين يأوون إلى فراشهم ويتدثّرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذٍ حديثُ النفس عادةً وقيل كان الرجلُ من الكفار يدخُل بيته ويرخى ستره ويحى ظهره
ويتغشّى بثوبه ويقول هل يَعْلَمُ الله مَا فِى قلبي
﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ أي يُضمِرون في قلوبهم
﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سِرُّهم وعلنُهم فكيف يخفى عليه ما عسى يُظهرونه وإنما قدم السرُّ على العلن نعياً عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذاناً بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه وتحقيقاً للمساواة بين العِلْمين على أبلغ وجهٍ فكأن علمَه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه ونظيرُه قوله تعالى قُلْ إِنَّ تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبةَ بما يُخفونه أولى منها بما يُبْدونه غرضٌ بل الأمرُ بالعكس وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كونِ تعلقِ علمِه تعالَى بما يُسرّونه أولى منه بما يعلنونه غرضٌ مُهِمٌّ مع كونهما على السوية كيف لا وعلمُه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ الصورةِ بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وأما قوله تعالى وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فحيث كان وارداً بصدد الخطابِ مع الملائكة عليهم السلام المنزهِ مقامُهم عن اقتضاء التأكيدِ والمبالغةِ في الإخبار بإحاطة علمِه تعالى بالظاهر والباطن لم يُسلَكْ فيه ذلك المسلكُ مع أنه وقع الغُنيةُ عنه بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه عز وجل إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرضِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ باعتبار أن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ قبل ذلك مضمر في القلب فتعلق علمِه سبحانه بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقه بحالته الثانية
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ تعليلٌ لما سبق وتقريرٌ له واقع موقعَ الكبرى من القياس وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلام الاستغراقِ والتعبيرِ عن الضمائر بعنوان صاحبيتها منَ البراعةِ ما لا يصفه الواصفون كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه مَا يُسرّون وَمَا يُعْلِنُونَ ويجوزُ أنْ يُراد بذاتِ الصدورِ القلوبُ من قولِه تعالى ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِها فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارها
﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ محلَّ قرارِها في الأصلاب
﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ موضعَها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوِها وإنما خُصَّ كلٌّ من الاسمين بما خُصَّ به من المحلَّين لأن النطفةَ بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعيِّ ومنشئِها الخلقيِّ وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجري مجراها فهي مُودعةٌ فيها إلى وقت معين أو مسكنَها من الأرض حين وُجدت بالفعل ومُودَعها من الموادّ والمقارِّ حين كانت بعدُ بالقوة ولعل تقديم محلها
﴿كُلٌّ﴾ من الدواب ورزقِها ومستقرِّها ومستودعِها
﴿فِى كتاب مُّبِينٍ﴾ أيْ مُثْبتٍ في اللوح المحفوظِ البيِّن لمن ينظر فيه من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ أو المُظهِرِ لما أُثبت فيه للناظرين ولمّا انتهى الأمرُ إلى أنه سبحانه محيطٌ بجميع أحوالِ ما فى الأرض من المخلوقات التي لا تكاد تُحصى من مبدأ فطرتِها إلى منتهاها اقتضى الحالُ التعرّضَ لمبدأ خلقِ السمواتِ والأرضَ والحكمةِ الداعية إلى ذلك فقيل
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ﴾ قبل خلقِهما
﴿عَلَى الماء﴾ ليس تحته شيءٌ غيرُه سواءٌ كان بينهما فرجة وكان موضوعاً على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالةَ فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دلّ لدلّ على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماءِ أولَ ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدلّ على أن خلقَهما أقدمُ من خلقِ السمواتِ والأرضِ من غير تعرضٍ للنسبة بينهما
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ متعلقٌ بخلق أي خلق السمواتِ والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجونَ إليهِ من مبادي وجودِكم وأسبابِ معايشِكم وأودع في تضاعيفهما من تعاجيب الصنائعِ والعبرِ ما تستدلون به على مطالبكم الدينيةِ ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم
﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ فيجازيكم بالثواب والعقاب غِبّ ما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصب من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمخايلِ ومراتب أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعلم الجوارح ولذلك فسره ﷺ بقولِه أيُكم
﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت﴾ على ما يوجبه قضيةُ الابتلاءِ ليترتبَ عليه الجزاءُ المتفرِّعُ على ظهور مراتبِ الأعمال
﴿لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ إن وُجِّه الخطابِ في قولِه تعالَى إِنَّكُمْ إلى جميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولَن الكافرون منهم وإن وجِّه إلى الكافرين منهم فهو واردٌ على طريقة الذم
﴿إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي مثلُه في الخديعة أو البطلان وهذا إشارةٌ إلى القول المذكورِ أو إلى القرآن فإن الإخبارَ عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب كونُه بطريق الوحي المتلوِّ إلا أنهم عند سماعِهم ذلك تخلّصوا إلى القرآن لإنبائه عنه في كل موضعٍ وكونِه علَماً عندهم في ذلك فعمَدوا إلى تكذيبه وتسميتِه سحراً تمادياً منهم في العناد وتفادياً عن سَنن الرشاد وقيلَ هُو إشارةٌ إلى نفس البعثِ ولا يلائمه التسميةُ بالسحر فإنه إنما يُطلقُ على شيء موجودٍ ظاهراً لا أصلَ له في الحقيقة ونفسُ البعثِ عندهم معدومٌ بحتٌ وتعلقُ الآيةِ الكريمةِ بما قبلها أما من حيثُ إن البعثَ كما أشير إليه من تتمات الابتلاءِ المذكورِ فكأنه قيل الأمرُ كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذّةٍ من مقدماته وقضيةٍ فردةٍ من تتماته لا يتلعثمون في الرد ويعدّون ذلك من قبيلِ ما لا صِحةَ له أصلاً فضلاً عن تصديق ما هذه من تتماته وإمَّا منْ حيثُ إنَّ البعثَ خلقٌ جديد فكأنه قيل وهو الذي خلق جميعَ المخلوقاتِ ابتداءً لهذه الحكمة البالغةِ ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه يعيدهم تارة أخرى وهو
أهونُ عليه يقولون ما يقولُون فسبحان الله عما يصفون وقرأ حمزةُ والكسائيُّ إلا ساحرٌ على أنَّ الإشارةَ إلى القاتل أو إلى القرآن على اسلوب شعر شاعر وقرئ بالفتح على تضمين قلتَ معنى ذكرتَ أو على أن أنك بمعنى عنك في علّك أي ولئن قلتَ لعلكم مبعوثون على أن الرجاءَ والتوقعَ باعتبار حالِ المخاطبين أي توقّعوا ذلك ولا تبُتّوا القولَ بإنكاره أو على أنه مجاراةٌ معهم في الكلام على نهج المساعدةِ لئلا يسارعوا إلى اللَّجاج والعِنادِ ريثما قَرعَ أسماعَهم بتُّ القولِ بخلاف ما ألِفوا وألفَوْا عليه آباءَهم من إنكار البعثِ ويكون ذلك أدعى لهم إلى التأمل والتدبّر وما فعلوه قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون
﴿إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ إلى طائفة من الأيام قليلةٍ لأن ما يحصُره العدُّ قليلٌ
﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ أي أيُّ شيءٍ يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانعٌ وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجالِ استهزاءً لقوله تعالى مَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون ومرادُهم إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأَساً لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابسه
﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ﴾ ذلك
﴿لَيْسَ مَصْرُوفاً﴾ محبوساً
﴿عَنْهُمْ﴾ عَلى مَعْنَى أنهُ لا يرفعه رافعٌ أبداً إن أريد به عذابُ الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافعٌ بل هو واقعٌ بكم إن أريد به عذابُ الدنيا ويومَ منصوبٌ بخبر ليس مقدماً عليه واستدل به البصريون على جواز تقديمِه على ليس إذ المعمولُ تابعٌ للعامل فلا يقع إلا حيث يقعُ متبوعُه ورُدَّ بأن الظرفَ يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسّعاً وبأنه قد يُقدّم المعمولُ حيث لا مجالَ لتقدم العامل كما في قوله تعالى فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ فإن اليتيمَ والسائلَ مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهيةِ مع امتناع تقدم الفعلين عليها قال أبو حيان وقد تتبعتُ جملةً من دواوين العربِ فلم أظفَرْ بتقديم خبرِ ليس عليها ولا بتقديمِ معمولِه إلا ما دل عليه ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ وقولُ الشاعر... فيأبى فما يزدادُ إلا لجاجة... وكنتُ أبياً في الخنا لست أُقدِمُ...
﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أي أحاط بِهِم
﴿مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون﴾ أي العذابُ الذي كانوا يستعجلون به استهزاءً وفي التعبير عنه بالموصول تهويلٌ لمكانه وإشعارٌ بعليّة ما ورد في حيِّزِ الصلةِ من استهزائهم به لنزوله وإحاطتِه والتعبيرُ عنها بالماضي واردٌ على عادة الله تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقُّنها بمنزلة الكائنةِ الموجودةِ وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر وتقرير وقوع المُخْبَرِ به ما لا يَخْفى
﴿ثُمَّ نَزَعْنَاهَا منه﴾ أى
﴿إنه ليؤوس﴾ شديدُ القنوطِ من رَوْح الله قَطوعٌ رجاءَه من عَود أمثالِها عاجلاً أو آجلاً بفضل الله تعالى لقلة صبرِه وعدمِ توكلِه عليه وثقته به
﴿كَفُورٌ﴾ عظيمُ الكُفرانِ لِما سلف من النعم وفيه إشارةٌ إلى أن النزْعَ إنما كان بسبب كفرانِهم بما كانوا يتقلّبون فيه من نعم الله عز وجل وتأخيره عن وصف يأسِهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصلِ على أن اليأسَ من فضل الله سبحانه وقطع الرجاء عن إضافة أمثالِه في العاجل وإيصالِ أجرِه في الآجل من باب الكُفران للنعمة السالفة أيضاً
﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي﴾ أي المصائبُ التي تسوؤني ولن يعترِيَني بعدُ أمثالُها كما هو شأنُ أولئك الأشرارِ فإن الترقّبَ لورود أمثالِها مما يكدّر السرورَ وينغّص العيش
﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ﴾ بطِرٌ وأشِرٌ بالنعم مغترٌّ بها
﴿فَخُورٌ﴾ على الناس بما أوتيَ من النعم مشغولٌ بذلك عن القيام بحقها واللامُ في لئن في الآيات الأربعِ موطّئةٌ للقسم وجوابُه سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط
﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ شكراً على آلائه السالفة والآنفة والام في الإنسان إما لاستغراق الجنسِ فالاستثناءُ متصلٌ أو للعهد فمُنقطعٌ
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيزِ الصلةِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ أي أولئك الموصوفون بتلك الصفاتِ الحميدة
﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ عظيمةٌ لذنوبِهِم وإن جمّت
﴿وَأَجْرٌ﴾ ثوابٌ لأعمالهم الحسنة
﴿كَبِيرٌ﴾ ووجهُ تعلّقِ الآياتِ الثلاثِ بما قبلهن من حيث إن إذاقةَ النَّعماءِ ومِساسَ الضّراءِ فصلٌ من باب الابتلاءِ واقعٌ موقعَ التفصيلِ من الإجمال الواقعِ في قولُه تعالَى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً والمعنى أنَّ كلاًّ من إذاقة النَّعماءِ ونزعِها مع كونه ابتلاءً للإنسان أيشكُر أم يكفُر لا يهتدي إلى حسن الصواب بل يحَيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلالِ فلا يَظهرُ منه حسنُ عملٍ إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث إن إنكارَهم بالبعث واستهزائهم بالعذاب بسبب بطرِهم وفخرِهم كأنه قيل إنما فعلُوا ما فعلُوا لأن طبيعةَ الإنسانِ مجبولةٌ على ذلك
﴿وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ أي عارضٌ لك ضِيقُ صَدرٍ بتلاوته عليهم وتبليغِه إليهم في أثناء الدعوةِ والمُحاجّة
﴿أَن يَقُولُواْ﴾ لأن يقولوا تعامِياً عن تلك البراهينِ التي لا تكاد تخفى صحّتُها على أحدٍ ممَّن له أدنى بصيرةٍ وتمادياً في العِناد على وجه الاقتراح
﴿لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ﴾ مالٌ خطيرٌ مخزونٌ يدل على صدقه
﴿أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ﴾ يصدّقه قيل قاله عبدُ اللَّه بنُ أميةَ المخزوميُّ ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ رؤساءَ مكةَ قالوا يا محمد اجعل لنا جبالَ مكةَ ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون ائتِنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال لا أقدِر على ذلك فنزلت كأنه ﷺ لما عاين اجتراءَهم على اقتراح مثلِ هذه العظائمِ غيرَ قانعين بالبينات الباهرةِ التي كانت تضطرهم إلى القَبول لو كانوا من أرباب العقولِ وشاهدَ ركوبَهم من المكابرة مَتنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاءِ وتسميتِها سحرا مثل حاله ﷺ بحال من يتوقع منه أن يضيقَ صدرُه بتلاوة تلك الآيات الساطعةِ عليهم وتبليغِها إليهم فحُمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل
﴿إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ﴾ ليس عليك إلا الإنذارُ بما أوحي إليك غيرَ مبالٍ بما صدرَ عنْهم منَ الرد والقَبولِ
﴿والله على كُلّ شَيْء وَكِيلٌ﴾ يحفَظ أحوالَك وأحوالَهم فتوكلْ عليه في جميع أمورِك فإنه فاعلٌ بهم ما يليق بحالهم والاقتصار على النذير في أقصى غايةٍ من إصابة المَحزّ
﴿قُلْ﴾ إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولون
﴿فَاتُواْ﴾ أنتم أيضاً
﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ﴾ في البلاغة وحُسنِ النظمِ وهو نعتٌ لسُوَر أي أمثالِه وتوحيدُه إما باعتبار مماثلةِ كل واحد منها أو لأن المطابقةَ ليست بشرط حتى يوصَفُ المثنى بالمفرد كما في قوله تعالى أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مثلنا أو للإماء إلى أن وجهَ الشبهِ ومدارَ المماثلةِ في الجميع شيءٌ واحدٌ هو البلاغةُ المؤديةُ إلى مرتبة الإعجازِ فكأن الجميعَ واحدٌ
﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ صفةٌ أخرى لسُور أُخِّرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفةُ المقصودةُ بالتكليف إذ بها يظهر عجزُهم وقعودُهم عن المعارضة وأما وصفُ الافتراء فلا يتعلق به غرضٌ يدور عليه شيءٌ في مقام التحدِّي وإنما ذُكر على نهج المساهلةِ وإرخاءِ العِنانِ ولأنه
﴿وادعوا﴾ للاستظهار في المعارضة
﴿مَنِ استطعتم﴾ دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون أنها مُمِدّةٌ لكم في كل ما تأتون وما تذرون والكهنةِ ومَدارِهِكم الذين تلجئون إلى آرائهم في المُلمّات ليُسعدوكم فيها
﴿مِن دُونِ الله﴾ متعلق بادعوا أي متجاوزينَ الله تعالى
﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في أني افتريتُه فإن ذلك يستلزِمُ إمكانَ الإتيانِ بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتَكم عليه والجوابُ محذوفٌ يدل عليه المذكور
أوله وللمؤمنين لأنهم أتباعٌ له ﷺ في الأمر بالتحدّي وفيه تنبيهٌ لطيفٌ على أن حقهم ان لا ينفكوا عنه ﷺ ويناصِبوا معه لمعارضة المعارِضين كما كان يفعلونه في الجهاد وإرشادٌ إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخَ في الإيمان والطُمأنينةَ في الإيقان ولذلك رُتِّب عليه قولُه عز وجل فاعلموا أي اعلموا حين ظهر لكم عجزُهم عن المعرضة مع تهالُكهم عليها علماً يقيناً متاخِماً لعين اليقينِ بحيث لا مجالَ معه لشائبة ريبٍ بوجه من الوجوه كأن ما عداه من مراتب العلمِ ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاطِ تلك المراتبِ بل بارتفاع هذه المرتبةِ وبه يتضح سرا يراد كلمةِ الشكِّ مع القطعِ بعدم الاستجابةِ فإن تنزيلَ سائرِ المراتبِ منزلةَ العدمِ مستتبِعٌ لتنزيل الجزْمِ بعدم الاستجابةِ منزلةَ الشكِّ فيه أو اثبُتوا واستمِرّوا على ما كنتم عليه من العلم
﴿إِنَّمَا أُنزِلَ﴾ ملتبساً
﴿بِعِلْمِ الله﴾ المخصوصِ به بحيث لا تحوم حوله العقولُ والأفهامُ مستبداً بخصائصِ الإعجازِ من جهتي النظمِ الرائقِ والإخبار بالغيب
﴿وَأَن لا إله إلا هو﴾ أي واعلموا أيضا أن لا شريكٍ له في الألوهية وأحكامِها ولا يقدِر على ما يقدرُ عليه أحدٌ
﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي مخلِصون في الإسلام أو ثابتون عليه وهذا من باب التثبيتِ والترقيةِ إلى معارج اليقينِ ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ في الكل للمشركين من جهة الرسول ﷺ داخلاً تحت الأمر بالتحدّي والضميرُ في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجبْ لكم آلهتُكم وسائرُ مَنْ إليهم تجأرون في مُهمّاتكم ومُلماتكم إلى المعاونة والمظاهَرَةِ فاعلموا أن ذلك خارجٌ عن دائرة قُدْرةِ البشر وأنه مُنزّلٌ من خالق القُوى والقدر فإيرادُ كلمةِ الشكِّ حينئذ مع الجزم بعدمِ الاستجابة من جهة آلهتكم تهكّمٌ بهم وتسجيلٌ عليهم بكمال سخافةِ العقلِ وترتيبُ الأمرِ بالعلم على مجرد عدمِ الاستجابة من حيث إنه مسبوقٌ بالدعاء المسبوقِ بعجزهم واضطرارِهم فكأنه قيل فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائِكم إليهم بعد ما اضطُررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيلُ وعيَّتْ بكم العللُ أو من حيث إن مَنْ يستمدّون بهم أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزُهم بعدم استجابتِهم وإن كان ذلك قبل ظهور
﴿نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ وإدخالُ كان عليه للدِلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخِرةَ أصلاً وليس المرادُ بأعمالهم أعمالَ كلِّهم فإنه لا يجد كلُّ متمنَ ما يتمناه ولا كلُّ أحدٍ ينال كلَّ ما يهواه فإن ذلك منوطٌ بالمشيئة الجاريةِ على قضية الحِكمة كما نطق به قوله تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ولا كلَّ أعمالِهم بل بعضَها الذي يترتب عليه الأمورُ المذكورةُ بطريق الأجرِ والجزاءِ من أعمال البرِّ وقد أُطلقت وأريد بها ثمراتُها فالمعنى نوصِلُ إليهم ثمراتِ أعمالِهم في الحياة الدنيا كاملةً وقرىء يُوفِّ على الإسناد إلى الله عزَّ وجلَّ وتُوَفَّ بالفوقانية على البناءِ للمفعولِ ورفعِ أعمالَهم وقرىء نُوْفي بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضياً كقوله... وَإِنْ أَتَاهُ خليلٌ يومَ مسغَبة... يقول لا غائب ما لي ولا حرِمُ...
﴿وَهُمْ فِيهَا﴾ أي في الحياة الدنيا
﴿لاَ يُبْخَسُونَ﴾ أي لا يُنقَصون وإنما عبر عن ذلك بالبخْس الذي هو نقصُ الحقِّ مع أنه ليس لهم شائبةُ حقَ فيما أوتوه كما عبّر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاءُ الحقوقِ مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبةً لذلك بناءً للأمر على ظاهر الحالِ ومحافظةً على صور الأعمالِ ومبالغةً في نفي النقص كأن ذلك نقصٌ لحقوقهم فلا يدخُل تحت الوقوعِ والصدورِ عن الكريم أصلاً والمعنى أنهم فيها خاصةً لا يُنقصون ثمراتِ أعمالِهم وأجورَها نقصاً كلياً مطرداً ولا يُحرَمونها حِرماناً كلياً وما في الآخرة فهم في الحِرمان المطلقِ واليأسِ المحقق كما ينطق به قوله تعالى
﴿الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار﴾ لأن هِممَهم كانت مصروفةً إلى الدنيا وأعمالَهم مقصورةً على تحصيلها وقد
﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا﴾ أي ظهر في الآخرة حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدِّي إلى الثواب لو كانت معمولةً للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدُّنيا من أعمال البِرِّ إذ شرْطُ الاعتدادِ بها الإخلاصُ
﴿وباطل﴾ أي في نفسه
﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ في أثناء تحصيلِ المطالبِ الدنيويةِ ولأجل أن الأولَ من شأنه استتباعُ الثوابِ والأجرِ وأن عدمَه لعدم مقارنتِه للإيمان والنيةِ الصحيحةِ وأن الثانيَ ليس له جهةٌ صالحة قطُّ عُلّق بالأول الحُبوطُ المؤذِنُ بسقوط أجرِه بصيغة الفِعل المنبىءِ عن الحدوث وبالثاني البُطلانُ المُفصِحُ عن كونه بحيث لا طائلَ تحته أصلاً بالاسمية الدالةِ على كون ذلك وصفاً لازماً له ثابتاً فيه وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءٌ إلى أن صدور أعمال البرِّ منهم وإن كان لغرض فاسدٍ ليس في الاستمرار والدوامِ كصدور الأعمالِ التي هي من مقدِّمات مطالبِهم الدنية وقُرىء وبطَل على الفعل أي ظهر بطلانُه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيويةِ مما لا طائلَ تحته أو انقطع أثرُه الدنيويُّ فبطَل مطلقاً وقرىء وباطلاً ما كانوا يعملون على أن ما إبهاميةٌ أو في معنى المصدر كقوله ولا خارجاً مِنْ فِيَّ زورُ كلامِ وعن أنسٌ رضيَ الله عنه أنَّ المرادُ بقولِه تعالَى مِنْ كَانَ يُرِيدُ الخ اليهودُ والنصارى إن أعطَوا سائلاً أو وصَلوا رحِماً عُجّل لهم جزاءُ ذلك بتوسعة في الرزق وصِحةٍ في البدن وقيل هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله ﷺ فأسْهم لهم في الغنائم وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ إنما كان بعد الهجرةِ والسورةُ مكيةٌ وقيل هم أهلُ الرياءِ يقال للقرّاء منهم أردتَ أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك وهكذا لغيره ممن يعمل أعمالَ البِرِّ لا لوجه الله تعالى فعلى هذا لا بد من تقييد قوله تعالى لَهُمْ إِلاَّ النار بأنْ ليس لهم بسبب أعمالِهم الريائيةِ إلا ذلك والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ أن المرادَ به مطلقُ الكفَرة بحيث يندرِجُ فيهم القادحون في القرآن العظيمِ اندراجاً أولياً فإنه عز وعلا لما أمر نبيَّه ﷺ والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأن القرآنَ منزلٌ بعلم الله وبأن لا قُدرةَ لغيره على شيء أصلاً وهيّجهم على الثبات على الإسلام والرسوخِ فيه عند ظهورِ عجزِ الكفرةِ وما يدْعون من دون الله عن المعارضة وتبيّن أنهم ليسوا على شيء أصلاً اقتضى الحالُ أن يتعرض لبض شئونهم الموهمةِ لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظَ العاجلةَ واستيلائهم على المطالب الدنيويةِ وبيانِ أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ولقد بُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم أعيد الترغيبُ فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيدِ والإسلام فقيل
﴿وَيَتْلُوهُ﴾ أي يتبعه
﴿شَاهِدٌ﴾ يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجاز في
﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾ على فاعله مع كونه مقدَّماً عليه في النزول فكأنه قيل أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه ويشَهد به شاهدٌ منه وشاهدٌ آخرُ مِنْ قبله هو كتابُ موسى وإنما قُدّم في الذكر المؤخَّرِ في النزول لكونه وصفاً لازماً له غيرَ مفارِقٍ عنه ولعراقته في وصف التلوِّ والتنكيرُ في بينة وشاهد للتفخيم
﴿إِمَاماً﴾ أي مؤتماً به في الدين ومقتدىً وفي التعرض لهذا الوصفِ بصدد بيانِ تلوِّ الكتابِ ما لا يَخفْى من تفخيم شأنِ المَتْلوِّ
﴿وَرَحْمَةً﴾ أي نعمةً عظيمة على من أُنزل إليهم ومَنْ بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامِه الباقيةِ المؤيَّدةِ بالقرآن العظيمِ وهما حالان من الكتاب
﴿أولئك﴾ الموصوفون بتلك الصف الحميدةِ وهو الكونُ على بينة من الله ولِما أن ذلك عبارةٌ عن مطلق التمسكِ بها وقد يكون ذلك بطريق التقليدِ لمن سلف من عظماء الدين من غير عُثورٍ على دقائق الحقائقِ وصفهم بأنهم
﴿يؤمنون﴾ أي يصدقونه حقَّ التصديقِ حسبما تشهد به الشواهدُ الحقّة المعربةُ عن حقيته
﴿وَمن يَكْفُرْ بِهِ﴾ أي بالقرآن ولم يصدِّق بتلك الشواهد الحقَّةِ
﴿مّن الاحزاب﴾ من أهل مكةَ ومن تحزّب معهم على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم
﴿فالنار مَوْعِدُهُ﴾ يردّها لا محالة حسبما نطَق به قوله تعالى ليس لهم فى الاخرة إلا النار وفي جعلها موعداً إشعارٌ بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذابِ
﴿فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ﴾ أي في شك من أمر القرآنِ وكونِه من عندِ الله عزَّ وجل غبما شهِدت به الشواهدُ المذكورةُ وظهر فضلُ من تمسك بِهِ
﴿أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ﴾ الذي يربِّيك في دينك ودنياك
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بذلك إما لقصور أنظارِهم واختلالِ أفكارِهم وإما لعنادهم واستكبارِهم فمن في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ مبتدأٌ حُذف خبرُه لإغناء الحالِ عن ذكره وتقديرُه أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه كأولئك الذين ذُكرت أعمالَهم وبُيِّن مصيرُهم ومآلُهم يعني أن بينهما تفاوتا عظيماً بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما وإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لإنكار ترتّبِ توهّم المماثلةِ على ما ذكر من صفاتهم وعُدّد من هَناتهم كأنه قيل أبعدَ ظهورِ حالِهم فِي الدنيا والآخرة كما وُصف يُتوهم المماثلةُ بينهم وبين مَنْ كان على أحسنِ ما يكون
في العاجل والآجل كما في قوله تعالى أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء أي أبعدَ أن علمتموه ربَّ السمواتِ والأرض اتخذتم من دونه أولياءَ وقولِه تعالى أمن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى
﴿أولئك﴾ الموصوفون بالظلم البالغِ الذي هو الافتراءِ على الله تعالى وبهذه الإشارة حصَلت الغُنيةُ عن إسناد العَرضِ إلى أعمالهم واكتُفي بإسناده إليهم حيث قيل
﴿يُعْرَضُونَ﴾ لأن عرضَهم من تلك الحيثيةِ وبذلك العنوانِ عرضٌ لأعمالهم على وجهٍ أبلغَ فإن عرضَ العاملِ بعمله أفظعُ من عرض عملِه مع غَيْبته
﴿على رَبّهِمْ﴾ الحقِّ وفيه إيماءٌ إلى بطلان رأيِهم في اتخاذهم أربابا من دون الله عز وجل
﴿وَيَقُولُ الاشهاد﴾ عند العَرْض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمعُ شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف
﴿هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ﴾ بالافتراء عليه كأن ذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن الشهادة بوقوعه وإنما المحتاجُ إلى الشهادة تعيينُ مَنْ صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المرادُ بالأشهاد الحضّارَ وهم جميعُ أهلِ الموقفِ على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولُهم هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذماً لهم بذلك لإشهاده عليهم كما يُشعر بهِ قولُه تعالى وَيَقُولُ دون وَيُشْهِدُ الخ وتوطئةً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى
﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ بالافتراء المذكورِ ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأولِ من كلام الله تعالى وفيه تهويلٌ عظيمٌ لما يحيق بهم من عاقبة ظلمِهم اللهم إنا نعوذ بك من الخزي على رؤوس الأشهاد
﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ عن دينه القويمِ
﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ انحرافاً أي يصفونها بذلك وهي أبعدُ شيءٍ منه أو يبغون أهلَها أن ينحرفوا عنها يقال بغَيتك خيراً أو شراً أي طلبتُ لك وهذا شاملٌ لتكذيبهم بالقرآن وقولِهم إنه ليس من عند الله
﴿وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون﴾ أي يصِفونها بالعِوَج والحالُ أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعُمون أن لها سبيلاً سوياً يهدون الناسَ إليه وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرِهم واختصاصِهم به كأن كفرَ غيرِهم ليس بشيء عند كفرهم
مع وصف من أحوالهم الموجبة للتدمير
﴿لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ﴾ الله تعالى مُفْلِتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك
﴿فِى الارض﴾ مع سَعتها وإنْ هربُوا منها كلَّ مَهْرب
﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء﴾ ينصُرونهم من بأسه ولكن أُخِّر ذلك لحكمة تقتضيه والجمعُ إما باعتبار أفراد الكفَرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من وليَ أو باعتبار تعدّدِ ما كانوا يدعون من دونِ الله تعالَى فيكون ذلك بياناً لحال آلهتِهم من سقوطها عن رتبة الولاية
﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾ استئنافٌ يتضمن حكمةَ تأخيرِ المؤاخذة وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ ويعقوبُ بالتشديد
﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع﴾ لفَرْط تصامِّهم عن الحق وبُغضِهم له كأنهم لا يقدرون على السمع ولما كان قبحُ حالِهم في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقّيه السمعُ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائر الآياتِ المنوطةِ بالإبصار بالغَ في نفي الأولِ عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعةَ واكتفى في الثاني بنفي الإبصارِ فقال تعالى
﴿وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ﴾ لتعاميهم عن آيات الله المبسوطةِ في الأنفس والآفاقِ وهو استئنافٌ وقع تعليلاً لمضاعفة العذابِ وقيل هو بيانٌ لما نُفي من ولاية الآلهةِ فإن ما لا يسمع ولا يُبصر بمعزل من الولاية وقوله تعالى يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب اعتراضٌ وسِّط بينهما نعياً عليهم من أول الأمرِ سوءَ العاقبة
﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ باشتراء عبادةِ الآلهةِ بعبادة الله عز سلطانُه
﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ من الآلهة وشفاعتِها أو خسِروا ما بذلوا وضاع عنهم ما حصَلوا فلم يبقَ معهم سوى الحسرةِ والندامة
﴿أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون﴾ وهذا مذهبُ سيبويه والثاني جرَمَ بمعنى كسب وما بعده مفعولُه وفاعلُه ما دل عليه الكلامُ أي كسب ذلك خُسرانَهم فالمعنى ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ خُسرانِهم والثالثُ أن لا جرم بمعنى لا بد أى لا بد أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون وأياً ما كان فمعناه أنهم أخسرَ من كل خاسرٍ فتبين أنهم أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وهذه الآياتُ الكريمة كما ترى مقرِّرةٌ لما سبق من إنكار المماثلةِ بين مَنْ كَانَ على بَيّنَةٍ مّن ربه وبين مَنْ كان يريد الحياةَ الدنيا أبلغَ تقريرٍ فإنهم حيث كانوا أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وأخسَر من كل خاسرٍ لم يُتصوَّرْ مماثلةٌ بينهم وبين أحدٍ من الظَّلَمةِ الأخسرين فما ظنُّك بالمماثلة بينهم وبين مَنْ هو في أعلى مدارجِ الكمالِ ولما ذُكر فريقُ الكفارِ وأعمالُهم وبيّن مصيُرهم ومآلُهم شَرَع في بيان حالِ أضدادِهم أعني فريقَ المؤمنين وما يئول إليه أمرُهم من العواقب الحميدةِ تكملةً لما سلف من محاسنهم المذكورةُ في قولِه تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه الآية ليتبينَ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ حالاً ومآلاً فقيل
٨ - وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ ٨
أي اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخضوع والتواضعِ من الخَبْت وهي الأرضُ المطمئنة ومعنى أخبت دخل في الخبت كأنهم وأنجدَ دخلَ في تِهامةَ ونجد
٨ - أوليك ٨
المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة
٨ - أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون ٨
دائمون وبعد بيانِ تباينِ حاليهما عقلاً أريد بيانُ تبايُنِهما حِساً فقيل
المذكورين أي حالُهما العجيبُ لأن المثَلَ لا يُطلق إلا على ما فيه غرابةٌ من الأحوال والصفات
٨ - كالاعمى والاصم والبصير والسميع ٨
أي كحال هؤلاءِ فيكون ذواتُهم كذواتهم والكلامُ وإن أمكن أن يحمل على تشبيه الفريق الأولِ بالأعمى وبالأصمِّ وتشبيهِ الفريقِ الثاني بالبصير وبالسميع لكن الأدخلَ في المبالغة والأقربَ إلى ما يشير إليه لفظُ المثل والأنسبَ بما سبق من وصف الكفرةِ بعدم استطاعةِ السمع وبعدم الإبصارِ أن يُحمل على تشبيه الفريقِ الأولِ بمن جمع بين العَمى والصمَم وتشبيهُ الفريقِ الثاني بمَن جمع بين البصر والسمع على أن تكون الواوُ في قوله تعالى والاصم وفي قوله والسميع لعطف الصفةِ على الصفة كما في قول من قالَ... إِلَى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ...
وأياً ما كان فالظاهرُ أن المرادَ بالحال المدلولِ عليها بلفظ المَثَل وهي التي يدور عليها أمرُ التشبيهِ ما يلائم الأحوالَ المذكورةَ المعتبرةَ في جانب المشبَّه به من تعامي الفريقِ الأولِ عن مشاهدة آياتِ الله المنصوبةِ في العالم والنظرِ إليها بعين الاعتبارِ وتصامِّهم عن استماع آياتِ القرآنِ الكريم وتلقّيها بالقبول حسبما ذُكر في قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ وإنما لم يُراعَ هذا الترتيبُ ههنا لكون الأعمى أظهرَ وأشهرَ في سوء الحالِ من الأصم ومن استعمال الفريقِ الثاني لكل من أبصارهم وأسماعِهم فيما ذكر كما ينبغي المدلولُ عليه بما سبق من الإيمان والعملِ الصالحِ والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبيهُ تمثيلياً لا جميع الأحوال المعدودةِ لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدِّي إليهِ من العذاب المضاعَف والخسران البالغِ في أحدهما ومن النعيم المقيم في الآخر فإن اعتبارَ ذلك ينزِعُ إلى كون التشبيهِ تمثيلياً بأن يُنتزَعَ من حال الفريقِ الأول في تصامّهم وتعاميهم المذكورَيْن ووقوعِهم بسبب ذلك في العذاب المضاعفِ والخُسران الذي لا خسرانَ فوقه هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزَعةٍ ممن فقَد مَشْعَرَيْ البصر والسمعِ فتخبَّط في مسلَكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجِدْ إلى مقصِده سبيلاً وينتزَعَ من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرِهم في آياتِ الله تعالَى حسبما ينبغي وفوزِهم بدار الخلود هيئة فتشبيه بهيئة منتزعة ممن له بصَرٌ وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مَرامه
٨ - هَلْ يَسْتَوِيَانِ ٨
يعني الفريقين المذكورين والاستفهامُ إنكاريٌّ مذكّر لما سبق من إنكار المماثلة في قوله عزوجل أفمن كان على بيته الآية مَثَلاً أي حالاً وصفةً وهو تمييزٌ من فاعل يستويان
٨ - أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ٨
أي أتشكّون في عدم الاستواءِ وما بينهما من التباين أو أتغفُلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضرب
لكم من المثل فيكون الإنكارُ وارداً على المعطوفَيْن معاً أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعاً إلى عدم التذكر بعد تحققِ ما يوجب وجودَه وهو المثل المضروبُ كما في قوله تعالى أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم فإن الفاء هناك لإنكار الانقلابِ بعد تحققِ ما يُوجبُ عدمَه من علمهم بخلوّ الرسلِ قبل رسول الله ﷺ أو أفلا تفعلون التذكرَ أوافلا تعقِلون ومعنى الهمزةِ إنكارُ عدمِ التذكرِ واستبعادُ صدوره عن المخاطبين وأنه ليسَ مما يصلُح أن يقع لا من قبيل الإنكارِ في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وقولِه تعالى هَلْ يَسْتَوِيَانِ فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء ولما بيَّن من فاتحةِ السورةِ الكريمةِ إلى هذا المقامِ أنها كتابٌ محكمُ الآياتِ مفصَّلُها نازلٌ في شأن التوحيدِ وتركِ عبادِة غيرِ الله سبحانه وأن الذي أنزل عليه نذيرٌ وبشيرٌ من جهته تعالى وقرر في تضاعيف ذلك ما له مدخَلٌ في تحقيق هذا المرامِ من الترغيب والترهيبِ وإلزامِ المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقةِ الدالةِ على كونه من عند الله تعالى وتسلية الرسول ﷺ مما عراه من ضيق الصدرِ العارضِ له من اقتراحاتهم الشنيعةِ وتكذيبِهم له وتسميتهم للقرآن تارة سحر وأخرى مفترى وتثبيته ﷺ والمؤمنين على التمسك به والعملِ بموجبه على أبلغِ وجهٍ وأبدعِ أسلوبٍ شَرع في تحقيق ما ذُكر وتقريرِه بذكر قصصِ الأنبياءِ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ المشتملةِ على ما اشتمل عليه فاتحةُ السورةِ الكريمةِ ليتأكد ذلك بطريقين أحدُهما أن ما أُمر بهِ من التوحيد وفروعِه مما أطبق عليه الأنبياءُ قاطبةً والثاني أن ذلك إنما علمه رسول الله ﷺ بطريق الوحي فلا يبقى في حقيته كلامٌ أصلاً وليتسلّى بما يشاهده من معاناة الرسلِ قبله من أممهم ومقاساتِهم الشدائدَ من جهتهم فقيل
الواوُ ابتدائيةٌ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وحرفُه الباءُ لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمعَ واوان ولا يكاد تُطلق هذه اللامُ إلا مع قد لأنها مظِنّةُ التوقعِ وأن المخاطبَ إذا سمِعها توقع وقوعَ ما صُدّر بها ونوحٌ هو ابن لمك بن متوشلخ بن إدريسَ عليهما السلام وهو أولُ نبي بُعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعث ﷺ على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفانِ ستين سنة وكان عمرُه ألفاً وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ وقيل وهو ابنُ خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمُرُه ألفاً وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة
٨ - إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ ٨
بالكسرِ على إرادةِ القولِ أي فقال أو قائلا وقرأ ابن كثير وأبو عمْروٍ والكسائيُّ بالفتح على إضمار حرف الجرِّ أي أرسلناه ملتبساً بذلك الكلامِ وهو إني لكم نذيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجارُّ فُتح كما فُتح في كأن والمعنى على الكسر وهو قولك إن زيداً كالأسد واقتُصر على ذكر كونه ﷺ نذيراً لا لأن دعوتَه ﷺ كانت بطريق الإنذارِ فقط ألا يُرى إلى قوله تعالى فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السماء عليكم مدار الخ بل لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشارة صلى الله عليه وسلم
٨ - مُّبِينٌ ٨
أبيِّن لكم موجباتِ العذابِ ووجهَ الخلاصِ منه لأن الإنذارَ إعلامُ المحذورِ لا لمجرد التخويفِ والإزعاجِ بل للحذر منه فيتعلق بكلا وصفيه
﴿إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ تعليلٌ لموجب النهي وتصريحٌ بالمحذور وتحقيقٌ للإنذار والمرادُ به يومُ القيامة أو يوم الطوفان ووصفُه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغةِ كما في نهارُه صائمٌ وهذه المقالةُ وما في معناها مما قاله ﷺ في أثناء الدعوةِ على ما عُزِي إليه في سائر السور لما لم تصدر عنه ﷺ مرةً واحدة بل كان يكرّرها عليهم في تلك المدةِ المتطاولةِ على ما نطقَ به قولُه تعالى رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً الآيات عطفٌ على فعل الإرسالِ المقارِن لها أو القولِ المقدّرِ بعده جوابُهم المتعرِّضُ لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه ﷺ بعد اللتيا والتي بالفاء التعقبية فقيل
﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا﴾ مُرادُهم ما أنت إلا بشرا مثلُنا ليس فيك مزيةٌ تخصُّك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتملٌ ولكن لا نراه وكذا الحالُ في قولهم
﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى﴾ فالفعلان من رؤية العينِ وقوله تعالى إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا حالٌ من المفعول وكذا قوله اتبعك في موضع الحالِ منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ رؤية القلبِ وهو الظاهرُ فهما المفعولُ الثاني وتعلُّقُ الرأي في الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط وإنما لم يبتّوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارِهم عليه إراءةً بأن ذلك لم يصدر عنهم جُزافاً بل بعد التأملِ في الأمر والتدبرِ فيه ولذلك اقتصروا على ذلك الظن فيما سيأتي وتعريضاً من أول الأمرِ برأي المتبين فكأن قولَهم وَمَا نَرَاكَ جوابٌ عما يرِد عليهم من أنه صلى الله عيله وسلم ليس مثلَهم حيث عاين دلائلَ نبوته واغتنم اتباعُه مَنْ له عينٌ تُبصر وقلبٌ يدرك فزعَموا أن هؤلاء أراذلُنا أي أخِسّاؤنا وأدانينا جمعُ أرذلٍ فإنه صار بالغلبة جارياً مجرى الاسمِ كالأكبرِ والأكابر أو جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالِب وأكلُب وكلْب يعنُون أنَّه لا عبرةَ باتِّباعِهم لك إذْ ليس لهم رزانةُ عقلٍ ولا أصالةُ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي أي ظاهره من غير تعمق من البدو أو في أوله من البدء والياء مبدلةٌ من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد
﴿وَمَا نرى لَكُمْ﴾ أي لك ولمتّبعيك فغلّب المخاطَب على الغائبين
﴿عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ يعنون أن اتباعَهم لك لا يدل على نبوتك ولا يُجديهم فضيلةً تَستتبع اتباعنا لكم واقتصارهم ههنا على ذكر عدمِ رؤيةِ الفضلِ بعد تصريحِهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالِهم السابقِ واللاحقِ ومرادُهم أنهم كانوا أراذلَ قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الاتباع فضيلةً علينا
﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين﴾ جميعاً لكون كلامكم واحداً ودَعْواكم واحدةً أو إياك في دعوى النبوةِ وإياهم في تصديقِك واقتصارُهم على الظنّ احترازٌ منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراةٌ معه ﷺ بطريق الإراءة على نهج الإنصاف
﴿إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ﴾ برهانٍ ظاهر
﴿مّن رَّبّى﴾ وشاهدٍ يشهد بصِحّة دعواي
﴿وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ هي النبوةُ ويجوز أن تكون هي البينةَ نفسَها جيء بها إيذاناً بأنها مع كونها بينةً من الله تعالى رحمةٌ ونعمةٌ عظيمة من عنده فوجْهُ إفرادِ الضَّمير في قولِه تعالى
﴿فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ حينئذ ظاهرٌ وإنْ أُريد بها النبوةُ وبالبينة البرهانُ الدالُّ على صحتها فالإفرادُ لإرادة كلِّ واحدةٍ منهما أو لكون الضميرِ للبينة والاكتفاءِ بذلك لاستلزام خفائِها خفاءَ النبوةِ أو لتقدير فعلٍ آخرَ بعد البينة ومعنى عُمِّيت أُخفيت وقرىء عمِيَت ومعناه خَفِيت وحقيقتُه أن الحجةَ كما تجعل مُبصِرة وبصيرةً تجعلُ عمياءَ لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيرَه وفي قراءة أبي فعماها عليكم على الإسناد إلى الله عزَّ وجلَّ
﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أي أنُكرِهُكم على الاهتداء بها وهو جوابُ أرأيتم وسادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركةِ الميمِ وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قُدِّم أعرفُهما جاز في الثاني الوصلُ والفصلُ فوصل كما في قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله
﴿وَأَنتُمْ لَهَا كارهون﴾ لاتختارونها ولا تتأملون فيها ومحصولُ الجوابِ أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرةِ الدِلالة على صِحّة دعواي إلا أنها خافية عليكم مُسلَّمةٍ عندكم أيمكنُنا أن نكرِهَكم على قَبولها وأنتم معرضون عنها غيرَ متدبِّرين فيها أي لا يكون ذلك وظاهرُه مُشعِرٌ بصدوره عنه ﷺ بطريق إظهارِ اليأسِ عن إلزامهم والقعود عن مُحاجَّتهم كقوله تعالى وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى الخ لكنه محمولٌ على أن مراده ﷺ ردُّهم عن الإعراض عنها وحثُّهم على التدبّر فيها بصرف الإنكارِ إلى الإلزام حالَ كراهتِهم لها لا إلى الإلزام مطلقاً هذا ويجوز أن يكون المراد بالبينة دليلَ العقلِ الذي هو ملاكُ الفضل وبحسبه يمتاز أفرادُ البشرِ بعضُها من بعض وبه يناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباءُ للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات
﴿ما لا﴾ تؤدّونه إليّ بعدِ إيمانِكم واتباعِكم لي فيكونَ ذلك أجراً لي في مقابلة اهتدائِكم
﴿إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ الذي يُثيبني في الآخرة وفي التعبير عنه حين نُسب إليهم بالمال ما لا يَخفْى من المزية
﴿وَمَا أَنَاْ بطارد الذين آمنوا﴾ جوابٌ عما لوّحوا به بقولهم وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا من أنه لو اتبعه الأشرافُ لوافقوهم وأن اتّباعَ الفقراءِ مانعٌ لهم عن ذلك كما صرَّحُوا بهِ في قولِهم أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون فكان ذلك التماساً منهم لطردهم وتعليقاً لإيمانهم به ﷺ بذلك أنفَةً من الانتظام معهم في سلك واحد
﴿إنهم ملاقوا ربهم﴾ تعليل لامتناعه ﷺ عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عزَّ وجلَّ كأنَّه قيل لا أطرُدهم ولا أُبعِدُهم عن مجلسي لأنهم مقرَّبون في حضرة القدسِ والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية وجوبِ رعايتِهم وتحتّمِ الامتناعِ عن طردهم أو مصدِّقون في الدنيا بلقاء ربِّهم موقنون به عالِمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطرُدهم وحملُه على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبِهِم منَ إيمان صحيحٍ ثابتٍ كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرِفونهم به من بناء إيمانِهم على بادِيَ الرأي من غير نظرٍ وتفكّر وما عليّ أن أشقَّ عن قلوبهم وأتعرَّفَ سرَّ ذلك منهم حتى أطرُدَهم إنْ كانَ الأمرُ كَما تزعُمون يأباه الجزمُ بترتّب غضبُ الله عزَّ وجلَّ على طردهم كما سيأتي وأيضاً فهم إنما قالوا إن اتباعَهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكرٍ وهذا لا يكاد يصلُح مداراً للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة غايتُه أن لا يكونوا في مرتبة الموقنين وادعاءُ أن بناءَ الإيمانِ على ظاهر الرأي يؤدّي إلى الرجوع عنه عند التأملِ فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبُتون على دينك بل يرتدون عنه تعسفٌ لا يخفى
﴿ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ بكل ما ينبغي أن يُعلم ويدخُلُ فيه جهلُهم بلقاء الله عز وجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردِهم لغضب الله كما سيأتي وبركاكة رأيِهم في التماس ذلك وتوقيفِ إيمانهم عليه أنفةً عن الانتظام معهم في سلك واحدٍ وزعماً منهم أن الرذالة بالفقر والشرفَ بالغنى وإيثارُ صيغةِ الفعل للدلالة
﴿إِن طَرَدتُّهُمْ﴾ فإن ذلك أمرٌ لا مردَّ له لكون الطرد ظلماً موجباً لحلول السّخط قطعاً وإنما لم يُصرَّح به إشعاراً بأنه غنيٌّ عن البيان لا سيما عما قُدّم ما يلوحُ به من أحوالهم فكأنه قيل مَنْ يدفعُ عني غضبَ الله تعالى إن طردتُهم وهم بتلك المثابةِ من الكرامة والزُلفى كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي أتستمرّون على ما أنتُم عليهِ من الجهل المذكورِ فلا تتذكرون ما ذُكر من حالهم حتى تعرِفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ولكون هذه العلة مستقبلة بوجه مخصوصٍ ظاهر الدلالةِ على وجوب الامتناعِ عن الطرد أُفردت عن التعليل السابق وصدرت بياقوم
﴿عِندِى خَزَائِنُ الله﴾ أي رزقُه وأموالُه حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين فإن النبوةَ أعزُّ من أن تنال بأسباب دنيويةٍ ودعواها بمعزل عن ادعاء المالِ والجاه
﴿وَلا أَعْلَمُ الغيب﴾ أي لا أدعي في قولي إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ علمَ الغيبِ حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد
﴿وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ﴾ حتى تقولوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا فإن البشريةَ ليست من موانع النبوةِ بل من مباديها يعني أنكم اتخذتم فُقدانَ هذه الأمورِ الثلاثة ذريعةً إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئاً من ذلك ولا الذي أدّعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانيةِ التي بها تتفاوت مقاديرُ البشرِ
﴿وَلا أَقُولُ﴾ مساعدةً لكم كما تقولون ﴿لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ﴾ أي تقتحِمهم وتحتقرِهم من زراه إذا عابه وإسنادُ الازدراءِ إلى أعينهم بالنظر إلى قولهم وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا وإما للإشعار بأن ذلك القصور نظرِهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك اي لاأقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين ﴿لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا﴾ في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يُؤتيهَم خيري الدارين إن قلتَ هذا القول ليس مما تستنكره الكفرةُ ولا مما يتوهمون صدوره عنه ﷺ أصالةً أو استتباعاً كادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن مما نفاه ﷺ عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمِنْ أيِّ وجه عطُف نفيُه على نفيها قلتُ من جهة أن كلا النفين ردٌّ لقياسهم الباطلِ الذي تمسّكوا به فيما سلف فإنهم زعَموا أن النبوةَ تستتبع الأمورَ المذكورةَ وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثورَ على مكانها واغتنامَ مغانهما ليس من دأب الأراذلِ فأجاب ﷺ بنفي ذلك جميعاً فكأنه قال لا أقول وجودُ تلك الأشياءِ من مواجب النبوةِ ولا عدمُ المالِ والجاهِ من موانع الخير
﴿الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ﴾ من الإيمان وإنما اقتُصر على نفي القولِ المذكور مع أنه ﷺ جازمٌ بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيراً عظيماً في الدارين وأنهم على يقين راسخٍ في الإيمان جرياً على سنن الأنصاف مع القوم واكتفاءً بمخالفة كلامِهم وإرشادا
﴿إِنّى إِذاً﴾ أي إذا قلتُ ذلك
﴿لَّمِنَ الظالمين﴾ لهم بحطِّ مرتبتِهم ونقصِ حقوقِهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وبالَه راجعٌ إلى أنفسهم وفيه تعريضٌ بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالِهم وقيل إذا قلتُ شيئاً مما ذُكِرَ من ادعاه الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وهو بعيدٌ لأن تبعةَ تلك الأقوالِ مغنيةٌ عن التعليل بلزوم الانتظامِ في زمرة الظالمين
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ منَ العذابِ الذي أشير إليه في قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة
﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ فيما تقول
﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام
﴿إن أردت أن أنصح لَكُمْ﴾ شرطٌ حذف جوابُه لدلالةِ ما سبق عليه والتقديرُ إن أردتُ أن أنصح لكم لا ينفعكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى
﴿إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ والتقديرُ إن كان الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى جزاءٌ للشرط الأولِ والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا صدر عنه ﷺ إظهار للعجز عن إلزامهم بالحجج والبيناتِ لتماديهم في العناد وإيذاناً بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصام بل
﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ خالقُكم ومالكُ أمركم
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجازِيكم على أعمالِكم لا محالة
﴿قُلْ﴾ يا نوح
﴿إِنِ افتريته﴾ بالفرض البحث
﴿فَعَلَىَّ إِجْرَامِى﴾ إثمي ووبالُ إجرامي وهو كسبُ الذنب وقرىء بلفظ الجمع وينصُره أن فسّره الأولون بآثامي
﴿وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ﴾ من إجرامكم في إسناد الافتراءِ إليّ فلا وجهَ لإعراضكم عني ومعاداتِكم لي وقال مقاتلٌ يعني محمداً ﷺ ومعناه بل أيقولُ مشركو مكةَ افترى رسولُ الله ﷺ خبرَ نوحٍ فكأنه إنما جيء به في تضاعيفِ القصةِ عند سَوْق طرفٍ منها تحقيقاً لحقيتها وتأكيداً لوقوعها وتشويقاً للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قُصَّ منها طائفةٌ متعلقةٌ بما جرى بينه ﷺ وبين قومِه من المُحاجَّة وبقِيَتْ طائفةٌ مستقلّةٌ متعلقةٌ بعذابهم
﴿إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ إلا من قد وُجد منه ما كان يُتوقَّع من إيمانه وهذا الاستثناءُ على طريقة قولِه تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ
﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ أي لا تحزَنْ حزْنَ بائسٍ مستكينٍ ولا تغتمَّ بما كانوا يتعاطَوْنه من التكذيب والاستهزاء والإيذاءِ في هذه المدة الطويلةِ فقد انتهى أفعالُهم وحان وقتُ الانتقامِ منهم
﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ أي بحفظِنا وكلاءتِنا كأنَّ معه من الله عز وجل حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزَّيغِ في الصَّنعةِ
﴿وَوَحْيِنَا﴾ إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا عن ابن عباس رضي
﴿وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ﴾ أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل ولا تدعُني فيهم وحيث كان فيه ما يلوح بالسببية أُكّد التعليلُ فقيل
﴿إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلاً للآخرين
﴿قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا﴾ مستجهلين لنا فيما نحن فيه
﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ أي نستجهلكم فيما أنتم عيه وإطلاقُ السخريةِ عليه للمشاكلة وجمعُ الضمير في منا إما لأن سخريتَهم منه ﷺ سخريةٌ من المؤمنين أيضاً أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضاً إلا أنه اكتُفيَ بذكر سُخريتِهم منه ﷺ ولذلك تعرض الجميعُ للمجازاة في قوله تعالى فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ الخ فتكافأ الكلام من الجانين وتعليق استجهاله ﷺ إياهم بما فعلوا من السُّخرية باعتبار إظهارِه ومشافهتِه ﷺ إياهم جاهلين فيما يأتون ويذرون أمرٌ مطّردٌ لا تعلُّق له بسخريتهم منهم لكنه ﷺ لم يكن يتصدى لإظهاره جرياً على نهج الأخلاقِ الحميدةِ وإنما أظهره جزاءً بما صنعوا بعد اللتيا والتي فإن سخريتَهم كانت مستمرةً ومتجدّدةً حسب تجدُّدِ مرورِهم عليه ولم يكن يُجيبهم في كل مرة وإلا لقيل ويقول إن تسخروا منّا الخ بل إنما أجابهم بعد بلوغِ أذاهم الغايةَ كما يؤذِن به الاستئنافُ فكأن سائلاً سأل فقال فما صنع نوحٌ عند بلوغِهم منه هذا المبلغ فقيل قال إن تسخروا منا إن تنسُبونا فيما نحن بصدده من التأهب المباشرة لأسباب الخلاصِ من العذاب إلى الجهل وتسخَروا منا لأجله فإنا ننسُبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عند استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي والتعّرضِ لأسباب حلولِ سخطِ الله تعالى التي من جملتها استجهالُكم إيانا وسخريتُكم منا والتشبيهُ في قوله تعالى
﴿كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ إما في مجرد التحققِ والوقوعِ أو في التجدد والتكررِ حسبما صدر عن ملإٍ غبَّ ملإٍ لا في الكيفيات والأحوال التي تليق بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فكلا الأمرَين واقعٌ في الحال وقيل نسخر منكم في المستقبل سُخريةً مثلَ سُخريتِكم إذا وقع عليكم الغرقُ في الدنيا والحرقُ في الآخرة ولعل مرداه نعاملُكم معاملةَ مَنْ يفعل ذلك لأن نفسَ السُّخرية مما لا يكاد يليق بمنصِب النبوةِ ومع ذلك لا سَدادَ له لأن حالهم إذا ذاك ليس مما لا يلائمه السُّخريةُ أو ما يجري مجراها فتأمّلْ
﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ﴾ حلولَ الدَّيْن المؤجل
﴿عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ هو عذابُ النارِ الدائمُ وهو تهديد بليغ ومن عبارةٌ عنهم وهي إما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ أو موصولةٌ في محل النصبِ بتعلمون وما في حيزها سد مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ إن جُعل العلمُ بمعنى المعرفةِ ولما كان مدارُ سخريتِهم استجهالَهم إياه ﷺ في مكابدة المشاقِّ الفادحةِ لدفع ما لا يكادُ يدخُل تحتَ الصِّحةِ على زعمهم من الطوفان ومقاساةِ الشدائِد في بناء السفينةِ وكانوا يعدّونه عذاباً قيل بعد استجهالِهم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ العذابُ يعني أن ما أُباشرُه ليس فيه عذابٌ لاحقٌ بي فسوف تعلمون مَنِ المعذَّبُ ولقد أصاب العلمُ بعد استجهالِهم محزّه ووصفُ العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخريةِ من لُحوق الخِزْي والعارِ عادة والتعرُّضُ لحلول العذاب المقيمِ للمبالغة في التهديد وتخصيصه بالمؤجل وإيرادُ الأول بالإتيان في غاية الجزالة
﴿وَفَارَ التنور﴾ نبعَ منه الماءُ وارتفع بشدة كما تفور القِدْرُ بغَليانها والتنّورُ تنّورُ الخبز وهو قول الجمهور روي أنه قيل لنوح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا رأيتَ الماءَ يفورُ من التنور فاركبْ ومن معك في السفينة فلما نبع الماءُ أخبرتْه امرأتُه فركب وقيل كان تنورَ آدم عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعدُ شيء من الماء على خرق العادةِ وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخلِ مما يلي باب كِنْدة وكان عملُ السفينةِ في ذلك الموضع أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين وردة وعن ابن عباس رضي الله عنه تعالى عنهما وعِكرمةَ والزُّهري أن التنورَ وجهُ الأرض وعن قتادةَ أشرفُ موضع في الأرض أي أعلاه وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه فار التنور طلح الفجرُ
﴿قُلْنَا احمل فِيهَا﴾ أي في السفينة وهو جوابُ إذا
﴿مِن كُلّ﴾ أي من كل نوعٍ لا بد منه في الأرض ﴿زَوْجَيْنِ﴾ الزوجُ ما له مشاكلٌ من نوعه فالذكرُ زوجٌ للأنثى كما هي زوجٌ له وقد يُطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ولإزالة ذلك الاحتمالِ قيل
﴿اثنين﴾ كلٌّ منهما زوجٌ للآخر وقرىء على الإضافة وإنما قُدم ذلك على أهله وسائرِ المؤمنين لكونِه عريقاً فيما أُمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه ﷺ في تمييز بعضِه من بعض وتعيينِ الأزواج فإنه روى أنه ﷺ قال يا رب كيف أحْمل من كلَ زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباعَ والطيرَ وغيرَهما فجعل يضرِب بيديه في كل جنس فيقع الذكرُ في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة وأما البشرُ فإنما يدخلُ الفُلكَ باختياره فيخِفّ فيه معنى الحَمْل أو لأنها إنما تحمِلُ بمباشرة البشر وهم إنما يدخُلونها بعد حملهم إياها
﴿وَأَهْلَكَ﴾ عطفٌ على زوجين أو على اثنين والمرادُ امرأتُه وبنوه ونساؤهم
﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ بأنه من المغرَقين بسبب ظلمِهم في قوله تعالى وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ الآية والمرادُ به ابنُه كنعان وأمُّه واعلةُ فإنهما كانا كافرين والاستثناءُ منقطِعٌ إن أريد بالأهل الأهلُ إيماناً وهو الظاهرُ كما ستعرفه أو متصلٌ إن أريد به الأهل قرابة ويكتفي في صحة الاستثناءِ المعلوميةُ عند المراجعةِ إلى أحوالهم والتفحّصُ عن أعمالهم وجيء بعلى لكون السابقِ ضارًّا لهم كما جيء باللام فيما هو نافعٌ لهم من قولهِ عزَّ وجلَّ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين وقوله إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى
﴿ومن آمن﴾ من غيرهم وإفرادُ الأهلِ منهم للاستثناءِ المذكورِ وإيثارُ صيغةِ الإفراد في آمن محافظة على لفظ من للإيذان بقلتهم كما أَعرَب عنه قولُه عز قائلاً
﴿وما آمن مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ قيل كانوا ثمانية نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأهلُه وبنوه الثلاثةُ ونساؤُهم وعن ابن إسحق كانوا عشرةً خمسةَ رجالٍ وخمسَ نسوةٍ وعنه أيضاً أنهم كانوا عشرةً سوى نسائِهم وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً وأولادُ نوحٍ سامٌ وحامٌ ويافث ونساؤُهم فالجميع ثمانيةٌ وسبعون نصفُهم رجالٌ ونصفُهم نساء واعتبارُ المعيةِ في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة
﴿اركبوا فيها﴾ كما سيأتي مثلُه في قوله تعالى وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ والركوبُ العلوُّ على شيء متحرّكٍ ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بكلمة في ليس لأن المأمورَ به كونُهم في جوفها لا فوقَها كما ظن فإن أظهر الرويات أنه عليه السلام جعل الوحوش ونظائر في البطن الأسفلِ والأنعامَ في الأوسطِ وركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانبِ المحلية والمكانيةِ في الفلك والسرُّ فيه أن معنى الركوبِ العلوُّ على شيء له حركةٌ إما إراديةٌ كالحيوان أو قسرية السفينة والعجَلة ونحوهما فإذا استُعمل في الأول يوفر له حظُّ الأصل فيقال ركبتُ الفرسَ وعليه قولُه عز من قائل والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وإن استُعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال ركبت في السفينة وعليه الآيةُ الكريمة وقولُه عز وجل قائلاً فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك وقوله تعالى فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ متعلقٌ باركبوا حالٌ من فاعله أي اركبوا مسمِّين الله تعالى أو قائلين بسم الله
﴿مجراها ومرساها﴾ نصبٌ على الظرفية أي وقتَ إجرائِها وإرسائِها على أنهما اسما زمانٍ أو مصدران كالإجراء والإرساءِ بحذف الوقت كقولك آتيك حقوق النجمِ أو اسما مكانٍ انتصبا بما في بِسْمِ الله منْ مَعْنى الفعلِ أو إرادةِ القول ويجوز أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مجريها وَمُرْسَاهَا مستقلةً من مبتدأ وخبر في موضع الحالِ من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مُجراةً ومُرساةً باسم الله بمعنى التقدير كقوله تعالى ادخلوها خالدين أو جملةٌ مقتضبةٌ على أن نوحاً أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة والسلام قيل كان عليه السلام إذا أراد أن يُجرِيَها يقول بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيَها يقول بسم الله فترسو ويجوز أن يكون الاسمُ مقْحماً كما في قوله وصية لأزواجهم متاعا إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ويراد بالله إجراؤُها وإرساؤُها أي بقدرته وأمره وقريء مجريها ومرسيها على صيغة الفاعل مجرورَي المحل صفتين لله عز وجل ومَجراها ومَرْساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا
﴿إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ﴾ للذنوب والخطايا
﴿رحيم﴾ لعباده ولذلك نجاكم من هذه الطآمّة والداهية العامّة ولولا ذلك لما فعله وفيه دِلالةٌ على أن نجاتَهم ليست بسبب استحقاقِهم لها بل بمحض فضلِ الله سبحانه وغفرانِه ورحمتِه على ما عليه رأيُ أهل السنة
﴿فِى مَوْجٍ كالجبال﴾
﴿وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ﴾ أي مكان عزَل فيه نفسَه عن أبيه وإخوتِه وقومِه بحيث لم يتناولْه الخطابُ باركبوا واحتاج إلى النداء المذكورِ وقيل في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوحٌ أنه يريد مفارقتَهم ولذلك دعاه إلى السفينة وقيل كان ينافق أباه فظن أنه مؤمنٌ وقيل كان يعلم أنه كافرٌ إلى ذلك الوقتِ لكنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ظن أنه عند مشاهدةِ تلك الأهوالِ ينزجرُ عما كان عليه ويقبل وقيل الإيمان لم يكن الذي تقدمَ من قولُه تعالَى أَلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول نصا في كونه ابنِه داخلاً تحته بل كان كالمُجمل فحملتْه شفقةُ الأبوة على ذلك
﴿يا بَنِى﴾ بفتح الياء اقتصاراً عليه من الألف المُبْدلةِ من ياء الإضافةِ في قولك يا بنيا وقرىء بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة أو سقطت الياءُ والألفُ لالتقاء الساكنين لأن الراءَ بعدهما ساكنة
﴿اركب مَّعَنَا﴾ قرأ أبو عمْرو والكسائيُّ وحفص بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج وإنما أطلق الركوبُ عن ذكر الفُلك لتعينها وللإيذان بضيق المقامِ حيث حال الجريضُ دونَ القريضِ مع إغناء المعيةِ عن ذلك
﴿وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾ أي في المكان وهو وجهُ الأرض خارجَ الفلك لا في الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبه معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كونَه معه في الإيمان لأنه عليه الصلاة والسلام بصدد التحذيرِ عن الهَلَكة فلا يلائمه النهيُ عن الكفر
﴿يَعْصِمُنِى﴾ بارتفاعه من ﴿الماء﴾ زعمنا منه أن ذلك كسائر المياهِ في أزمنة السيولِ المعتادةِ التي ربما يُتّقى منها بالصعود إلى الربا وأنى له ذلك وقد بلغ السيلُ الزبى وجهلاً بأن ذلك إنما كان لإهلال الكفرة وأن لا محيص من ذلك سوى الإلتجاء إلى ملجأ المؤمنين فلذلك أراد عليه الصلاة والسلام إن يبين له حقيقة الحال ويصرفه عن ذلك الفكر المُحالِ وكان مقتضى الظاهر أن يجب بما ينطبقُ عليه كلامُه ويتعرّضَ لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصماً له من الماء بأن
﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ سالك طريقةَ نفي الجنسِ المنتظِم لنفي جميعِ أفرادِ العاصمِ ذاتاً وصفةً كما في قولهم ليس فيه داعٍ ولا مجيبٌ أي أحدٌ من الناس للمبالغة في نفي كونِ الجبلِ عاصماً بالوجهين المذكورَين وزادَ اليومَ للتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائر الأيامِ التي تقع فيها الوقائعُ وتُلِمُّ فيها المُلِماتُ المعتادةُ التي ربما يُتخلّص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسبابِ العادية وعبّر عن الماء في محلّ إضمارِه بأمرِ الله أي عذابِه الذي أشير إليه حيث قيل حتَّى إذا جاء أمرُنا تفخيماً لشأنِه وتهويلاً لأمرِه وتنبيهاً لابنه على خطئه في تسميته ماءً ويوهم أنه كسائر المياهِ التي يُتفصَّى منها بالهرب إلى بعض المهاربِ المعهودةِ وتعليلاً للنفي المذكورِ فإن أمرَ الله لا يغالَب وعذابَه لا يُرَدّ وتمهيداً لحصر العِصمةِ في جناب الله عز جارُه بالاستثناء كأنه قيل لا عاصمَ من أمر الله إلا هو وإنما قيل
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ تفخيماً لشأنه الجليلِ بالإبهام ثم التفسيرِ وبالإجمال ثم التفصيل وإشعاراً بعلّية رحمتِه في ذلك بموجب سبقِها على غضبه وكلُّ ذلك لكمال عنايته عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنِه ببيان شأنِ الداهيةِ وقطعِ أطماعِه الفارغةِ وصرفه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئاً وإرشادِه إلى العياذ بالمَعاذ الحقِّ عزَّ حِماهُ وقيل لا مكانَ يعصِم من أمر الله إلا مكان من رحمه الله وهو الفُلك وقيل معنى لا عاصم لا ذا عصمة إلا من رحمة الله تعالى
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج﴾ أي بين نوحٍ وبين ابنِه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنِه وبين الجبل لقوله تعالى
﴿فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾ إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وبين ابنه لا بينه وبين الجبلِ لأنه بمعزل من كونه عاصماً وإن لم يحُلْ بينه وبين الملتِجىءِ إليه موجٌ وفيه دِلالةٌ على هلاك سائرِ الكفرةِ على أبلغ وجهٍ فكان ذلك أمراً مقرَّرَ الوقوعِ غيرَ مفتقِرٍ إلى البيان وفي إيراد كان دون صار مبالغةٌ في كونه منهم
﴿مَاءكِ﴾ أي ما على وجهك من ماء الطوفانِ دون المياهِ المعهودةِ فيها من العيون والأنهارِ وعبّر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقامَ مقامُ النقص والتقليلِ لا مقام التفخم والتهويل
﴿ويا سماء أَقْلِعِى﴾ أي أمسِكي عن إرسال المطرِ يقال أقلعت السماءُ إذا انقطع مطرُها وأقلعت الحُمّى أي كفّت
﴿وَغِيضَ الماء﴾ أي نقص ما بين السَّماء والأرض من الماء
﴿وَقُضِىَ الامر﴾ أي أُنجز ما وعد الله تعالى نوحاً من إهلاك قومِه وإنجائِه بأهله أو أُتِمَّ الأمر
﴿واستوت﴾ أي استقرّت الفلكُ
﴿عَلَى الجودى﴾ هو جبلٌ بالمَوْصِل أو بالشام أو بآمل روي أنه عليه الصلاةُ والسلام ركب في الفلك في عاشر رجبٍ ونزل عنها في عاشر المحرَّم فصام ذلك اليوم شكراً فصار سُنّةً
﴿وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين﴾ أي هلاكاً لهم والتعرضُ لوصف الظلمِ للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبقَ من قولِه تعالى وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظلموا إنهم
﴿فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى﴾ وقد وعدتني إنجاءَهم في ضمن الأمرِ بحملهم في الفلك أو النداءُ على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال
﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق﴾ أي وعدَك ذلك أو إنّ كل وعد تعده حقٌّ لا يتطرق إليه خُلْفٌ فيدخل فيه الوعدُ المعهُود دخولاً أولياً
﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ لأنك أعلمُهم وأعدلُهم أو أنت أكثرُ حكمةً من ذوي الحِكَم على أن الحاكمَ من الحِكمة كالدارع من الدِرْع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاءِ أيوبَ عليه الصلاة والسلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين
﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي ليس منهم أصلاً لأن مدار الأهليةِ هو القرابةُ الدينية ولا علاقةَ بين المؤمن والكافرِ أو ليس من أهلك الذين أمرتُك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وُعد بإنجائهم ثم علل عدمُ كونِه منهم على طريقة الاستئنافِ التحقيقي بقوله تعالى
﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح﴾ أصله إنه ذو عملٍ غيرِ صالح فجُعل نفسَ العملِ مبالغةً كما في قول الخنساء
فإنما هي إقبالٌ وإدبار وإيثارُ غيرُ صالحٍ على فاسد إما لأن الفاسدَ ربما يطلق على ما فسد ومن شأنُه الصلاحُ فلا يكون نصاً فيما هو من قبيل الفاسدِ المحضِ كالقتل والمظالم وإما للتلويح بأن نجاةَ من نجا إنما هي لصلاحه وقرأ الكسائي ويعقوب إنه عمِلَ غيرَ صالحٍ أي عملاً غيرَ صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنياً على ما ذكر من اعتقاد كونِ كنعانَ من أهله وقد نُفيَ ذلك وحُقّق ببيان عِلّته فُرّع على ذلك النهيُ عن سؤال إنجائِه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عامٍ يندرجُ فيه ذلك اندارجا أولياً فقيل
﴿فَلاَ تَسْأَلْنى﴾ أي إذا وقفتَ على جلية الحالِ فلا تطلُب مني
﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي مطلباً لا تعلم يقيناً أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة على تقدير كونِ ما عبارةً عن المسئول الذي هو مفعولٌ للسؤال أو طلباً لا تعلم أنه صوابٌ على تقدير كونِه عبارةً عن المصدر الذي هو مفعولٌ مطلقٌ فيكون النهيُ وارداً بصريحه في كلَ من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علمٌ بأنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ فيكون النهيُ وارداً في مشتبِهِ الحالِ ويُفهمُ منه حالُ معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عامٌ يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريحٌ في أن نداءَه عليه الصَّلاةُ والسلام ربَّه عز وعلا ليس استفساراً عن سبب عدمِ إنجاءِ ابنِه مع سبق وعدِه بإنجاء أهلِه وهو
﴿إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ فعبّر عن ترك الأولى بذلك وقرىء فلا تسألنِ بغير ياءِ الإضافةِ وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء
﴿مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ﴾ أي مطلوباً لا أعلم أن حصولَه مقتضي الحِكمة أو طلباً لا أعلم أنه صوابٌ سواءٌ كان معلومَ الفسادِ أو مشتبه الحال أولا أعلمُ أنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ على ما مر وهذه توبةٌ منه عليه السلام مما وقع منه وإنما لم يقُلْ أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغةً في التوبة وإظهاراً للرغبة والنشاطِ فيها وتبركاً بذكر ما لقّنه الله تعالى وهو أبلغُ من أنْ يقول أتوبُ إليك أن أسألَك لما فيهِ منَ الدلالةِ على كون ذلك أمراً هائلاً محذوراً لا محيصَ منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرتَه قاصرةٌ عن النجاة من المكاره إلا بذلك
﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى﴾ ما صدرَ عنِّي من السؤال المذكورِ
﴿وَتَرْحَمْنِى﴾ بقَبول توبتي
﴿أَكُن مّنَ الخاسرين﴾ أعمالاً بسبب ذلك فإن الذهولَ عن شكر الله تعالى لا سيما عند وصولِ مثلِ هذه النعمةِ الجليلةِ التي هي النجاةُ وهلاكُ الأعداءِ والاشتغالَ بما لا يعني خصوصاً بمبادي خلاصِ من قيلَ في شأنه إنه عملٌ غيرُ صالحٍ والتضرّعَ إلى الله تعالَى في أمره معاملة غير رابحة وخسران مبينٌ وتأخيرُ ذكرِ هذا النداءِ عن حكاية الأمرِ الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه من زوال الطوفانِ وقضاءِ الأمر واستواءِ الفُلك على الجوديّ والدعاءِ بالهلاك على الظالمين مع أن حقَّه أن يُذكر عَقيبَ قوله تعالى فَكَانَ مِنَ المغرقين حسبما وقع في الخارج إذ حينئذ يُتصوّر الدعاءُ بالإنجاء لا بعد العلمِ بالهلاكِ ليس لما
﴿بِسَلامٍ﴾ ملتبساً بسلامة من المكاره كائنةٍ
﴿مِنَّا﴾ أو بسلام وتحيةٍ منا عليك كما قال سلامٌ على نُوحٍ فِى العالمين
﴿وبركات عَلَيْكَ﴾ أي خيراتٍ ناميةٍ في نسلك وما يقوم به معاشُك ومعاشُهم من أنواع الأرزاق وقرىء بركةٍ وهذا إعلان وبشارةٌ من الله تعالى بقَبول توبتِه وخلاصِه من الخسران بفيضان أنواعِ الخيراتِ عليه في كل
﴿مّمَّن مَّعَكَ﴾ إلى يوم القيامة متشعبة منهم فمن ابتدائيةٌ والمرادُ الأممُ المؤمنةُ المتناسلةُ ممن معه إلى يوم القيامة
﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ﴾ أي ومنهم على أنه خبرٌ حُذف لدلالةِ ما سبق عليه فإن إيرادَ الأممِ المبارَكِ عليهم المتشعبةِ منهم نكرةٌ يدل على أن بعضَ مَنْ يتشعّب منهم ليسوا على صفتهم يعني ليس جميعُ من تشعّب منهم مسلماً ومباركاً عليه بل منهم أممٌ ممتّعون في الدينا معذّبون في الآخرة وعلى هذا لا يكون الكائنون مع نوح عليه السلام مسلماً ومبارَكاً عليهم صريحاً وإنما يفهم ذلك من كونهم مع نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كون ذريّاتِهم كذلك بدلالة النصِّ ويجوز أن تكون من بيانيةً أي وعلى أمم هم الذين معك وإنما سُمّوا أمماً لأنهم أممٌ متحزِّبةٌ وجماعاتٌ متفرِّقةٌ أو لأن جميعَ الأممِ إنما تشعّبت منهم فحينئذ يكون المرادُ بالأمم المشارِ إليهم في قوله تعالى وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ بعضَ الأممِ المتشعبةِ منهم وهي الأممُ الكافرةُ المتناسلةُ منهم إلى يوم القيامة ويبقى أمرُ الأممِ المؤمنةِ الناشئةِ منهم مبهماً غيرَ متعرّضٍ له ولا مدلولٍ عليه مع ذلك ففي دِلالة المذكورِ على خبره المحذوفِ خفاءٌ لأن من المذكورةَ بيانيةٌ والمحذوفةَ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ فتأمل
﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ﴾ إما في الآخرةِ أو في الدنيا أيضاً
﴿مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ عن محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي دخل في ذلك السلامِ كلُّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ إلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذابِ كلُّ كافر وعن ابن زيد هبطوا والله عنهم راضٍ ثم أَخرج منهم نسلاً منهم من رَحِم ومنهم من عذّب وقيل المرادُ بالأمم الممتَّعةِ قومُ هودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم السَّلامُ وبالعذاب ما نزل بهم
﴿مِنْ أَنبَاء الْغَيبِ﴾ أي من جنسها أي ليست من قبيل سائرِ الأنباءِ بل هي نسيجُ وحدِها منفردةٌ عما عداها أو بعضِها
﴿نُوحِيهَا إِلَيكَ﴾ خبرٌ ثانٍ والضمير لها أي مُوحاةٌ إليك أو هو الخبرُ ومن أنباء متعلِّقٌ به فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة أو حال مِنْ أَنبَاء الغيب أي مُوحاةً إليك
﴿ما كنت تعلمها أنت وَلاَ قَوْمُكَ﴾ خبرٌ آخرُ أي مجهولةٌ عندك وعند قومك
﴿من قبل هذا﴾ أي من قبل إيحائِنا إليك وإخبارِك بها أو من قبل هذا العلمِ الذي كسبْتَه بالوحي أو من قبل هذا الوقت أو حالٌ من الهاء في نُوحيها أو الكافِ إليك أي جاهلاً أنت وقومُك بها وفي ذكر جهلِهم تنبيهٌ على أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يتعلمه إذ لم يخالِطْ غيرَهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يعلموه فكيف بواحد منهم ﴿فَاصْبِر﴾ متفرِّعٌ على الإيحاء أو العلمِ المستفادِ منه المدلولِ عليه بقوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومُك من قبل هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمْتَها بذلك فاصبِرْ على مشاقّ تبليغِ الرسالةِ وأذيَّةِ قومِك كما صبر نوحٌ على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولةِ وهذا ناظرٌ إلى ما سبقَ من قولِه تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك الخ
﴿إن العاقبة﴾ بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة
﴿للمتقين﴾ كما شاهدته في نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقومِه ولك فيه أسوةٌ حسنة فهي
﴿أخاهم﴾ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في النسَب كقولهم يا أخا العرب وتقديمُ المجرور على المنصوب ههنا للحذار عن الإضمار قبل الذكر وقيل متعلّقٌ بالفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوفٌ على نوحاً وقد مرَّ في سورةِ الأعراف وقوله تعالى
﴿هودا﴾ عطف بيان لأخاهم وكان ﷺ من جملتهم فإنه هودُ بنُ عبدِ اللَّه بن رباح بن الخلود ابن العوص بن إرمَ بنِ سام بن نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل هودُ بنُ شالح بنِ أرفخشذَ بنِ سامِ بن نوح ابن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله وأرغبُ في اقتفائه
﴿قَالَ﴾ لما كان ذكر إرساله ﷺ إليهم مظنةً للسؤال عما قال لهم ودعاهم إليه أُجيب عنه بطريق الاستئنافِ فقيل قال
﴿يا قوم اعبدوا الله﴾ أي وحدوه كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿مَا لَكُم مّنْ إله غيره﴾ فإنه استئناف يجري مَجرى البيان للعبادة المأمورِ بها والتعليلُ للأمر بها كأنه قيل خُصّوه بالعبادة وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إذ ليس لكم من إله سواه وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبار محلِّه وقرىء بالجر حملاً له على لفظه
﴿إِن أَنْتُم﴾ ما أنتم باتخاذكم الأصنامَ شركاءَ له أو بقولكم إن الله أمرنا بعبادتها
﴿إلاَّ مُفْتَرُون﴾ عليه تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً
﴿أفَلاَ تَعْقِلُون﴾ أي أتغفُلون عن هذه القضيةِ أو ألا تتفكرون فيها فلا تعقِلونها أو أتجهلون كلَّ شيءٍ فلا تعقلون شيئاً أصلاً فإن هذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء
﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ أي توسّلوا إليه بالتوبة وأيضاً التبرُّؤُ من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله تعالى والرغبةِ فيما عنده
﴿يُرْسِلِِ السَّمَاءَ﴾ أي المطرَ
﴿عَلَيكُمْ مِّدْرَاراً﴾ أي كثيرَ الدّرور
﴿ويزدْكُمْ قُوَّةً﴾ مضافةً ومنضمّةً
﴿إِلَى قُوَّتِكُم﴾ أي يضاعفْها لكم وإنما رغّبهم بكثرة المطرِ لأنهم كانوا أصحابَ زروعٍ وعمارات وقيل حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهم ثلاث سنين فوعدهم عليه الصلاة والسلام كثرةَ الأمطارِ وتضاعُفَ القوة بالتناسل على الإيمان والتوبة
﴿وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ﴾ أي لا تُعرضوا عما دعوتُكم إليه
﴿مُجْرِمِينَ﴾ مصِرِّين على ما كنتم عليه من الإجرام
﴿وما نحن بتاركي آلهتنا﴾ أي بتاركي عبادتِها
﴿عَنْ قَوْلِكَ﴾ أي صادرين عنه أي صادراً تركُنا عن ذلك بإسناد حالِ الوصفِ إلى الموصوف ومعناه التعليلُ على أبلغ وجهٍ لِدلالته على كونه علةً فاعليةً ولا يفيده الباءُ واللام وهذا كقولهم المنقولِ عنهم في سورة الأعراف أجئتَنا لنعبُدَ الله وحدَه ونذرَ ما كان يعبُد آباؤُنا
﴿وما نحن لك بمؤمنين﴾ أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وتركِ عبادة الآلهةِ وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوزِ الحدِّ في العتو ما لا يَخْفَى
﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ بجنون لِسبِّك إياها وصدِّك عن عبادتها وحطِّك لها عن رتبة الألوهيةِ والمعبوديةِ بما مر من قولِك مَا لَكُم مّنْ إله غيره إن أنتم إلا مفترون والتنكيرُ في سوءٍ للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبىء عنه نسبةُ ذلك إلى بعض آلهتِهم دون كلِّها والجملةُ مقولُ القولِ وإلا لغوٌ لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ وهذا الكلامُ مقرِّرٌ لما مر من قولهم وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين فإن اعتقادهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدمَ الاعتدادِ بقوله وعدِّه من قبيل الخُرافاتِ فضلاً عن التصديق والعملِ بمقتضاه يعنون إنا لا نعُدّ كلاَمك إلا من قبيلِ ما لا يحتمل الصِّدقَ والكذِبَ من الهذَيانات الصادرةِ عن المجانين فكيف نصدِّقه ونؤمن به ونعمل بموجبه ولقد سلكوا في طريقة المخالفةِ والعناد إلى سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث أَخبَروا أولاً عن عدم مجيئِه بالبينة مع احتمال كونِ ما جاءَ به عليهِ الصلاة والسلام حجةً في نفسه وإن لم تكن واضحةَ الدِلالة على المراد وثانياً عن ترك الامتثال بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك مع إمكان تحققِ ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام في كلامه ثم نفَوا تصديقهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم وما نحن لك بمؤمنين مع كون كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام مما يقبل التصديقَ ثم نفَوْا عنه تلك المرتبةَ أيضاً حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون
{قَالَ إِنِّي أَُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظرون﴾ أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتِكم مما يقدِر على إضرار مَنْ ينال منها ويصُدّ عن عبادتها ولو بطريق ضِمنيَ فإني بريءٌ منها فكونوا أنتم معها جميعاً وباشروا كيدي ثم لا تُمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاءُ لتفريع الأمرِ على زعمهم في قدرة آلهتِهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما وهذا من أعظم المعجزاتِ فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان رجلاً مفْرَداً بين الجمِّ الغفير والجمعِ الكثير من عُتاة عادٍ الغلاظِ الشِّدادِ وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقّرهم وآلهتَهم وهيَّجهم على مباشرة مبادى المضادة والمضارة وحثّهم على التصدِّي لأسباب المُعازّة والمعارّة فلم يقدروا على مباشرة شيءٍ مما كلفوه وظهر عجزُهم عن ذلك ظهوراً بيناً كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيعٍ رفيعٍ واعتصم بحبل متينٍ حيث قال
﴿مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُو آخِذٌ بِناصِيتِهَا﴾ أي إلا هو مالكٌ لها قادرٌ عليها يُصرِّفها كيف يشاء غيرَ مستعْصيةٍ عليه فإن الأخذَ بالناصية تمثيلٌ لذلك
﴿إنَّ ربِّي عَلى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ تعليلٌ لما يدل عليه التوكلُ من عدم قدرتِهم على إضراره أي هو على الحقّ والعدلِ فلا يكاد يسلِّطكم عليّ إذ لا يَضيعُ عنده معتصِمٌ ولا يفتاتُ عليه ظالمٌ والاقتصارُ على إضافة الربِّ إلى نفسه إما بطريق الاكتفاءِ لظهور المرادِ وإما لأن فائدةَ كونِه تعالى مالكاً لهم أيضاً راجعةٌ إليه عليه الصلاة والسلام
﴿فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾ أي لم أعاتَبْ على تفريط في الإبلاغ وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحقَّ فأبيتم إلا التكذيبَ والجحود
﴿وَيَسْتَخْلِف رَبِّي قَوماً غَيرَكُم﴾ استئنافٌ بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف في ديارهم وأموالِهم قوماً آخرين أو عطفٌ على الجواب بالفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه بالجزْم عطفاً على الموضع كأنه قيل فإن تولّوا يعذرني ويهلكهم ويستخلفْ مكانكم آخرين وفي اقتصار إضافةِ الربِّ عليه الصلاة والسلام رمزٌ إلى اللطف به والتدميرِ للمخاطبين
﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ﴾ بتولّيكم
﴿شَيئاً﴾ من الضرر لاستحالة ذلك عليه ومن جزم ويستخلف أسقط منه النون
﴿إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ﴾ أي رقيبٌ مهيمنٌ فلا تخفى عليه أعمالُكم فيجازيكم بحسبها أو حافظٌ مستولٍ على كل شيء فكيف يضُرّه شيءٌ وهو الحافظُ للكل
﴿نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ وكانوا أربعةَ آلافٍ
﴿بِرَحْمَةٍ﴾ عظيمةٍ كائنةٍ لهم
﴿منا﴾ وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهدايةِ إليه
﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أي كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من عذاب غليظ وهي السَّمومُ التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إرْباً إرْباً وقيل أريد بالثانية التنجيةُ من عذاب الآخرةِ ولا عذاب أغلظ منه وأشدُّ وهذه التنجيةُ وإن لم تكن مقيدةً بمجيء الأمرِ لكن جيء بها تكملةً للنعمة عليهم وتعريضاً بأن المهلَكين كما عُذّبوا في الدنيا بالسَّموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ
﴿جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم﴾ كفروا بها بعدما استيقنوها
﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ جمعَ الرسلَ مع أنه لم يرسِلْ إليهم غيرَ هودٍ عليه الصلاة والسلام تفظيعاً لحالهم وإظهاراً لكمال كفرِهم وعنادِهم ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيانٌ لجميع الرسلِ السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتِهم على التوحيد لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رسلِه فيجوز أن يرادَ بالآيات ما أتى به هودٌ وغيرُه من الأنبياءِ عليهم السلام وفيه زيادةُ ملاءمةٍ لما تقدم من جميع الآياتِ وما تأخر من قوله
﴿واتبعوا أمر كل جبار عَنِيدٍ﴾ من كبرائهم ورؤسائِهم الدعاةِ إلى الضلال وإلى تكذيب الرسلِ فكأنه قيل عصَوا كلَّ رسولٍ واتبعوا أمرَ كلِّ جبارٍ وهذا الوصفُ ليس كما سبق من جحود الآياتِ وعصيانِ الرسلِ في الشمول لكل فردٌ منهم فإن الاتباعَ للأمر من أوصاف الأسافلِ دون الرؤساء
﴿وَيومَ الْقِيَامَةِ﴾ أي أُتبعوا يوم القيامة أيضاً لعنةً وهي عذابُ النارِ المخلد حُذفت لدِلالة الأولى عليها وللإيذان بكون كلَ من اللغتين نوعاً برأسه لم تُجمعا في قرن واحد بأن يقال وأتبعوا في هذه الدنيا ويومَ القيامة لعنةً كما في قوله تعالى واكتبْ لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة إيذاناً باختلاف نوعي الحسنتين فإن المرادَ بالحسنة الدنيويةِ نحوُ الصِّحةُ والكَفاف والتوفيقُ للخير وبالحسنة الأخروية الثوابُ والرحمةُ
﴿أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُم﴾ أي بربهم أو نعمةَ ربهم حملاً له على نقيضه الذي هو الشكرُ أو جحدوه
﴿ألاَ بُعْداً لِعَادٍ﴾ دعاءٌ عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أيَّ هلاك تسجيلاً عليهم باستحقاق الهلاكِ واستيجابِ الدمار وتكريرُ حرفِ التنبيهِ وإعادةُ عادٍ للمبالغة في تفظيع حالِهم والحثِّ على الاعتبار بقصتهم
﴿قومِ هُود﴾ عطفُ بيانٍ لعاد فائدتُه التمييزُ عن عادِ الثانية عادِ إرمَ والإيماءُ إلى أن استحقاقَهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه الصلاة والسلام وهم قومُه
﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ أي وحدَه وعلل ذلك بقوله
﴿مَا لَكُم مّنْ إله غيرُهُ﴾ ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيدِ ويحثّهم على زيادة الإخلاصِ فيه بقوله
﴿هُو أنشَأَكُم من الأرض﴾ أين هو كوّنكم وخلقَكم منها لا غيرُه قصرُ قلبٍ أو قصرُ إفرادٍ فإن خلقَ آدمَ عليه الصلاة والسلام منها خلقٌ لجميع أفرادِ البشر منها لما مر مرارا من أن خِلقتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكن مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطويا على خلق جيمع ذرياتِه التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواءً إجمالياً وقيل إن خلقَ آدمَ عليهِ الصَّلاةُ والسلام وإنشاءَ موادِّ النطَفِ التي منها خُلق نسلُه من التراب إنشاءٌ لجميع الخلقِ من الأرض فتدبر
﴿واسْتَعمرَكُم﴾ من العمر أي عمّركم واستبقاكم
﴿فِيهَا﴾ أو من العمارة أي
﴿فاسْتغفِرُوه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيه﴾ فإن ما فُصل من فنون الإحسانِ داعٍ إلى الاستغفار عما وقعَ منهُم من التفريطِ والتوبةِ عما كانوا يباشرونه من القبائح وقد زيد في بيان ما يوجب ذلك فقيل
﴿إنَّ رَبِّي قَرِيب﴾ أي قريبُ الرحمةِ كقوله تعالى إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين
﴿مُّجِيبٌ﴾ لمن دعاه وسأله وقد روعي في النظم الكريمة نكتةٌ حيث قُدّم ذكرُ العلةِ الباعثةِ المتقدمةِ على الأمر بالاستغفار والتوبةِ وأُخّر عنه ذكر الغائبة المتأخرةِ عنهما في الوجود أعني الإجابة
﴿قَبْلَ هَذَا﴾ الذي باشرتَه من الدعوة إلى التوحيد وتركِ عبادة آلهة أو قبل هذا الوقتِ فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوةِ إلى الحق فالآن قد انصرَم عنك رجاؤُنا وقرأ طلحةُ مرجُوءاً بالمد والهمزة
﴿أَتَنْهَانا أَن نَعْبُد مَا يَعبد آبَاؤنا﴾ أي عبَدوه والعدول إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ
﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إليه﴾ من التوحيد وتركِ عبادةِ الأوثانِ وغيرِ ذلك من الاستغفار والتوبة
﴿مُرِيبٍ﴾ أي مُوقعٌ في الريبة مِنْ أرابه أي أوقعه في الريبة أي قلقِ النفسِ وانتفاءِ الطمُأنينة أو من أراب إذا كان ذا رِيبةٍ وأيَّهما كان فالإسنادُ مجازيٌّ والتنوينُ فيه وفي شك للتفخيم
﴿إِن كُنتُ﴾ في الحقيقة
﴿على بَيّنَةٍ﴾ أي حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ وبصيرة
﴿مّن رَّبّى﴾ مالكي ومتولّي أمري
﴿وَآتَانِى مِنْهُ﴾ من جهته
﴿رَحْمَةً﴾ نبوّةً وهذه الأمورُ وإن كانت محقّقة الوقوعِ لكنها صُدّرت بكلمة الشك اعتباراً لحال المخاطبين ورعايةً لحسن المحاوَرةِ لاستنزالهم عن المكابرة
﴿فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله﴾ أي ينجِّيني من عذابه والعدولُ إلى الإظهار لزيادة التهويلِ والفاءُ لترتيب إنكارِ النُّصرةِ على ما سبق من إيتاء النبوةِ وكونِه على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ على تقدير العصيانِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى
﴿إن عَصَيْتُهُ﴾ أي بالمساهلة في تبليغ الرسالةِ والمجاراةِ معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيانَ ممنْ ذلك شأنُه أبعدُ والمؤاخذةَ عليه ألزمُ وإنكارَ نُصرتِه أدخل
﴿فَمَا تَزِيدُونَنِى﴾ إذن باستتباعكم إيايَ كما ينبىء عنه قولهم قد كنت فينا مرجوا قَبْلَ هذا أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصلُ الخُسران حتى يزيدوه
﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ أي غيرَ أن تجعلوني خاسراً بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى أو فما
﴿لَكُم آية﴾ معجزةً دالّةً على صدق نبوّتي وهي حالٌ من ناقةُ الله والعاملُ ما في هذه من معنى الفعلِ ولكم حالٌ من آيةً متقدمةٌ عليها لكونها نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً لها ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلاً من هذه أو عطفَ بيان ولكم خبراً وعاملاً في آية
﴿فَذَرُوهَا﴾ خلّوها وشأنَها
﴿تَأْكُلْ في أرض الله﴾ ترع نباتَها وتشرب ماءَها وإضافةُ الأرضِ إلى الله تعالى لتربية استحقاقِها لذلك وتعليلِ الأمرِ بتركها وشأنَها
﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء﴾ بولغ في النهي عن التعرّض لها بما يضرها حيث نُهيَ عن المس الذي هو من مبادىء الإصابةِ ونُكر السوءِ أي لا تضرِبوها ولا تطرُدوها ولا تقرَبوها بشيء من السوء فضلاً عن عَقرها وقتلِها
﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ أي قريبُ النزول روي أنهم طلبوا منه أن يُخرج من صخرة تسمّى الكاثبة ناقةً عُشَراءَ مخترِجةً جوفاءَ وبَراءً وقالوا إن فعلتَ ذلك صدقناك فأخذ صالحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم مواثيقَهم لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُنّ فقالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء كما وصفوا وهم ينظُرون ثم أنتجت ولداً مثلَها في العِظَم فآمن به جُندُعُ بنُ عمْروٍ في جماعة ومَنَع الباقين من الإيمان دواب ابن عمرو والحُبابُ صاحبُ أوثانهم وربابُ كاهنُهم فمكثت الناقةُ مع ولدها ترعى الشجرَ وتردُ الماءَ غِبًّا فما ترفع رأسَها من البئر حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحّج فيحلُبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت تصيِّف بظهر الوادي فتهرُب منها أنعامُهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك
﴿فقال﴾ لهم صالح
﴿تَمَتَّعُواْ﴾ أي عيشوا
﴿فِى دَارِكُمْ﴾ أي في منازلكم أو في الدنيا
﴿ثلاثةَ أَيَّامٍ﴾ قيلَ قالَ لهم تصبحُ وجوهُكم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ مُسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى ما يدل عليه الأمرُ بالتمتع ثلاثةَ أيامٍ من نزول العذاب عَقيبَها والمرادُ بمَا فيهِ من مَعْنى البُعد تفخيمُه
﴿وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ أي غير مكذوب فيه فحذف الجارُّ للاتساع المشهور كقوله... ويومٍ شهِدناه سليماً وعامراً...
أو غيرُ مكذوب كأن الواعدَ قال له أفي بك فإن وفى به صدّقه وإلا كذّبه أو وعدٌ غيرُ كذِبٍ على أنه مصدرٌ كالمجلود والمعقول
﴿نَجَّيْنَا صالحا والذين آمنوا مَعَهُ﴾ متعلقٌ بنجينا أو بآمنوا
﴿بِرَحْمَةٍ﴾ بسبب رحمةٍ عظيمة
﴿مِنَّا﴾ وهي بالنسبة إلى صالح النبوةُ وإلى المؤمنين الإيمانُ كما مر أو ملتبسين برحمة ورأفةٍ منا
﴿وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ﴾ أي ونجيناهم من خزي يومِئذٍ وهو هلاكُهم بالصيحة كقولِه تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ على معنى أنه كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من خزي يومئذ أي من ذِلته ومهانتِه أو ذلِّهم وفضيحتِهم يومَ القيامة كما فسر به العذابُ الغليظُ فيما سبق فيكون المعنى ونجيناهم مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامةِ بعد تنجيتِنا إياهم من عذاب الدنيا وعن نافع بالفتح على اكتساب المضافِ البناءَ من المضاف إليه هنا وفي المعارج في قوله تعالى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ وقرىء بالتنوين ونصبِ يومئذ
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿هُوَ القوى العزيز﴾ القادرُ على كلِّ شيءٍ والغالبُ عليه لا غيرُه ولكون الإخبارِ بتنجية الأولياءِ لا سيما عند الإنباءِ بحلول العذابِ أهمَّ ذكَرَها أولاً ثم أخبر بهلاك الأعداءِ فقال
﴿الصيحة﴾ أي صيحة جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة ولعلها وقعت عَقيبَ الصيحةِ المستتبِعةِ لتموُّج الهواء
﴿فَأَصْبَحُواْ﴾ أي صاروا
﴿فِى دِيَارِهِمْ﴾ أي بلادهم أو مساكنِهم
﴿جاثمين﴾ هامدين موتى لا يتحركون والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ وحركةٍ كما يكون ذلك عند الموت المعتاد ولا يَخْفى ما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى شدة الأخذِ وسرعتِه اللهم إنا نعوذ بك من حلول غضبِك قيلَ لمَّا رأَوا العلاماتِ التي بيّنها صالحٌ من اصفرار وجوهم واحمرارِها واسودادِها عمَدوا إلى قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ ولمَّا كانَ ضحوةُ اليوم الرابع وهو يوم السبت تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم الصيحةُ فتقطعت قلوبُهم فهلكوا
﴿أَلا إِنَّ ثَمُودَ﴾ وُضع موضعَ الضميرِ لزيادةِ البيانِ ونوّنه أبو بكرٍ هنا وفي النجم وقرأ حفصٌ هنا وفي الفرقان والعنكبوت بغير تنوين
﴿كَفرُواْ رَبَّهُمْ﴾ صرح بكفرهم مع كونه معلوماً مما سبق من أحوالهم تقبيحاً لحالهم وتعليلاً لاستحقاقهم بالدعاء عليهم بالبعد والهلاكِ في قوله تعالى
﴿إِلاَّ بُعْدًا لّثَمُودَ﴾ وقرأ الكسائي بالتنوين
﴿بالبشرى﴾ أي ملتبسين بها قيل هي مطلقُ البشرى المنتظمةِ للبشارة بالولد من سارَةَ لقوله تعالى فبشرناها بإسحاق الآية وقولِه تعالى وبشرناه بغلام حَلِيمٍ وقوله وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ وللبشارة بعدم لحوقِ الضررِ به لقوله تعالى فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وَجَاءتْهُ البشرى لظهور تفرّعِ المجادلةِ على مجيئها كما سيأتي وقيل هي البشارةُ بهلاك قوم لوط ويأباه مجادلته عليه الصلاة والسلام في شأنهم والأظهرُ أنها البشارةُ بالولد وستعرِف سرَّ تفرُّعِ المجادلةِ على ذلك ولما كان الإخبارُ بمجيئهم بالبشرى مظِنةً لسؤال السامِع بأنهم ما قالوا أجيب بأنهم
﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ أي سلّمنا أو نسلّم عليك سلاماً ويجوز أن يكون نصبُه بقالوا أي قالوا قولاً ذا سلامٍ أو ذكروا سلاماً
﴿قَالَ سلام﴾ أيْ عليكُم سلامٌ أو سلامٌ عليكم حياهم بأحسن من تحيتهم وقرىء سَلِم كحَرِم في حرام وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ قال سلاماً وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما
﴿فَمَا لَبِثَ﴾ أي إبراهيم
﴿أَن جَاء بِعِجْلٍ﴾ أي في المجيء به أو ما لبث مجيئَه بعجل
﴿حَنِيذٍ﴾ أي مشويٌّ بالرَّضْف في الأُخدود وقيل سمين يقطُر وَدَكُه لقوله بعجل سمين من حنذت الفرس إذا عرقته بالجِلال
﴿نَكِرَهُمْ﴾ أي أنكرهم يقال نكِرَه وأنكره واستنكره بمعنى وإنما أنكرهم لأنهم كانوا إذا نزلَ بهم ضيفٌ ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير وقد روي أنهم كانوا ينكُتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل إليه أيديهم وهذا الإنكار منه عليه الصلاة والسلام راجعٌ إلى فعلهم المذكور وأما إنكارُه المتعلقُ بأنفسهم فلا تعلقَ له برؤية عدمِ أكلِهم وإنما وقع ذلك عند رؤيتِه لهم لعدم كونِهم من جنس ما كان يعهده من الناس ألا يُرى إلى قوله تعالى في سورة الذاريات سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ﴾ أي أحسّ أو أضمَر من جهتهم
﴿خِيفَةً﴾ لما ظُنّ أن نزولَهم لأمر أنكره الله تعالى عليه أو لتعذيب قومِه وإنما أُخّر
﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ﴾ ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايلَ الخوفِ إزالةً له منه بل بعد إظهاره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له قال تعالى في سورة الحِجر قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ولم يُذكر ذلك ههنا اكتفاءً بذلك
﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا﴾ ظاهرُه أنه استئنافٌ في معنى التعليلِ للنهي المذكورِ كما أن قوله تعالى إِنَّا نُبَشّرُكَ تعليلٌ لذلك فإن إرسالَهم إلى قوم آخرين يوجب أمنَهم من الخوف أي أُرسلنا بالعذاب
﴿إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ خاصةً إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ صريحٌ في أنهم قالوه جواباً عن سؤاله عليه الصلاةُ والسلامُ وقد أُوجز الكلامُ اكتفاء بذلك
سورة هود (٧١ ٧٢)
﴿فَضَحِكَتْ﴾ سروراً بزوال الخوفِ أو بهلاك أهلِ الفساد أو بهما جميعاً وقيل بوقوع الأمرِ حسبما كانت تقولُ فيما سلف فإنها كانت تقولُ لإبراهيمَ اضمُمْ إليك لوطاً فإني أرى أن العذاب نازلا بهؤلاء القوم وقيل ضحكت حاضَتْ ومنه ضحِكت الشجرةُ إذا سال صمغُها وهو بعيد وقرىء بفتح الحاء
﴿فبشرناها بإسحاق﴾ أي عقّبنا سرورَها بسرور أتمَّ منه على ألسنة رسلِنا
﴿وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ﴾ بالنصب على أنه مفعولٌ لما دلَّ عليه قولُه بشرناها أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوبَ وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ خبرُه الظرف أي من بعد إسحق يعقوبُ مولودٌ أو موجودٌ وكلا الاسمين داخلٌ في البشارة كيحي أو واقعٌ في الحكاية بعد أن وُلدا فسمِّيا بذلك وتوجيه البشارة ههنا إليها مع أن الأصلَ في ذلك إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد وُجِّهت إليه حيث قيل وبشرناه بغلام حليم وبشرناه بغلام عَلَيمٍ للإيذان بأن ما بُشّر به يكون منهما ولكونها عقيمةً حريصةً على الولد
﴿يا ويلتى﴾ أصلُ الويلِ الخزيُ ثم شاع في كل أمرٍ فظيع والألفُ مُبْدلةٌ من ياء الإضافةِ كما في يا لهفا ويا عجَبا وقرأ الحسن على الأصل وأمالها أبو عمرو وعاصمٌ في رواية ومعناه يا ويلتي احضُري فهذا أو أن حضورِك وقيل هي ألفُ النُّدبةِ ويوقف عليها بهاء السكت
﴿أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ﴾ بنتُ تسعين أو تسعٍ وتسعين سنةً
﴿وهذا﴾ الذي تشاهدونه
﴿بَعْلِى﴾ أي زوجي وأصلُ البعلِ القائمُ بالأمر
﴿شَيْخًا﴾ وكان ابن مائة وعشرين سنة ونصبُه على الحال والعاملُ معنى الإشارةِ وقُرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ أي هو شيخٌ أو خبر بعد خبر أو هو الخبرُ وبعلي بدلٌ من اسمِ الإشارةِ أو بيانٌ له وكلتا الجملتين وقعت حالاً من الضمير في أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليلِه أي أألد وكلانا على حالة منافيةٍ لذلك وإنما قُدّمت بيانُ
﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي ما ذُكر من حصول الولد من هَرِمَين مثلِنا
﴿لَشَىْء عَجِيبٌ﴾ بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده وهذه الجملة لتعليل الاستبعاد بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى
سورة هود (٧٣ ٧٤)
﴿رَّحْمَةِ الله﴾ التي وسِعتْ كلَّ شيءٍ واستتبعت كلَّ خير وإنما وضع المظهرِ موضعَ المضمر لزيادة تشريفِها
﴿وبركاته﴾ أي خيراتُه الناميةُ المتكاثرةُ في كل بابٍ التي من جملتها هبةُ الأولادِ وقيل الرحمةُ النبوةُ والبركاتُ الأسباطُ من بني إسرائيلَ لأن الأنبياءَ منهم وكلُّهم من ولد إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
﴿عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت﴾ نصبَ على المدحِ أو الاختصاصِ لأنهم أهلُ بيتِ خليلِ الرحمن وصرفُ الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمه لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضاً ليكون جوابُهم لها جواباً له أيضاً إن خطر بباله مثلُ ما خطر ببالها والجملة كلامٌ مستأنَفٌ عُلّل به إنكارُ تعجُّبها كأنه قيل ليس المقام مقام التعجب فإن الله تعالَى على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ولستم يأهل بيتِ النبوةِ والكرامةِ والزلفى كسائر الطوائفِ بل رحمتُه المستتبِعةُ لكل خيرٍ الواسعةُ لكل شيء وبركاتُه أي خيراتُه الناميةُ الفائضةُ منه بواسطة تلك الرحمةِ الواسعةِ لازمةٌ لكم لا تفارقكم
﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ﴾ فاعلٌ ما يستوجب الحمدَ
﴿مَّجِيدٌ﴾ كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده والجملةُ لتعليل ما سبقَ من قولِه رحمة الله وبركاته عليكم
﴿وَجَاءتْهُ البشرى﴾ إن فُسِّرت البُشرى بقولهم لا تخف فسببيّهُ ذهابِ
﴿يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ﴾ أي جادل رسلَنا في شأنهم وعُدل إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار صورتِها أو طفِقَ يجادلنا ظاهرةٌ وأما إن فُسّرت ببشاره الولدِ أو بما يعُمها فلعل سببيّتَها لها من حيث إنها تفيد زيادةَ اطمئنانِ قلب بسلامته وسلامةِ أهلهِ كافةً ومجادلتُه إياهم أنه قال لهم حين قالوا له إنا مهلكوا أهلِ هذه القريةِ أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتُهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرةَ قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجلٌ مسلمٌ أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أعلمُ بِمَن فيها الننجينه وأهلَه إن قيل المتبادرُ من هذا الكلامِ أن يكون إبراهيمُ عليه السلام قد علِم أنهم مرسَلون لإهلاك قومِ لوطٍ قبل ذهابِ الرَّوع عن نفسه ولكن لم يقدِر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسِه فلما ذهب عنه الروعُ فرَغ لها مع أن ذهابَ الروعِ إنما هو قبل العِلم بذلك لقوله تعالى قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ قلنا كان لوطٌ عليه السلام على شريعة إبراهيمَ عليه السلام وقومُه مكلّفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمتِه التي من جملتهم قومُ لوط ولا ريبَ في تقدمِ هذا الخوفِ على قولهم لا تخف وأما الذي علمه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاصُ قومِ لوطٍ بالهلاك لا دخولُهم تحت العموم فتأملْ والله الموفق
سورة هود (٧٥ ٧٧)
﴿أَوَّاهٌ﴾ كثيرُ التأوّه على الذنوب والتأسفِ على الناس
﴿مُّنِيبٌ﴾ راجعٌ إلى الله تعالى والمقصودُ بتعداد صفاتِه الجميلةِ المذكورةِ بيانُ ما حَمله عليه السَّلامُ عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ من المجادلة
﴿أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ الجدالِ
﴿إِنَّهُ﴾ أي الشأنَ
﴿قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ﴾ أي قَدَرُه الجاري على وفق قضائِه الأزليِّ الذي هو عبارة عن الإرادة الأزليةِ والعنايةِ الإلهية المقتضيةِ لنظام الموجوداتِ على ترتيب خاصَ حسب تعلُّقِها بالأشياء في أوقاتها وهو المعبّر عنه بالقدر
﴿وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما
﴿سِىء بِهِمْ﴾ أي ساءه مجيئُهم لظنه أنهم أناسٌ فخاف أن يقصِدهم قومُه ويعجِزَ عن مدافعتهم وقرأ نافعٌ وابن عامر والكسائي وأبو عمر وسيء وسيئت بإشمام السينِ الضمَّ رُوي أنَّ الله تعالَى قال للملائكة لا تُهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربعَ شهادات فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم أما بلغكم أمرُ هذه القريةِ قالوا وما أمرُها قال أشهد إنها لشرُّ قريةٍ في الأرض عملاً يقول ذلك أربعَ مراتٍ فدخلوا معه منزلَه ولم يعلم بذلك أحدٌ فخرجت امرأتُه فأخبرت به قومها وقالت في بيت لوطٍ رجالاً ما رأيتُ مثلَ وجوهِهم
﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ أي ضاق بمكانهم صدرُه أو قلبُه أو وسعُه وطاقتُه وهو كنايةٌ عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروهِ والاحتيال فيه وقيل ضاقت نفسُه عن هذا الحادثِ وذِكرُ الذرعِ مثلٌ وهو المساحة وكأنه قدْرُ البدنِ مجازاً أي إن بدنَه ضاق قدرُه من احتمال ما وقع وقيل الذراعُ اسمٌ للجارحة من المِرْفق إلى الأنامل والذرْعُ مدُّها ومعنى ضيقِ الذرع في قوله تعالى ضاق بِهِمْ ذَرْعًا قصرُها كما أن معنى سعتِها وبسطتها طولُها ووجهُ التمثيلِ بذلك أن القصيرَ الذراعِ إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويلُ الذراعِ تقاصر عنه وعجِز عن تعاطيه فضُرب مثلاً للذي قصُرت طاقتُه دون بلوغِ الأمر
﴿وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ شديدٌ من عصَبه إذا شدّه
سورة هود (٧٨ ٨٠)
﴿قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي يسرعون كأنما يُدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه والجملةُ حالٌ من قومه وكذا قوله تعالى
﴿وَمِن قبل﴾ أي من قبل هذا الوقت
﴿كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات فضَرُوا بها وتمرّنوا فيها حتى لم يبقَ عندهم قبحتها ولذلك لم يستحيُوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعين مجاهرين
﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ فتزوّجُوهن وكانوا يطلُبونهن من قبلُ ولا يُجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتِهم لا لعدم مشروعيتِه فإن تزويجَ المسلماتِ من الكفار كان جائزاً وقد زوج النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم ابنتيه من عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ وأبي العاص بنِ الربيع قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجَهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقايةَ ضيفِه وذلك غايةُ الكرم وقيل ما كان ذلك القولُ منه مُجرًى على الحقيقة من إرادة النكاحِ بل كان ذلك مبالغةً في التواضع لهم وإظهاراً لشدة امتعاضِه مما أوردوا عليه طمعاً في أن يستحيوا منه ويرِقّوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرارِ العلم عنده وعندهم جميعا بأن لا مناكحةَ بينهم وهو الأنسبُ بقولهم لقد علمت ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه
﴿فاتقوا الله﴾ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم
﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى﴾ أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاءَ ضيفِ الرجل وجارِه إخزاءٌ له أو لا تخجلوني من الخَزاية وهي الحياء
﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح
﴿لقد علمت ما لنا في بناتك من حق﴾ مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمت أن لا سبيلَ إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرْضُك إلا عرضٌ سابرِيّ ولا مطمعَ لنا في ذلك
﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ من إتيان الذُكرانِ ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عمَّا هُم عليهِ من الغي
﴿أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ عطفٌ على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعلِ أي لو قوِيتُ على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيزٍ قويّ أتمنّع به عنكم شَبّهه بركن الجبل في الشدة والمنعة وروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم رحِم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد روي أنه عليه السلام أغلق بابَه دون أضيافِه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدارَ فلما رأت الملائكةُ ما على لوط من الكرب
سورة هود (٨١)
﴿يا لوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ﴾ بضرر ولا مكروهٍ فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريلُ عليه السلام ربَّه ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه في عقوبتهم فأذِن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحَه وله جناحان وعليه وشاح من دُرّ منظوم وهو برّاقُ الثنايا فضرب بجناحه وجوهَهم فطمَس أعينَهم وأعماهم كما قال عز وعلى فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فصاروا لا يعرِفون الطريق فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاءَ فإن في بيت لوطٍ قوماً سحَرة
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السُّرى والفاءُ لترتيب الأمر بالإسراءِ على الإخبار برسالتهم المؤذنِة بورود الأمرِ والنهي من جنابِه عزَّ وجلَّ إليه عليه السلام
﴿بِقِطْعٍ من الليل﴾ بطائفة منه
﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ﴾ أي لا يتخلف أولا ينظُرْ إلى ورائه
﴿أَحَدٌ﴾ منك ومن أهلك وإنما نُهوا عن ذلك ليجدّوا في السير فإن من يلتفتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم
﴿إِلاَّ امرأتك﴾ استثناءٌ من قولِهِ تعالى فَأَسْرِ بأهلك ويؤيده أنه قرى فأسرِ بأهلك بِقطْع من الليل إلا امرأتَك وقُرِىءَ بالرفعِ على البدلِ من أحدٌ فالالتفاتُ بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخَلف كيلا يلزمَ التناقضُ بين القراءتين المتواترتين فإن النصبَ يقتضي كونَه عليه السلام غيرَ مأمورٍ بالإسراء بها والرفعَ كونَه مأموراً بذلك والاعتذارُ بأن مقتضى الرفعِ إنما هو مجردُ كونِها معهم وذلك لا يستدعي الأمرَ بالإسراء بها حتى يلزمَ المناقضةَ لجواز أن تسريَ هي بنفسها كما يروي أنَّه عليهِ السلامُ لما أسرى بأله تبِعَتْهم فلما سمعت هدّة العذابِ التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجرٌ فقتلها وأن يسرِيَ بها عليه السلام من غير أمرٍ بذلك إذ موجبُ النصبِ إنما هو عدمُ الأمر بالإسراء بها لا النهيُ عن الإسراء بها حتى يكونَ عليه السلام بالإسراء بها مخالفاً للنهي لا يُجدي نفعاً لأنَّ انصرافَ الاستثناءِ إلى الالتفات يستدعي بقاءَ الأهل على العموم فيكون الإسراءُ بها مأموراً به قطعاً وفي حمل الأهليةِ في إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفي الأخرى على النسَبية مع أن فيه ما لا يَخفْى من التحكم والاعتساف كر على ما فر منه من المناقضة فالأَولى حينئذ جعلُ الاستثناءِ على القراءتين من قوله لا يَلْتَفِتْ مثلَ الَّذي في قولِه تعالى مَّا فَعَلُوهُ إلى قَلِيلٌ مّنْهُمْ فإن ابنَ عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصحَ الرفعُ على البدل ولا بُعد في كون أكثرِ القراءِ
﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ من العذابِ وهو إمطارُ الأحجار وإن لم يصبْها الخسفُ والضميرُ في إنه للشأن وقوله تعالى مُصِيبُهَا خبرٌ وقوله مَا أصابهم مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن الذي اسمُه ضميرُ الشأنِ وفيه ما لا يَخفْى من تفخيم شأنِ ما أصابهم ولا يحسُن جعلُ الاستثناءِ منقطعاً على قراءة الرفع
﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح﴾ أي موعدَ عذابِهم وهلاكهم تعليلٌ للأمر بالإسراء والنهيِ عن الالتفات المُشعرِ بالحث على الإسراع
﴿أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ﴾ تأكيد للتعليل فإن قربَ الصبح داعٍ إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب وروي أنه قال للملائكة متى موعدُ هلاكِهم قالوا الصبحُ قال أريد أسرعَ من ذلك فقالوا ذلك وإنما جُعل ميقاتُ هلاكِهم الصبحَ لأنه وقتُ الدعةِ والراحةِ فيكون حلولُ العذاب حينئذ أفظعَ ولأنه أنسبُ بكون ذلك عبرةً للناظرين
سورة هود (٨٢ ٨٣) ﴿جَعَلْنَا عاليها﴾ أي عاليَ قُرى قومِ لوطٍ وهي التي عُبّر عنها بالمؤتفكات وهي خمسُ مدائنَ فيها أربعُمائةِ ألفِ ألفٍ
﴿سَافِلَهَا﴾ أي قلبناها على تلك الهيئةِ وجُعل عالِيها مفعولاً أولَ للجعل وسافلَها مفعولاً ثانياً له وإن تحقق القلبُ بالعكس أيضاً لتهويل الأمرِ وتفظيعِ الخطبِ لأن جعلَ عالِيها الذي هو مَقارُّهم ومساكنُهم سافلَها أشدُّ عليهم وأشقُّ من جعل سافِلها عاليَها وإن كان مستلزِماً له روي أنه جعلَ جبريلُ عليه السلام جناحَه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهلُ السماء نُباحَ الكلاب وصياحَ الديَكةِ ثم قلبها عليهم وإسنادُ الجعلِ والإمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبّبُ لتفخيم الأمرِ وتهويلِ الخطب
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾ على أهل المدائنِ أو شُذّاذهم
﴿حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ﴾ من طينٍ متحجّر كقوله حِجَارَةً مّن طِينٍ وأصله سنك كل فعُرّب وقيل هو من أسْجله إذا أرسله أو أدرّ عطيتَه والمعنى منْ مثْلِ الشيءِ المرسَل أو مثلَ العطيةِ في الإدرار أو من السِّجِلّ أي مما كتب الله تعالى أن يعذبهم به وقيل أصله من سِجّينٍ أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً
﴿مَّنْضُودٍ﴾ نُضِد في السماء نضْداً معدًّا للعذاب وقيل يُرسَل بعضُه إثرَ بعضٍ كقِطار الأمطار
﴿عِندَ رَبّكَ﴾ في خزائنه التي لا يتصرّف فيها غيرُه عز وجل
﴿وَمَا هِىَ﴾ أي الحجارةُ الموصوفة
﴿مِنَ الظالمين﴾ من كل ظالمٍ
﴿بِبَعِيدٍ﴾ فإنهم بسبب ظلمِهم مستحقون لها وملابَسون بها وفيه وعيدٌ شديد لأهل الظلمِ كافةً وعن رسول الله ﷺ أنه سأل جبريلُ عليه السَّلامُ فقال يعني ظالمي أمتِك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجرٍ يسقط عليه من ساعة إلى سعة وقيل الضميرُ للقُرى أي هي قريبةُ من ظالمي مكةَ يمرّون بها في مسايرهم وأسفراهم إلى الشام وتذكيرُ البعيدِ على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي بشيء بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البُعد من الأرض
هود الآية (٨٤ ٨٥)
﴿أخاهم﴾ أي نسيبَهم
﴿شُعَيْبًا﴾ وهو ابن ميكيلَ بنِ يشجُرَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومَه والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحا أي وأرسلنا إلى مدينَ أخاهم شعيباً
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال كما قال مَنْ قبلَهُ من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ
﴿يَا قوم اعبدوا الله﴾ وحدوه وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
﴿مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ﴾ تحقيقٌ للتوحيد وتعليلٌ للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو مَلاكُ أمر الدينِ وأولُ ما يجب على المكلّفين نهاهم عن ترتيب مبادى ما اعتادوه من البَخْس والتطفيف عادةً مستمرةً فقال
﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوقِ الناس
﴿إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ أي ملتبسين بثروة وسعة تُغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكراً عليها أو أراكم بخير فلا تُزيلوه بما أنتُم عليهِ من الشر وهو على كل حال علةٌ للنهي عُقّبت بعلة أخرى أعني قوله عز وجل
﴿وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ إنْ لم تنتُهوا عن ذلك
﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ لا يشذ منه شاذمنكم وقيل عذابَ يومٍ مُهلك من قوله تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وأصلُه من إحاطة العدوِّ والمرادُ عذابُ يومِ القيامة أو عذابُ الاستئصالِ ووصفُ اليومِ بالإحاطة وهي حالُ العذاب على الإسناد المجازيِّ وفيه من المبالغة ما لا يَخْفى فإنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه ويجوز أن يكون هذا تعليلاً للأمر والنهي جميعا
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس﴾ بسبب نقصِهما وعدم اعتدالِهما
﴿أَشْيَاءهُمْ﴾ التي يشترونها بهما وقد صرّح بالنهي عن البخس بعد ما عُلم ذلك في ضمنِ النَّهي عن نقص المعيار والأمرِ بإيفائه اهتماماً بشأنه وترغيباً في إيفاء الحقوقِ بعد الترهيبِ والزجر عن نقصها ويجوز أن يكون المرادُ بالأمر بإيفاء المكيالِ
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ﴾ فإن العَثَى يعم نقصَ الحقوقِ وغيرَه من أنواع الفسادِ وقيل البخسُ المكسُ كأخذ العشورِ في المعاملات قالَ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى... أفي كل أسواق العراق إتاوة... وفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرهمِ...
والعثى في الأرض السرقةُ وقطعُ الطريق والغارةُ وفائدةُ الحال إخراجُ ما يُقصد به الإصلاحُ كما فعله الخضرُ عليه السلام من خرق السفينةِ وقتلِ الغلام وقيل معناه وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مفسدين أمْرَ آخرتِكم ومصالحَ دينكم
هود الآية (٨٦ ٨٧)
﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ مما تجمعون بالبخس والتطفيفِ فإن ذلك هباء منثورا بل شرٌّ محض وإن زعمتم أن فيه خيراً كقوله تعالى يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ بشرط أن تؤمنوا فإن خيريّتَها باستتباع الثوابِ مع النجاة وذلك مشروطٌ بالإيمان لا محالةَ أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم وقيل البقية الطاعات كقوله عز وجل والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ وقرىء تقيةُ الله بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي
﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالَكم فأجازيَكم وإنما أنا ناصحٌ مبلِّغٌ وقد أعذرتُ إذ أنذرتُ ولم آلُ في ذلك جهداً أو ما أنا بحافظ ومستبْقٍ عليكم نِعمَ الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع
﴿أَوْ أَنْ نفعل فى أموالنا ما نشاء﴾ جواب عن أمر عليه السلام بإيفاء الحقوقِ ونهيِه عن البخس والنقصِ معطوفٌ على ما أي أو أن نتركَ أن نفعل فى أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاءِ والزيادةِ والنقصِ وقرىء بالتاء في الفعلين عطفاً على مفعول تأمُرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء وتجويزُ
﴿إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد﴾ وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم وإنما أرادوا بذلك وصفَه بضدّيهما كقول الخزَنة ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ويجوز أن يكون تعليلاً لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليمُ الرشيد على زعمك وأما وصفُه بهما على الحقيقة فيأباه مقامُ الاستهزاء اللهم إلا أن يراد بالصلاة الدينُ كما قيل
هود (٨٨)
﴿مّن رَّبّى﴾ ومالكِ أموري وإيرادُ حرفِ الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحججِ لاعتبار حال المخاطبين ومراعات حُسنِ المحاورةِ معهم كما ذكرناه في نظائره
﴿وَرَزَقَنِى منه﴾ أي من لدنه
﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾ هو النبوةُ والحِكمةُ أيضاً عبّر عنهما بذلك تنبيهاً على أنهما مع كونهما بينةً رزقٌ حسنٌ كيف لا وذلك مناطُ الحياةِ الأبديةِ له ولأمته وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه فحوى الكلامِ أي أتقولون في شأني ما تقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاءِ والغُواةِ وعددتم ما صدرَ عنِّي من الأوامر والنواهي من قبيلِ ما لا يصِح أن يتفوَّهَ به عاقلٌ وجعلتموه من أحكام الوسوسةِ والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن ما أمرتُكم به من التوحيد وتركِ عبادة الأصنامِ والاجتنابِ عن البخس والتطفيفِ ليس مما يأمر به آمرُ العقلِ ويقضي به قاضي الفطنة وإنما يأمر به صلاتُك التي هي من أحكام الوسوسةِ والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالكِ أمورِي ثابتاً على النبوة والحِكمةِ التي ليس وراءَها غايةٌ للكمال ولا مطمَحٌ لطامح ورزقني بذلك رزقاً حسناً أتقولون في شأني وشأنِ أفعال ما تقولون مما لا خيرَ فيه ولا شرَّ وراءه هذا هو الجوابُ الذي يستدعيه السباقُ والسياقُ ويساعده النظمُ الكريمُ وأما ما قيل من أن المحذوفَ أيصِحّ لي أن لا آمرَكم بترك عبادةِ الأوثانِ والكفِّ عن المعاصي أو هل يسعْ لي مع هذا الإنعام الجامعِ
﴿وَمَا أُرِيدُ﴾ بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف
﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكُم عَنْهُ﴾ أي أقصِدَه بعد ما ولَّيتم عنه وأستبِدَّ به دونكم يقال خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدتُه وهو مولَ عنه وخالفتُه عن كذا إذا كان الأمرُ على العكس
﴿إن أريد﴾ أي ما أُرِيدُ بما أباشره من الأمر والنيه
﴿إِلاَّ الإصلاح﴾ إلا أن أُصلِحَكم بالنصيحة والموعظة
﴿مَا استطعت﴾ أي مقدارَ ما استطعتُه من الإصلاح والتقييدُ به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وُسعه منه
﴿وَمَا تَوْفِيقِى﴾ أي كوني موفقاً لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم
﴿إِلاَّ بالله﴾ أي بتأييده ومعونتِه بل الإصلاحُ من حيث الخلقُ مستندٌ إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرةِ قاله عليه السلام تحقيقاً للحق وإزاحةً لما عسى يوهمه إسنادُ الاستطاعةِ إليه بإرادته من استبداده بذلك
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في ذلك مُعرِضاً عما عداه فإنه القادرُ على كل مقدورٍ وما عداه عاجزٌ محْضٌ في حد ذاتِه بل معدومٌ ساقطٌ عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمدادِ به والاستظهار
﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي أرجِعُ فيما أنا بصدده ويجوز أن يكون المرادُ وما كوني موفقاً لإصابة الحقِّ والصوابِ في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونتِه عليه توكلتُ وهو إشارةٌ إلى محض التوحيدِ الذاتي والفعليِّ وإليه أنيب أي عليه أقبل بشراشِر نفسي في مجامع أموري وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ على الماضي الأنسبِ للتقرر والتحقّقِ كما في التوكل لاستحضارِ الصورةِ والدلالةِ على الاستمرار ولا يَخْفَى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطفِ المراجعةِ ورِفق الاستنزالِ والمحافظةِ على قواعد حسنِ المجاراة والمحاورَة وتمهيدِ معاقدِ الحقِّ بطلب التوفيقِ من جناب الله تعالى والإستعانة به في أموره وحسمِ أطماعِ الكفار وإظهار الفراغِ عنهم وعدمِ المبالاة بمعاداتهم وأما تهديدُهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابةَ إنما هي الرجوعُ الاختياريُّ بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوعُ الاضطراريُّ للجزاء أو ما يعمه
هود (٨٩)
﴿شِقَاقِى﴾ معاداتي وأصلُهما أن أحد المتعادِيَين يكونُ في عُدوةٍ وشقَ والآخرُ في آخرَ
﴿أَن يُصِيبَكُمُ﴾ مفعولٌ ثانٍ ليجرمنكم أي لا يكسبنكم معاداتُكم لي أنْ يُصيبكم
﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾ من الريح
﴿أَوْ قَوْمَ صالح﴾ من الصيحة والرجفةِ وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمتُه ذنباً إذا جعلته جارِماً له أي كاسباً وهو منقول من جرم المعتدي إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المالَ من كسب المالَ فكما لا فرق بين كسبته مالاً وأكسبته إياه لا فرق بين درمته ذنباً وأجرمتُه إياه في المعنى إلا أن الأولَ أصحُ وأدور على ألسنة الفصحاءِ وقرأ أبو حيوة مثلَ ما أصاب بالفتح لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقوله... لم يمنع الشربَ منها غير أن نطَقت... حمامةٌ في غصون ذاتُ...
أو قال وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للشقاق عن كسب إصابةِ العذابِ لكنه في الحقيقة نهيٌ للكفرة عن مشاقّته عليه السلام على ألطف أسلوبٍ وأبدعِه كما مر في سورة المائدة عند قولِهِ تعالَى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الآية
﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ زماناً أو مكاناً فإن لم تعتبروا بمن قبلَهم من الأمم المعدودةِ فاعتبروا بهم فكأنه إنما غير أسلوبَ التحذيرِ بهم ولم يصرِّح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربِهم إيذاناً بأن ذلك مغنٍ عن ذكره لشهرة كونِه منظوماً في سِمْطِ ما ذُكر من دواهي الأممِ المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعُد أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم وإفرادُ البعيدِ مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكُهم على نية المضافِ أو وما هم بشيء بعيد لأن المقصودَ إفادةُ عدم بعدِهم على الإطلاق لا من حيث خصوصيةُ كونِهم قوما أوما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ولا يبعُد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق ولما أنذرهم عليه السلام بسوء عاقبة صنيعِهم عقّبه طمعاً في ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال
هود (٩٠ ٩١)
﴿إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ﴾ عظيمُ الرحمة للتائبين
﴿وَدُودٌ﴾ مبالِغٌ في فعل ما يفعل البليغُ المودةَ بمن يودّه من اللطف والإحسانِ وهذا تعليلٌ للأمر بالاستغفار والتوبةِ وحثٌّ عليهما
﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا﴾ فيما بيننا
﴿ضَعِيفاً﴾ لا قوة لك ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفعِ والإيقاعِ والدفع
﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ﴾ لولا مراعاةُ جانبِهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا
﴿لرجمناك﴾ فإن ممانعةَ الرهطِ وهو اسمٌ للثلاثة إلى
﴿وما أنت علينا بعزيز﴾ مُكْرمٌ محْترمٌ حتى نمتنع من رجمك وإنما نكفُ عنه للمحافظة على حرمة رهطِك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا وإيلاءُ الضميرِ حرفَ النفي وإن لم يكن الخبرُ فعلياً غيرَ خالٍ عن الدِلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعلِ لا سيما مع قرينة قولِه ولولا رهطُك كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطُك هم الأعزةُ علينا وحيث كان غرضُهم من عظيمتهم هذه عائداً إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزةِ الربّانيّتين حسبما يوجبه كونُه على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ مؤيَّداً من عنده ويقتضيه قضيةُ طلبِ التوفيقِ منه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه وإلى إسقاط ذلك كلِّه عن درجة الاعتدادِ به والاعتبار
هود (٩٢ ٩٣) ﴿يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله﴾ فإن الاستهانةَ بمن لا يَتعزّز إلا به عز وجل استهانةٌ بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزِّيّةَ رهطِه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلقُ عزةِ رهطِه لا أعزبتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزةِ لتثنية التقريعِ وتكريرِ التوبيخِ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهطِ على جنبة الله تعالى وثانيا بنفي العزة بالمرة والمعنى أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله فإنه مما لا يكاد يصح والحال إنكم لم تجعلوا له تعالى حظاً من العزة أصلاً
﴿واتخذتموه﴾ بسبب عدم اعتدادِكم بمن لا يرِدُ ولا يصدُر إلا بأمره
﴿وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ أي شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً لا يبالى به منسوبٌ إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كالإِمسيّ في النسبة إلى الأمس
﴿إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ منَ الأعمالِ السَّيئةِ التي من جُملتها عدمُ مراعاتِكم لجانبه
﴿مُحِيطٌ﴾ لا يخفى عليه منها خافيةٌ وإن جعلتموه منسياً فيجازيكم عليها ويحتمل أن يكون الإنكارُ للرد والتكذيب فإنهم لما ادَّعَوا أنهم لا يكفّون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزّتِه بل لمراعاة جانب رهطِه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدَّرتم الله حقَّ قدرِه العزيزِ ولم تراعوا جنابَه القويَّ فكيف تراعون جانبَ رهطي الأذلة
﴿على مَكَانَتِكُمْ﴾ أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام رداً لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتمُ عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة والمعنى اثبُتوا على ما أنتُم عليهِ من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خير
﴿إِنّى عامل﴾ على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق
﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ لما هدّدهم عليه السلام بقوله اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ فماذا يكون بعد ذلك فقيل سوف تَعْلَمُونَ
﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السَّلامُ به من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه
﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه لرعاية جانبِ الرهطِ والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذب الكاذب ليس بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمر ومن إما استفهاميةٌ معلِّقةٌ للعلم عن العمل كأنه قيل سوف تعلمون أيُّنا يأتيه عذابٌ يُخزيه وأيُّنا كاذبٌ وإما موصولةٌ أي سوف تعرِفون الذي يأتيه عذابٌ والذي هو كاذب
﴿وارتقبوا﴾ وانتظروا مآلَ ما أقول
﴿إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ منتظرٌ فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهارٌ منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره
هود (٩٤ ٩٥)
﴿نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا﴾ وهي الإيمانُ الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنةٍ منّا لهم وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لِما أنه لم يسبِقْه فيها ذكرُ وعدٍ يجري مجرى السببِ المقتضي لدخول الفاءِ في معلوله كما في قصتي صالحٍ ولوط فإنه قد سبق هنالك سابقةُ الوعد بقوله ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح
﴿وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ﴾ عدل إليه عن الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمِهم الذي فُصّل فيما سبق فنونُه
﴿الصيحة﴾ قيل صاح بهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا وفي سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة وفي سورة العنكبوت فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة أي الزَّلزلةُ ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل
﴿فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين﴾ ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منهَا ولمّا لم يُجعل متعلَّقُ العلمِ في قوله تعالى سَوْفَ تَعْلَمُونَ من يأته عَذَابٌ الخ نفسَ مجيءِ العذابِ بل من يجيئه ذلك جُعل مجيئُه بعد ذلك أمراً مسلَّمَ الوقوعِ غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطاً وجُعل تنجيةُ شعيبٍ عليه السلام وإهلاكُ الكفرة جواباً له ومقصودَ الإفادة وإنما قدّم تنجيتُه اهتماماً بشأنها وإيذاناً بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الربوبيةِ على الغضب الذي يظهر أثرُه بموجب جرائرِهم وجرائمهم
﴿أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ العدولُ عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدلَّ على طغيانهم الذي أدّاهم إلى هذه المرتبةِ وليكون أنسبَ بمن شُبّه هلاكُهم بهلاكهم أعني ثمود وإنما شُبّه هلاكُهم بهلاكهم لأنهما أُهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة غير أن هؤلاءِ صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرىء بعُدت بالضم على الأصل فإن الكسرَ تغييرٌ لتخصيص معنى البُعد بما يكون سببَ الهلاك والبعدُ مصدرٌ لهما والبُعدُ مصدرٌ للمكسور
هود (٩٦ ٩٧)
﴿وسلطان مُّبِينٍ﴾ هو المعجزاتُ الباهرةُ منها أو هو العصا والإفرادُ بالذكر لإظهار شرفِها لكونها أبهرَها أو المرادُ بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد أي أرسلناه بالجامع بين كونِه آياتِنا وبين كونِه سلطاناً له على نبوّته واضحاً في نفسه أو موضّحاً إياها من أبان لازماً ومتعدّياً أو هو الغلبةُ والاستيلاءُ كقوله تعالى وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا ويجوز أن يكون المرادُ ما بينَهُ عليه السَّلامُ في تضاعيف دعوتِه حين قال له فرعونُ مِنْ رَبّكُمَا فَمَا بَالُ القرون الاولى من الحقائق الرائقةِ والدقائقِ اللائقةِ وجعلُه عبارة عن التوراة أو إدراجها في جملة الآيات يردّه قوله عز وجل
﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ أي أمرَه بالكفر بما جاءَ به موسَى عليهِ السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حالِه فكأن كفرَه وأمْرَ ملئِه بذلك أمرٌ محققُ الوجودِ غيرُ محتاجٍ إلى الذكر صريحاً وإنما المحتاجُ إلى ذلك شأن ملئِه المترددين بين هادٍ إلى الحق وداعٍ إلى الضلال فنعى عليهم سوءَ اختيارِهم وإيرادُ الفاء في اتّباعهم المترتبِ على أمر فرعونَ المبنيِّ على كفره المسبوقِ بتبليغ الرسالةِ للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعةِ فرعونَ إلى الكفر وأمرِهم به فكأن ذلك كلّه لم يتراخَ عن الإرسال والتبليغِ بل وقع جميعُ ذلك في وقت واحد فوقع إثرَ ذلك اتباعُهم ويجوز أن يرادَ بأمر فرعونَ شأنُه المشهورُ وطريقتُه الزائغةُ فيكون معنى فاتبعوا فاستمرّوا على الاتّباع والفاءُ
﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ الرُّشدُ ضدُّ الغِيّ وقد يراد به محموديّةُ العاقبةِ فهو على الأول بمعنى المرشد أو ذي الرشد حقيقةٌ لغويةٌ والإسنادُ مجازيٌّ وعلى الثاني مجازٌ والإسناد حقيقي
هود (٩٨ ١٠٠)
﴿يَوْمُ القيامة﴾ أي يتقدّمهم من قدَمه بمعنى تقدّمه وهو استئنافٌ لبيان حالِه في الآخرة أي كما كان قدوةً لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو لتوضيح عدمِ صلاحِ مآلِ أمرِه وسوءِ عاقبتِه
﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ أي يوردهم وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق الوقوعِ لا محالة شُبّه فرعونُ بالفارط الذي يتقدم الواردةَ إلى الماء وأتباعُه بالواردة والنارُ بالماء الذي يرِدُونه ثم قيل
﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾ أي بئس الوردُ الذي يرِدونه النارُ لأن الورد إنما يراد لتسكين العطشِ وتبريدِ الأكباد والنارُ على ضد ذلك
﴿فِى هذه﴾ أي في الدنيا
﴿لَّعْنَةُ﴾ عظيمةً حيث يلعنهم مَنْ بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة
﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ أيضاً حيث يلعنهم أهلُ الموقفِ قاطبةً فهي تابعة لهم حينما ساروا دائرةٌ معهم أينما داروا في الموقف فكما اتّبعوا فرعونَ اتّبعتْهم اللعنةُ في الدارين جزاء وفاقاً واكتُفي ببيان حالِهم الفظيعِ وشأنِهم الشنيعِ عن بيان حالِ فرعونَ إذ حين كان حالُهم هكذا فمَا ظنُّكَ بحالِ من أغوارهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأنُ الأتباع أن يكونوا أعواناً للمتبوع جُعلت اللعنةُ رِفداً لهم على طريقة التهكّم فقيل
﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾ أي بئس العونُ المُعانُ وقد فُسر الرفدُ بالعطاء ولا يلائمه المقام وأصلُه ما يضاف إلى غيره ليُعمِّده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي رفدُهم وهي اللعنةُ في الدارين وكونُه مرفوداً من حيث أن كلَّ لعنة منها مُعِيْنةٌ ومُمِدّةٌ لصاحبتها ومؤيدةٌ لها
﴿من أَنْبَاء القرى﴾ المهلَكة بما جنتْه أيدي أهلِها
﴿نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ خبرٌ بعد خبرٍ أي ذلك النبأُ بعضُ أنباءِ القرى مقصوصٌ عليك
﴿مِنْهَا﴾ أي من تلك القرى
﴿قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ أي ومنها حصيد حُذف لدلالة الأولِ عليه شُبّه ما بقيَ منها بالزرع القائمِ على ساقه وما عفا وبطَل بالحصيد والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب
﴿ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بأن جعلوها عُرضةً للهلاك باقتراف ما يوجبه
﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ﴾ فما نفعتهم ولا دفعتْ بأسَ الله تعالى عنهم
﴿آلهتهم التي يدعون﴾ أي يعبدونها
﴿من دُونِ الله﴾ أُوثر صيغةُ المضارعِ حكايةٌ للحال الماضيةِ أو دِلالةً على استمرار عبادتِهم لها
﴿مِن شَىْء﴾ في موضع المصدر أي شيئا من الإغناء
﴿لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ﴾ أي حين مجيءِ عذابِه وهو منصوبٌ بأغنت وقرىء آلهتُهم اللاتي ويُدْعَون على البناء للمجهول
﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسِروا بسبب عبادتِهم لها
﴿أَخْذُ رَبّكَ﴾ وقرىء أخذَ ربُّك فمحلُّ الكاف النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكد
﴿إِذَا أَخَذَ القرى﴾ أي أهلَها وإنما أُسند إليها للإشعار بَسَريان أثرِه إليها حسبما ذُكر وقرىء إذْ أخذ
﴿وَهِىَ ظالمة﴾ حالٌ من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مُقامَهم في الأخذ أُجريت الحالُ عليها وفائدتُها الإشعارُ بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرةً لكل ظالم
﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يَخفْى من التهديد والتحذير
﴿لآيَةً﴾ لعبرةً
﴿لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة﴾ فإنه المعتبرُ به حيث يُستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسببِ ما عمِلوا من السيئات على أحوال عذابِ الآخرة وأما من أنكر الآخرةَ وأحال فناءَ العالم وزعم أن ليس هو ولا شيءٌ من أحواله مستنداً إلى الفاعل المختارِ وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكيةٍ تتفق في بعض الأوقاتِ لا لما ذُكر من المعاصي التي يقترفها الأممُ الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبارِ تباً لهم ولما لهم من الأفكار
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى يوم القيامةِ المدلول عليه بذكر الآخرة
﴿يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾ أي يجمع لَّهُ الناس للمحاسبة والجزاءِ والتغييرُ للدلالة على ثبات معنى الجمعِ وتحقق وقوعِه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قولِه تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع
﴿وَذَلِكَ﴾ أي يومُ القيامة مع ملاحظة عنوانِ جمعِ الناس له
﴿يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهلُ السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظفر مُجرى المفعولِ به كما في قوله... في محفل من نواصي الناس مشهود...
أي كثيرٌ شاهدوه ولو جُعل نفسُ اليوم مشهوداً لفات ما هو الغرضُ من تعظيم اليومِ وتهويلِه وتمييزِه عن غيره فإن سائرَ الأيام أيضاً كذلك
﴿إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ إلا لانقضاء مدةٍ قليلةٍ مضروبةٍ حسبما تقتضيه الحكمة
هود (١٠٥ ١٠٧)
﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليوم وقوله عز وجل هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ونظائرِه
﴿فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ﴾ وجبت له النارُ بموجب الوعيد
﴿وَسَعِيدٌ﴾ أي ومنهم سعيدٌ حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنة بمتضى الوعد والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو للناس وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقام مقام التحذير والإنذار
﴿فَفِى النار﴾ أي مستقرّون فيها
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ رده واستعمالهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش... بعيدُ مدى التطريب أولُ صوتِه... زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ...
والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرىء شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال ما شأنُهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضميرِ في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه
﴿ما دامت السماوات والأرض﴾ أي مدة دوامهما وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأييد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب ما دام تعار وما أقام ثَبيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات وقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ
﴿إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ﴾ استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى وقوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آباؤكم مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وقولِه تعالى حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوهَّمُ من كون استحالةِ تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال
﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ﴾ يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ وقيل هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطل قدار العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها فِى هذه الحياةِ الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما رواء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم ولذلك لم يتعرّض لبيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل وهذه العقوباتُ وإن كان تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيلَ ما بمعنَى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين
سورة هود (١٠٨)
﴿إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ﴾ إنْ حمل على طريقة التعليقِ بالمُحال فقوله سبحانه
﴿عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى فَفِى الجنة خالدين فِيهَا يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنه قيل يعطيهم عطاءً وهو إما اسمُ مصدرٍ هو الإعطاءُ أو مصدرٌ بحذف الزوائدِ كقوله تعالى أنبتكم
﴿مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء﴾ أي من جهة عبادةِ هؤلاء المشركين وسوءِ عاقبتها أو من حال ما يعبُدونه من الأوثان في عدم نفعِه لهم ولمّا كان مَساقُ النظمِ الكريم قبيل الشروعِ في القصص لبيان غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ وكمالِ حسنِ حال المؤمنين وقد ضُرب لهم مثلُ فقيل مَثَلُ الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وقد قُص عَقيبَ ذلك من أنباء الأممِ السالفة مع رسلهم المبعوثةِ إليهم ما يتذكر به المتذكِّرُ نُهي رسولُ الله ﷺ عن كونه في شك من مصير أمرِ هؤلاءِ المشركين في العاجل والآجلِ ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل
﴿مَا يَعْبُدُونَ إلا كما يعبد آباؤهم﴾ الذين قُصّت عليك قصصُهم
﴿مِن قَبْلُ﴾ أي هم وآباؤُهم سواءٌ في الشرك ما يعبدون عبادةً إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثلَ ما عبدوه من الأوثان والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها أو مثلَ ما كانوا يعبدونه فحُذف كان لِدلالة قولهِ من قبل عليه ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثلُ ذلك فإن تماثلَ الأسبابِ يقتضي تماثل المسبَّبات
﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ﴾ أي هؤلاء الكفرة
﴿نَصِيبَهُمْ﴾ أي حظَّهم المعيَّنَ لهم حسن جرائمِهم وجرائرِهم من العذاب عاجلاً وآجلاً كما وفّينا آباءَهم أنصباءَهم المقدّرة لهم أو من الرزق المقسومِ لهم فيكون بياناً لوجه تأخُّرِ العذاب عنهم مع تحقُّق ما يُوجبه
﴿غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾ حالٌ مؤكدة من النصيب كقوله تعالى ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ وفائدتُه دفعُ توهّم التجوّزِ وجعلُها مقيدةً له لدفع احتمالِ كونِه منقوصاً في حد نفسه مبنيٌّ على الذهول عن كون العاملِ هو التوفيةَ فتأمل
﴿فاختلف فِيهِ﴾ أي في شأنه وكونِه من عند الله تعالى فآمن به قومٌ وكفر به آخرون فلا تبالِ باختلاف قومِك فيما آتيناك من القرآن وقولِهم لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ وزعمِهم أنك افتريتَه
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ﴾
﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي لأوقع القضاءَ بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطِلون ليتميّزوا به عن المُحِقّين وقيل بين قوم موسى وليس بذاك
﴿وَإِنَّهُمْ﴾ أي وإن كفارَ قومِك أريد به بعضُ من رجع إليهم ضميرُ بينهم للأمن من الإلباس
﴿مِنْهُ﴾ أي من القرآن وإن لم يجْرِ له ذكر فإن ذكرَ إيتاءِ كتابِ موسى ووقوعِ الاختلافِ فيه لا سيما بصدد التسليةِ ينادي به نداءً غيرَ خفي
﴿مُرِيبٍ﴾ مُوقِع في الريبة
﴿وَإِنَّ كُلاًّ﴾ التنوينُ عوضٌ عن المضافِ إليهِ أي وإن كلَّ المختلِفين فيه المؤمنين منهم والكافرين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتباراً للأصل
﴿لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي أجزيةَ أعمالِهم واللامُ الأولى موطئةٌ للقسمِ والثانيةُ جوابٌ للقسم المحذوف ولما مركبةٌ مِنْ الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمِن فقلبت النون مميا للإدغام فاجتمع ثلاث ميماتٍ فحُذفت أولاهن والمعنى لَمِن الذي أو لمِنْ خلْقٍ أو لمن فريقٍ والله ليوفينهم ربك وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أن ما مزيدةٌ للفصل بين اللامين والمعنى وإن جميعَهم والله ليوفينهم الآية وقرىء لمًّا بالتنوين أي جميعاً كقوله سبحانه أَكْلاً لَّمّاً وقرأ أبي وإنْ كلٌّ لمّا ليوفينهم على أن أن نافيةٌ ولَمَّا بمَعْنى إلاَّ وقد قرىء به
﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي بما يعمله كلُّ فردٍ من المختلفين من الخير والشر
﴿خَبِيرٌ﴾ بحيثُ لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه وهو تعليلٌ لما سبق من توفية أجزيةِ أعمالِهم فإن الإحاطةَ بتفاصيل أعمالِ الفريقين وما يستوجبه كلُّ عمل بمقتضى الحكمةِ من الجزاء المخصوصِ توجب توفيةَ كلَّ ذِي حقٍ حقَّه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر
﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ أي تاب من الشرك والكفرِ وشاركك في الإيمان وهو المعنيُّ بالمعية وهو معطوفٌ على
﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾ ولا تنحرفوا عما حُدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرف قصدِ الأمور ذميمٌ وإنما سُمّي ذلك طغياناً وهو تجاوزُ الحدِّ تغليظاً أو تغليباً لحال سائرِ المؤمنين على حاله عليه السلام
﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكُم على ذلك وهو تعليلٌ للأمر والنهي وفي الآيةِ دِلالةٌ على وجوب اتباعِ المنصوص عليه من غير انحرافٍ بمجرد الرأي فإنه طغيانٌ وضلالٌ وأما العملُ بمقتضى الاجتهادِ التابعِ لعلل النصوصِ فذلك من باب الاستقامةِ كما أمر على موجب النصوصِ الآمرةِ بالاجتهاد
﴿إِلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ أي إلى الذين وُجد منهم الظلمُ في الجملة ومدارُ النهي هوالظلم والجمعُ باعتبار جمعيةِ المخاطَبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعةً مظِنةُ الرخصةِ في مداهنتهم إنما يتم أن لو كان المرادُ النهيَ عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعةٌ وليس كذلك
﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ بسبب ذلك
﴿النار﴾ وإذا كان حالُ الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مِساس النارِ هكذا فما ظنك بمن يمل إلى الراسخين في الظلم والعُدوان ميلاً عظيماً ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتِهم ويُلقي شراشِرَه على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيّي بزِيّهم ويمُدّ عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبِطُهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعُف الطالبُ والمطلوب والآيةُ أبلغُ ما يتصور في النهْي عن الظلم والتهديدِ عليه وخطابُ رسول الله ﷺ وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدلُ فإن الميلَ إلى أحد طرفي الإفراطِ والتفريطِ ظلمٌ على نفسه أو على غيره وقرىء تركنوا على لغة تميم وتُركَنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه
﴿وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء﴾ أي من أنصار يُنقِذونكم من النار والجملة نصب على الحالية من قوله فتمسكم النار ونفيُ الأولياءِ ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحدٍ منهم أولياءُ حتى يصدُقَ أن يكون له وليٌّ بل لمكان لكم بطريق انقسامِ الآحادِ على الآحاد لكنْ لا على مَعْنى نفي استقلالِ كلَ منهم بنصير بل على معنى نفيِ أن يكون لواحد منهم نصيرٌ بقرينة المقام
﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبَكم بركونكم إليهم ولا يُبقيَ عليكم وثم لتراخي رتبةِ كونِهم غيرَ منصورين من جهة الله بعد ما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاءِ بمعنى الاستبعادِ فإنه لما بيّن أن الله تعالى معذبُهم وأن غيرَه لا ينقذهم أنتج أنهم لا يُنصرون أصلاً
﴿وَزُلَفاً مِّنَ الليل﴾ أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار فإنه مِنْ أزلفه إذا قرّبه جمع زُلفة عطفٌ على طرفي النهار والمرادُ بصلاتهما صلاةُ
﴿إِنَّ الحسنات﴾ التي من جملتها بل عُمدتُها ما أُمرت به من الصلوات
﴿يُذْهِبْنَ السيئات﴾ التي قلما يخلو منها البشر أي يكفرنها وفي الحديث إن الصلاة إلى الصلاة كفارةٌ لما بينهما ما اجتنب الكبائر وقيل نزلتْ في أبي اليَسَر الأنصاريِّ إذ قبّل امرأةً ثم ندِم فأتى رسول الله ﷺ فأخبره بما فعل فقال ﷺ أنتظرُ أمرَ ربي فلما صلى صلاةَ العصر نزلت قال ﷺ نعم اذهب فإنها كفارةٌ لما عمِلْت أو يمنعْن من اقترافها كقوله تعالى إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عن الفحشاء والمنكر
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى قوله تعالى فاستقم فما بعده وقيل إلى القرآن
﴿ذكرى للذاكرين﴾ أي عظةٌ للمتعظين
﴿فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي يوفيهم أجورَ أعمالهم من غير بخسٍ أصلاً وإنما عبِّر عن ذلك بنفي الإضاعةِ مع أن عدمَ إعطاءِ الأجرِ ليس بإضاعةٍ حقيقةً كيف لا والأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها ضياعُها لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يمتنع صدورُه عنْهُ سبحانَهُ منَ القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدةٍ عامةٍ لكل من يتصف به وهو تعليلٌ للأمر بالصبر وفيه إيماءٌ إلى أن الصبرَ على ما ذكر من باب الإحسان
﴿مّنَ القرون﴾ الكائنةِ
﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلتِه أو كائنةً من قبلكم
﴿أولوا بَقِيَّةٍ﴾ من الرأي والعقلِ أو أولوا فضلٍ وخير وسُمّيا بها لأن الرجلَ إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجودَه وأفضلَه فصار مثلاً في الجودة والفضلِ ويقال فلان من بقيةِ القومِ أي من خيارِهم ومنه ما قيل في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقيةُ بمعنى البقوى كالتقية من التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط الله تعالى وعقابه ويؤيده أنه قرىء أولو بقْيةٍ وهي المرّةُ من مصدر بقاه يَبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبةِ وخشيةٍ من عذابِ الله تعالى كأنهم ينتظرون نزولَه لإشفاقهم
﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض﴾ الواقعِ منهم حسب ما حكى عنه
﴿إلا قليلا ممن أنجينا مِنْهُمْ﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفةِ على أن من للبيان لا للتبعيض لأن جميعَ الناجين ناهون ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلامِ
﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ بمباشرة الفسادِ وتركِ النهي عنه
﴿مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ﴾ أي أُنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها أما المباشرون فظاهرٌ وأما المساهلون فلِما لهم في ذلك من نيل حظوظِهم الفاسدة وقيل المرادُ بهم تاركو النهي وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه عدمُ دخولِ مباشري الفسادِ في الظلم والإجرام عبارةً
﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ أي كافرين فهو بيانٌ لسبب استئصالِ الأمم المُهلَكة وهو فشوُّ الظلمِ واتباعُ الهوى فيهم وشيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وقوله واتّبع عطفٌ على مضمر دل عليه الكلامُ أي لم ينهَوا واتبع الخ فيكون العدولُ إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيلِ عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب أو على استئنافٍ يترتب على قوله إِلاَّ قَلِيلاً أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه فيكون الإظهارُ مقتضى الظاهِرِ وقوله وكانوا مجرمين عطفٌ على أترفوا أي اتبعوا الإتراف وكونُهم مجرمين لأن تابعَ الشهواتِ مغمورٌ بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالُهم للشكر أو على اتبع أي اتبعوا شهواتِهم وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين ويجوز أن يكون اعتراضاً وتسجيلاً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون وقرىء وأُتْبع أي أُتبعوا جزاءَ ما أُترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يُفسَّر به المشهورةُ ويعضُده تقدم الإنجاء
﴿بِظُلْمٍ﴾ أي ملتبساً به قيل هو حالٌ من الفاعل أي ظالماً لها والتنكيرُ للتفخيم والإيذانِ بأن إهلاكَ المصلحين ظلمٌ عظيم والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لِما تقررَ منْ قاعدةِ أهلِ السنة وقد مر تفصليه في سورة آل عمران عند قولِه تعالى وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ وقوله تعالى
﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ حالٌ من المفعول والعاملُ عامله ولكن لا باعتبار تقيّدِه بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاكِ ظلماً بحال كونِ أهلِها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك وقيل المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فساداً آخرَ وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ عند تزاحم الحقوقِ حقوقَ العبادِ الفقراءِ على حقوق الله تعالى الغنيِّ الحميد وقيل المُلكُ يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك كان ينهي كلٌّ من الرسل الذين قُصّت أنباؤهم أمتَه أولاً عن الإشراك ثم عن
﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ في الحق أي مخالفين له كقولِه تعالى وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ
﴿ولذلك﴾ أي ولما ذكر من الاختلاف
﴿خَلْقَهُمْ﴾ أي الذين بقُوا بعد الثنيا وهم المختلِفون فاللامُ للعاقبة أو للترحم فالضميرُ لمن واللام في معناها أولهما معاً فالضميرُ للناس كافةً واللام بمعنى مجازيَ عامّ لكلا المعنيين
﴿وتمت كلمة رَبّكَ﴾ أي وعيدُه أو قولُه للملائكة
﴿لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ أي من عُصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما
﴿نَقُصُّ عليك﴾ يخبرك به وقوله تعالى
﴿مِنْ أَنْبَاء الرسل﴾ بيانٌ لكُلاًّ وقوله تعالى
﴿مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ بدلٌ منه والأظهر أن يكون المضافُ إليه المحذوفُ في كلاًّ المفعولَ المطلق لنقصُّ أي كل اقتصاص أي كلَّ أسلوبٍ من أساليبه نقصُّ عليك من أنباء الرسل وقوله تعالى مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ مفعولُ نقصّ وفائدتُه التنبيهُ على أن المقصودَ بالاقتصاص زيادةُ يقينه عليه السلام وطُمأنينةُ قلبه وثباتُ نفسه على أداء الرسالة واحتمالِ أذية الكفارِ بالوقوف على تفاصيل أحوالِ الأممِ السالفة في تماديهم في الضلال وما لقيَ الرسلُ من جهتهم من مكابدة المشاقّ
﴿وَجَاءكَ فِى هذه﴾ السورة أو الأنباءِ المقصوصة عليك
﴿الحق﴾ الذي لا محيد عنه
﴿وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي الجامعُ بين كونه حقاً في نفسه وكونهِ موعظةً وذكرى للمؤمنين ولكون الوصفِ الأولِ حالاً له في نفسه حُلّي باللام دون ما هو وصفٌ له بالقياس إلى غيره وتقديمُ الظرفِ أعني في هذه على الفاعل لأن المقصودَ بيانُ منافعِ السورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها واشتمالِها على ما ذكر من المنافع المفصلةِ لا بيانُ كونِ ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّنٍ ولأن
﴿اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ على حالكم وجِهتِكم التي هي عدمُ الإيمان
﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾ على حالنا وهو الإيمانُ به والاتعاظُ والتذكرُ به
﴿إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ أن ينزل بكم نحوُ ما نزل بأمثالكم من الكفرة
﴿فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ فإنه كافيك والفاءُ لترتيب الأمرِ بالعبادة والتوكلِ على كون مرجعِ الأمور كلِّها إلى الله تعالى وفي تأخير الأمرِ بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ لأنه لا ينفع دونها
﴿وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ فيجازيهم بموجبه وقرىء تعملون على تغليب المخاطَب أي أنت وهم فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بموجب الاستحقاق عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ هودٍ أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات بعدد من صدق كلَّ واحدٍ من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد مَنْ كذّبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى