تفسير سورة القصص

معاني القرآن
تفسير سورة سورة القصص من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

وقوله :﴿ وَيُري فِرْعَوْنُ وَهامانَ وَجُنُودُهُما٦ ﴾
هكذا قراءة أصْحاب عَبد الله باليَاء والرفع. والناسُ بعدُ يقرءونها بالنُّون :﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما ﴾ بالنصب. ولو قرئِت باليَاء ونصب فرعون، يريد :﴿ ويُرِيَ اللهُ فرعون ﴾ كان الفعْل لله. ولم أسمع أحداً قرأ به.
وقوله :﴿ عَدُوّاً وَحَزَنا٨ ﴾ هذه لأصحاب عبد الله والعوامُّ ﴿ حَزَنا ﴾ وكأن الحُزْن الاسمُ والغَمّ وَما أشبهه، وكأنّ الحَزَن مصدر. وهما بمنزلة العُدْم والعَدَم.
وقوله :﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ٩ ﴾
رفعت ﴿ قُرّةُ عَيْنٍ ﴾ بإضمار ( هو ) ومثلُه في القرآن كثير يُرفعُ بالضمير.
وقوله :﴿ لاَ تَقْتُلُوهُ ﴾ وفي قراءة عبد الله ( لا تقتلوه قُرَّةُ عين لي ولك ) وإنما ذكرت هذا لأني سمعت الذي يقال له ابنُ مَرْوَانَ السُّدّيّ يذكر عن الكلبيّ عن أبى صَالح عن ابن عبّاس أنه قال : إنها قالت ( قُرَّةَ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ ) وهو لَحْنٌ. ويقوّيك على رَدّه قراءة عبد الله.
وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ يعنى بني إسرائيل. فهذا وجْه. وَيَجوز أن يكون هذا مِنْ قول الله. وهم لا يشعرونَ بأن موسى هو الذي يسلبهم مُلكهم.
وقوله :﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً١٠ ﴾
قد فَرَغ لهمّه، فليس يَخلط هَمَّ موسَى شيء وقوله ﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ يعنى باسم موسَى أنه ابنُها وذلك أن صدرها ضاق بقول آلِ فرعونَ : هو ابن فرعون، فكادت تُبدى [ به ] أي تظهره. وفي قراءة عَبد الله ﴿ إن كادت لَتُشعِرُ بِهِ ﴾ وحدّثنا أبو العَبَّاس قال حدّثنا محمد قال حدثنا الفرّاء قال : حدَّثني ابن أبي يحيى بإسْنادٍ له أن فَضَالة بن عُبَيد الأنصاريّ من أصْحاب النبيّ عَليه السَّلام قرأ ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً ) من الفزَع.
وقوله :﴿ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ١١ ﴾ قُصّي أثَره. ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ ﴾. يقول : كَانت على شَاطِئ البحر حَتَّى رأت آل فرعون قد التقطوه. وَقوله ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ يعنى آل فرعون لا يشعرون بأُخته.
وقوله :﴿ وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ١٢ ﴾ يقول : منعناه من قبول ثدْي إِلاَّ ثدي أُمّه.
وقوله :﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ على حِينِ غَفْلَةٍ١٥ ﴾
وإنما قال ( على ) ولم يقل : ودخل المدينة حينَ غفلة، وأنت تقول : دخلت المدينةَ حين غَفَل أهلها، ولا تقول : دخلتها على حينَ غَفَل أهلها. وذلك أنّ الغفلَة كانت تُجزئ من الحين، ألا ترى أنك تقول : دخلت على غفلةٍ وجئت على غفلة، فلما كان ( حين ) كالفضل في الكلامُ، والمعنى : في غفلة أدخلت فيه ( على ) ولو لم تكن كانَ صَواباً. ومثله قَوْل الله ﴿ على فَتْرَةٍ مِنَ الرُسُلِ ﴾ ولو كان على حِين فترةٍ من الرسل لكان بمنزلة هذا. ومثله قوله العجَيز :
..... ومن يكن فتى عامَ عام الماء فهْو كبير
كذلك أنشدني العُقَيليُّ. فالعَام الأول فَضْل.
وقوله :﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى ﴾ يريد : فَلَكزه. وفي قراءة عبد الله ﴿ فَنكَزهُ ﴾ ووَهَزه أيضاً لغة. كلٌّ سَوَاء. وقوله ﴿ فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ يعنى قَتَله.
وندِم موسَى فاستغفر اللهَ فغفر له.
وقوله :﴿ قَالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ علي فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ١٧ ﴾
قال ابن عبّاس : لم يَستَثن فابتُلِي، فجَعَل ( لَنْ ) خَبَراً لموسَى. وفي قراءة عَبد الله ( فَلاَ تَجْعَلْنِي ظَهِيراً ) فقد تكون ﴿ لَنْ أَكُونَ ﴾ على هَذَا المعْنى دُعاء منْ مُوسَى : اللهمّ لن أكون لَهُمْ ظهيراً فيكونُ دعاء وذلك أنَّ الذي من شِيعته لقيه رجل بعد قتله الأوَّلَ فتسخّر الذي من شيعة موسى، فمرّ به موسى على تلك الحال فاسْتصرخه - يعنى اسْتغاثه - فقال له موسى :﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي قد قتَلتُ بالأمس رجلا فتَدعوني إلى آخر. وأقبلَ إليهما فظنَّ الذي من شيعتِه أنه يريده. فَقَالَ ﴿ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ ﴾ ولم يكن فرعون علم مَن قتل القبطيّ الأوَّل. فترك القبطي الثاني صَاحبَ مُوسى من يده وأخبر بأن موسى القاتلُ. فذلك قول ابن عَبَّاسٍ : فابتلي بأن صَاحبه الذي دَلّ عليه.
وقوله :﴿ وَلَما تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ٢٢ ﴾
يريد : قَصد ماء مَدْيَن. ومَدْين لم تصرف لأنها اسم لتلك البلدة. وقال الشاعر :
رُهبانُ مَدْيَن لو رأوكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ من شَعَفِ العقول الفادر
وقوله :﴿ أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ : الطريق إلى مَدْين ولم يكن هادياً لِطريقها.
وقوله عَزّ وَجَلّ :﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ٢٣ ﴾ :
تحبسَان غنمهما. ولا يجوز أن تقول ذُدْتُ الرجل : حبسته. وإنما كان الذِّياد حَبْساً للغنم لأن الغنم والإبل إذا أراد شيء منها أن يَشِذّ ويذهب فرددته فذلك ذَوْد، وهو الحبس. وفي قراءة عَبْدِ الله ( وَدُونَهُمُ امْرَأَتَانِ حابِسَتَانِ ) فَسألهُما عن حبسهما فقالتا : لا نقوى على السقْي مع الناس حتى يُصْدِروا. فأتى أهل الماء فاسْتوهبهم دَلْواً فقَالُوا : استقِ إن قوِيت، وكانت الدلو يحملها الأربعون ونحوهم. فاستقى هو وحدَهُ، فسَقى غنمهما، فذلك قول إحدى الجاريتين ﴿ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِىُّ الأَمِينُ ﴾ فقُوّته إخراجه الدلو وَحْده، وأمانته أنّ إحدى الجاريتين قالت : إن أبي يدعوك، فقامَ معها فمرَّت بين يديه، فطارت الريح بثيابها فألصقتها بجسَدها، فقال لها : تأخّري فإن ضللت فدُلّيني. فمشَتْ خلفه فتلك أمانته.
وقوله :﴿ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ٢٧ ﴾ يقول : أن تجعل ثوابي أن ترعَى عليّ غنمي ثماني حجج ﴿ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ﴾ يقول : فهو تطوّع. فذَكر ابن عباس أنه قضى أكثر الأجلين وأطيبهما.
وقوله :﴿ أَيَّما الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ٢٨ ﴾
فجعل ( ما ) وهي صلة من صلات الجزاء مع ( أي ) وهي في قراءة عبد الله ( أي الأجلين ما قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عليّ ) وهذا أكثر في كلام العرب من الأوَّل.
وقال الشاعر :
وأيَّهما ما أتْبَعَنَّ فإنني حَريصٌ على إثْرِ الذي أنا تابعُ
وسمع الكسائي أَعرابيّاً يقول : فأيُّهم ما أخذها ركِب على أيِّهم، يريد في لُعْبة لهم. وذلك جائز أيضاً حسن.
وقوله :﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النارِ٢٩ ﴾ قرأها عاصم ( أَوْ جَذْوَةٍ ) بالفتح والقراءة بكسر الجيم أو ١٤٠ ا برفعها. وهي مثل أوطأتك عِشوةً وعُشوةً وعَشَوة والرّغوة والرُّغوة والرِّغْوة. ومنه رَبْوةً ورُبْوة ورِبْوة.
وقوله :﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرُّهْبِ٣٢ ﴾ و﴿ الرَّهَبِ ﴾ قرأها أهل المدينة ﴿ الرّهَب ﴾ وَعَاصم والأعمش ( الرُّهْبِ ).
وقوله :﴿ فَذَانِكَ بُرْهانانِ ٣٢ ﴾ اجتمع القراء على تخفيف النون من ﴿ ذَانِكَ ﴾ وكثير من العرب يقول ﴿ فذانّك ﴾ و ﴿ وهذانّ ﴾ قائمان ﴿ واللذانِّ يأْتِيانها مِنْكُمْ ﴾ فيشدِّدون النون.
وقوله :﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ ﴾ يريد عَصَاه في هذا الموضع. والجَناح في الموضع الآخر : ما بين أسْفل العَضد إلى الرُّفْغ وهو الإبْط.
وقوله :﴿ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي٣٤ ﴾ تقرأ جزما ورفعاً. مَن رفعها جعلها صلة للردْءِ ومن جزم فعلى الشرط. والرِّدْءُ : العَوْن. تقول : أردأت الرجل : أعنته. وأهل المدينة يقولونَ ( رِداً يُصّدِّقْنِي ) بغير همزٍ والجزم على الشرط : أرسِله معي يصَدِّقْني مثل ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِث ﴾.
وقوله :﴿ فَأَوْقِدْ لِي ياهامانُ على الطِّينِ٣٨ ﴾ يقول : اطبخ لي الآجُر وهو الأجُور والآجُرّ. وأنشد :
كأنَّ عينيه من الغُؤور *** قَلْتان في جَوف صَفاً منقور
عُولى بالطين وبالأجور ***...
وقوله :﴿ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا٤٨ ﴾ يعنون التوراة والقرآن، ويقال ﴿ سَاحِران تَظَاهَرَا ﴾ يعنونَ محمَّداً وموسى صلى الله عليهما وسلم. وقرأ عاصم والأعمش ( سِحْرانِ ).
حدّثنا أبو العباس قال : حدثنا محمد قال حدثنا الفراء، قال : وحدَّثني غير واحدٍ عن إسْماعيل ابن أبي خالد عن أبى رزين أنه قرأ ( سِحْرانِ تَظَاهَرا ).
قال : وقال سفيان بن عَيَينة عن حُميد قال : قال مجاهد : سألت ابن عباس وعنده عِكْرِمة فلم يجبني، فلما كانت في الثالثة قال عكرمة أكثرتَ عليه ( سَاحِرَان تَظَاهَرَا ) فلم ينكر ابن عباس، أو قال : فلو أنكرَها لغيَّرها. وكان عكرمة يقرأ ( سِحْرَانِ ) بغير ألفٍ ويحتجّ بقوله :﴿ قُلْ فأْتُوا بكِتابٍ مِنْ عندِ الله هُوَ أَهْدَى منهما أَتَّبِعْهُ ﴾ وقرأها أهْل المدينة والحسن ( سَاحِرَان تظَاهَرَا ).
وقوله :﴿ أَتَّبِعْهُ٤٩ ﴾ رَفْع لأنها صلة للكتاب لأنه نكرة وإذا جزمت - وهو الوجه - جعلته شرطاً للأمر.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ٥١ ﴾ يقول : أنزلنا عليهم القرآن يَتْبَع بعضُه بعضاً.
وقوله :﴿ إنا كُنا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ٥٣ ﴾ يقال : كيف أَسْلمُوا قبل القرآن وقبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك أَنهم كانوا يجدون صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في كتابهم فصّدَّقوا به. فذلك إسْلامهم.
و ﴿ مِن قَبْلِهِ ﴾ هذه الهاء للنبي عليه السَّلام. ولو كانت الهاء كناية عن القرآن كان صواباً، لأنهم قد قالوا : إنه الحَقُّ من رَبنا، فالهاء ها هنا أيضاً تكون للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ٥٦ ﴾ يكون الحبّ على جهتين ها هنا :
إحداهما : إنك لا تهدى مَن تحبَّه للقرابة.
والوجه الآخر يريد : إنك لا تهدى من أحببت أن يَهتَدي ؛ كقولك : إنك لا تهدى من تريد- كما تراه كثيراً في التنزيل- ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشاء ﴾ أن يهديه.
وقوله :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَما آمِنا٥٧ ﴾ قالت قريش : يا محمد ؛ ما يمنعنا أن نؤمن بك ونصدّقك إلاّ أن العرب على دِيننا ؛ فنخاف أن نُصطَلم إذا آمنا بك. فأنزل الله ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ ﴾ نسكنهم ﴿ حَرَما آمِنا ﴾ لا يَخاف مَن دخله أن يقام عليه حَدّ ولا قصَاص. فكيف يخافون أن تستحِلّ العَرب قتالهم فيه ؟ !
وقوله :﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ و ﴿ تُجْبَى ﴾ ذُكِّرت يُجْبى، وإن كانت الثمرات مؤنثة لأنك فرقت بينهما بإليه، كما قال الشاعر :
١٤٠ ب إنّ امرءًا غَرَّه منكُنَّ واحدُةٌ بعدي وَبعدك في الدنيا لمغرور
وقال آخر :
لقد ولدَ الأُخيطلَ أُمُّ سَوْء على قِمَع اسْتِها صُلُب وشَامُ
وقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها٥٨ ﴾ بطرتها : كفرتها وخَسِرَتْها ونَصبُكَ المعيشة من جهة قوله ﴿ إلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ إنما المعنى والله أعلم - أبطرتها معيشتُها ؛ كما تقول : أبطركَ مالُك وبَطِرتَه، وأسْفهك رأيُكَ فسفِهته. فذُكرت المعيشة لأن الفعل كان لها في الأصل، فحوِّل إلى ما أضيفت إِليه. وكأنّ نصبه كنصب قوله ﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيء مِنْهُ نَفْساً ﴾ أَلاَ ترى أن الطِيب كان للنفس، فلما حَوَّلته إلى صاحب النفْس خرجتِ النفسُ منصوبة لتفسِّر معنى الطيب. وكذلك ﴿ ضقنا به ذَْرْعاً ﴾ إنما كان المعنى : ضاق به ذَرْعُنا.
وقوله :﴿ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ معناه : خرِبت من بعدهم فلم يُعمر منها إلاّ القليل، وسائرها خراب. وأنت ترى اللفظ كَأنها سُكنت قليلاً ثم تُركت، والمعنى على ما أنبأتكَ به مثلُه : ما أعطيتكَ دراهمكَ إلاَّ قليلاً، إنما تريد : إلاّ قليلاً منها.
وقوله :﴿ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها٥٩ ﴾ أُمّ القُرَى مكَّة. وإنما سمّيتْ أمّ القرى لأن الأرض - فيما ذكروا- دُحِيت من تحَتها.
وقوله :﴿ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ٦٦ ﴾ يقول القائل : قال الله ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ﴾ كيف قال هنا :﴿ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ ﴾ فإن التفسير يقول : عَمِيت عليهم الحُجَج يومئذ فسَكَتُوا فذلك قوله ﴿ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ ﴾ في تلك السَّاعة، وهم لا يتكلّمون.
وقوله :﴿ فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ٦٧ ﴾
وكلّ شيء في القرآن من ﴿ عَسَى ﴾ فذُكِر لنا أنها واجبة.
وقوله :﴿ ما كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ٦٨ ﴾ يقال الخِيَرَة والخيرَة والطَّيَرة والطَّيَرةُ. والعرب تقول : أَعطِني الخَيْرَة منهن والخِيَرَة وكلّ ذلك الشيء المختار من رجل أو امرأة أو بهيمة، يَصْلُح إحدى هؤلاء الثلاتِ فيه.
وقوله :﴿ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً٧١ ﴾ دائما لا نهار معه. ويقولون : تركته سَرْمَداً سمْداً، إتباع.
وقوله :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ٧٣ ﴾
إن شئت جَعلت الهاء راجعةً على الليلِ خاصّة وأَضمرت للابتغاء هاء أخرى تكون للنهار، فذلك جَائز. وإن شئت جعلت الليل والنهار كالفعلين لأنهما ظُلْمة وضوء، فرَجعت الهاء في ( فيه ) عليهما جميعاً، كما تقول : إقبالُك وإدباركَ يُؤذيني ؛ لأنهما فعل والفعل يَرَدّ كثيره وتثنيته إلى التوحيد، فيكون ذلك صواباً.
وقوله :﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ٧٦ ﴾ وكان ابن عمِّه ﴿ فَبَغَى عَلَيْهِمْ ﴾ وبَغْيه عليهم أنه قال : إذا كانت النبوّة لموسى، وكان المذبح والقُرْبان الذي يُقَرّب في يد هارون فمالي ؟
وقوله :﴿ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ﴾ نَوؤها بالعُصْبة أن تُثقلهم، والعُصْبة ها هنا أربعون رجلاً ومفاتحه : خزائنه. والمعنى : ما إن مفاتحه لتُنئ العُصْبة أي تميلهم من ثقلها فإذا أدخلت الباء قلت : تنوء بهم وتُنئ بهم، كما قال ﴿ آتُوني أُفرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾ والمعنى : ائتوني بقِطْرٍ افرغ عَليه، فإذا حذفت الباء زدت في الفعل ألِفاً في أوَّله. ومثله ﴿ فَأَجَاءها المَخَاضُ ﴾ معناه : فجاء بها المخاض. وقد قال رجل من أهل العربية : إن المعنى : ما إن العُصْبة لتنوءُ بمفاتحه فحوّل الفعل إلى المفاتح كما قال الشاعر :
إن سراجاً لكريم مفخره تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُه
وهو الذي يَحْلَى بالعين. فان كان سَمع بهذا أثراً فهو وجه. وإلاّ فإنّ الرجل جَهل المعنى. ولقد أنشدني بعض العرب :
حتى إذا ما التأمَتْ مَوَاصِلُهْ وناء في شقٍّ الثِّمالِ كاهِلُهْ
يعنى الرامي لما أخذ القوس ونزع مال على شِقِّه. فذلك نَوْؤه عَليها. ونُرى أن قول العرب : ما ساءك وناءك من ذلكَ، ومَعناه ما سَاءك وأناءك، إلا أنّه أَلقى الألِف ؛ لأنه مُتْبَع لساءك، كما قالت العرب : أكلت طعاما فهَنأنِي ومَرَأَني، ومَعْناه، إذا أفردت : وأمرأني، فحذفت منه الألِف لما أن أُتبع ما لا ألفِ فيه.
وقوله :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ ﴾ ذكروا أن موسى الذي قال له ذلكَ ؛ لأنه من قومه وإن كان على غير دينه. وجمعَه ها هنا وهو وَاحد كقول الله ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الناسُ إنَّ الناسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾ وإنما كان رَجُلاً من أَشْجع وقوله ﴿ الفَرِحين ﴾ وَلو قيلَ : الفارحين كان صواباً، كأنَّ الفارحينَ : الذين يفرحون فيما يَستقبِلون، والفرحين الذين هم فيه السَّاعة، مثل الطامع والطَمِع، والمائت والميّت، والسَّالس والسَّلِس. أنشدَني بعض بنى دُبَير، وهم فصحاء بنى أَسَدٍ :
ممكورةٌ غَرْثي الوشاحِ السَّالِسِ * تضحك عن ذى أُشُر عُضارس
العضارس البارد وهو مأخوذ من العَضْرس وهو البَرْد. يقال : سَالِس وسلِس.
وقوله :﴿ إِنَّما أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي٧٨ ﴾ : على فَضْلٍ عندي، أي كنت أهله وَمُستحقّا له، إذْ أُعطيته لفضل علمي. ويقال :﴿ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ ﴾ ثم قال ﴿ عِندِي ﴾ أي كذاكَ أَرَى كما قال ﴿ إنَّما أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هي فِتْنةٌ ﴾.
وقوله :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ يقول : لا يُسأل المجرم عن ذنبه. الهاء والميم للمجرمينَ. يقول : يُعرفون بسيماهم. وهو كقوله :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جانٌّ ﴾ ثم بيَّن فقال :﴿ يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ ﴾.
وقوله :﴿ وَلاَ يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ٨٠ ﴾ يقول : ولا يُلَقَّى أن يقول ثواب الله خير لمن آمن وعمل صَالحا إلاّ الصابرونَ. ولو كانت : ولا يُلَقّاهُ لكان صَوباً ؛ لأنه كلام والكلام يُذهب به إِلى التأنيث والتذكير. وفي قراءة عبد الله ( بَلْ هي آيات بيِّنات ) وفي قراءتنا ﴿ بَلْ هُوَ آياتٌ ﴾ فمن قال ( هي ) ذهبَ إلى الآيات، ومَنْ قال ( هو ) ذهَبَ إلى القرآن. وكذلك ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغَيْبِ ﴾ و ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاء الغَيْبِ ﴾ ومثله في الكلام : قد غمَّني ذاك وغمَّتني تلك منكَ.
وقوله :﴿ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ٨٢ ﴾ في كلام العرب تقرير. كقول الرجل : أَما ترى إلى صُنع الله. وأنشدني :
وَيْكأنْ مَنْ يكن له نَشَبٌ يُح بَبْ وَمَنْ يَفْتقِر يعش عيشَ ضُرّ
قال الفراء : وأخبرني شيخ من أهْل البصرة قال : سَمعت أعرابيَّة تقول لزوجها : أين ابنكَ ويْلكَ ؟ فقال : وَيْكأنّهُ وراء البيت. مَعْناه : أَما ترينه وراء البيت. وقد يذهب بعض النحوّيينَ إلى أنهما كلمتان يريد وَيْكَ أَنَّه، أراد ويلكَ، فحذف اللام وجعل ( أنّ ) مفتوحةً بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قال : ويلك أعلم أنه وراء البيت، فأضمر ( اعْلم ). ولم نجد العرب تُعمل الظنّ والعلم بإضمارٍ مضمرٍ في أَنَّ. وذلك أنه يبطل إذا كان بين الْكَلِمَتَين أو في آخِرِ ١٤١ ب الكلمة، فلما أضمره جرى مَجْرى الترك ؛ أَلاَ ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول : يا هَذَا أنكَ قائم، ولا يا هذا أنْ قمت تريد : علِمت أو أعلمُ أو ظننت أو أظنّ. وأما حذف اللام مِنْ ( ويْلك ) حَتى تصير ( ويك ) فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام قَالَ عنترة :
ولقد شفي نفسي وَأبرأ سُقمها قولُ الفوارس وَيْكَ عَنْتَرَ أقدِم
وقد قال آخرونَ : أن معنى ( وَيْ كأنَّ ) أَنّ ( وَيْ ) منفصلة من ( كأنّ ) كقولك للرجل : وَيْ، أما ترى ما بين يديكَ، فقال : وَيْ، ثم استأنف ( كأنّ ) يعنى ﴿ ْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ﴾ وهي تعجّب، و ( كأنَّ ) في مذهب الظنّ والعلم. فهذا وجه مُستقيم. ولم تكتبها العرب منفصلةً، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصِلةً. وقد يجوز أن تكون كَثُر بها الكلام فوُصِلت بما ليست منه ؛ كما اجتمعَت العرب على كتاب ﴿ يا بْنَ أُمَّ ﴾ ﴿ يا بْنَؤُمَّ ﴾ قال : وكذا رأيتها في مُصْحف عَبْد الله. وهي في مصاحفنا أيضاً.
وقوله :﴿ لَخَسَفَ بِنا٨٢ ﴾ قراءة العامة ( لَخُسِفَ ) وقد قرأها شَيْبة والحسن - فيما أعْلم - ( لخَسَفَ بنا ) وهي في قراءة عبد الله ( لانْخُسِف بِنا ) فهذا حُجّةٌ لمن قرأ ﴿ لخُسِفَ ﴾.
وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ٨٥ ﴾ يقول : أنزَل عَليكَ القرآن ﴿ لَرَادُّكَ إلَى مَعَاد ﴾ ذكروا أن جبريل قال يا محمَّد أَشتقت إلى مولدكَ ووطنك ؟ قال : نعم. قال فقال له ما أنزل عليه ﴿ إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ يعنى إلى مكَّة. والمَعَاد ها هُنا إنما أراد به حيث وُلِدت وليسَ من العَوْد. وقد يكون أن يجعَل قوله ﴿ لرادُّكَ ﴾ لمصيرك إلى أن تعود إلى مَكَّة مَفتُوحَةً لك فيكون المعاد تَعجّباً ﴿ إلى مَعَادٍ ﴾ أَيِّما مَعَادٍ ! لِما وعده من فتح مكَّة.
وقوله :﴿ وَما كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ٨٦ ﴾ : إلاَّ أن ربَّكَ رحمك ﴿ فأنزل عليك ﴾ فهو استثناء منقطِع. ومعناهُ : وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولينَ وَقِصَصهم تتلوها على أهْل مَكَّة ولم تحضُرها ولم تشهدها. والشاهد على ذلكَ قوله في هَذه السُّورة ﴿ وَما كُنْتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عليهِم آياتِنا ﴾ أي إنك تتلو على أهل مَكَّة قِصَص مَدْيَن وَمُوسى ولم تكن هنالكَ ثاوياً مقيما فنراه وتسمعَه. وكذلك قوله ﴿ وَما كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ ﴾ وهأنت ذا تتلُو قِصَصهم وأمرهم. فهذه الرَّحمة من ربّه.
وقوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ٨٨ ﴾ إلاَّ هُوَ.
وَقال الشاعر :
أستغفرُ الله ذنباً لَسْتُ مُحْصِيهُ رَبّ العِبَاد إليه الوَجْهُ وَالْعَمَلُ
أي إليه أُوَجّه عَمَلي.
Icon