تفسير سورة هود

معاني القرآن
تفسير سورة سورة هود من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قوله :﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾
رَفَعتَ الكتاب بالهجاء الذي قبله، كأنك قلت : حروف الهجاء هذا القرآن. وإن شئت أضمرت له ما يرفعه ؛ كأنك قلت : الر هذا الكتاب.
وقوله ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ بالحلال والحرام. والأمر والنهي. لذلك جاء قوله ﴿ ألاّ تعبدوا ﴾
ثم قال ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ... ﴾
أي فُصِّلت آياته ألاَّ تعبدوا وأن استغفرا. فأنْ في موضع نصب بإلقائك الخافضَ.
وقوله :﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾
نزلت في بعض مَن كان يَلْقَى النبي صلى الله عليه وسلم بما يُحبُّ، وينطوي له على العداوة والبغض. فذلك الثَنْي هو الإخفاء. وقال الله تبارك وتعالى ﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ الله ﴾ ما يُخْفُون من عداوة محمَّد صَلَّى الله عليه وسلم.
( حدّثنا محمد قال ) حدّثنا الفرّاء قال : وحدَّثني الثقة عبد الله بن المبارك عن ابن جُرَيج رجل أظنّه عطاء عن ابن عبَّاس أَنه قرأ ( تَثْنَونى صُدُورُهُمْ ) وهو في العربيَّة بمنزلة تَنْثَنى كما قال عنترة :
وقولكَ للشيء الذي لا تناله إذا ما هو احلولى أَلا ليت ذاليا
وهو من الفعل : افعوعلت.
وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها﴾
فمستقرُّها : حيث تأوى ليلا أو نهاراً. ومستودَعها : موضعها الذي تموت فيه أو تُدفن.
وقوله :﴿ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾.
( وسِحْر مبين ). فمن قال :( سَاحِرٌ مُبِينٌ ) ذهب إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم من قولهم. ومَنْ قال :( سِحْرٌ ) ذهب إلى الكلام.
( حدَّثنا محمد قال ) حدّثنا الفرَّاء قال : وحدَّثنى أبو اسرائيل عن الأعمش عن أبى رَزِين عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ في ثلاثة مواضع ساحر : في آخر المائدة وفي يونس وفي الصفّ.
قال الفراء : ولم يذكر الذي في هود. وكان يحيى بن وثّاب يقرأ في أربعة مواضع ويجعل هذا رابعاً يعنى في هود.
وقوله :﴿ إلا الذين صبروا ﴾
في موضع نصب بالاستثناء من قوله :﴿ ولَئِنْ أَذَقناهُ ﴾ يعنى الإنسان ثم استثنى من الإنسان لأنه في معنى الناس، كما قال تبارك وتعالى :﴿ وَالعَصْرِ إنَّ الإنْسَانَ لَفي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فاستثنى كثيراً من لفظِ واحدٍ ؛ لأنه تأويل جِماع.
وقوله - عزَّ وجلَّ - :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ ما يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائقٌ بِهِ صَدْرُكَ ١٢ ﴾.
يقول : يضيق صدرك بما نوحيه إليك فلا تُلقيه إليهم مخافة أن يقولوا : لولا أنزل عليك كنز. فأَن في قوله :﴿ أَنْ يَقُولوا ﴾ دليل على ذلك. وهي بمنزلة قوله :﴿ يُبَيَّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ﴾ و( مِن ) تَحسنَ فيها ثم تُلقَى، فتكون في موضع نصب ؛ كما قال - عز وجل :﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الَموْتِ ﴾ أَلا ترى أن ( مِنْ ) تحسن في الحَذَر، فإذا أُلقِيت انتصب بالفعل لا بإلقاء ( من ) كقول الشاعر :
وأَغفرُ عوراء الكريم اصطناعَه وأُعرِض عن ذات الّلئيم تَكَرُّما
وقوله :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ١٣ ﴾ ثم قال جلَّ ذكره :﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ١٤ ﴾ ولم يقل : لك وقد قال في أوَّل الكلام ( قُلْ ) ولم يقل : قولوا وهو بمنزلة قوله :﴿ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقوله :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ١٣ ﴾ ثم قال جلَّ ذكره :﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ١٤ ﴾ ولم يقل : لك وقد قال في أوَّل الكلام ( قُلْ ) ولم يقل : قولوا وهو بمنزلة قوله :﴿ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾.
وقوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَها ١٥ ﴾
ثم قال :( نُوَفِّ ) لأن المعنى فيها بعد كانَ. وكان قد يبطل في المعنى ؛ لأن القائل يقول : إن كنت تعطيني سألتك، فيكون كقولك : إن أعطيتنى سألتك. وأكثر ما يأتي الجزاء على أن يتَّفق هو وجوابه. فإن قلت : إن تفعل أْفعل فهذا حَسَن. وإن قلت : إن فعلتَ أفعلْ كان مستجازاً. والكلام إن فعلتَ فعلتُ. وقد قال في إجازته زُهَير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنَه ولو نال أسباب السماء بسُلّم
وقوله :﴿ وَهُمْ فِيها لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ يقول : من أراد بعمله من أهل القِبلة ثواب الدنيا عُجِّل له ثوابُه ولم يُبْخَس أي لم يُنْقَص في الدنيا.
وقوله :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ١٧ ﴾
( فالذي على البيّنة من ربّه محمد صلى الله عليه وسلم. ويتلوه شاهد منه ) يعنى جِبرِيل عليه السلام يتلو القرآن، الهاء للقرآن. وتَبيَان ذلك : ويتلو القرآن شاهد من الله ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ﴾ رفعتَ الكتاب بِمِن. ولو نصبت على : ويتلو من قبله كتابَ موسى ( إماما ) منصوب على القطع من ( كتاب موسى ) في الوجهين. وقد قيل في قوله :﴿ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ : يعنى الإنجيل يتلو القرآن، وإن كان قد أُنزل قبله. يذهب إلى أنه يتلوه بالتصديق. ثم قال : ومن قَبْلِ الإنجيل كتاب موسى.
ولم يأت لقوله :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ جوابٌ بيّن ؛ كقوله في سورة محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ أَفَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴾ وربما تركت العرب جواب الشيء المعروف معناه وإن تُرِك الجواب ؛ قال الشاعر :
فأُقسم لو شَيْء أتانا رَسولُه سِوَاك ولكن لم نجد لكَ مَدْفَعا
وقال الله - تبارك وتعالى وهو أصدق من قول الشاعر - :﴿ وَلَوْ أَنُّ قُرْآنا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطَّعَتْ بِهِ الأرْضُ ﴾ فلم يؤت له بجواب والله أعلم. وقد يفسّره بعض النحويّين يعنى أن جوابه :( وَهُمْ يَكْفُرُونَ وَلَوْ أَنَّ قرآنا ) والأوَّل أشبه بالصواب. ومثله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ ﴾ ﴿ وَلَوْ تَرَى الذِينَ ظَلَمُوا ﴾ وقولُه في الزمر :﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آناء اللَّيْلِ سَاجداً وقَائما يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ ولم يؤت له بجواب. وكفي قوله :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ من ذلك. فهذا مِما تُرك جوابه، وكَفي منه ما بعده، كذلك قال في هود :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾ ولم يقل : هل يستوون. وذلك أَن الأَعمى والأصمَّ من صفةِ واحدٍ والبصير والسَّميع من صفة واحدٍ كقول القائل : مررت بالعاقل واللبيب وهو يعنى واحداً. وقال الشاعر :
وما أدرى إذا يمَّمت وجها أريد الخير أيُّهما يلينى
أألخير الذي أنا أَبتغيه أم الشر الذي لا يأتلينى
قال : أيّهما وإنما ذكر الخير وحده ؛ لأن المعنى يُعْرف : أن المبتغى للخير مُتّق للشرّ وكذلك قول الله جل ذكره :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُم الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ﴾ [ أي ] وتقى البرد. وهو كذلك وإن لم يُذكر.
وقوله :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنارُ مَوْعِدُهُ ﴾ فيقال : مِن أصناف الكفّار. ويقال : إن كلَّ كافر حِزْب.
وقوله :﴿ وَما كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ٢٠ ﴾
قم رءوس الكَفَرة الذين يُضلّون. وقوله :﴿ ما كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾ على وجهين. فسَّره بعض المفسّرين : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السَّمع ولا يفعلون. فالباء حينئذ كان ينبغى لها أن تدخل، لأنه قال :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ في غير موضع من التنزيل أدخلت فيه الباء، وسقوطها جائز كقولك في الكلام : بأَحسن ما كانوا يعملون وأحسنَ ما كانوا يعملون. وتقول في الكلام : لأجزينَّك بما عملت، وما عملت. ويقال : ما كانوا يستطيعون السَّمع وما كانوا يبصرون : أي أضلَّهم الله عن ذلك في اللوح المحفوظ.
وقوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ ٢٢ ﴾
كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بُدَّ أنّك قائم ولا محالة أَنّك ذاهب، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إيَّاها، حتَّى صَارت بمنزلة حقّا ؛ ألا ترى أَن العرب تقول : لا جَرَم لآتينك، لا جرم قد أحسنتَ. وكذلك فسّرها المفسّرون بمعنى الحقِّ. وأصلها من جَرَمت أي كسبت الذنب وجَرَّمته. وليس قول من قال إنّ جَرَمت كقولك : حَقُقت أو حُقِقت بشيء وإنما لَبَّسَ على قائله قول الشاعر :
ولقد طَعْنتُ أَبا عُيَيْنة طعنةً *** جَرَمت فزارةُ بعدها أن تغضبا
فرفعوا ( فَزارة ) قالوا : نجعل الفعل لفزاره كأنه بمنزلة حُقَّ لها أو حقَّ لها أن تغضب وفَزارة منصوبة في قول الفراء أي جَرَمَتهم الطعنةُ أن يغضبوا.
ولكثرتها في الكلام حُذفت منها الميم فبنو فزارة يقولون : لا جَرَ أَنك قائم. وتوصل من أوّلها بذا، أنشدني بعض بنى كلاب :
إن كلاباً والدِي لاذا جَرَمْ *** لأَهْدِرَنَّ اليوم هدراً صادقا
هدر المعنَّى ذى الشقاشيق اللهِم ***...
وموضع أَنْ مرفوع كقوله :
أحقّا عبادَ الله جُرْأةُ مُحْلِقٍ *** على وقد أَعييتُ عادَ وتُبَّعا
وقوله :﴿ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ٢٣ ﴾
معناه : تَخشَّعوا لربّهم وإلى ربّهم. وربَّما جعلت العرب ( إلى ) في موضع اللام. وقد قال الله عزّ وجلّ :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَها ﴾ وقال :﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الذي هَدَانا لِهَذَا ﴾ وقال :﴿ يَهْدِيهِمْ إِلَيْه صِرَاطاً مُسْتَقِيما ﴾ وقال :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ﴾ وقد يجوز في العربيّة أن تقول : فلان يُخبِت إلى الله تريد : يفعل ذلك بوجهه إلى الله ؛ لأن معنى الإخبات الخشوع، فيقول : يفعله بوجهه إلى الله ولله. وجاء في التفسير : وأَخبتوا فَرَقا من الله فمِن يشاكل معنى اللام ومعنى إلَى إذا أردت به لمكان هذا ومِن أجل هذا.
وقوله :﴿ ما نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنا وَما نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنا ٢٧ ﴾
رفعَتَ الأراذل بالاتِّباع وقد وقع الفعل في أوَّل الكلام على اسمه. ولا تكاد العرب تجعل المردود بإلاَّ إلا على المبتدأ لا على راجِع ذكره. وهو جائز. فمن البيّن الذي لا نظر فيه أن تقول : ما قام أحد إلاّ زيد. وإن قلت : ما أحد قام إلا زيد فرفعت زيداً بما عاد في فعل أحد فهو قليل وهو جائز. وإنما بَعُد على المبتدأ لأنه كناية، والكناية لا يُفرق فيها بين أحدٍ وبين عبد الله، فلما قبح أن تقول : ما قام هو إلاّ زيد، وحسن : ما قام أحد إلا زيد تبيَّن ذلك لأن أحداً كأنّه ليسَ في الكلام فحسُن الردّ على الفعل. ولا يقال للمعرفة أو الكناية أَحد إذْ شاكل المعرفة كأنه ليس في الكلام ؛ ألا ترى أنك تقول ما مررت بأحد إلا بزيد ( فكأنك قلت : ما مررت إلا بزيد ) لأن أحداً لا يُتَصوّر في الوهم أنه مَعْمود له. وقبيح أن تقول : ليس أحد مررت به إلاّ بزيد لأن الهاء لها صورة كصورة المعرفة، وأنت لا تقول : ما قمت إلا زيد فهذا وجه قبحه. كذلك قال :( ما نراك ) ثم كأنه حذف ( نراك ) وقال :( ما اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا ) فإبْن على هذا ما ورد عليك إن شاء الله.
( بَادِيَ الرَّأْيِ ) لا تهمز ( بادي ) لأن المعنى فيما يظهر لنا [ و ] يبدو. ولو قرأت ( بادئ الرأي ) فهمزت تريد أوّل الرأي لكان صوابا. أنشدنى بعضهم :
أضحى لخالى شبهي بادى بدى وصار للفحل لسانى ويدى
فلم يهمز ومثله مما تقوله العرب في معنى ابدأ بهذا أوّل، ثم يقولون. ابدأ بهذا آثراً ما وآثِر ذى أثِير ( وأثير ذى أثير ) وإثْرَ ذى أثير، وابدأ بهذا أوَّل ذاتِ يدين وأدْنَى دَنِىّ. وأنشدونا :
فقالوا ما تريد فقلت ألهو إلى الإصباح آثِر ذي أَثِير
وقوله :﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ٢٧ ﴾ مثل قوله ﴿ يأيّها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّساء ﴾ لأنهم كذّبوا نوحا وحده، وخرج على جهة الجمع، وقولِه ﴿ فَإنْ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَكُمْ ﴾ فلكم أريد بها النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله :﴿ فاعْلَمُوا ﴾ ليست للنبي صلى الله عليه وسلم. إنما هي لكفّار مكّة ألا ترى أَنه قال ( فَهَلْ أَنْتُم مُسْلِمونَ ).
وقوله :﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ﴾
يعنى الرسالة. وهي نعمة ورحمة. وقوله :﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾ قرأها يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة. وهي في قراءة أبَىّ ( فعماها عَلَيْكُمْ ) وسمعت العرب تقول : قد عُمِّىَ عليّ الخَبَر وعَمِيَ عليّ بمعنى واحد. وهذا مما حوّلت العرب الفعل إليه وليس له، وهو في الأصل لغيره ؛ ألا ترى أن الرجل الذي يَعْمَى عن الخبر أو يُعَمَّى عنه، ولكنّه في جوازه مثل قول العرب : دخل الخاتمُ في يدي والخُفّ في رِجْلي، وأنت تعلم أن الرِجل التي تُدخل في الخفّ والأصبع في الخاتم. قاستخفّوا بذلك إِذا كان المعنى معروفاً لا يكُون لذا في حال، ولذا في حال ؛ إنما هو لواحد. فاستجازوا ذلك لهذا. وقرأه العامَّة ( فعَمِيَتْ ) وقوله ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوها ﴾ العرب تسكّن الميم التي من اللزوم فيقولون : أَنُلْزِمْكُمُوها. وذلك أن الحركات قد توالت فسَكنت الميم لحركتها وحركتين بعدها وأنها مرفوعة، فلو كانت منصوبة لم يُسْتَثْقَل فتخفَّفَ. إِنما يستثقلون كسرة بعدها ضمةٌ أو ضمةً بعدها كسرة أو كَسْرَتينِ متواليتين أو يُسْتَثْقَل أو ضمَّتينِ متواليتين. فأما الضَّمتان فقوله :﴿ لاَ يَحْزُنْهُمْ ﴾ جزموا النون لأن قبلها ضمة فخّففت كما قال ( رُسْل ) فأما الكسرتان فمثل قوله الإبلْ إِذا خُفّفت. وأما الضََّمة والكسرة فمثل قول الشاعر :
وناعٍ يُخَبِّرنا بمُهْلَك سَيّدٍ *** تَقَطَّع من وجد عليه الأناملُ
وإن شئت تُقطَّع. وقوله في الكسرتين :
إِذا اعوجَجْن قلت صَاحِبْ قوِّمِ ***...
يريد صَاحبي فإنما يُستثقل الضمّ والكسر لأن لمُخرجيهما مؤونة على اللسان والشفتين تنضمّ الرَفعة بهما فيثقل الضمَّة ويمال أحد الشِّدْقين إلى الكسرة فترى ذلك ثقيلاً. والفتحة تَخرج من خَرْق الفم بلا كُلْفة.
وقوله :﴿ وَيا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ ٣٠ ﴾.
يقول : من يمنعني من الله. وكذلك كلّ ما كان في القرآن منه فالنصر على جهة المنع.
وقوله :﴿ فَعلى إِجْرَامِي ٣٥ ﴾.
يقول : فعلى إثمي. وجاء في التفسير فعلى آثامي، فلو قرئت : أجرامي على التفسير كان صواباً. وأنشدني أبو الجراح :
لا تجعلوني كذوي الأجرام الدَّهْمَسِيَّيْنِ ذوِي ضِرغام
فجمع الجُرْم أجراما. ومثل ذلك ﴿ واللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ و ( أَسْراَرهم ) وقد قرئ بهما. ومنه ﴿ وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبِّحْهُ وإِدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ و ( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) فمن قال :( إِدْبَارَ ) أراد المصدر. ومن قال ( أسرار ) أراد جمع السِّر.
وقوله :﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِما كَانُواْ يَفْعَلُونَ ٣٦ ﴾
يقول :( لا تستَكِنْ ولا تحزن ).
وقوله :﴿ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ٣٧ ﴾.
كقوله ﴿ ارْجِعُونِ ﴾ يخرج على الجمع ومعناه واحد على ما فسَّرت لك من قوله ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ﴾ لنوح وحده، و ﴿ عَلَي خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِم ﴾.
وقوله :﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ ٤٠ ﴾
هو تنُّور الخابز : إِذا فار الماء من أحَرّ مكان في دارك فهي آيْة العذاب فأسر بأهلك. وقوله ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ والذكر والأنثى من كل نوع زوجان. وقوله ﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ حَمَلَ معه امرأة له سوى التي هلكت، وثلاثةَ بنينَ ونسوتهم، وثمانين إِنسانا سوى ذلك. فذلك قوله ﴿ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ و ( الثمانون ) هو القليل.
وقوله :﴿ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيها بِسْمِ اللَّهِ ٤١ ﴾
( إن شئت جَعلت مَجْراها ومَرْساها ) في موضع رَفع بالياء ؛ كما تقول : إِجراؤها وإرساؤها بسم الله وبأمر الله. وإن شئت جعلت ( بسم الله ) ابتداء مكتفِياً بنفسه، كقول القائل عند الذبيحة أو عند ابتداء المأكل وشبهه : بسم الله ويكون ( مجريها ومرسيها ) في موضع نصب يريد بسم الله في مجراها وفي مرساها. وسَمعت العرب تقول : الحمد لله سِرَارَك وإِهلالك، وسُمع منهم الحمد لله ما إِهلالَك إِلى سرارك يريدون ما بين إهلالك إِلى سرارك.
والمجرى والمرسى ترفع ميميهما قرأ بذلك إِبراهيم النَخَعيّ والحسن وأهل المدينة. حدَّثنا محمد قال : حدَّثنا الفراء قال : حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صُبَيح عن مسروق أنه قرأها ( مَجْراها ) بفتح الميم و( مُرساها ) بضم الميم. قال : وحدّثنا الفراء قال حدثنا أبو معاوية وغيره عن الأعمش عن رجل قد سماه عن عَرْفَجَة أَنه سمع عبد الله بن مسعود قرأها ( مجراها ) بفتح الميم ورفع الميم من مرسيها. وقرأ مجاهد ( مُجْرِيها ومُرسِيها ) يجعله من صفات الله عزّ وجلّ، فيكون في مَوْضع خِفض في الإعراب لأنه معرفة. ويكون نصباً لأن مثله قد يكون نكرة لحسن الألف واللام فيهما ؛ ألا ترى أنك تقول في الكلام : بسم الله المجريها والمرسِيها. فإذا نزعت منه الألف واللام نصبته. ويدلّك على نكرته قوله :﴿ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنا ﴾ وقوله :﴿ فَلَما رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾ فأضافوهُ إِلى مَعرفة، وجعلوه نعتاً لنكرة. وقال الشاعر :
يا رُبَّ عابِطنا لو كان يأْمُلكم لا قى مباعدةً منكم وحرمانا
وقول الآخر :
وَيا رب هاجى مِنْقَرٍ يبتغى به ليَكْرُم لما أعوزته المكارمُ
وسمع الكسائي أعرابيّا يقول بعد الفطر : رُبّ صائمه لن يصومه وقائمه لن يقومه.
وقوله :﴿ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماء ٤٣ ﴾.
( قَالَ ) نوح عليه السلام ﴿ لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمرِ الله إلاَّ مَنْ رَحِمَ ﴾ فمَنْ في موضع نصب ؛ لأن المعصوم خلاف للعاصم والمرحوم معصوم. فكأنه نصبه بمنزلة قوله ﴿ مالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتّباع الظَّنِّ ﴾ ومَن اسْتجاز رفع الاتباع أو الرفعَ في قوله :
وبلدٍ ليس به أنيسُ *** إلاَّ اليَعَافِيرُ وَإِلاَّ العِيسُ
لم يَجُزله الرفع في ( مَن ) لأن الذي قال :( إلاّ اليعافيرُ ) جعل أنيس البَرّ اليعافِير والوحوش، وكذلك قوله ﴿ إلاَّ اتِّبَاع الظَّنِّ ﴾ يقول : علِمهم ظنّ وأنت لا يجوز لك في وجه أن تقول : المعصوم عاصم. ولكن لو جَعلت العاصم في تأويل معصوم كأنك قلت : لا معصوم اليوم من أمر الله لجاز رفع ( مَن ) ولا تنكرنّ أن يخرج المفعول على فاعل ؛ ألا ترى قوله ﴿ مِنْ ماء دَافِقٍ ﴾ فمعناه والله أعلم : مدفوق وقوله ﴿ في عِيِشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ معناها مرضيَّة، وقال الشاعر :
دعِ المكارمَ لا ترحل لِبُغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
معناه المكسوّ. تستدلّ على ذلك أنك تقول : رضيتُ هذه المعيشةَ ولا تقول : رَضِيَتْ ودُفِق الماء ولا تقول : دَفَق، وتقول كُسِي العريان ولا تقول : كسا. ويقرأ ( إلاّ من رُحِم ) أيضاً. ولو قيل لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رُحِم كأنَّك قلت : لا يعصم اللهُ اليوم إلاّ من رُحِم ولم نسمع أحداً قرأ به.
وقوله :﴿ وَاسْتَوَتْ على الْجُودِيِّ ٤٤ ﴾
وهو جبل بحضَنَين من أرض الموْصِل ياؤْه مشدّدة وقد حدِّثت أنَّ بعض القراء قرأ ( على الجُودِي ) بإرسال الياء. فإن تكن صحيحة فهي مما كثر به الكلام عند أهله فخفّف، أو يكون قد سمّي بفعلِ أنثى مثل حُطيِّ وأصِرّي وصَرِّي، ثم أُدخلت عليه الألف واللام. أنشدني بعضهم - وهو المفضّل - :
وكفرتَ قوما هُمْ هَدَوكَ لأقدِمى إِذا كان زَجْر أبيكَ سَأْسَأ واربُق
وأنشدني بعض بنى أَسَد :
لما رأيت أنها في حُطّي * وفَتكتْ في كذبي ولَطِّي
والعرب إذا جعلت مثل حُطّي وأشباهه اسما فأرادوا أن يغيِّروه عن مذهب الفعل حوّلوا الياء ألِفا فقالوا : حُطَّا، أصِرَّا، وصِرَّا. وكذلك ما كان من أسْماء العجم آخره ياء ؛ مثل ماهي وشاهي وشُنيِّ حوَّلوه إلى ألف فقالوا : ماها وشاها وشنا. وأنشدنا بعضهم :
أتانا حِماسٌ بابن ماها يسوقه لِتُبْغِيه خيراً وليْسَ بفاعل
﴿ وَحال بَيْنَهُما المَوْجُ ﴾ أي حال بين ابن نوح وبين الجَبل الماء.
وقوله :﴿ يا أَرْضُ ابْلَعِي ﴾ يقال بَلِعَتْ وبَلَعَتْ.
وقوله :﴿ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ٦٤ ﴾
الذي و-- أنجيهم ثم قال عزّ وجلّ :﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ ( وعامّةَ القراء عليه ) حدَّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال : وحدّثني حِبَّان عن الكلمىّ عن أبى صَالح عن ابن عباس بذلك يقول : سؤالك إيّأي ما ليس لك به علم عمل غير صَالح. وعامَّةُ القراء عليه. ( حدثنا الفرّاء ) قال : وحدثني أبو اسحق الشيبانيّ قال حدثني أبو رَوق عن محمد بن حُجَادة عن أبيه عن عائشة قالت سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ( إنه عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ ) ( حدثنا الفراء ) قال وحدثني ابن أبى يحيى عن رجل قد سماه قال، لا أراه إلا ثابتاً البنانيّ عن شَهْر بن حَوْشب عن أمّ سَلَمة قالت : قلت يا رسول الله : كيف أقرؤها ؟ قال ( إنه عملَ غَيْرَ صَالحٍ )
وقوله :﴿ فَلاَ تَسْألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ويقرأ : تسأَلَني بإثبات اليَاء وتشديد النون ويجوز أن تُقرأ ( فَلاَ تَسْأَلَنَّ ما لَيْسَ ) بنصب النون، ولا توقعها إلاَّ على ( ما ) وليس فيها ياء في الكتاب والقراء قد اختلفوا فيما يكون في آخره الياء وتُحذف في الكتاب : فبعضهم يُثبتها، وبعضهم يُلقيها من ذلك ( أَكْرَمَنِ ) و ( أهانَنِ ) ( فَما آتانِ اللّهُ ) وهو كثير في القرآن.
وقوله :﴿ بِسَلاَمٍ مِّنا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ٤٨ ﴾
يعنى ذُرَيَّةَ من معه من أهل السعادة. ثم قال :( وَأُمَمٌ ) من أهل الشقاء ( سَنُمَتِّعُهُمْ ) ولو كانت ( وَأُمَما سَنُمَتِّعْهُمْ ) نصباً لجاز توقع عليهم ( سَنُمتِّعهم ) كما قال ﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَ عَلَيْهمُ الضَّلاَلةُ ﴾.
وقوله :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ ٤٩ ﴾
يصلح مكانها ( ذَلِكَ ) مثل قوله ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاء القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ﴾ والعرب تفعل هذا في مصادر الفعل إذا لم يذكر مثل قولك : قد قَدِم فلان، فيقول الآخر : قد فرحت بها وبه. فمَن أنَّث ذَهب بها إلى القَدْمة، ومن ذكّر ذهب إلى القدوم. وهو مثل قوله ﴿ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِها وآمَنُوا ﴾.
وقوله :﴿ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ ﴾ يقول : لم يكن عِلْمُ نوح والأمَمِ بعده من علمك ولا عِلم قَومك ﴿ مِنْ قبْلِ هَذَا ﴾ يعنى القرآن.
وقوله :﴿ يُرْسِلِ السَّماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ٥٢ ﴾
يقول : يجعلها تَدِرُّ عليكم عند الحاجة إلى المطر، لا أن تَدِرّ ليلا ونهاراً. وقوله ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ ذكروا أنه كان انقطع عنهم الولدُ ثلاث سنين. وقال ( قُوَّةً ) لأن الولد والمال قوة.
وقوله :﴿ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوء ٥٤ ﴾
كذَّبوه ثم جعلوه مختلِطا وادَّعَوْا أنّ آلهتهم هي التي خبلته لعيبه آلهتهم. فهنالك قال : إني أُشهد الله وأُشهدكم أنى برئ منها.
وقوله :﴿ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ٥٧ ﴾
رُفِع : لأنه جاء بعد الفاء. ولو جْزم كان كما قال ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هادِيَ لَهُ وَيَذرْهُمْ ﴾ كان صواباً. وفي قراءة عبد الله ( وَلاَ تَنْقُضُوهُ ) جزما. ومعنى لا تضرّوه يقول : هلاككم إذا أهلككم لا ينقصه شيئاً.
و ( عادٌ ) مُجْرًى في كل القرآن لم يُختلَف فيه. وقد يترك إجراؤه، يُجعل اسما للأُمَّة التي هو منها، كما قال الشاعر :
أحقّا عبادَ الله جُرْأة مُحْلِقٍ علي وقد أعييتُ عَادَ وتُبَّعا
وسمع الكسائي بعض العرب يقول : إن عادَ وتَبَّعَ أَمَّتان.
وقوله :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحا ٦١ ﴾
نصبْت صالحا وهوداً وما كان على هذا اللفظ بإضمار ( أرسلنا ).
وقد اختلف القراء في ( ثَمُود ) فمنهم من أجْراه في كلّ حال. ومنهم من لم يُجْرِه في حال. حدَّثنا محمد قال : حدثنا الفراء قال : حدّثنى قيس عن أبى إسحق عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النَخَمِيّ عن أبيه أنه كان لا يُجرى ( ثمود ) في شيء من القرآن ( فقرأ بذلك حمزة ) ومنهم من أجرى ( ثمود ) في النصب لأنها مكتوبة بالألف في كل القرآن إلا في موضع واحد ﴿ وآتَيْنا ثَمُودَ الناقَةَ مُبْصِرَةً ﴾ فأخذ بذلك الكسائي فأجراها في النصب ولم يُجرها في الخفض ولا في الرفع إلاَّ في حرف واحد : قولِه ﴿ أَلا إن ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لثمودٍ ﴾ فسألوه عن ذلك فقال : قرئت في الخفض من الْمُجْرَى وقبيح أن يجتمع الحرف مرتين في موضعين ثم يَختلف، فأجريته لقربه منه.
وقوله :﴿ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ٦٣ ﴾
يقول : فما تزيدونني غير تخسير لكم وتضليل لكم، أي كُلَّما اعتذرتم بشيء هو يزيدكم تخسيراً. وليس غير تخسير لي أنا. وهو كقولك للرجل ما تزيدني إلاَّ غضباً أي غضباً عليك.
وقوله :﴿ كَفرُواْ رَبَّهُمْ ٦٨ ﴾
جاء في التفسير : كفروا نعمة ربهم. والعرب تقول : كفرتك. وكفرت بك، وشكرتك وشكرت بك وشكرت لك. وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : شكرت بالله كقولهم : كفرت بالله.
وقوله :﴿ سَلاَما قَالَ سِلْمُ٦٩ ﴾
قرأها يحيى ابن وَثَّاب وإبراهيم النَخَعِيَّ. وذُكر عن النبي صلى الله عليْه وسلم أنه قرأ بها. وهو في المعنى سلام كما قالوا حِلّ وحَلاَل، وحِرْم وحَرَام لأن التفسير جاء : سَلَّمُوا علْيه فردَّ عليهم. فترى أن معنى سِلْم وسلام واحد والله أعلم. وأنشدني بعض العرب :
مررنا فقلنا إيه سِلْم فسلَّمت كما اكتلَّ بالبرق الغمامُ اللوائح
فهذا دليل على أنهم سَلَّموا فرَدَّت عليهم. وقرأه العامَّة ( قَالُواْ سَلاَما قَالَ سَلاَمٌ ) نصَب الأول ورَفَع الثاني. ولو كانا جميعاً رفعاً ونصباً كان صواباً. فمن رَفع أضمر ( عليكم ) وإن لم يظهرها كما قال الشاعر :
فقلنا السلامُ فاتَّقت من أميرها فما كان إلاَّ وَمْؤها بالحواجب
والعرب تقول : التقينا فقلنا : سَلامٌ سلام. وحُجَّة أخرى في رفعه الآخر أن القوم سَلَّموا، فقال حين أنكرهم : هو سلام إن شاء الله فمن أنتم لإنكاره إيَّاهم. وهو وجه حسن. ويقال في هذا المعنى : نحن سِلْم لأن التسليم لا يكون من قومٍ عَدُوًّ. وقوله :﴿ فَما لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ أن في موضع نصب توقع ( لبِث ) عليها، كأنّك قلت : فما أبطأ عن مجيئه بعجل : فلما ألقيت الصفة وقع الفعل عَليها. وقد تكون رفعاً تجعل لبِث فعلا لأنْ كأنك قلت فما أبطأ مجيئُه بعجلٍ حنِيذ : والحنيذ : ما حَفَرْت له في الأرض ثم غممته. وهو من فعل أهل البادية معروف. وهو محنوذ في الأصل فقيل : حَنِيذ، كما قيل : طَبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول.
وقوله :﴿ فَلَما رَأي أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ٧٠ ﴾
أي إلى الطعام. وذلك أَنها كانت سُنَّة في زمانهم إذا ورد عليهم القوم فأُتُوا بالطعام فلم يمَسّوه ظنّوا أَنهم عَدُوٌّ أو لصوص. فهناك أوجس في نفسه خِيفة فرأَوْا ذلك في وجهه، فقالوا : لا تخف، فضحِكت عند ذلك امرأتُه وكانت قائمة وهو قاعد ( وكذلك هي في قراءة عبد الله : وامرأته قائمة وهو قاعد ) مثبتة فضحكت فبشرت بعد الضحك. وإنما ضحكت سروراً بالأمن فأتبعوها البشرى بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. وقد يقول بعض المفسِّرين : هذا مقدّم ومؤخَّر. والمعنى فيه : فبشَّرْناها بإسحاق فضحكت بعد البشارة وهو مما قد يَحتمله الكلام والله أعلم بصوابه. وأما قوله ( فضحِكتْ ) : حاضت فلم نسمعه من ثقة وقوله ( يَعقُوب ) يرفع وينصب وكان حمزة ينوى به الخفض يريد :( ومن وراء إسحاق بيعقوب ). ولا يجوز الخفض إلاّ بإظهار الباء. ويعقوب ها هنا ولد الولد والنصب في يعقوب بمنزلة قول الشاعر :
جئني بمثل بنى بدر لقومهم *** أو مثلَ أُسرة منظور بن سَيَّار
أو عامرَ بن طُفَيل في مُرَكَّبِه *** أو حارثا يوم نادى القومُ يا حارِ
وأنشدني بعض بنى باهلة :
لو جيتَ بالخُبز له مُيَسِّرا *** والبيضَ مطبوخاً معاً والسُّكَّرا
لم يُرضه ذلك حتى يسكرا ***...
فنصب على قولك : وجِئتَ بالسكَّر، فلما لم يُظهر الفعل مع الواو نصب كما تأمر الرجل بالمرور على أخيه فتقول : أخاك أخاك تريد : امْرُرْ به.
وقوله :﴿ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِي شَيْخاً ٧٢ ﴾
وفي قراءة عبد الله ( شَيْخٌ ) فذكروا أَنها كانت بنت ثمان وتسعين سنة، وكان عليه السَّلام أكبر منها بسنة. ويقال في قوله ﴿ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ ﴾ البركات : السعادة.
وَقوله :﴿ فَلَما ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ٧٤ ﴾
ولم يقل : جادلنا. ومثله في الكلام لا يأتي إلاَّ بفعل ماض كقولك. فلما أتاني أتيته. وقد يجوز فلما أتاني أَثِبُ عليه كأنه قال : أقبلت أَثِب عَلَيْهِ. وجداله إيَّاهم أنه حين ذهبَ عنه الخوف قال : ما خَطْبُكم أيُّها المرسلون، فلما أخبروه أَنهم يريدون قوم لوط قال : أتُهلكونَ قوما فيهم لوط قالوا : نحنُ أعلم بمن فيها.
وقوله :﴿ أَوَّاهٌ ٧٥ ﴾
دعَّاء ويقال : هو الذي يتأوَّه من الذنوب. فإذا كانت مِنْ يتأوَّه من الذنوب فهي من أوِّهْ له وهي لغة في بنى عامر أنشدني أبو الجراح :
فأوِّهْ من الذكرى إذا ما ذكرتها ومن بُعد أرض بيننا وسَماء
أوِّهْ على فَعِّل يقول في يَفْعَل : يتأَوَّه. ويجوز في الكلام لمن قال : أوَّهْ مقصوراً أن يقول في يتفعَّل يتأَوَّى ولا يقولها بالهاء.
وقوله :﴿ هؤلاء بَناتِي٧٨ ﴾
قال بعضهم : بَنات نفسه. ويقال : بنات قومه. وذلك جائز في العربيّة ؛ لأن الله عَزَّ وجل قال ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ﴾ وهو في بعض القراءة ( وهو أب لهم ) فهذا من ذلك.
وقوله :﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد ٨٠ ﴾.
يقول : إلى عشيرة.
وقوله :﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ٨١ ﴾
قراءتنا من أسريت بنصب الألف وهمزِها. وقراءةُ أهل المدينة ( فاسْرِ بأَهْلِكَ ) من سَريت. وقوله :( بِقِطْعٍ ) يقول : بظلمة من آخر الليل. وقوله :﴿ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾ منصوبة بالاستثناء : فأسر بأهلك إلا امرأتَك. وقد كان الحسن يَرْفعها يعطفها على ( أحد أي ) لا يلتفتْ منكم أحد إلاّ امرأتك وليسَ في قراءة عبد الله ( ولا يلتفت منكم أحد ) وقوله :( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ).
لما أتَوا لوطاً أخبروه أَن قومهم هالكون من غَدٍ في الصبح، فقال لهم لوط : الآن الآن. فقالت الملائكة : أليس الصبح بقريب.
وقوله :﴿ من سجيل ٨٢ ﴾ يقال : من طين قد طُبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء ( مَنْضُودٍ ) يقول : يتلو بعضُه بعضاً عَليهم. فذلك نَضْدُه.
وقوله :﴿ مُّسَوَّمَة٨٣ ﴾
زعموا أنها كانت مخطَّطة محمرة وسواد في بَياض، فذلك تسويمها أي عَلامتها. ثم قال ﴿ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ يقول : من ظالمي أمَّتك يا محمد. ويقال : ما هي من الظالمين يعنى قوم لوط الذي يكن تخطِئهم.
وقوله :﴿ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ٨٤ ﴾، يقول : كثيرةً أموالُكم فلا تنقصوا المكيال وأموالكم كثيرة، يقال : رخيصةً أسعارُكم، ( ويقال ) : مدَّهِنين حَسنةً سَحْنتكم.
وقوله :﴿ بقية الله خير لكم ٨٦ ﴾.
يقول : ما أبقى لكم من الحلال خير لكم. ويقال بقيَّة الله خير لكم، أي : مراقبة الله خير لكم.
وقوله :﴿ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ ﴾،
ويقرأ :﴿ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آبَاؤَنا أَوْ أَنْ نفْعَلَ ٨٧ ﴾، معناه : أَوْ تأمرك أن نَترك أَن تَفعل ﴿ فِي أَمْوَالِنا ما نَشَاء ﴾، فأَنْ : مردودة على ( نَتْرك ).
وفيها وجه آخر تجعل الأمر كالنهي، كأنه قال : أصلواتك تأمرك بذا، وتنهانا عن ذا. وهي حينئذ مردودة على ( أَن ) الأولى لا إضمار فيه، كأنك قلت : تنهانا أن نَفعل في أموالنا ما نشاء ؛ كما تقول : أضرِبُك أَن تسيء، كأنه قال : أنهاك بالضرب عن الإساءة. وتقرأ ( أَوْ أَنْ نَفْعلَ في أمْوالِنا ما تَشاء )، و ( نَشَاء ) جميعاً.
وقوله :﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾، استهزاء منهم به.
وقوله :﴿ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ٨٩ ﴾.
يقول : لا تحملنكم عداوتي أَن يُصيبكم. وقد يكون : لا يكسبنكم. وقوله :﴿ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾، يقول : إنما هلكُوا بالأمس قريباً. ويقال : إن دارهم منكم قريبة وقريب.
وقوله :﴿ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ٩٢ ﴾ :
رميتم بأمر الله وراء ظهوركم ؛ كما تقول : تعظّمون أمر رهطى وتتركون أن تعظّموا الله وتخافوه.
وقوله :﴿ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ٩٣ ﴾،
( مَن ) في موضع رفع إذا جعلتها استفهاما، ترفعها بعائد ذكرها. وكذلك قوله :( وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ )، وإنما أدخلت العرب ( هو ) في قوله :( وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ) ؛ لأنهم لا يقولونَ : مَن قائمٌ ولا مَن قاعد، إنما كلامهم : من يقوم ومن قامَ، أو من القائم، فلما لم يقولوهُ لمعرفة أو لِفَعَل أو يفعل أَدخلوا هو مع قائم ليكونا جَميعاً في مقام فَعَل ويفعل ؛ لأنهما يقومان مقام اثنين. وقد يجوز في الشعر وأشباهه مَنْ قائم، قال الشاعر :
مَنْ شارب مُرْبِح بالكَأس نادمَني لا بالحَصُورِ ولا فيها بسوَّار
وربما تهَيبت العرب أن يستقبلوا مَنْ بنكرة فيخفضونها فيقولون : مِنْ رجلٍ يتصدَّق، فيخفضونه على تأويل : هَل مِن رجل يتصدّق. وقد أنشدونا هذا البيت خَفْضاً ورفعاً :
مَِن رسولٌٍ إلى الثريّا ثأنى ضِقت ذرعاً بهجرها والكتابِ
وإن جعلتهما مَن ومِن في موضع ( الذي ) نصبت، كقوله :﴿ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ ﴾، وكقوله :﴿ وَلَما يَعْلمِ اللّهُ الذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾.
وقوله :﴿ مِنْها قَائمٌ وَحَصِيدٌ ١٠٠ ﴾،
فالحَصيدُ كالزرع المحصُود. ويقال : حَصَدهم بالسَّيف كما يُحصد الزرع.
وقوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ ١٠٥ ﴾،
كتب بغير الياء وهو في موضع رفع، فإن أثبتَّ فيه اليَاء إذا وصلت القراءة كان صَواباً. وإن حذفتها في القطع والوصل كان صَوَابا. قد قرأ بذلك القرّاء فمَر حَذفها. إذا وصل قال : اليَاء ساكنة، وكلّ ياء أو واو تسكُنان وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور، فإن العرب تحذفهما وتجتزئ بالضمة من الواو، وبالكسرة من الياء وأنشد في بعضُهم :
كفّاك كفّ ما تُليق دِرهما جُوداً وأخرى تُعطِ بالسيف الدَما
ومَن وصل باليَاء وسكتَ بحذفها قال : هي إذا وَصلتُ في موضع رفع فأُثبتها، وهي إذا سَكتُّ عليها تسكن فحذفتُها. كما قيل : لم يَرْم ولم يَقْض. ومثله قوله :﴿ ما كُنا نَبْغِ ﴾، كُتبت بحذف الياء، فالوجه فيها : أن تثبت الياء إذا وصَلْت وتحذفَها إذا وقفْتَ. والوجه الآخر : أن تحذفها في القطع والوصل، قرأَ بذلك حمزة. وهو جائز.
وقوله :﴿ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ١٠٦ ﴾،
فالزفير : أوَّل نهِيق الحمار وشبهِه، والشهِيق : من آخره.
وقوله :﴿ خَالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ ما شَاء رَبُّكَ ١٠٧، ١٠٨ ﴾،
يقول القائل : ما هَذا الاسْتثناء وقد وعد الله أَهْل النار الخلود وأهلَ الجنّة الخلود ؟ ففي ذلك معنيان ؛ أحدهما : أن تجعله استثناء يَسْتثنيه وَلاَ يفعله ؛ كقولك : والله لأضربنّكَ إلاّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتُك على ضَربه، فكذلك قال :﴿ خَالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ ما شَاء رَبُّكَ ﴾، ولا يشاؤه، والله أعلم ؛ والقول الآخر : إن العرب إذا استثنت شيئاً كبيراً مع مثله أو مع ما هو أكبر منه كان مَعْنى إلاَّ ومعنى الواو سواء، فمن ذلك قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ﴾، سِوَى ما يشاء من زيادة الخلود، فيجعل ( إلاَّ ) مكان ( سِوَى ) فيصلح. وكأنّه قال : خالدين فيها مقدار ما كانت السَّموات وكانت الأرض سوى ما زادهم من الخلود ( و ) الأبد. ومثله في الكلام أن تقول : لي عَليكَ ألف إلاَّ الألفين اللذين من قِبَل فلان ؛ أفلا ترى أَنه في المعنى : لي عَليكَ سوى الألفين. وهذا أحَبّ الوجهين إليَّ، لأنَّ الله عزّ وجل لا خُلْف لوعده، فقد وصل الاستثناء بقوله :﴿ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾، فاسْتدل على أَن الاستثناء لهم بالخلود غير منقطِع عنهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٧:وقوله :﴿ خَالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ ما شَاء رَبُّكَ ١٠٧، ١٠٨ ﴾،
يقول القائل : ما هَذا الاسْتثناء وقد وعد الله أَهْل النار الخلود وأهلَ الجنّة الخلود ؟ ففي ذلك معنيان ؛ أحدهما : أن تجعله استثناء يَسْتثنيه وَلاَ يفعله ؛ كقولك : والله لأضربنّكَ إلاّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتُك على ضَربه، فكذلك قال :﴿ خَالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ ما شَاء رَبُّكَ ﴾، ولا يشاؤه، والله أعلم ؛ والقول الآخر : إن العرب إذا استثنت شيئاً كبيراً مع مثله أو مع ما هو أكبر منه كان مَعْنى إلاَّ ومعنى الواو سواء، فمن ذلك قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ﴾، سِوَى ما يشاء من زيادة الخلود، فيجعل ( إلاَّ ) مكان ( سِوَى ) فيصلح. وكأنّه قال : خالدين فيها مقدار ما كانت السَّموات وكانت الأرض سوى ما زادهم من الخلود ( و ) الأبد. ومثله في الكلام أن تقول : لي عَليكَ ألف إلاَّ الألفين اللذين من قِبَل فلان ؛ أفلا ترى أَنه في المعنى : لي عَليكَ سوى الألفين. وهذا أحَبّ الوجهين إليَّ، لأنَّ الله عزّ وجل لا خُلْف لوعده، فقد وصل الاستثناء بقوله :﴿ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾، فاسْتدل على أَن الاستثناء لهم بالخلود غير منقطِع عنهم.

وقوله :﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّما لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ١١١ ﴾،
قرأت القراء بتشديد ( لَما ) وتخفيفِها، وتشديد إن وتخفيفها، فمنْ قال :﴿ وَإنَّ كُلاَّ لَما ﴾، جعل ( ما ) اسما للناس، كما قال :﴿ فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء ﴾، ثم جَعَل اللام التي فيها جَواباً لإنّ، وجَعَل اللام التي في ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) لا ما دخلت على نيّة يمين فيها : فيما بين ما وصلتها ؛ كما تقول : هذا مَن لَيذهبنَّ، وعندي ما لَغَيْرُهُ خير منه. ومثله :﴿ وإنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ ليُبَطِّئَن ﴾، وأَما مَنِ شدّد ( لما ) فإنه - والله أعلم - أَراد : لِمن ما لَيُوَفِّينَّهم، فلما اجتمعت ثلاث ميمات حذَف واحدة فبقيت اثنتان فأدغمت في صَاحبتها ؛ كما قال الشاعر :
وإني لَمِما أُصدر الأمرَ وَجْهَهُ إذا هو أعيا بالسبيل مصادرُه
ثم يخفّف كما قرأ بعض القراء :( وَالبَغْيِ يَعِظُكْمْ )، بحذف الياء ( عند الياء )، أنشدني الكسائي :
وأَشمتَّ العُداة بنا فأضحَوا * لدَيَّ تَبَاشَرُونَ بما لِقينا
معناه :( لديَّ ) يتباشرون، فحذف لاجتماع الياءات ومثله :
كأنّ مِن آخرها القادِمِ مَخْرِمَ نجدٍ فارعَ المخارم
أراد : إلى القادم، فحذف اللام عند اللام. وأَما مَن جعل ( لَما ) بمنزلة إلاَّ فإنه وجه لا نعرفه. وقد قالت العرب : بالله لَما قمت عنا، وإلاَّ قمت عنا، فأما في الاستثناء فلم يقولوه في شعر ولا غيره ؛ أَلا ترى أنَّ ذلك لو جَاز لسمعتَ في الكلام : ذهب الناسَ لَما زيدا.
وأَما الذين خفّفوا ( إن ) فإنهم نصبوا كلا بِ ( لَيُوفَّينَّهم ). وقالوا : كأنا قلنا : وإنْ لَيوَفِّينَّهم كُلاَّ. وهو وجه لا أشتهيه ؛ لأن اللام إنما يقع الفعل الذي بعدها على شيء قبله، فلو رفعت كلّ لصلح ذلك، كما يصلح أَن تقول : إنْ زيد لقائم، ولا يصلح أن تقول : إنْ زيداً لأَضربُ ؛ لأن تأويلها كقولك : ما زيداً إلاّ أضرب، فهذا خطأ في إلاّ وفي اللام.
وقرأ الزُهريّ :( وإنَّ كُلاًّ لَما ليُوَفِّيَنَّهم )، ينوّنها، فجعل اللام شديداً، كما قال :﴿ وَتَأْكُلُون التُرَاثَ أَكْلاً لَما ﴾، فيكون في الكلام بمنزلة قولك : وانّ كلا حقّا ليوفينّهم، وإن كلا شديدا ليوفينّهم. وإذا عَجَّلت العرب باللام في غير موضعها أعادوها إليه، كقولك : إنَّ زيدا لإليك لمحسن، كان موقع اللام في المحسن، فلما أدخلت في إليك أُعيدت في المحسن، ومثله قول الشاعر :
ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزّة لَبَعْدُ لقد لاقيتُ لا بدّ مَصْرعَا
أَدخلها في ( بَعد ) وليسَ بموضعها، ومثله قول أبى الجرّاح : إني لبحمد الله لصالح.
وقوله :﴿ زُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ ﴾،
بضمّ اللام، تجعله واحداً مثل الحُلُم. والزُلَف : جمع زُلْفة. وزُلَف، وهي قراءة العامّة، وهي ساعة من الليل، ومعناه : طرفي النهار وصلاة الليل المفروضة : المغَربَ والعشاء وصلاة الفجر، وطرفي النهار : والعصر.
وقوله :﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ ١١٦ ﴾،
يقول : لم يكن منهم أحد كذلك إلاَّ قليلا، أي : هؤلاء كانوا ينهونَ فنجَوا. وهو استثناء على الانقطاع مما قبله، كما قال عَزَّ وجل :﴿ إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾، ولو كانَ رفعاً كان صَواباً. وقوله :﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ما أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾، يقول : اتّبعوا في دنياهم ما عُوِّدوا من النعيم وإيثار اللذّات على أمر الآخرة. ويقال : اتّبعوا ذنوبهم وأعمالهم السَّيّئة إلى النار.
وقوله :﴿ وَما كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ١١٧ ﴾،
يقول : لم يكن ليهلكهم وهم مصلحونَ، فيكونَ ذلك ظلما. ويقال : لم يكن ليهلكهم وهم يتعاطَون الحقّ فيما بينهَم وإن كانوا مشركين. والظلم : الشرك.
وقوله :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ١١٩ ﴾، يقول :( لا يَزَالونَ )، يعنى : أهل الباطل، ﴿ إلا من رحم ربك ﴾، أهلَ الحقّ، ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )، يقول : للشقاء وللسعادة. ويقال :﴿ ولا يزالونَ مختلفينَ إلاّ من رحم ربُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ : للاختلاف والرحمة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:وقوله :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ١١٩ ﴾، يقول :( لا يَزَالونَ )، يعنى : أهل الباطل، ﴿ إلا من رحم ربك ﴾، أهلَ الحقّ، ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )، يقول : للشقاء وللسعادة. ويقال :﴿ ولا يزالونَ مختلفينَ إلاّ من رحم ربُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ : للاختلاف والرحمة.

وقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ١١٩ ﴾،
صار قوله عزّ وجلّ :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾، يمينا، كما تقول : حَلِفي لأضربنَّك، وبدا لي لأضربنّك. وكلّ فعل كان تأويله كتأويل بلغني، وقيل لي، وانتهي إلىّ، فإن اللام وأَن تصلحان فيه. فتقول : قد بدا لي لأضربنّك، وبدا لي أن أضربك. فلو كان : وتَمَّت كلمة ربك أن يملأ جهنم كانَ صواباً، وكذلك :﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ ﴾، ولو كان : أن يسجنوه، كان صواباً.
وقال :﴿ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ١٢٠ ﴾، في هذه السورة.
Icon