تفسير سورة القصص

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة القصص من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سميت بذلك لاشتمالها على الحكايات والأخبار المروية عن الله، لأن القصص مصدر بمعنى الإخبار، وتسمى أيضاً سورة موسى. قوله: (نزلت بالجحفة) أي حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلاً مهاجراً في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة، عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فنزلت تلك الآية تسلية وتبشيراً له، بأنه يرجع إلى مكان عوده وهو مكة أحسن مرجع، ومن هنا صح استعمال هذه الآية للعارفين عند توديع المسافر، وقيل المعاد الموت، وقيل الآخرة، وكل صحيح، وهذه الآية ليست مكية ولا مدنية، لأنها لم تنزل قبل الهجرة، ولم تنزل بعد استقرارها، بل نزلت بالطريق. قوله: (إلى قوله: لا نبتغي الجاهلين) أي وهو أربع آيات. قوله: (أي هذه الآيات) أي آيات هذه السورة والإشارة لمحقق حاضر في علم الله تعالى.
قوله: ﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ ﴾ مفعوله محذوف أي شيئاً، وقوله: ﴿ مِن نَّبَإِ ﴾ صفة لذلك المحذوف، ويصح أن تكون ﴿ مِن ﴾ اسم بمعنى هي المفعول، أو زائدة على مذهب الأخفش، و ﴿ نَّبَإِ ﴾ هو المفعول. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ حال إما من فاعل ﴿ نَتْلُواْ ﴾ أو من مفعوله، والمعنى حال كوننا ملتبسين بالصدق. أو كون الخبر ملتبساً بالصدق. قوله: (لأجلهم) أشار بذلك إلى أن اللام للتعليل، أي إن المقصود بالذكر المؤمنون، لأنهم هم المنتفعون بذلك، قال تعالى:﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الإسراء: ٨٢].
قوله: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ ﴾ كلام مستأنف بيان للنبأ. قوله: (تعظم) أي تكبر وافتخر. قوله: ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ﴾ أي أصنافاً، فجعل الصنائع الشريفة والإمارة للقبط، وجعل الصنائع الخسيسة لبني إسرائيل، من بناء وحرث وحفر وغير ذلك، ومن لم يستعمله ضرب عليه جزية. قوله: ﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ ﴾ بدل اشتمال من قوله: ﴿ يَسْتَضْعِفُ ﴾ الخ، وذلك أن بني إسرائيل لما كثروا بمصر، استطالوا على الناس وعملوا المعاصي، فلسط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم وذبحوا أبناءهم بأمر فرعون، قيل إنه ذبح سبعين ألفاً، إلى أن نجاهم الله على يد موسى عليه السلام. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ أي الراسخين في الفساد. قوله: (بالقتل وغيره) أي كدعوى الألوهية. قوله: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ﴾ أي نتفضل عليهم بإنجائهم من بأسه. قوله: (يقتدى بهم) أي بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قوله: ﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أن نملكهم مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون. قوله: ﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ ﴾ أي نبصره، و ﴿ فِرْعَوْنَ ﴾ وما عطف عليه مفعول أول، و ﴿ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ ﴾ مفعول ثاني. قوله: (وفي قراءة) أي وعليها فلها مفعول واحد فقط وهو قوله: ﴿ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ ﴾ وعلى هذه فتجب إمالة الراء إمالة محضة. قوله: (ورفع الأسماء الثلاثة) أي على الفاعلية. قوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ أي المستضعفين. قوله: (يخافون من الموت) الخ، أي وقد حصل ما خافوه، حين أتتهم معجزات موسى عليه السلام، وحين أدركهم الغرق.
قوله: (وحي إلهام أو منام) هذان قولان للمفسرين، وقيل كان بملك تمثل لها، واعترض بأنها ليست بنبية، وأجيب: بأن الممنوع نزول الملائكة على غير الأنبياء بالشرائع، وأما بغيرها فجائز، كنزول الملك على البار أمه التي تقدمت قصته في البقرة. قوله: ﴿ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ ﴾ أي واسمها يوحانذ بضم الياء وكسر النون وبالذال المعجمة، وقيل: لوخا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب، وقد اشتملت هذه الآية على أمرين وهما ﴿ أَرْضِعِيهِ ﴾ و ﴿ أَلْقِيهِ ﴾، ونهيين وهما ﴿ لاَ تَخَافِي ﴾ و ﴿ لاَ تَحْزَنِيۤ ﴾، وخبرين وبشارتين وهما ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ و ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ فيهما خبران تضمنا بشارتين. قوله: ﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ يصح أن تكون مفسرة أو مصدرية. قوله: ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ﴾ أي من الذبح. قوله: ﴿ وَلاَ تَخَافِي ﴾ (غرقه) دفع بذلك التناقص بين إثبات الخوف ونفيه، فالمثبت هو خوف الذبح، والمنفي هو خوف الغرق. قوله: ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ أي لتأمني عليه، وهو علة للنهي عن الخوف والحزن. قوله: (فوضعته في تابوت) أي وكان طوله خمسة أشبار وعرضه كذلك، وجعلت المفتاح في التابوت. قوله: (مطلي بالقار) أي الزفت. قوله: (ممهد) أي مفرش له فيه، ففرشت فيه قطناً محلوجاً. قوله: (وأغلقته) أي وقيرت رأسه. وحاصله: أن أم موسى لما تقاربت ولادتها، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل، مصافية لأم موسى ومصاحبة لها، فلما ضربها الطلق، أرسلت إليها قالت: قد نزل بي ما نزل، فليسعفني حبك إياي اليوم فعالجتها، فلما أن وقع موسى بالأرض، هالها نور بين عيني موسى، فارتعش كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها، ثم قالت القابلة لها: يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني، إلا ومرادي قتل مولودك، ولكن وجدت لابنك هذا حباً، ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفظي ابنك، فلما خرجت القابلة من عندها، أبصرها بعض العيون فجاءوا على بابها ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفت موسى بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع، قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور، ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن، فقالوا: ما أدخل عليك القابلة؟ فقالت: هي مصافية لي، فدخلت علي زائرة. فخرجوا من عندها، فرجع لها عقلها فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ فقالت لا أدري، فسمع بكاء الصبي من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله عليه النار برداً وسلاماً فاحتملته، ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان، خافت على ابنها، وقذف الله في نفسها أن تتخذ تابوتاً، ثم تقذف التابوت في النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتاً صغيراً، فقال النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: لي ابن أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به، انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما همّ بالكلام، أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيده، فلم يدر الأمناء ما يقول، فأعياهم أمره، قال كبيرهم: اضربوه وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه، رد الله عليه لسانه فتكلم، فانطلق أيضاً يريد الأمناء، فأتاهم ليخبرهم، فأخذ لسانه وبصره، فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً، فضربوه وأخرجوه، فبقي حيران، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره، أن لا يدل عليه، وأن يكون معه ويحفظه حيثما كانوا، وعرف الله منه الصدق، فرد عليه لسانه وبصره، فخر لله ساجداً قال: يا رب دلني على هذا العبد الصالح، فدل الله عليه، فآمن به وصدقه. وقيل: لما حملت أم موسى به، كتمت أمرها عن جميع الناس، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله، وذلك شيء ستره الله تعالى، لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، فلما كانت السنة التي ولد فيها، بعث فرعون القوابل إليهن، ففتشن النساء تفتيشاً، لم يفتشن قبل ذلك مثله، وحملت أم موسى. قلم يتغير لونها ولم تكبر بطنها، وكانت القوابل لا يتعرضن لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها، ولدته ولا رقيب لها ولا قابلة، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم، وأوحى الله إليها ﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ ﴾ وهو البحر ليلاً، وكان لفرعون يومئذ بنت، وكان بها برص شديد، لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه، وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد جمع لها الأطباء والسحرة، فنظروا في أمرها فقالوا: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر، فيوجد فيه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا، في شهر كذا، حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم، غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفي النيل، وكانت معه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها، حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها، تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن، إذ أقبل النبيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بشجرة ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح البابت فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها، فعالجته ففتحت الباب، فإذا هي بصبي صغير في التابوت، وإذا النور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منها لبناً، فألقى الله محبته في قلب آسية، وأحبه فرعون وعطف عليه، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت، عمدت إلى ما يسيل من ريقه، فلطخت به برصها، فبرئت في الحال بإذن الله تعالى، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك، إنّا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر خوفاً منك، فهمّ فرعون بقلته فقالت أسية: ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا ﴾ أي فنصيب منه خيراً ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾، وكانت آسية لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وقال فرعون، أما أنا فلا حاجة لي فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال فرعون يومئذ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها، فقيل لآسية سميه: فقالت: سميته موسى، لأنّا وجدناه في الماء والشجر، لأن موهو الماء، وشا هو الشجر، فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة. قوله: ﴿ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ عطف على ما قدره المفسر بقوله: (فأرضعته) الخ. قوله: (صبيحة الليل) أي وكان يوم الاثنين. قوله: (وفتح) أي فتحته آسية بعد أن عالجوه بالفتح والكسر فلم يقدروا. قوله: (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام للعاقبة والصيرورة لا للعلة، لأن علة التقاطهم أن يكون حبيباً وابناً، ففي الآية استعارة تبعية في متعلق معنى الحرف، يقدر تشبيه ترتب نحو العداوة والحزن، على نحو الالتقاط بترتب العلة الغائية في المحبة والتبني بجامع مطلق الترتب الأعم من الطرفين، فالترتيب الثاني متعلق معنى اللام، فقدر استعارة الترتيب الكلي المشبه به بالترتب الكلي المشبه، فسرى التشبيه لمعنى اللام الذي هو الترتب مع الجزئي، فاستعير لفظ اللام واستعمل في الترتب الجزئي، والعداوة والحزن قرينة، أفاده الملوي. قوله: (وفي قراءة) الخ، أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (من حزنه) هو من باب ضرب ونصر. قوله: (فعوقبوا على يديه) أي إنه تربى على أيديهم، فهو أبلغ في إذلالهم. قوله: ﴿ وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ﴾ أي وهي آسة بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، قيل كانت من ذرية الريان بن الوليد الذي كان في زمن يوسف الصديق عليه السلام، وقيل من بنات الأنبياء من بني إسرائيل من سبط موسى عليه السلام، وقيل كانت عمته فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الولد أكبر من ابن سنه، وأنت تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي، وقيل إنها قالت له: إنه أتى من أرض أخرى، وليس هو من بني إسرائيل. قوله: (هو) ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ ﴾ أشار المفسر إلى أنه خبر لمحذوف. قوله: ﴿ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا ﴾ الخ، أي لما رأت فيه من العلامات الدالة النجابة والبركة. قوله: (فأطاعوها) أي على عادة أمراء مصر، من كونهم يطيعون النساء فيما يقلنه. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ حال من آل فرعون. قوله: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ ﴾ يصح ان يبقى أصبح على ظاهره إن ثبت أنه ألقته ليلاً أو يجعل بمعنى صار إن كانت ألقته نهاراً. قوله: ﴿ فَارِغاً ﴾ (مما سواه) أي من التفكير في غيره، لما ورد أنه أتاها الشيطان وقال: كرهت أن يقتل فرعون ابنك، فيكون لك أجره وثوابه، وتوليت أنت قتله فأغرقته في البحر، فحزنت لذلك وانحصرت فكرتها فيه ونيست ما أوحى به إليها. قوله: ﴿ لَتُبْدِي بِهِ ﴾ ضمنه معنى تصرح فعداه بالياء، ويصح أن يبقى على ظاهره، وتكون الباء زائدة أي تظهره. قوله: ﴿ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا ﴾ جوابها محذوف أي لأبدت به كما أشار له المفسر. قوله: (بوعد الله) أي المدلول عليه بقوله: ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ ألخ. قوله: ﴿ لأُخْتِهِ ﴾ أي شقيقته. قوله: (مريم) هو أحد أقوال، وقيل اسمها كلثمة وقل كلثوم. قوله: ﴿ عَن جُنُبٍ ﴾ حال إما من الفاعل أو من الضمير المجرور بالياء، أي أبصرته مستخفية كائنة عن جنب وأبصرته بعيداً منها. قوله: (اختلاساً) أي اختفاء. قوله: (وأنها ترقبه) أي تنظره.
قوله: ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ﴾ أي على موسى. قوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ هو ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله:(أي منعناه) أشار بذلك إلى أن المراد من التحريم لازمة وهو المنع، لأن الصبي ليس من أهل التكليف. قوله: (من المراضع المحضرة) أي التي أحضرها فرعون. قوله: ﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ أي مخلصون في العمل من شوائب الفساد. قوله: (حنوهم عليه) أي عطفهم وميلهم إليه. قوله: (وغيره) أي كالتربية وإصلاح الحال. قوله: (فقيل ثديها) أي بعد أن مكث عندهم ثمانية أيام لا يقبل ثدي مرضعة أصلاً، قيل إن هامان لما سمع قولها ﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ قال إنها لتعرفه وأهله، فخذوها واحبسوها حتى تخبر بحاله، فقالت: إنما أردت وهم له أي للملك ناصحون، فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله، فأتت بأم موسى وهو على يد فرعون يبكي طالباً الرضاع، وهو يعلله شفقة عليه، فلما وحد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها: من أنت منه، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها وقال لها: أقيمي عندنا لإرضاعه، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي، فإن رضيتم أرضعته في بيتي، وإلا فلا حاجة لي فيه، وأظهرت الزهد فيه نفياً للتهمة عنها، فرضوا بذلك، فرجعت إلى بيتها من يومها، ولم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.
قوله: ﴿ كَيْ تَقَرَّ ﴾ أي تبرد وتسكن من ألم الفراق. قوله: ﴿ وَلاَ تَحْزَنَ ﴾ عطف على ﴿ تَقَرَّ ﴾ منصوب بأن مضمرة بعد ﴿ كَيْ ﴾.
قوله: (فمكث عندها إلى أن فطمته) أي وهو سنتان. قوله: (وأخذتها لأنها مال حربي) جواب عما يقال: كيف جاز لها أن تأخذ أجرة منه على إرضاع ولدها؟ قوله: (أو ثلاث) أو لتنويع الخلاف. قول: (أي بلغ أربعين سنة) المناسب أن يقول أي كمل عقله وانتهى شبابه، لأن موسى أقام في مصر ثلاثين سنة، ثم ذهب إلى مدين وأقام فيها عشر سنين، ووقعة قتل القبطي كانت قبل ذهابه لمدين، فهي السبب فيه. قوله: (كما جزيناه) أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه، نجزي المحسنين على إحسانهم. قوله: (منف) بضم فسكون ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث أو العجمة، وهي من أعمال مصر، وقيل هي قرية يقال لها أم خنان على فرسخين من مصر، وقيل هي مدينة عين الشمس، وقيل هي مصر. قوله: (وقت القيلولة) وقيل بين المغرب والعشاء، وسبب دخوله المدينة في ذلك الوقت، أن موسى كان يسمى ابن فرعون، وكان يركب مراكبه، ويلبس لباسه، فركب فرعون يوماً وكان موسى غائباً، فلما قدم قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب موسى في أثره، فأدركه المقيل في أرض منف، فدخلها ليس في طرقها أحد. قوله: ﴿ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي وكان طباخاً لفرعون واسمه فليثون، وأراد أن يسخر الإسرائيلي لحمل الحطب. قوله: ﴿ فَٱسْتَغَاثَهُ ﴾ أي طلب غوثه ونصره. قوله: (أن أحمله) أي الحطب. قوله: ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ ﴾ أي دفعه يجمع كفه، وأما اللكز فهو الضرب بأطراف الأصابع قوله: (بجمع كفه) أي بكفه مجموعة، فهو من إضافة الصفة للموصوف. ، قوله: ﴿ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ﴾ أي أوقع عليه القضاء وهو الموت. قوله: (ولم يكن قصد قتله) جواب عما يقال: كيف تجرأ على قتل القبطي؟ وحاصل إيضاح الجواب: أن قتله كان خطأ، وقد يقال: قتله من باب دفع الصائل وهو واجب، والاستغفار من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله: ﴿ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾ نسبته للشيطان من حيث إنه لم يؤمر بقتل القبطي، وظهر له أن قتله خلاف الأولى، لما يترتب عليه من الفتن، والشيطان تفرحه الفتن. قوله: ﴿ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ الحق أن هذا تواضع منه، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله: (بحق إنعامك) ﴿ عَلَيَّ ﴾ أشار بهذا إلى أن ما مصدرية، والكلام على حذف مضاف، وأشار بقوله: (اعصمني) إلى أن الباء متعلقة بمقدر هو هذا، وقوله: ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ﴾ جواب شرط قدره بقوله: (إن عصمتني) وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون وانتظامه في جماعته وتكثير سواده. قوله: ﴿ فَإِذَا ٱلَّذِي ﴾ إذا فجائية، و ﴿ ٱلَّذِي ﴾ مبتدأ نعت لمحذوف أي فإذا الإسرائيلي الذي. و ﴿ ٱسْتَنْصَرَهُ ﴾ صلته، و ﴿ يَسْتَصْرِخُهُ ﴾ خبر المبتدإ. قوله: (على قبطي آخر) أي يريد أن يستخدمه، والاستصراخ الاستغاثة، وسميت بذلك لأن المستغيث يصوت ويصرخ في طلب الغوث. قوله: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ ﴾ قال ابن عباس: إن القبط قالوا لفرعون: إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلاً فخذ لنا بحقنا، فقال: اطلبوا قاتله ومن يشهد عليه، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر، فاستغاثه على الفرعوني، وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي، فقال الإسرائيلي: ﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾.
قوله: (لما فعلته أمس واليوم) أي حيث قاتلت بالأمس رجلاً، فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه. قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ ﴾ الخ، وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة على الإسرائيلي، فمد يده ليبطش بالقبطي، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به هو، لما رأى من غضبه وسمع من قوله: ﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ قال: ﴿ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ ﴾ الخ. قوله: ﴿ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الجبار هو الذي يقتل ويضرب ويتعاظم، ولا ينظر في العواقب. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ ﴾ أي بين الناس. قوله: (هو مؤمن آل فرعون) هو ابن عم فرعون واسمه حزقيل، وقيل شمعون، وقيل سمعان، وهو الذي ذكر في قوله تعالى:﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾[غافر: ٢٨].
قوله: ﴿ يَسْعَىٰ ﴾ صفة لرجل أو حال منه، لوجود المخصص قبله. قوله: (يتشاورون فيك) أي يأمر بعضهم بعضاً بقتلك. قوله: (أو غوث الله إياه) أو مانعة خلو تجوز الجمع.
قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي ﴾ الخ، أي خلصني منهم واحفظني من لحقوهم، قوله: ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ ﴾ أي بإلهام من الله، لعلمه بأن أرض مدين لا تسلط لفرعون عليها، وأن بينه وبين أهل مدين قرابة، لكونهم من ذرية إبراهيم وهو كذلك. قوله: (ابن ابراهيم) أي الخليل عليه السلام، وله ولد آخر اسمه مداين، فأولاده أربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين، وإنما لم يصرح في القرآن بمدين ومداين، لأنهما لم يكونا نبيين. قوله: (ولم يكن يعرف طريقها) وخرج بلا زاد ولا رفيق، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض، حتى ريئت خضرته في باطنه من خارج، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه، وهو أول ابتلاء من الله لموسى. قوله: ﴿ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ من إضافة الصفة للموصوف، أي السبيل السوي. قوله: (أي الطريق الوسط) أي وكان لها ثلاث طرق، فأخذ موسى يمشي في الوسطى، وجاء الطلاب في أثره، فساروا في الأخريين ولم يعرفوا محله. قوله: (ملكا) أي وكان راكباً على فرس قيل هو جبريل. قوله: (بيده عنزة) هي فوق العصا دون الرمح، في طرفها حربة كحربة الرمح. قوله: (بئر فيها) أشار بذلك إلى أنه أطلق الحال وأراد المحل، فأطلق الماء وأريد البئر. قوله: (أي وصل إليها) أشار بذلك إلى أن المراد بالورود هنا الوصول، لأن الورود يطلق على الدخول في الشيء، وعلى الاطلاع على الشيء والوصول إليه، ومنه قوله تعالى:﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾[مريم: ٧١] على مشهور التفاسير. قوله: (جماعة) أي كثيرة. قوله: ﴿ يَسْقُونَ ﴾ الجملة حال من فاعل ﴿ وَجَدَ ﴾، لأنها بمعنى لقي، فتنصب مفعولاً واحداً. قوله: (مواشيهم) هو معمول ﴿ يَسْقُونَ ﴾ وقد حذف في هذه الآية معمول ﴿ يَسْقُونَ ﴾ و ﴿ تَذُودَانِ ﴾ و ﴿ لاَ نَسْقِي ﴾ لأن المقصود الفعل لا المفعول. قوله: (جمع راع) أي على غير قياس، وقياسه بضم الراء كقاض وقضاة. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ أي فهذا وجه مباشرتنا للسقي بأنفسنا، قال الأجهوري في شرح خطبة الشيخ خليل. - تتمة - عاش شعيب نبي الله ثلاثة آلا ف سنة، ذكره الشيخ زروق، وفي رواية وكان في غنمه اثنا عشر ألف كلب، وفي رواية أنه عاش ثلاثة آلاف سنة وستمائة سنة اهـ ملخصاً من حاشية شيخنا الشيخ سليمان الجمل على فضائل رمضان للأجهوري. قوله: (لا يقدر أن يسقي) أي فيرسلنا اضطراراً. قوله: ﴿ فَسَقَىٰ لَهُمَا ﴾ أي سقى أغنامهما لأجلهما. قوله: (إلا عشرة أنفس) وقيل سبعة وقيل ثلاثون وقيل أربعون وقيل مائة. قوله: (لسمرة) بضم الميم، وهي شجرة عظيمة من شجر الطلح، وهي التي أمر صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بالنزول والصلاة عندها. قوله: ﴿ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ ﴾ إن حرف توكيد والياء اسمها، و ﴿ لِمَآ أَنزَلْتَ ﴾ متعلق بفقير وهو خبر إن، و ﴿ أَنزَلْتَ ﴾ بمعنى تنزل، والمعنى إني فقير ومحتاج لما تنزله إلي من أي شيء، كان قليلاً أو كثيراً. قوله: (ادعيه لي) أي اطلبيه ليحضر عندي.
قوله: ﴿ فَجَآءَتْهُ ﴾ الخ، عطف على ما قدره المفسر بقوله: (فرجعتا) الخ. قوله: ﴿ تَمْشِي ﴾ حال من فاعل جاء، وقوله: ﴿ عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ ﴾ حال من الضمير في ﴿ تَمْشِي ﴾، والاستحياء هو الحياء بالمد، وهو حالة تعتري الشخص، تحمله على تجنب الرذائل. قوله: (كمّ درعها) أي قميصها. قوله: (منكراً في نفسه أخذ الأجرة) أي فلم يكن قصده بالإجابة أخذ الأجرة، بل للتبرك بأبيها. قوله: (وهو شعيب) هذا هو الصحيح، وقيل هو يثرون ابن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات، وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب، وشعيب هو ابن متبعون بن عنفاش بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. قوله: (وهي المرسلة) أي وهي التي تزوجها موسى عليه السلام. قوله: ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَئْجَرْتَ ﴾ تعليل للأمر بالاستئجار. قوله: (فسألها عنهما) أي بأن قال لها: وما أعلمك قوته وأمانته. قوله: (وزيادة) أي على ما ذكرته من القوة والأمانة، وقد يقال إن هذا من جملة الأمانة فلا زيادة. قوله: (صوب رأسه) أي خفضه. قوله: (فرغب في إنكاحه) أي رغب شعيب في إنكاحه ابنته. قوله: ﴿ هَاتَيْنِ ﴾ استفيد منه أنه كان له غيرهما، قيل كان له سبع بنات. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ﴾ حال من الفاعل أو المفعول، ومفعول ﴿ تَأْجُرَنِي ﴾ محذوف، والمعنى تأجرني بنفسك، وقوله: ﴿ ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ ظرف له. قوله: ﴿ فَمِنْ عِندِكَ ﴾ (التمام) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَمِنْ عِندِكَ ﴾ خبر لمحذوف والتقدير فالتمام من عندك تفضلاً، لا إلزاماً. قوله: (للتبرك) أي فالاستثناء للتبرك والتفويض إلى توفيقه تعالى لا للتعليق، لأن صلاحه محقق. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، و ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ خبره، والمعنى ذلك الذي وقع منك وعاهدتني عليه، ثابت بيننا جميعاً، لا يخرج عنه واحد منا، ويصح أن يكون ذلك مفعول لمحذوف أي قبلت ذلك، وقوله: ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ الخ، حال من اسم الإشارة، والمعنى قبلت ذلك العقد حال كونه كائناً بيني وبينك، لم يكن علينا شهيد إلا الله. قوله: ﴿ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ ﴾ أي شرطية، وجوابها فلا عدوان علي، وما زائدة كما قال المفسر. قوله: (الثمان أو العشر) بالنصب تفسير لأي. قوله: (فتم العقد) أي عقد النكاح والإجارة. إن قلت: إن الذي وقع من شعيب وعد، والنكاح لا يكون إلا بصيغة إبرام، وأيضاً لم يبين المنكوحة، وأيضاً الصداق ليست ثمرته عائدة عليها. وأجيب بجوابين: الأول أن هذا كان في شرعه جائز. الثاني أنه يمكن تنزيله على شرعنا، بأنه قصد بالوعد إنشاء الصيغة، وقد وقع من موسى القبول بقوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ وبأنه يمكن أنه بيّن المنكوحة بإشارة مثلاً، وأن الغنم يمكن أن يكون بعضها مملوكا لها، فثمرة الرعي عائدة عليها، قوله: (فوقع في يدها عصا آدم) قيل إنه أودعها ملك في صورة رجل عند شعيب، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فأتته بها فردها سبع مرات، فمل يقع في يدها غيرها، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة عنده، فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع، فأتاهما الملك فقال ألقياها، فمن رفعها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، فرفعها موسى عليه السلام فكانت له. قوله: (من آس الجنة) أي وتوارثها الأنبياء بعد آدم، فصارت منه إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، حتى وصلت لشعيب، وكان لايأخذها غير نبي إلا أكلته. قوله: (وهو المظنون به) أي وإن لم يصرح القرآن به لكمال مروءته، فالمعول عليه أنه وفى العشر.
قوله: ﴿ بِأَهْلِهِ ﴾ أي زوجته وولده وخادمه. قوله: (نحو مصر) أي لصلة رحمه وزيادة أمه وأخيه. ورد أنه لما عزم على السير قال لزوجته: اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم، فطلبت من أبيها ذلك فقال: لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شبهها، من كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء واسق منه الغنم، ففعل ذلك، فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقة إلى موسى وابنته، فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام. قوله: ﴿ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ﴾ أي الأيمن بدليل ما يأتي. قوله: (عن الطريق) أي لنستدل عليها. قوله: (بتثليث الجيم) أي وكلها سبعية فالكسر قراءة الجمهور، والضم قراءة حمزة، والفتح قراءة عاصم. قوله: (قطعة وشعلة) أي عود غليظ كأن في رأسه ناراً أو لا، قيل وهو ما رأسه نار، فقوله: ﴿ مِّنَ ٱلنَّارِ ﴾ وصف مخصص على الأول وكاشف على الثاني. قوله: (والطاء بدل من تاء الافتعال) أي فأصله تصتلون، وقعت التاء بعد أحد حروف الإطباق فقلبت طاء. قوله: (بكسر اللام) أي من باب رضي، وقوله: (وفتحها) أي من باب رمى. قوله: ﴿ نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ﴾ الخ، قيل إن موسى لما رأى النار مشتعلة في الشجرة الخضراء، علم أن ذلك لا يقدر عليه إلا الله، فلما نودي علم أن الله هو المتكلم بذلك النداء. قوله: ﴿ ٱلأَيْمَنِ ﴾ صفة للشاطئ أو للوادي، من اليمن وهو البركة، أو اليمين مقابل اليسار، والمعنى الشاطئ الذي يلي يمين موسى. قوله: ﴿ فِي ٱلْبُقْعَةِ ﴾ متعلق بنودي. قوله: ﴿ ٱلْمُبَارَكَةِ ﴾ (لموسى) أي لأنه في ذلك المحل حصلت له البركة التامة، فتلك الليلة أسعد لياليه، كليلة الإسراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾ حال من الضمير في نودي، والتقدير نودي موسى، والحال أنه كائن في وجهة الشجرة، وليس المراد أنه سمع الكلام من جهة الشجرة فقط، بل المحققون على أنه سمع الكلام بجميع أجزائه، بلا حرف ولا صوت من جميع جهاته، كما يكون لنا في الآخرة عند رؤية ذاته تعالى، بلا كيف ولا انحصار. قوله: (بدل) أي بدل اشتمال. قوله: (أو عوسج) أي شوك. قوله: (مفسرة) أي لأنه تقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله: (لا مخففة) أي لعدم إفادتها المعنى المقصود. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ هكذا قال هنا، وي سورة طه:﴿ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ ﴾[طه: ١٢].
وقال في النمل:﴿ نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾[النمل: ٨] ولا تنافي بل الكل قال الله له. قوله: ﴿ وَأَنْ أَلْقِ ﴾ عطف على قوله: ﴿ أَن يٰمُوسَىٰ ﴾.
قوله: (من سرعة حركتها) أي فهو وجه شبهها بالجان، وقوله في الآية الأخرى﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾[الأعراف: ١٠٧] أي في عظم الجثة، فتحصل أنها باعتبار الجثة كالثعبان العظيم، وباعتبار الخفة وسرعة الحركة كالحية الصغيرة. قوله: ﴿ وَلَّىٰ مُدْبِراً ﴾ أي باعتبار الطبع البشري حين رآها بهذه الصفة، ورد أنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها، حتى إن موسى سمع صرير أسنانها، وقعقعة الشجر والصخر في جوفها، فحينئذ ولى مدبراً. قوله: (من الأدمة) أي الحمرة. قوله: (تغشى البصر) أي تغطيه. قوله: ﴿ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾ جعل الجناح هنا مضموماً، وفي أية طه مضموماً إليه حيث قال﴿ وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ ﴾[طه: ٢٢] لأن المراد بالجناح المضموم اليد اليمنى، وبالجناح المضموم إليه اليد اليسرى، وكل من اليدين جناح قوله: ﴿ مِنَ ٱلرَّهْبِ ﴾ متعلق باضمم. قوله: (بفتح الحرفين) الخ، أي فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: (بأن تدخلها) أي تدخل اليد اليمنى التي حصل فيها البياض في جيبك، فتعود لحالتها الأولى، فيزول عنك الخوف والفزع الذي حصل لك. قوله: (كالجناح للطائر) أي لأن الطائر إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالمشددة تثنية ذلك بلام البعد، والمخفف تثنية ذاك، فالتشديد عوض عن اللام في المفرد. قوله: (وإنما ذكر المشار به) الخ، جواب عما يقال: إن العصا واليد مؤنثتان، فكان اللائق الإشارة إليهما بتان، فأجاب بأنه روعي الخبر قوله: (مرسلان) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ متعلق بمحذوف صفة بـ ﴿ بُرْهَانَانِ ﴾.
قوله: ﴿ وَمَلَئِهِ ﴾ أي جماعته. قوله: ﴿ لِسَاناً ﴾ أي كلاماً. قوله: (ردءاً) حال من ضمير أرسله. قوله: (بفتح الدال) أي مع التنوين وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ يُصَدِّقُنِي ﴾ أي يقويني في الصدق عند الخصم، بتوضيح الحجج والبراهين. قوله: (جواب الدعاء) أي الذي هو قوله: ﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ ﴾ لأن طلب الأدنى من الأعلى دعاء. قوله: ﴿ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ أي بسبب العقدة التي كانت في فيه، بسبب الجمرة التي وضعها وهو صغير في فيه. قوله: (نقويك) أي فشد العضد كناية عن التقوية من إطلاق السبب وإرادة المسبب، لأن شد العضد يسلتزم شد اليد، وشد اليد مستلزم للقوة. قوله: (بسوء) متعلق بيصلون، وقوله: ﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾ متعلق بمحذوف قدره بقوله: (اذهبا) بدليل الآية الأخرى﴿ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ ﴾[طه: ٤٣] وجمعهما في ضمير واحد، مع أن هارون لم يكن حاضراً مجلس المناجاة، بل كان في ذلك الوقت بمصر، لأن الله أرسل جبريل إلى هارون بالرسالة وهو بمصر في ذلك الوقت، فموسى سمع الخطاب من الله بلا واسطة، وهارون سمعه بواسطة جبريل.
قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا ﴾ المراد بها العصا واليد، وجمعهما لأن كل واحدة اشتملت على آيات متعددة، وتقدم ذلك في سورة طه. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي فرعون وقومه. قوله: (مختلق) أي مخترع من قبل نفسه. قوله: ﴿ وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا ﴾ الخ، هذا محض عناد وكذب، إذ هم يعرفون أن قبله الرسل، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم. قوله: (بواو وبدونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الواو يكون تابعاً لما قبله، وعلى حذفها يكون الكلام مستأنفاً في جواب سؤال. قوله: (أي عالم) أشار بذلك إلى أنه لا مفاضلة في أوصاف الله تعالى، لأن التفاضل من مقتضيات الحدوث وهو مستحيل عليه، فلا تفاضل بين صفاته مع بعضها، ولا مع صفات خلقه. قوله: (عطف على من قبلها) أي فهي في محل جر، والعلم مسلط عليها. قوله: (بالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان، فله خبر ﴿ تَكُونُ ﴾ مقدم، و ﴿ عَاقِبَةُ ﴾ اسمها مؤخر على كلا الوجهين، وذكر الفعل على قراءة التحتانية للفصل، ولأنه مجازي التأنيث. قوله: (أي العاقبة المحمودة) الخ، أشار بذلك إلى أن المراد بالدار، الدار الآخرة، وأن الإضافة على معنى في، ويصح أن المراد بالدار دار الدنيا، والمراد بالعاقبة المحمودة الجنة، إذ العاقبة قسمان: مذمومة ومحمودة، فالجنة عاقبة محمودة، والنار عاقبة مذمومة. قوله: (وهو أنا في الشقين) تفسير للموصول كأنه قال: إن لم تشهدوا لي بالصدق وبأن العاقبة المحمودة لي، فالله عالم بأني جئت بالهدى، وبأن العاقبة المحمودة لي. قوله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ تعليل لقوله: ﴿ رَبِّيۤ أَعْلَمُ ﴾ الخ. قوله: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ﴾ الخ، أي بعد أن شاهد إيمان السحرة وما وقع منهم. قوله: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي ﴾ أي ليس لي علم بوجود إله غيري، وليس مراده بإلهية نفسه، كونه خالقاً للسماوات والأرض وما فيهما، إذ لا يشك عاقل في أن الله هو الخالق لكل شيء، وكان اعتقاده أن العالم العلوي أثر في العالم السفلي، فلا حاجة للصانع. قوله: ﴿ عَلَى ٱلطِّينِ ﴾ أي بعد اتخاذه لبناً، وقيل إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به، وهو الذي علم صنعته لهامان، ولما أمر وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامان العمال والفعلة، حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء، سوى الأتباع والأجراء، فطبخ الآجر والجبس، ونشر الخشب، وسبك المسامير، فبنوه ورفعوه، حتى ارتفع ارتفاعاً، لم يبلغه بناء أحد من الخلق، فلما فرغوا، ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنشابة فضربها نحو السماء، فردت إليه وهي ملطخة دماً فقال: قد قتلت إله موسى، وكان فرعون يصعد هذا الصرح راكباً على البراذين، فبعث الله جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف، وقطعة وقعت في البحر، وقطعة وقعت في المغرب، ولم يبق أحد عمل في الصرح عملاً إلا هلك. قوله: ﴿ لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ ﴾ كأنه من قبحه توهم أن إله موسى في السماء يمكن الرقي إليه. قوله: (وأنه رسوله) أي أن موسى رسول الإله. قوله: ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ أي تكبر. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي أرض مصر. قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ فَأَخَذْنَاهُ ﴾ أي عقب تكبره وعناده. قوله: ﴿ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر به المشركين، فيرجعوا عن كفرهم وعنادهم. قوله: (وإبدال الثانية ياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، لكن قراءة الإبدال من طريق الطيبة لا من طريق الشاطبية. قوله: (بدعائهم إلى الشرك) أي المؤدي للنار. قوله: ﴿ وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ ﴾ أي المطرودين أو الموسومين بعلامة منكرة، كزرقة العيون وسواد الوجه. قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ إخبار من الله لقريش بامتنانه على بني إسرائيل، حين أهلك الأمم الماضية، لما عاندوا وكذبوا رسلهم، وساروا في زمن فترة بإنزال التوراة ليتعبدوا بها، والمقصود من ذلك تعداد النعم على هذه الأمة المحمدية، والمعنى كما أنزل على موسى التوراة وقومه في فترة وجهل، أنزل على محمد القرآن وقومه في فترة وجهل ليهتدوا به. قوله: (وعاد وثمود) عطف على (قوم نوح) ولم ينونه لأنه علم على القبيلة، وهو بهذا الاعتبار ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. قوله: (وغيرهم) أي كفرعون. قوله: (حال من الكتاب) أي إما على حذف مضاف أي ذا بصائر، أو مبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، وكذا يقال في قوله: ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً ﴾ قوله: (أي أنواراً للقلوب) أي تبصر به القلوب، كما أن إنسان العين تبصر به العين. قوله: ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي فالعاقل إذا علم أن كتاب الله، من أوصافه أنه منور للقلوب، وهاد من الضلالة، ورحمة لمن صدق به، بادر إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا يرضى لنفسه بالتواني والكسل والعناد.
قوله: ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ ﴾ الخ، المقصود من ذلك إقامة الحجة على من كذبه صلى الله عليه وسلم، يعني كيف تكذبونه بعد إتيانه بتفاصيل ما حصل للأمم السابقة وأنبيائهم؟ والحال أنكم تعلمون أنه لم يكن حاضراً ذلك ولا مشاهداً له. قوله: ﴿ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ إن قلت: إن هذا معلوم نفيه من قوله: ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ ﴾ فما ثمرة ذكره عقبه؟ أجيب بأنه لا يلزم من كونه هناك على فرض حصول مشاهدته لذلك، ولذلك قال ابن عباس: لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرته ما شاهدت ما وقع فيه. قوله: (بعد موسى) أي لأن أنبياء بني إسرائيل الذي يتعبدون بالتوراة كداود وسليمان وزكريا ويحيى وذا الكفل. كائنون بعد موسى. قوله: (واندرست العلوم) أي فكيف يأتيك الخبر من غير وحي. قوله: (وأوحينا إليك خبر موسى وغيره) أي ليكون معجزة لك وتذكيراً لقومك. قوله: ﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً ﴾ إن قلت: إن قصة مدين متقدمة على قصة الإرسال، فكان مقتضى الترتيب ذكرها قبلها. أجيب: بأن المقصود تعداد العجائب من غير نظر للترتيب، إشارة إلى أن أي واحدة تكفي في إثبات صدقه فيما يخبر به عن ربه. قوله: (مقيماً) أي إقامة طويلة تشعر بمعرفتك قصتهم. قوله: ﴿ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ متعلق بثاوياً. قوله: ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ أي أنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم، ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها. قوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ أي كما لم تحضر يا محمد جانب المكان الغربي، إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور، إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة، وبين الإرسال وإيتاء التوراة نحو ثلاثين سنة، وهذا بالنظر للعالم الجسماني لإقامة الحجة على الخصم، وأما بالنظر للعالم الروحاني، فهو حاضر رسالة كل رسول، وما وقع له من لدن آدم إلى أن ظهر بجسمه الشريف، ولكن لا يخاطب به أهل العناد قوله: ﴿ مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ أي لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى وهي ستمائة سنة.
قوله: ﴿ وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم ﴾ الخ.
﴿ لَوْلاۤ ﴾ حرف امتناع لوجود، و ﴿ أَن ﴾ وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ، وخبره محذوف وجوباً تقديره موجود كما قال المفسر. قوله: ﴿ فَيَقُولُواْ ﴾ عطف على ﴿ تُصِيبَهُم ﴾ والفاء للسببية. قوله: (وجواب لولا) أي الأولى، وأما الثانية فهي تحضيضية. قوله: (أو لولا قولهم) الخ، أي فالمعنى الأول فيه انتفاء الجواب، وهو عدم الإرسال بثبوت ضده وهو الإرسال، لوجود السبب والمسبب معاً، والمعنى الثاني لوجود المسبب الناشئ عن السبب فتدبر. قوله: (لما أرسلناك إليهم رسولاً) أي فالحامل على ذلك تعللهم بهذا القول، فالمعنى امتنع عدم إرسالنا لك، لوجود المصائب المسبب عنها قولهم ﴿ لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ ﴾ الخ، إن قلت: إن الآية تقتضي وجود إصابتهم بالمصائب وقولهم المذكور، والواقع أنهم حين نزول تلك الآيات، لم يصابوا ولم يقولوا. أجيب: بأن الآية على سبيل الفرض والتقدير، فالمعنى لولا إصابة المصائب لهم، واحتجاجهم على سبيل الفرض والتقدير، لما أرسلناك إليهم، فهو بمعنى قوله تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾[طه: ١٣٤] الآية. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي تعنتاً. قوله: (أو الكتاب جملة) أشار بذلك إلى قول آخر في تفسير المثل. قوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي قبل ظهورك. قوله: ﴿ سِحْرَانِ ﴾ خبر لمحذوف أي هما. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (تعاونا) أي بتصديق كل منهما الآخر، وذلك أن كفار مكة، بعثوا رهطاً منهم إلى رؤساء اليهود بالمدينة في عيد لهم، فسألوهم عن شأنه عليه السلام فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ما ذكر. قوله: (والكتابين) الواو بمعنى أو. قوله: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ ﴾ الخ، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين، فائتوا بكتاب من عند الله واضح في هداية الخلق، فإن أتيتم به اتبعته، وهذ تنزل للخصم زيادة في إقامة الحجة عليهم. قوله: ﴿ أَتَّبِعْهُ ﴾ مجزوم في جواب شرط مقدر تقديره إن أتيتم به أتبعه.
قوله: ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ ﴾ أي لم يفعلوا ما أمرتهم به. قوله: ﴿ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي ليس لهم مستند إلا اتباع هواهم الفاسد. قوله: (لا أضل منه) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا ﴾ العامة على تشديد الصاد، وهو مأخوذ إما من وصل الشيء بالشيء، بمعنى جعله تابعاً له، لأن القرآن تابع بضعه بعضاً، قال تعالى:﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾[الفرقان: ٣٣] أو من وصل الحبل جعله أوصالاً أي أنواعاً، لأن القرآن أنواع، كالوعد والوعيد، والقصص والعبر والمواعظ. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ الاسم الموصول مبتدأ، و ﴿ آتَيْنَاهُمُ ﴾ صلته، وهم مبتدأ ثان وبه متعلق بيؤمنون، و ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ خبر الثاني، وهو وخبره خبر الأول. قوله: (أيضاً) أي كما آمنوا بكتابهم. قوله: (نزلت في جماعة أسلموا من اليهود) الخ، قال ابن عباس: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب، أربعون من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وقيل إنها نزلت في أربعين رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخصاصة قالوا: يا رسول الله إن لنا أموالاً، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين، فأذن لهم فانصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، والمقصود من قصد هؤلاء الثناء عليهم والفخر بهم على المشركين. قوله: ﴿ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ إي فإسلامنا ليس بمتجدد، بل هو موافق لما عندنا، لأن في كتبهم صفة النبي ونعته، فتمسكوا بكتابهم ولم يغيروا ولم يبدلوا إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظروا في صفاته وأحواله، فلما وجدوها مطابقة لما عندهم، أظهروا ما كان عندهم من الإسلام. قوله: (بصبرهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية، وقوله: (على العمل بهما) أي أو على أذى المشركين ومن عاداهم من أهل دينهم. قوله: ﴿ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ ﴾ أي يدفعون الكلام القبيح، كالسب والشتم الحاصل لهم من أعدائهم بالحسنة، أي الكلمة الطيبة الجميلة، أو المعنى إذا وقعت منهم معصية أتبعوها بطاعة كالتوبة.
قوله: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ ﴾ الخ، وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تبّاً لكم، أعرضتم عن دينكم وتركتموه، فيعرضون عنهم ويقولون ﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ قوله: (سلام متاركة) أي إعراض وفراق لا سلام تحية. قوله: (لا نصحبهم) الأوضح أن يقول: لا نطلب صحبتهم. قوله: (ونزل في حرصه) الخ، وذلك أنه لما احتضرته الوفاة، جاؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" يا عم قل لا إله إلله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال: يا ابن أخي، قد علمت أنك لصادق، ولكني أكره أن يقال جزع عن الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ثم أنشد: "ولقد علمت بأن دين محمد   من خير أديان البرية دينالولا الملامة أو حذار مسبة   لوجدتني سمحاً بذاك مبينا" ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب وهاشم وبني عبد مناف ثم مات، فأتى علي ابنه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: عمك الضال قد مات، فقال له: اذهب فواره "وما تقدم من أنه لم يؤمن حتى مات هو الصحيح، وقيل: إنه أحيي وأسلم ثم مات، ونقل هذا القول عن بعض الصوفية. قوله: ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ أي لا تقدر على هدايته. إن قلت: إن بين هذه الآية وآية﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[الشورى: ٥٢] تناف. أجيب: بأن المنفي هنا خلق الاهتداء، والمثبت هناك الدلالة على الدين القويم. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ أي فسلم أمرك لله، فإنه أعلم بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولا يبالي بأحد. قوله: (أي قومه) أي وهم بعض أهل مكة، كالحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنا نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، أن يتخطفونا من أرضنا. قوله: ﴿ ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي هو دين الإسلام. قوله: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً ﴾ أي نجعل مكانهم حرماً ذا أمن، وعدي بنفسه لأنه بمعنى جعل، يدل عليه الآية الأخرى وهي:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ﴾[العنكبوت: ٦٧].
قوله: (يأمنون فيه) أشار بذلك إلى أن في الكلام مجازاً عقلياً. قوله: ﴿ يُجْبَىٰ ﴾ أي تحمل وتساق. قوله: (بالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ مجاز عن الكثرة كقوله:﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾[النمل: ٢٣] قال بعض العارفين: من يتعلق ببيت الله الحرام ويسعى إليه، فهو من خيار الخلق، لقوله في الآية: ﴿ يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾.
قوله: (من كل أوب) أي ناحية وطريق وجهة. قوله: ﴿ رِّزْقاً ﴾ إما بمعنى مرزوقاً، فيكون منصوباً على الحال من ثمرات، أو باق على مصدريته، فيكون مفعولاً مطلقاً مؤكداً لمعنى يحبى، أي نرزقهم رزقاً. قوله: (أن ما نقوله حق) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ محذوف.
قوله: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾ رد بذلك على الكفار، وبيَّن لهم أن العبارة بالعكس، وأن خوف التخطف يكون بالكفر لا بالإيمان، وأنهم ما داموا مصرين على كفرهم، يحل بهم وبال بطرهم كما حصل لمن قبلهم. قوله: ﴿ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ أي كفرت نعمة ربها في زمن معيشتها أي حياتها. قوله: ﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ أي خربة بسبب ظلمهم، والإشارة إلى قوم لوط وصالح وشعيب وهود، فإن السفار تمر على تلك المساكن، وتنزل بها في بعض الأوقات. قوله: (للمارة يوماً أو بعضه) أي لأن المار في الطريق، إذا نزل للاستراحة، إنما يستمر في الغالب يوماً أو بعضه. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الخ، بيان للحكمة الإلهية التي سبقت بها مشيئته تعالى، والمعنى ما ثبت في حكمه أن يهلك قرية قبل الإنذار. قوله: (أي أعظمها) أي وهي المدن بالنسبة لما حواليها، فجرت عادة الله أن يبعث الرسول من أهل المدائن، لأنهم أعقل وأفطن، ويتبعهم غيرهم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً لجميع الخلق، كانت بلده أفضل البلاد على الإطلاق، وقبيلته أشرف القبائل على الإطلاق. قوله: ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ أي لقطع الحجج والمعاذير. قوله: ﴿ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ استثناء من عموم الأحوال، كأنه قال: ما كنا نهلكهم في حال من الأحوال، إلا في حال كونهم ظالمين. قوله: ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ ﴾ الخ ﴿ مَآ ﴾ اسم موصول مبتدأ، و ﴿ أُوتِيتُم ﴾ صلته، و ﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ بيان لما، وقوله: ﴿ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ خبره، وقرن بالفاء لما في المبتدإ من معنى العموم، ويصح أن تكون ﴿ مَآ ﴾ شرطية، وقوله: ﴿ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ خبرنا مبتدأ محذوف، والجملة جواب الشرط. قوله: (ثم يفنى) أي يذهب بفنائكم، فجميع ما في الدنيا عرض زائل، يذهب بذهاب أهله، ولا يبقى إلا جزاؤه، فحلال الدنيا حساب، وحرامها عقاب. قوله: (وهو ثوابه) أي ثواب الأعمال التي قصد بها وجهه سبحانه وتعالى. قوله: ﴿ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾ أي دائم بدوام الله. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أتركتم التدبر في أحوالكم فلا تعقلون، فمن آثر الفاني على الباقي، فلا عقل عنده، لما في الحديث:" الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا ما له، ولها يجمع من لا عقل له "ولله در الشافعي حيث قال: إن لِلَّهِ عباداً فطنا   طلقوا الدنيا وخافوا الفتنانظروا فيها فلما علموا   أنها ليست لحي وطناجعلوها لجة واتخذوا   صالح الأعمال فيها سفناوليس المراد من ذلك ترك الدنيا رأساً والخروج عنها بالمرة، بل المراد لا يجعلها أكبر همه ولا مبلغ علمه، وإنما يطلب الدنيا ليستعين بها على خدمة ربه، لتكون مزرعة لآخرته، لما في الحديث:" نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح "فالمضر شغل القلب والنية السوء. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أن الباقي خير من الفاني) قدره إشارة إلى أن مفعول يفعلون محذوف، وأستفيد منه أن عقل الناس المشتغلون بطاعة الله، الذين اختاروا الباقي على الفاني، ومن هنا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من أوصى بثلث ماله لا عْقَلُ الناس، صرف إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى.
قوله: ﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ ﴾ الخ، من مبتدأ، وجملة ﴿ وَعَدْنَاهُ ﴾ صلتها، وقوله كمن وعدناه الخ، خبر المبتدأ، والمعنى أيستوي من وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه، بمن انهمك في طلب الفاني، حتى صار يوم القايمة من المحضرين للعذاب، فهو نظير قوله تعالى:﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾[الجاثية: ٢١].
قوله: (مصيبة) أي مدركة لا محالة، لأن وعده لا يتخلف. قوله: ﴿ مَتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي المشوب بالأكدار. قوله: (الأول) أي وهو من ﴿ وَعَدْنَاهُ ﴾ والثاني وهو من ﴿ مَّتَّعْنَاهُ ﴾.
قوله: (أي لا تساوي بينهما) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ﴾ أي المشركين الذين عبدوا غير الله على لسان ملائكة العذاب، أو النداء من الله لهم والمنفي في آية﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[البقرة: ١٧٤] كلام الرضا والرحمة، فلا ينافي أنه يكلمهم كلام غضب وسخط. قوله: ﴿ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ﴾ تفسير للنداء. قوله: ﴿ تَزْعُمُونَ ﴾ (شركائي) أشار بذلك إلى أن مفعولي تزعمون محذوفان.
قوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ماذا قالوا؟ وجواب هذا السؤال: أنه حصل التنازع والتخاصم بين الرؤساء والأتباع فقال الأتباع: إنهم أضلونا، وقال الرؤساء ﴿ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ الخ، فهو بمعنى قوله تعالى:﴿ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾[ابراهيم: ٢١] الخ، وبمعنى﴿ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّـارِ ﴾[غافر: ٤٧] الخ. قوله: ﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي ثبت وتحقق وهو قوله﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[هود: ١١٩].
قوله: (وهم رؤساء الضلال) أي الذين أطاعوهم في كل ما أمروهم به ونهوهم عنه. قوله: ﴿ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ ﴾ الخ، اسم الإشارة مبتدأ، والموصول نعته، و ﴿ أَغْوَيْنَآ ﴾ صلته، والعائد محذوف قدره المفسر، و ﴿ أَغْوَيْنَاهُمْ ﴾ خبره، وصح الإخبار به لتقييده بقوله: ﴿ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ ففيه زيادة فائدة على الصلة، والمعنى تسببنا لهم في الغي، فقلبوا منا ولم يتبعوا الرسل وما أنزل عليهم من الكتب التي فيها المواعظ والأوامر والنواهي، فلم نخيرهم عن أنفسنا، بل اخترنا لهم ما اخترناه لأنفسنا، فاتبعونا بهواهم. قوله: ﴿ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ ﴾ (منهم) هذا تقرير لما قبله. قوله: (وقدم المفعول) أي وهو قوله: ﴿ إِيَّانَا ﴾.
قوله: ﴿ وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ﴾ أي استغيثوا بآلهتكم متى عبدتموها لتنصركم وتدفع عنك ما نزل بكم، وهذا القول للتهكم والتبكيت لهم. قوله: ﴿ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ﴾ أي نازلاً بهم. قوله: (ما رأوه) هو جواب ﴿ لَوْ ﴾.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ﴾ معطوف على ما قبله فتحصل أنهم يسألون عن إشراكهم وجوابهم للرسل. قوله: ﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ ﴾ أي خفيت عليهم فلم يهتدوا لجواب فيه راحة لهم، أو الكلام على القلب، والأصل فعموا عن الأنباء، أي ضلوا وتحيروا في ذلك، فلم يهتدوا إلى جواب به نجاتهم. قوله: ﴿ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ (عنه) أي عن الخبر المنجي لحصول الدهشة لهم ولقنوطهم من رحمة الله حينئذ. قوله: ﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ ﴾ الخ، أي رجع عن كفره في حال الحياة. قوله: ﴿ فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ ﴾ الترجي في القرآن بمنزلة التحقق لأنه وعد كريم، ومن شأنه لا يخلف وعده. قوله: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، استعظم النبوة ونزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، فنزلت هذه الآية رداً عليه، واختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على أقوال كثيرة، فقيل يخلق ما يشاء من خلقه ويختار ما يشاء منهم لطاعته، وقيل يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار ما يشاء لنبوته، وقيل يخلق ما يشاء محمداً، ويختار الأنصار لدينه، وقيل يخلق ما يشاء محمداً، ويختار ما يشاء أصحابه وأمته لما روي:" إن الله اختار أصحابي على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فجعلهم أصحابي، وفي أصحابي كلهم، خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار لي من أمتي أربعة قرون "اهـ، فقد اختار محمداً على سائر المخلوقات، واختار أمته على سائر الأمم، فكما هو أفضل الخلق على الإطلاق، أمته أفضل الأمم على الإطلاق. قوله: ﴿ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ ﴾ بالتحريك والإسكان معناهما واحد وهو الاختيار، و ﴿ مَا ﴾ نافية، و ﴿ كَانَ ﴾ فعل ناقص، والجار والمجرور خبرها مقدم، و ﴿ ٱلْخِيَرَةُ ﴾ اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة، فالوقف على يختار، والمعنى ليس للخلق جميعاً الاختيار في شيء، لا ظاهراً ولا باطناً، بل الخيرة لله تعالى في أفعاله، لما في الحديث القدسي:" يا عبادي أنت تريد، وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لي ما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي ما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد "وإنما خص المفسر المشركين بذلك مراعاة لسبب النزول، ويصح أن تكون ﴿ مَا ﴾ مصدرية، وما بعدها مؤول بمصدر، والمعنى يختار اختيارهم فيه، ويصح أن تكون موصولة والعائد محذوف، والتقدير ويختار الذي لهم فيه الاختيار، وحينئذ فلا يصح الوقف على يختار، والأول أظهر، فالواجب على الإنسان، أن يعتقد أنه لا تأثير لشيء من الكائنات في شيء أبداً، وإنما يظهر على أيدي الخلق أسباب عادية يمكن تخلفها. قوله: ﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾ أي تنزيهاً له عما لا يليق به. قوله: (من الكفر وغيره) أي كالإيمان، فيجازي الكافر بالخلود في الجنة.
قوله: ﴿ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ ﴾ أي هو مستحق للثناء بالجميل في الدنيا والجنة، لأنه لا معطي للنعم فيهما، إلا هو سبحانه تعالى، فالمؤمنون يحمدونه في الجنة بقولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، كما حمدوه في الدنيا، لكن الحمد لله في الدنيا مكلفون به، وأما في الآخرة فهو تلذذ لانقطاع التكليف بالموت. قال العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا والآخرة، حتة يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك، وذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد أم القرآن ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ الآية، وفي الثانية﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾[الأحزاب: ٣٦] الآية، ثم يدعو بالدعاء الوارد في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:" إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته ". وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:" يا أنس إذا هممت بأمر، فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق إلى قلبك واعلمه، فإن الخير فيه "انتهى، فإن لم يكن يحفظ الشخص هاتين الآيتين فليقرأ﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ ﴾[الكافرون: ١] والإخلاص، فإن لم يكن يحفظ هذا الدعاء فليقرأ: اللهم خر لي، واختر لي، كما روي عن عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما. واعلم أن هذه الكيفية هي الواردة في الحديث الصحيح، وأما الاستخارة بالمنام أو بالمصحف أو السبحة، فليس وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كرهه العلماء وقالوا: إنه نوع من الطيرة. قوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ ﴾ الخ ﴿ أَرَأَيْتُمْ ٱللَّهُ ﴾، و ﴿ جَعَلَ ﴾ تنازعاً في الليل، أعمل الثاني واضمر في الأول وحذف، وهو مفعوله الأول، ومفعوله الثاني جملة الاستفهام بعده، و ﴿ إِن ﴾ حرف شرط، و ﴿ جَعَلَ ﴾ فعل الشرط، و ﴿ ٱللَّهُ ﴾ فاعله، و ﴿ ٱلْلَّيْلَ ﴾ مفعول أول، و ﴿ سَرْمَداً ﴾ مفعول ثان، وجواب الشرط محذوف تقديره ماذا تفعلون، وتقدم الكلام على نظيرتها في الأنعام. قوله: ﴿ سَرْمَداً ﴾ من السرد وهو المتابعة والاطراد. قوله: (دائماً) أي بأن يسكن الشمس تحت الأرض. قوله: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ متعلق بجعل. قوله: ﴿ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ ﴾ (بزعمكم) دفع بذلك ما يقال: إن المقام لها لأنها لطلب التصديق، لا من التي لطلب التعيين، لأنه يوهم وجود آلهة غيره تعالى، فأجاب: بأنه مجاراة للمشركين في زعمهم وجود آلهة معه. قوله: (سماع تفهم) أي تدبر واعتبار، لأن مجرد الإبصار لا يفيد. قوله: ﴿ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً ﴾ أي بأن يسكن الشمس في وسط السماء. قوله: ﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي تفضله وإحسانه. قوله: ﴿ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ الخ، أي لأن المرء في الدنيا، لا بد وأن يحصل له التعب، ليحصل ما يحتاج إليه في معاشه، فجعل الله له محل تكسب وهو النهار، ومحل راحة وسكون ليستريح من ذلك التعب وهو الليل. قوله: ﴿ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ استفيد من الآية مدح السعي في طلب الرزق لما ورد: الكاسب حبيب الله. قوله: (ذكر ثانياً ليبنى عليه) ﴿ وَنَزَعْنَا ﴾ الخ، أي وإشارة إلى أن الشرك أمره عظيم، لا شيء أجلب منه لغضب الله، كما أن التوحيد عظيم، لا شيء أجلب منه لرضا الله. قوله: (يشهد عليهم بما قالوا) أي وأمة محمد يشهدون للأنبياء بالتبليغ، وعلى الأمم بالتكذيب. قوله: ﴿ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ ﴾ أي التوحيد لله خاصة لا لغيره. قوله: (من أن معه شريكاً) بيان لما.
قوله: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ ﴾ هو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. قوله: (ابن عمه) أي واسم ذلك العم يصهر، بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة، ابن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة، ويصهر أبو قارون، وعمران أبو موسى أخوان، ولدا قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقيل إن قارون عم موسى. قوله: (وآمن به) أي وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة، فسمع كلام الله ثم حسد موسى على رسالته، وهارون على إمامته. قوله: (بالكبر) أي احتقار ما سواه، ومن جملة تكبره أن زاد في ثيابه شبراً، ومن جملة بغيه بالكبر حسده لموسى عليه السلام على النبوة، وكان يسمى المنور لحسن صورته. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْكُنُوزِ ﴾ سميت كنوزاً لما قيل إنه وجد كنزاً من كنوز يوسف عليه السلام، وقيل لامتناعه من أداء الزكاة. قوله: ﴿ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ ﴾ الخ.
﴿ مَآ ﴾ اسم موصول صفة لموصوف محذوف، و ﴿ إِنَّ ﴾ حرف توكيد ونصب، و ﴿ مَفَاتِحَهُ ﴾ اسمها، وجملة ﴿ لَتَنُوءُ ﴾ خبرها، والجملة صلة الموصول، والتقدير وآتيناه من الكنوز الشيء الذي مفاتحه تثقل العصبة أولي القوة، وكانت مفاتحه أولاً من حديد، فلما كثرت جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر، وقل من جلود الإبل، كل مفتاح على قدر الأصبع، وكانت تحمل معه على أربعين وقيل على ستين بغلاً. قوله: ﴿ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ ﴾ الباء للتعدية، والمعنى لتثقل المفاتح العصبة، قوله: (فرح بطر) أي لأنه هو المذموم، وأما الفرح بالدنيا من حيث إنها تعينه على أمور الآخرة، كقضاء الدين والصدقة وإطعام الجائع وغير ذلك فلا بأس به. قوله: (بأن تنفقه في طاعة الله) أي كصلة الرحم والصدقة وغير ذلك.
قوله: ﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي بأن تصرف عمرك في مرضاة ربك، ولا تدع نفسك من غير خير، فتصير يوم القيامة مفلساً، لما في الحديث:" اغتنم خمساً من خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك وحياتك قبل مماتك ". وقيل المراد بالنصيب الكفن ومؤن التجهيز، قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله   رداءان تدرج فيهما وحنوطقوله: ﴿ وَأَحْسِن ﴾ (للناس بالصدقة) المناسب حمله على العموم، ويكون تفسيراً لقوله: ﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ﴾ وقوله: ﴿ كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ الكاف للتشبيه، وما مصدرية، والمعنى وأحسن إحساناً كإحسان الله إليك، أو للتعليل. قوله: ﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ ﴾ جواب لما قالوه من الجمل الخمس، كأنه ينكر محض الفضل، والمعنى إنما أوتيته حال كوني متصفاً بالعلم الذي عندي، فأعطاني الله تلك الأموال لكوني مستحقاً لها لفضلي وعلمي. قوله:(وكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة) وقيل العلم الذي فضل به هو علم الكيمياء، فإن موسى علمه ثلثه، ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف ما عندهما إلى ما عنده، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، ومن النحاس فيجعله ذهباً، فكثر بذلك ماله وتكبر، وعلى هذا فقوله: ﴿ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ ﴾ المراد به علم الكيمياء، ويكون المعنى اكتسبته بعلمي الذي عندي، لا من فضل الله كما تقولون. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة عليه، والتقدير أيدعي ولم يعلم أن الله الخ، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى أنه إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك. قوله: ﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾ أي لا يسألهم الله عن ذنوبهم إذا أراد عقابهم. إن قلت: كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى:﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الحجر: ٩٢-٩٣]؟ أجيب: بأن السؤال قسمان: سؤال استعتاب، وسؤال توبيخ وتقريع، فالمنفي سؤال الاستعتاب الذي يعقبه العفو والغفران، كسؤال المسلم العاصي، والمثبت سؤال التوبيخ الذي لا يعقبه إلا النار، قوله: ﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ عطف على قوله: ﴿ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾ وما بينهما اعتراض، وكان خروجه يوم السبت، وقوله: (بأتباعه) قيل كانوا أربعة آلاف، وقيل تسعين ألفاً عليهم المعصفرات، وهو أول يوم ريء فيه المعصفرات، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي الديباج، وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، وكانت بغلته شهباء بياضها أكثر من سوادها، سرجها من ذهب، وكان على سرجها الأرجوان، بضم الهمزة والجيم وهو قطيفة حمراء. قوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي وكانوا مؤمنين غير أنهم مجحوبون. قوله: (كلمة زجر) أي وهي منصوبة بمقدر، أي ألزمكم الله ويلكم، والأصل في الويل الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع. قوله: (مما أوتي قارون في الدنيا) أي لأن الثواب منافعه عظيمة. قوله: ﴿ وَلاَ يُلَقَّاهَآ ﴾ أي يوفق للعمل بها. قوله: (على الطاعة وعن المعصية) أي وعلى الرضا بأحكامه تعالى.
قوله: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ ﴾ قال أهل العلم بالأخبار والسير: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة، وأجملهم وأغناهم، وكان حسن الصوت، فبغى وطغى واعتزل بأتباعه، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه في كل وقت، ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى، حتى بنى داراً، وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون، ويطعمهم الطعام، ويحدثونه ويضاحكونه، قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى، أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار واحد، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه، فوجده شيئاً كثيراً فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال لهم: إن موسى قد أمركم بكل شيء، فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم، قالت بنو إسرائيل: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، قال: آمركم أن تأتونا بفلانة الزانية، فنجعل لها جعلاً، على أن تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك، خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه، فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم، وقيل جعل لها طشتاً من ذهب، وقيل قال لها قارون: أموِّلك وأخلطك بنسائي، على أن تقذفي موسى بنفسك غداً، إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد، جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى إلى موسى فقال له: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى، وهم في براح من الأرض، فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل، من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت. قال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: فإن بني إسرائيل، يزعمون أنك فجرت بفلانة الزانية، قال موسى: ادعوها، فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت، فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها، أحدث توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله، فقالت: لا والله، ولكن جعل لي قارون جعلاً، على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجداً يبكي، وقال: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك، فمرها بما شئت، فقال موسى: يا بني إسرائيل، إن الله بعثني إلى قارون، كما بعثني إلى فرعو، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا، فلم يبق مع قارون إلا رجلان، قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم الأرض بأقدامهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم الأرض إلى أوساطهم، ثم قال يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون الله والرحم، حتى قيل إنه ناشده سبعين مرة، وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيبهم، فانطبقت عليهم. قال قتادة: خسفت به، فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. وفي الخبر: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة، نفخ إسرافيل في الصور، وأصبحت بنو إسرائيل يتحدثون فيما بينهم: إن موسى إنما دعا على قارون، ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض، قال بعضهم: مقتضى هذا الحديث، أن الأرض لا تأكل جسمه، فيمكن أن يلغز ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون. قوله: ﴿ مِن فِئَةٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ زائدة، و ﴿ فِئَةٍ ﴾ اسم ﴿ كَانَ ﴾ إن كانت ناقصة، والجار والمجرور خبرها، أو فاعل بها إن كانت تامة. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ ﴾ أي الممتنعين بأنفسهم قوله: (أي من قريب) أشار بذلك إلى أن المراد بالأمس الوقت القريب لا اليوم الذي قبل يومك. قوله: ﴿ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ الخ.
﴿ وَيْكَأَنَّ ﴾ فيها خمسة مذاهب، الأول: أن وي كلمة برأسها اسم فعل بمعنى أعجب، والكاف للتعليل، وأن وما دخلت عليه مجرور بها أي أعجب، لأن الله يبسط الرزق الخ، فالوقف على وي، وهو قراءة الكسائي. الثاني: إن كأن للتشبيه، غير أنه ذهب معناه منها وصارت لليقين، وحينئذٍ فالوقف على وي كالذي قبله. الثالث: إن ويك كلمة برأسها، والكاف حرف خطاب، وأن معمولة لمحذوف، أي أعلم أن الله يبسط الرزق الخ، وحينئذ فالوقف على ويك، وهو قراءة أبي عمر. الرابع: أن أصلها ويلك حذفت اللام، وحينئذ فالوقف على الكاف أيضاً. الخامس: أن ويكأن كلها كلمة بسيطة، ومعناها ألم تر أن الله يبسط الرزق الخ، وحينئذ فالوقف على النون. قوله: ﴿ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ أي بالإيمان والرحمة، قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَيْكَأَنَّهُ ﴾ تأكيد لما قبله، ويجري فيها ما يجري في التي قبلها، قوله: ﴿ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، فإن فرعون وقارون تكبرا وتجبرا واختارا العلو، فآل أمرهما للخسران والوبال والدمار، وموسى وهارون اختارا التواضع، فآل أمرهما للعز الدائم الذي لا يزول ولا يحول. قوله: (أي الجنة) أي وما فيها من النعيم الدائم، ورؤية وجه الله الكريم، وسماع كلامه القديم. قوله: ﴿ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً ﴾ التعبير بالإرادة أبلغ في النفي، لأنه نفي وزيادة. قوله: ﴿ نَجْعَلُهَا ﴾ أي نصيرها. قوله: (بالبغي) أي الظلم والكبر كما وقع لفرعون وقارون وجنودهما. قوله: (بعمل المعاصي) أي كالقتل والزنا والسرقة وغير ذلك من الأمور التي تخالف أوامره تعالى. قوله: ﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أظهر في مقام الإظمار، إظهاراً لشأنهم ومدحاً لهم بنسبتهم للتقوى وتسجيلاً على ضدهم.
قوله: ﴿ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ ﴾ تقدم أنه إن أريد ﴿ بِٱلْحَسَنَةِ ﴾ لا إله إلا الله، فالمراد بالخير الجنة، و ﴿ مَن ﴾ للتعليل، وليس في الصيغة تفضيل، وإن إريد بها مطلق طاعة، فالمراد بالخير منها عشر أمثالها، كما جاء مفسراً به في الآية الأخرى:﴿ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾[الأنعام: ١٦٠] فقول المفسر (ثواب بسببها) الخ، إشارة للمعنى الثاني. قوله: (وهو عشر أمثالها) هذا أقل المضاعفة، وتضاعف لسبعين ولسبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء، وهذا في الحسنة التي فعلها بنفسه أو فعلت من أجله، كالقراءة والذكر، إذا فعل وأهدى ثوابه للميت مثلاً، وأما الحسنة التي تؤخذ في نظير الظلامة فلا تضاعف، بل تؤخذ الحسنة للمظلوم، وأما المضاعفة فتكتب للظالم، لأنها محض فضل من الله تعالى، ليس للعبد فيه فعل، والمضاعفة مخصوصة بهذه الأمة، وأما غيرهم فلا مضاعفة له. قوله: ﴿ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ الخ، أظهر في مقام الإضمار تسجيلاً وتقبيحاً على فاعل السيئات، لينزجر عن فعلها. قوله: (أي مثله) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (أنزله) أي أو فرضه، بمعنى أوجب عليك تبليغه للعباد والتمسك به. قوله: (إلى مكة وكان قد اشتاقها) تقدم" أن سبب نزول هذه الآية، أنه صلى الله عليه وسلم لما أذن له في الهجرة إلى المدينة، وخرج من الغار مع أبي بكر ليلاً، سار في غير الطريق، فلما نزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف طريق مكة، اشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل عليه جبريل وقال له: أتشتاق إلى بلدك ومولدك، فقال عليه السلام: نعم، فقال جبريل: إن الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ﴾ يعني إلى مكة ظاهراً عليهم، وسميت البلد معاداً "لأن شأن الإنسان أن ينصرف من بلده ويعود إليها، وتقدم أن هذه الأية ينبغي قراءتها للمسافر، تفاؤلاً بعوده لوطنه، ولا يقال: إن الآية قيلت للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف تقال لغيره؟ لأنه لا يقال: إن القرآن نزل للتعبد والاقتداء به، فكأنه قال: كما صدقت وعد نبيك فاصدق وعدي. قوله: (جواباً لقول كفار مكة) الخ، أي كما قالت بنو إسرائيل لموسى مثل ذلك، فرد الله عليهم بقوله:﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ ﴾[القصص: ٣٧].
قوله: (وأعلم بمعنى عالم) إنما احتج إلى تحويله لتعديته للمفعول بنفسه، وإلا فكان مقتضى الظاهر تعديته بمن. قوله: ﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ ﴾ أي قبل مجيء الرسالة إليك. قوله: ﴿ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ ﴾ أي فإنزاله عليك ليس عن ميعاد، ولا بطلب منك، ومن هنا قال العلماء: إن النبوة ليست مكتسبة لأحد، قال في الجوهرة:﴿ _@_ولم تَكُنْ نبوّة مكتسبة _@_ ولو رقى في الخير أعلى عقبه. الخ_@_ ﴾قوله: (لكن ألقي إليك) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع. قوله: ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ ﴾ الخطاب له، والمراد غيره، لاستحالة ذلك عليه. قوله: (حذفت نون الرفع للجازم) أي وهو لا النافية. قوله: (لالتقائها مع النون الساكنة) أي ووجود دليل يدل عليها وهو الضمة، وما مشى عليه المفسر في تصريف الفعل، وإنما يأتي على ندور، وهو تأكيد الفعل الخالي عن الطلب، فالأولى أن يقول: وأصله يصدونك، دخل الجازم فحذف النون ثم أكد فالتقى ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما، ووجود الضمة دليلاً عليها.
قوله: ﴿ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ﴾ أي بعد وقت إنزالها عليك. قوله: (أي لا ترجع إليهم) أي لا تركن إلى أقوالهم. قوله: ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ الخطاب له والمراد غيره. قوله: (ولم يؤثر الجازم في الفعل) أي لفظاً وإن كان مؤثراً محلاً. قوله: (لبنائه) أي بسبب مباشرة نون التوكيد له، بخلاف قوله: ﴿ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ ﴾ فتأثر بالجازم، وإن كان مؤكداً بالنون لعدم مباشرتها للفعل، فإنه فصل بينهما بواو الجماعة، قال ابن مالك: وأعربوا مضارعاً إن عربا. من نون توكيد مباشر. قوله: (تعبد) أشار بذلك إلى أن المراد بالدعاء العبادة، وحينئذ فليس في الآية دليل على ما زعمه الخوارج، من أن الطلب من الغير حياً أو ميتاً شرك، فإنه جهل مركب، لأن سؤال الغير من حيث إجراء الله النفع أو الضر على يده قد يكون واجباً، لأنه من التمسك بالأسباب، ولا ينكر الأسباب إلا جحود أو جهول. قوله: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ أي وكل ما سوى الله تعالى قابل للهلاك وجائز عليه، لأن وجوده ليس ذاتياً له، قال بعض العارفين: الله قل وذر الوجود وما حوى   إن كنت مرتاداً بلوغ كمالفالكل دون الله إن حققته   عدم على التفصيل والإجمالمن لا وجود لذاته من ذاته   فوجوده لولاه عين محالوالعارفون فنوا به لم يشهدوا   شيئاً سوى المتكبر المتعالورأوا سواه على الحقيقة هالكاً   في الحال والماضي والاستقبالقيل: المراد بالهلاك الانعدام بالفعل، ويستثنى منه ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله: ثمانية حكم البقاء يعمها   من الخلق والباقون في حيز العدمهي العرش والكرسي ونار وجنة   وعجب وأرواح كذا اللوح والقلموهو معنى قول صاحب الجوهرة: وكل شي هالك قد خصصوا   عمومه فاطلب لما قد لخصواولا مفهوم لما عده السيوطي، بل منها أجساد الأنبياء والشهداء ومن في حكمهم والحور والولدان. قوله: (إلا إياه) أشار بذلك إلى المراد بالوجه الذات، ويصح أن المراد به ما علم لأجله سبحانه وتعالى، فإن ثوابه باق. قوله: ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي في جميع أحوالكم.
Icon