تفسير سورة القصص

مراح لبيد
تفسير سورة سورة القصص من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة القصص
وتسمى أيضا سورة موسى، مكية، وقيل: إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فإنها نزلت بالجحفة- بين مكة والمدينة، ثمان وثمانون آية، ألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، خمسة آلاف وثمانمائة حرف
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) أي إن آيات هذه السورة آيات الكتاب الذي بيّن بفصاحته أنه من كلام الله، وبيّن صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبيّن خبر الأولين والآخرين وبيّن كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)، أي نقرأ عليك بواسطة جبريل بعض خبر موسى وفرعون ملتبسا بالحق لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن، فإنهم المنتفعون به. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي تجبّر في مملكته أرض مصر، وَجَعَلَ أَهْلَها أي
أهل مملكته شِيَعاً أي أصنافا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل.
قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لمّا كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا المعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ كثيرا صغارا. وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة. وهذا الوجه أولى بالقبول. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفا من بني إسرائيل. قوله: يَسْتَضْعِفُ حال من فاعل «علا» أو خبر ثان لأن «أو» بدل اشتمال من «علا». وقوله: يُذَبِّحُ بدل اشتمال من «يستضعف». وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ قيل: أي يستخدمهن كبارا إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) في كفره بدعائه إلى غير عبادة الله وقتل خلق كثير من أولاد الأنبياء وَنُرِيدُ بإرسال موسى أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، أي أن نتفضل على من قهروا في أرض مصر- وهم بنو إسرائيل- بإنجائهم من بأس
187
فرعون. وقوله تعالى: وَنُرِيدُ إلخ معطوف على قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لأنهما وقعا تفسيرين لنبأ موسى وفرعون أو حال من «طائفة» بتقدير المبتدأ، أي ونحن نريد وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي قادة إلى الخير متقدمين في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين لآخرين، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) لملك فرعون وأرضه وما في يده، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ننفذ أمرهم في أرض مصر والشام يتصرفون فيها ما يشاءون، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) أي ونري، رؤية بصرية، فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من المستضعفين من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل.
وقرأ حمزة والكسائي «ويرى» بالياء المفتوحة وبفتح الراء مع الإمالة ورفع ما بعده.
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أي ألهمنا أم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب أن أرضعي هذا الصبي، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي اشتد خوفك عليه من الذبح بأن يفطن بن جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي بحر النيل وَلا تَخافِي من هلاكه بالغرق ونحوه.
وَلا تَحْزَنِي بسبب فراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ من قريب لتكوني أنت المرتضعة له وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) إلى أهل مصر والشام.
قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى- قابلة وكانت مصافية لأم موسى- وقالت لها: لينفعني اليوم حبك إياي، فجلست القابلة تعالجها، فلما نزل موسى إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى قلبها فقالت: يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حبا شديدا، فاحفظي ابنك، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحارس بالباب فلفته بخرقة ووضعته في تنور مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، فدخل، فإذا التنور مسجور، ورأى أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقال: لم دخلت القابلة عليك؟! قالت: إنها حبيبة لي دخلت للزيارة، فخرج من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى: أين الصبي؟ قالت: لا أدري! فسمعت بكاء في التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فأخذته، ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت جد فرعون في طلب الولد خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتا، ثم تقذف التابوت في النيل، فذهبت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها: ما تصنعين به؟ فقالت: لي ابن أخبؤه فيه، فلما انصرفت ذهب النجار إلى الذباحين ليخبرهم بذلك، فلما جاءهم، أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده، فضربوه وطردوه، فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم، فأخذ الله لسانه وبصره فجعل لله تعالى إنه إن رد عليه بصره ولسانه لا يدلهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق، فرد الله عليه ذلك وانطلقت أم موسى وألقته في
188
النيل، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها، فقالوا: أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة، فقال فرعون: ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب، فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها، فعالجته، ففتحته، فإذا هي بصبي صغير، وإذا نور بين عينيه، فألقى الله محبته في قلوب آسية وفرعون، فأخرجوه من التابوت وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت في الحال، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقالت الغواة من قوم فرعون: أيها الملك، إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك، فهمّ فرعون بقتله، فاستوهبته آسية من فرعون، فوهبه لها، فترك قتله، وتبنته فقيل لآسية: سميه فقالت: سميته موشى بالشين المعجمة لأنا وجدناه في الماء والشجر فإن معنى مو ماء ومعنى شا شجر فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة وذلك قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي أخذت موسى جواري فرعون من بين الماء والشجر يوم الإثنين، وذهبن به إلى امرأة فرعون لِيَكُونَ أي موسى لَهُمْ عَدُوًّا من بعد ما يجيء إليهم بالرسالة وَحَزَناً بذهاب ملكهم.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزي. والباقون بفتحهما. إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم. وقال الحسن: معنى «كانوا خاطئين» أي كانوا لا يشعرون أن موسى هو الذي يذهب بمكلهم. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وهي آسية- لفرعون حين أخرجته من التابوت وهمّ فرعون بقتله لقول الغواة: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي هذا الغلام قرة عين لي ولك يا فرعون.
قال ابن عباس: لما قالت آسية ذلك قال فرعون: يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. قال ابن إسحاق: إن الله تعالى ألقى محبته عليه السلام في قلبه لأنه كان في وجهه ملاحة فكل من رآه أحبه، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور، ولأنها لما فتحته رأته يمتص إصبعه، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال. لا تَقْتُلُوهُ خاطبته بلفظ الجمع تعظيما لأجل أن يعاونها فيما تريده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فنصيب منه خيرا لو كان له أبوان معروفان أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، إذا لم يعرف له أبوان وكانت آسية لا تلد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩). وهذا ابتداء كلام من الله تعالى أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم في يده وبسببه. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل.
189
وقال ابن عباس: أي هم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون:
هذا من تمام كلام امرأة فرعون، أي بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه وأنه ليس منا.
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، أي وصار قلب يوحانذ صفرا من العقل لفرط الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون. وقيل: أي خاليا من الحزن لغاية وثوقها بوعد الله تعالى أو لسماعها أن فرعون تبناه، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي إنها كادت لتظهر بأمر موسى من فرط الدهشة أو من شدة الفرح بتبني امرأة فرعون. وقال ابن عباس: كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني بعد أن نسب إلى فرعون، وقال أيضا في رواية عكرمة كادت تقول: وا ابناه من شدة حزنها عليه حين رأت الموج يرفع ويضع.
وقال الكلبي: ذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شب أنه ابن فرعون لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي لولا حفظنا قلبها بإلهام الصبر لأبدت قصة موسى، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) أي من المصدقين بوعد الله تعالى برده إليها بأن يكون من المرسلين، أو من الواثقين بحفظ الله تعالى لا بتبني امرأة فرعون وتعطفها
وَقالَتْ أم موسى لِأُخْتِهِ الشقيقة مريم- وقال الضحاك: اسمها كلثمة. وقال السهيلي: اسمها كلثوم-: قُصِّيهِ أي فتشي خبره وانظري إلى أين وقع، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي
فأبصرت مريم ذلك الغلام كائنة من مكان بعيد اختفاء عن الناس وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) بغرضها وبأنها أخت موسى. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ أي منعناه أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه.
قال الضحاك: كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها.
وروي أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا وهو يصبح، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له وقربها منه هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ فَقالَتْ، أي أخت موسى لآل فرعون- عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات- هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنون رضاعه يقومون بجميع مصالحه لأجلكم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) أي وهم لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه، ولا يخونكم فيه.
قال السدي: لما قالت مريم ذلك أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه! وقالت: إنما أردت أنهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك.
وقيل: قالوا لها: من هم؟ قالت أمي. قالوا: أو لأمك ابن؟ قالت: نعم هارون. قالوا: صدقت، فأتينا بها فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأت جنباه ريا. فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت عدم الرغبة فيه نفيا للتهمة، فرضوا بذلك، فرجعت به إلى بيتها.
190
قال الضحاك: لما قبل ثديها قال هامان: إنك لأمه! قالت: لا، قال: فما حالك قبل ثديك من بين النسوة! قالت: أيها الملك، إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي. قالوا: صدقت، لم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر. فَرَدَدْناهُ أي موسى إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي تطيب نفسها بوصول موسى إليها وتربيتها له في بيتها، وَلا تَحْزَنَ على موسى بفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ في رده إليها وجعله من المرسلين حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)، أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق لا خلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، فهذا هو الغرض الديني وما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار، فأتت به فرعون واستمر عنده يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي كمال قوته الجسمانية وَاسْتَوى أي تكامل عقله آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي أعطيناه علم الحكماء والعلماء، وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الذي أعطينا موسى من الحكم والعلم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) أي الصالحين بالعلم والحكمة، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي ودخل موسى مدينة منف في وقت اشتغال أهلها عند نصف النهار.
ومنف: بفتح الميم وسكون النون أصلها مآفة، ومعناها بلغة القبط ثلاثون، لأنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان نزلها مصر بن حام في ثلاثين رجلا فسميت مافت، ثم عربت منف.
قيل: إن موسى عليه السلام لما بلغ أشده وآتاه الله العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق، وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن خافوه، وخافهم. وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به، ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفا، فدخلها يوما وقت كونهم قائلين فَوَجَدَ فِيها أي المدينة رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يلازمان مقدمات القتل من الضرب والخنق هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابع موسى على دينه وهم بنو إسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي ممن خالف موسى في دينه- وهم القبط- فالقبطي: الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه واسمه:
فليثون أوفاتون: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على القبطي وأن يخلصه منه، فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفعه بأطراف الأصابع. وقيل: بقبضها.
وقرأ ابن مسعود فلكزه موسى وقال بعضهم الوكز: في الصدر، واللكز: في الظهر.
فَقَضى عَلَيْهِ أي أنهى موسى حياة القبطي وخفي هذا على الناس فلم يعرف به أحد لما هم فيه من الغفلة فندم موسى عليه السلام عليه فدفنه في الرمل قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي هذا القتل من عمل الشيطان لأني لم أومر به أو هذا المقتول من جند الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) أي
191
ظاهر العداوة والإضلال قالَ مناجيا مع الله تعالى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل القبطي من غير أمر، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فَاغْفِرْ لِي أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي فستره عن الوصول إلى فرعون إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) أي المبالغ في ستر ذنوب عباده وفي رحمتهم قالَ موسى: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) أي أقسم بإنعامك علي بالقوة والمعرفة فلن أكون معينا لأحد من المشركين، بل أكون معاونا للمسلمين أي إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله فلا تجعلني ظهيرا للمجرمين فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فصار موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب بذلك القتل يترقب أي ينتظر نصرة الله إياه، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ أي فإذا الإسرائيلي الذي استعان بموسى على القبطي يَسْتَصْرِخُهُ أي يطلب من موسى نصرته بصياح على قبطي آخر يريد أن يستخدم الإسرائيلي قالَ لَهُ أي للقبطي: مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) في تسخير هذا الإسرائيلي فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي فلما أراد موسى أن يأخذ عدوه وعدو الإسرائيلي بسطوة لخلاصة من عدوهما، لأن القبطي لم يكن على دينهما، ولأن القبط أعداء بني إسرائيل قالَ أي القبطي، وكان عرف القصة من الإسرائيلي أو كان توهم من زجر موسى للإسرائيلي أنه هو الذي قتل الرجل بالأمس:
يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي اليوم كَما قَتَلْتَ نَفْساً قبطيا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أي ما تريد يا موسى إلا أن تفعل ما تريده في أرض مصر من ضرب وقتل، من غير نظر في العواقب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) أي المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانتشر حديث هذه الواقعة في المدينة، وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله وَجاءَ رَجُلٌ هو مؤمن من آل فرعون اسمه: سمعان، وكان ابن عم فرعون مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أي من آخرها يَسْعى أي يسرع في مشيه قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ أي أولياء المقتول يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلوك فَاخْرُجْ من هذه المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) أي المشفقين
فَخَرَجَ موسى عليه السلام مِنْها أي المدينة خائِفاً على نفسه من آل فرعون يَتَرَقَّبُ أي ينتظر لحوق الطالبين ويكثر الالتفات وينظر هل يلحقه أحد يطلبه قالَ عند ذلك رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) أي خلصني منهم واحفظي من لحوقهم.
وهذا يدل على أن قتله عليه السلام لذلك القبطي لم يكن ذنبا وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي لما قصد الذهاب إلى مدين لأنها ليست تحت ملك فرعون ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو منهم ولم يكن له علم بالطريق، بل اعتمد على فضل الله تعالى قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)، وهي من إضافة الصفة للموصوف
192
أي الطريق الوسط، وكان لمدين ثلاث طرق، فأخذ موسى الطريق الوسطي، وأخذ الطلاب الآخريين.
وقال ابن إسحاق: خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد ولا مركوب وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي لما وصل إلى بئر مدين وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيرها أُمَّةً أي جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وكانوا أربعين رجلا
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ
أي تحبسان غنمهما عن الماء من ضعفهما حتى يفرغ القوم.
وقال ابن إسحاق اسم الكبرى صفوراء والصغرى ليا. قالَ موسى لهما: ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما؟ قالَتا لا نَسْقِي أي لا نقدر أن نسقي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ.
قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، أي حتى يرجعوا من سقيهم.
والباقون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) لا يستطيع أن يسقي، وليس له أحد يعينه غيرنا، فَسَقى لَهُما أي فسقى موسى غنمهما لأجلهما.
قيل: عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة لا يرفعها إلا عشرة رجال فنحاها بنفسه، واستقى الماء من ذلك البئر ثُمَّ تَوَلَّى أي انصرف موسى إِلَى الظِّلِّ أي ظل سمرة فجلس فيه ليستريح من حر الشمس، وهو جائع لم يذق طعاما في سبعة أيام فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) أي رب إني بسبب ما أنزلت إلي خير الدين، صرت فقيرا في الدنيا وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة، فقال ذلك رضا بهذا البدل وفرحا به، وشكرا له.
روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما: ما أعجلكما؟
قالتا: وجدنا رجلا صالحا، رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي- وهي الكبرى عند الأكثرين- فَجاءَتْهُ إِحْداهُما واسمها صفوراء تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مائلة عن الرجال رافعة كمها على وجهها قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا مواشينا.
روي أن موسى عليه السلام أجابها، فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَهُ أي جاء موسى شعيبا وَقَصَّ موسى عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي فراره من فرعون.
قالَ شعيب له: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) من أهل مصر فإن فرعون لا سلطان له في أرضنا.
قال الضحاك: لما دخل على شعيب قال له: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب. وذكر له جميع أمره من لدن ولادته، وأمر
193
القوابل والمراضع والقذف في اليم، وقتل القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. فقال شعيب: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، أي لأنا لسنا في مملكة فرعون.
وروي أن موسى لما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع، فقال شعيب: تناول يا فتى فقال موسى عليه السلام: أعوذ بالله. قال شعيب: ولم ذلك؟ قال: لأنا من أهل البيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف عوضا. فقال شعيب: عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف، فجلس موسى فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله.
قالَتْ إِحْداهُما- وهي التي دعته إلى أبيها، وهي التي تزوجها موسى- يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتخذه أجيرا لرعي أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦).
روي أن شعيبا أخذته الغيرة فقال: وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فذكرت ما شاهدته منه عليه السلام من كيفية السقي ورفع الصخرة من فم البئر، ومن غض بصره حال ذودهما الماشية، وحال سقيه لهما، وحال مشيه أمامها إلى أبيها. قالَ أي شعيب لموسى عند ذلك: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ أي الحاضرتين عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي مشروطا على أن تأجرني نفسك في رعي غنمي ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً من السنين في العمل فَمِنْ عِنْدِكَ أي فالتمام من عندك بطريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام عليك، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتم الأجلين، ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي بل أساهلك فيها بقدر الإمكان، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) في حسن المعاملة وغيره، وإنما قال شعيب: إن شاء الله، للتبرك ولتفويض أمره إلى معونته تعالى، لا لتعليق صالحه بمشيته تعالى.
قالَ موسى: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الشرط ثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي أيّ أحد الوقتين وفيتكه بأداء الخدمة فيه فلا إثم علي فكما لا إثم علي في قضاء الأكثر لا إثم علي في قضاء الأقصر فقط. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشرط الجاري بيننا وَكِيلٌ (٢٨)، أي شاهد، ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه وفي بعض الأخبار أن موسى لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغدو أراد الرعي، قال له شعيب عليه السلام: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق، فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنينا عظيما فأخشى عليك وعلى الأغنام منه، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر، فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا، ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى، فقاتلته حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى، رأى العصا دامية والتنين مقتولا فارتاح لذلك، وعلم أن لله تعالى في تلك العصا آية، وعاد إلى شعيب وكان ضريرا فمس الأغنام، فإذا هي أحسن حالا مما
194
كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصة، ففرح بذلك وعلم أن لموسى وعصاه شأنا، فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال: إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء التي تسقي الغنم منه، ففعل، ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه، فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتمه وَسارَ نحو مصر لصلة رحمه، وزيارة أمه وأخيه بِأَهْلِهِ أي بزوجته وابنه منها والخادم بإذن من شعيب عليه السلام، آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رأى من جهة جبل الطور عن يسار الطريق نارا ولما عزم على السير.
قال لزوجته: اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي انزلوا هاهنا إِنِّي آنَسْتُ ناراً.
وقرأ حمزة «لأهله» في الوصل بضم الهاء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي من عند النار بخبر الطريق، وقد كان موسى تحيّر في الطريق أَوْ جَذْوَةٍ أي عود غليظ مِنَ النَّارِ. وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها. والباقون بالكسر لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) أي لكي تدفئوا بها.
روي أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة، فرقت ماشيته وأصابهم مطر، فوجدوا بردا شديدا، فعند ذلك أبصرنا بعيدة، فسار إليها يطلب من يد له على الطريق فَلَمَّا أَتاها أي النار التي أبصرها، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي أتاه النداء من الشاطئ الأيمن بالنسبة إلى موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ فإنه حصل لموسى عليه السلام في تلك البقعة ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه والجار والمجرور متعلق ب «نودي» مِنَ الشَّجَرَةِ أي من جهة الشجرة، وهي شجرة عناب أو شوك. وهذا بدل اشتمال من شاطئ أَنْ يا مُوسى ف «أن» مفسرة إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) والعامة على كسر همزة إني على تضمين النداء معنى القول. وقرئ بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر تقديره أي يا موسى اعلم أني أنا الله،
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك. وهذا معطوف على «أن يا موسى» مفسر أيضا ل «نودي»، فألقاها فصارت ثعبانا، فتحركت رافعة رأسها فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ أي شبيهة بالحية الصغيرة في سرعة حركتها مع غاية عظم جئتها ولم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعت حتى إن موسى سمع صرير أسنانها، وقعقعة الشجر، والصخر في جوفها وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع، ولم يلتفت إليها قال الله: يا مُوسى أَقْبِلْ إليها وَلا تَخَفْ منها إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) من شرها، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت قال الله له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخل كفك اليمين في طوق قميصك وأخرجها تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها ضوء كضوء
195
الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي أدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك، فتعود إلى حالتها، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك.
وقيل: من أجل الخوف إذا أرهبت بها الناس.
وقال ابن عباس: إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الخوف عند معاينة الحية، فمعنى من أجل الرهب، أي إذا أصابك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك.
وقال مجاهد: وكل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع. فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي فالعصا واليد حجتان نيرتان، كائنتان من الله تعالى، واصلتان إلى فرعون وقومه، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) أي خارجين عن عبودية الله، فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً- هو القبطي- فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) بمقابلتها، فيفوت المقصود بقتلي وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي أبين مني كلاما، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي معينا.
وقرأ نافع «ردا» بتنوين الدال وحذف الهمزة، يُصَدِّقُنِي أي أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة فربما حصل المقصود من تصديق فرعون. والمراد بتصديق هارون تلخيصه بلسان فصيح وجوه الدلائل. وجوابه عن الشبهات، ومجادلته الكفار.
وقرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة ل «ردأ». ويروى عن أبي عمرو أيضا. والباقون بالجزم وهو المشهور عن أبي عمرو إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) بالرسالة، لأن لساني لا يطاوعني عند المحاجة بسبب العقدة التي حصلت بسبب الجمرة. قالَ الله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي سنقوي ظهرك بهارون ونعين أمرك به. وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي غلبة بالحجة في الحال، وغلبة في المملكة في ثاني الحال. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا. فالآية التي هي قلب العصاحية تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء فصارت مانعة من وصولهم إليهما بالقتل وغيره. أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) على فرعون وقومه بالبرهان: والدولة. وقوله: بِآياتِنا متعلق ب «لا يصلون» أو ب «الغالبون» فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا وهي العصا واليد، ففي كل منهما آيات عديدة بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على صحة رسالة موسى من الله تعالى. قالُوا ما هذا أي الذي جئتنا به، إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، أو سحر كذب هو من تلقاء نفسك، لا إن الذي أظهرته معجزة صادرة من الله تعالى وإنما أنت تفتري على الله تعالى. وَما سَمِعْنا بِهذا أي الذي تدعو إليه من التوحيد والذي تدعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعا فِي آبائِنَا
196
الْأَوَّلِينَ
(٣٦) وقد كذبوا فإنهم سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام. وَقالَ لهم مُوسى - وقرأ ابن كثير بغير واو-: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، أي ربي عالم بمن جاء بالرسالة من عنده، وبمن تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا وهي أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فالدنيا خلقت مزرعة للآخرة ومجازا إليها. والمقصود بالذات هو الثواب للمطيعين العابدين فيكون الثواب هو العاقبة الأصلية ولا اعتداد بعاقبة السوء، لأنها من نتائج أعمال الفجار ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) أي يظفر المشركون بالنجاة والمنافع كما قال القائل من بحر الطويل:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وَقالَ فِرْعَوْنُ، بعد ما جمع السحرة لمعارضة موسى فكان من أمرهم ما كان: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي بعد اتخاذه لبنا ولم يقل فرعون. اطبخ لي الآجر لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلم صنعته لهامان. فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي أنظر إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) في ادعاء وجود إله غيري فليس في السماء من إله.
واعلم أن عادة فرعون متى ظهرت حجة موسى يدفعها بشبهة يروجها على أغمار قومه، وهي قوله: لا دليل على وجود إله غيري، فلا أثبته بل أظن موسى كاذبا في دعواه، وذلك نفى إله غير نفسه. وقوله: ولا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو ادعاؤه الإلهية لا ادعاؤه كونه خالقا للسماء والأرض، ومن مكر فرعون ودهائه أنه لما دل سيدنا موسى عليه السلام فرعون بقوله: رب السموات والأرض أو هم فرعون ببناء أغمار قومه أن موسى قال:
إن إلهه في السماء وأمر فرعون وزيره ببناء الصرح. قيل: لما أمر فرعون ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب، وسبك المسامير، فبنوا الصرح ورفعوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه راكبا على البراذين، فأمر بنشابة، فضرب نحو السماء، فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى فبعث الله جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاث قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منه ألف رجل، وقطعة وقعت في البحر، وقطعة وقعت في المغرب. ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ملتبسين بغير استحقاق، وَظَنُّوا أي فرعون وجموعه القبط أَنَّهُمْ إِلَيْنا أي إلى حكمنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) بالنشور.
197
وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم فهو من الرجوع. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم فهو من الرجع فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ عقب ما بلغوا أقصى الغايات في العتو، وفي هذا استحقار لهم واستقلال لعددهم، وإن كانوا كبيرا كثيرا وتعظيم لشأن الأخذ فشبههم الله تعالى بحصيات أخذهن آخذ في كفه، فطرحهن في البحر وذلك قوله تعالى: فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فألقيناهم في البحر.
قيل: هو بحر يسمى أسافا من وراء مصر- حكاه ابن عساكر- فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) أي كيف صار آخر أمر المشركين وبينه لقومك ليعتبروا به.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي رؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى ما يؤدي إلى النار من الكفر والمعاصي.
وقرأ أبو عمر ونافع وابن كثير «أيمة»، بإبدال الهمزة الثانية ياء وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) فلا يمكن التخلص من العقاب الذي سينزل بهم، لأنهم بلغوا أقصى النهايات في باب المعاصي حتى صاروا قدوة للضلال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي إبعادا من الرحمة، ولا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون خلفا عن سلف، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) أي من المطرودين عن الرحمة ومن الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام بَصائِرَ لِلنَّاسِ، أي حال كون الكتاب أنوارا لقلوب الناس، فإنه يستبصر به في باب الدين وَهُدىً إلى كل خير، فإن الكتاب يستدل به والمتمسك به يفوز بمطلوبه من الثواب وَرَحْمَةً لأن الكتاب من نعم الله تعالى على من تعبد به فكل من عمل به ينال رحمة الله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) أي ليكونوا على حال يرجى منه التذكر.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أهلك الله تعالى قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة»
. وَما كُنْتَ يا أفضل الخلق بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي في المكان في شق الغرب من جبل الطور، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام الذي رأى فيه النار، إِذْ قَضَيْنا
إِلى مُوسَى الْأَمْرَ
أي حين أوحينا إلى موسى أمر الرسالة حيث أمرنا بالإتيان إلى فرعون وقومه، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) لموسى وما جرى عليه وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى أمما كثيرة، فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فتغيرت الأحكام، وخفيت عليهم الأخبار لا سيما على آخرهم، فاقتضى الحال إظهار الأحكام الجديدة، فأوحينا إليك، فإخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور لها دلالة ظاهرة على نبوتك، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي وما كنت
198
يا سيد الرسل مقيما في أهل مدين من شعيب والمؤمنين به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي تقرأ على أهل مدين آياتنا الناطقة بالقصة على طريق التعلم منهم. ويقال: وما كنت مقيما في أهل مدين وقت تلاوتك القرآن على قومك أهل مكة، تخبرهم قصة أهل مدين مع موسى، ومع شعيب حتى تنقلها بطريق المشافهة، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي لا عن مشاهدة للمخبر عنه، وذلك قوله تعالى: وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) إياك، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وما كنت يا سيد الخلق بجانب جبل زبير حين نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة.
ويقال: إذ نادينا أمتك. قال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: رب أرنيهم.
قال: إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، فأسمعه الله تعالى أصواتهم، ثم قال: أجبتكم قبل أن تدعوني، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلنا بالقرآن لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس.
وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي لكن هي رحمة. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لكي تخوف بالقرآن من العقاب على المعصية قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل بناء على القول بأن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) أي يتعظون بإنذارك وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) أي ولولا أنهم قائلون بلسان الحال إذا عوقبوا يوم القيامة بسبب اكتسابهم في كفرهم أنواع المعاصي، لم لم ترسل إلينا رسولا مع الكتاب قبل هذا العذاب، فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع كتابك، ونصدق بكل ما أتى به رسولك؟ ما أرسلناك إليهم وإنما أرسلنا الرسول قطعا لمعاذيرهم بالكلية، أي لكي لا يكون لهم حجة علينا، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي فلما جاء الرسول بالكتاب المعجز أهل مكة قالُوا- أي كفار مكة- تعنتا:
لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي هلا أعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزّل جملة واحدة ومن قلب العصا حية، ومن اليد البيضاء وغير ذلك قال تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي ألم يكفر كفار مكة من قبل القول بما أعطى موسى من الكتاب كما كفروا بهذا القرآن، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات، فلما طلبوا من سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم معجزات سيدنا موسى عليه السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول، لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت قالُوا أي كفار مكة: سِحْرانِ تَظاهَرا.
وقرأ الكوفيون بكسر السين وسكون الحاء والمعنى: أن ما أوتي محمد وما أتي موسى
199
سحران تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر. وقرأ الباقون «ساحران» بصيغة اسم الفاعل، أي محمد وموسى ساحران أعان كل منهما صاحبه على سحره. روي أن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة ليسألهم عن شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فسألوهم عنهم فقالوا: إنا نجده في التوراة بصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا: إن موسى كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال تعالى في حقهم: أولم يكفروا بما أوتي موسى وَقالُوا أي كفار مكة إِنَّا بِكُلٍّ من التوراة والقرآن أو من محمد وموسى كافِرُونَ (٤٨) غير مصدقين قُلْ لهم تعجيزا لهم وتوبيخا:
فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح في هداية لخلق منهما، أَتَّبِعْهُ أي فإن أتيتم به أتبعه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩). أي في قولهم أن التوراة والقرآن سحران مختلفان فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما فاعلم أنهم ليس لهم مستند وإنما لهم محض هواهم الفاسد. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أضل منه لأنه أضل من كل ضال، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) لأنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والأعراض عن الآيات الهادية إلى الحق،
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي أنزلنا القرآن منجما يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى تنبيه كفار مكة، فإنهم كل يوم يطلعون على فائدة، فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر أو جعلنا القرآن أنواعا من المعاني من قصص وعبر ونصائح، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) فيؤمنون بما في القرآن. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل مجيء القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وهم مؤمنو أهل الكتاب وَإِذا يُتْلى، أي القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ أي القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ، أي من قبل قراءة القرآن علينا مُسْلِمِينَ (٥٣)، أي مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بمحمد قبل بعثته وبعد بعثته بِما صَبَرُوا على طعن الكفار وأذاهم متى بينوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم ودخلوا في دينه.
قال مقاتل: هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران:
أجر على الصفح، وأجر على الإيمان. وقال السدي: إن اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول: سلام عليكم. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي ويدفعون بالطاعة المعصية وبالعفو الأذى، وبالامتناع من المعاصي فإن نفس الامتناع حسنة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤). وقال سعيد بن جبير: وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له: يا نبي الله، إن لنا أموالا فإن أذنت انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا بها المسلمين، فأذن لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فنزلت هذه الآيات الثلاث وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي ما لا ينفع في دين ودنيا أَعْرَضُوا عَنْهُ أي اللغو
200
وَقالُوا للاغين: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لنا ديننا ولكم دينكم، سَلامٌ عَلَيْكُمْ وهو سلام إعراض وفراق، لا سلام تحية فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥). أي لا نطلب صحبتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم. إِنَّكَ يا أشرف الخلق لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦).
عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا، وأنه قال: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك في الكتب، وأنه قال عند قرب موته مخاطبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ودعوتني وعلمت أنك صادق ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
واعلم أنه لو ترك شخص النطق بالشهادتين بعد المطالبة لا لإباء عن الإسلام ولا لعناد له، بل لخوف من ظالم أو من ملامة، أو مسبة عند من يعظم ذلك، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكون كافرا بينه وبين الله، بل لو تكلم بالكفر والحالة هذه لا يضره.
201
وقال الحليمي: لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير كلمة لا إله إلا الله حتى لو قال:
لا إله غير الله ولا إله ما عدا الله، أو ما سوى الله، أو ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن، أو لا رحمن إلا الله أو إلا البارئ فهو كقوله: لا إله الا الله اه. وكذا قال: محمد نبي الله أو مبعوثه أو نحو ذلك، أو ما يؤدي إلى ذلك باللغات العجمية صح إسلامه وحكم بكونه مسلما
وفي الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: «آدم ومن دون تحت لوائي وإن عبد المطلب يعطي نور الأنبياء وجمال الملوك»
«١».
وعن جعفر بن محمد الصادق قال: ويحشر عبد المطلب له نور الأنبياء وجمال الملوك، ويحشر أبو طالب في زمرته، أي إنما يعطى عبد المطلب نور الأنبياء، لأنه كان على التوحيد، ولأنه مستقل لا تابع، وهو من أهل الفترة وإنما يعطى جمال الملوك، لأنه كان سيد قريش في زمانه فهو في ذلك ملحق بالملوك الذين عدلوا وما ظلموا
، ومما يدل على أن أبا طالب مؤمن ما
روي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث قال: قال العباس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أترجو لأبي طالب خيرا؟ قال: «كل الخير أرجو من ربي»
«٢» رجاؤه صلّى الله عليه وسلّم محقق ولا يرجو كل الخير إلا لمؤمن.
وما
روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ كان لي في الجاهلية»
«٣». أورده المحب الطبري أي وهو الأخ من الرضاعة.
وفي الحديث: «إني ادخرت شفاعتي جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا»
. اه. وما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أن أبا طالب أخرج من طمطام النار وغمراتها إلى ضحضاح، منها وخفف عنه من عذابها وجعل أخف أهل النار عذابا ألبس نعلين من النار، فما مست النار إلا تحت قدميه، ولو كان كافرا لكان عذاب الكفر فوق عذاب الكبائر قطعا، ولو وجد مؤمن من عاص أخف عذابا من أبي طالب لزم الخلف في قوله صلّى الله عليه وسلّم حيث جعله أخف أهل النار على الإطلاق فوجب أن يكون عذابه كعذاب عصاة المؤمنين في مقابلة كبيرة كذا في رسالة السيد رسول البر زنجي. وَقالُوا أي أهل مكة: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي إن نوحد الله معك يا محمد نطرد من مكة.
روي أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا، أي أن يجتمعوا على
(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٣٣).
(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠: ٣٧٨).
(٣) رواه الحاكم في المستدرك (٤: ٣٠٦)، والبغوي في شرح السنّة (١٤: ٢٢٤)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠: ١٥١).
202
أي ألم نجعل مكانهم حرما ذا أمن يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي يحمل إليه من كل ناحية ألوان كل شيء من الثمرات.
وقرأ نافع بالتاء الفوقية. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان حالهم ما ذكر مع كونهم عبدة أصنام، فكيف يخافون أن نسلط عليهم الكفار إن ضموا إلى حرمة!؟ البيت، حرمة الإيمان ف «رزقا» إما مصدر مؤكد ل «يجبي» أو مفعول له، أو حال من «ثمرات» بمعنى مرزوق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) إنا جعلنا الحرم آمنا وإنا سقنا إليه الرزق من كل جهة وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في إدرار الرزق حتى طعنوا بالنعمة في زمن حياتها فأهلكناهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا في زمن قليل يسكنها المسافرون ومارو. الطريق وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) أي المالكين لها بعد هلاك أهلها، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي مهلك أهل القرى، حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أعظمها رَسُولًا. فعاد الله أن يبعث الرسل في المدن، لأن أهل أفطن وغيرهم يتبعهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على الحق والداعية إليه بالترغيب والترهيب، وذلك لقطع المعذرة وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أشرافهم رسولا يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا، وبالكفر بآياتنا. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي وما أعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم، فهو شيء عادته أن ينتفع به ويتزين به أيام حياتكم. وقرئ «فمتاعا الحياة» بنصب الكلمتين على المصدر، وعلى الظرف أي يتمتعون متاعا في الحياة الدنيا. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أي فمنافع الآخر لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا، فنصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فكيف قلتم تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا. أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية!
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) ؟ أي أفمن وعدنا وعدا بالجنة فهو مدرك الموعود به من غير شك كمن أعطيناه المال والخدم في الدنيا، ثم هو يوم القيامة نحضره للعذاب؟
قال محمد بن كعب: نزلت هذه الآية في حمزة وعلي، وفي أبي جهل. وقال غيره: في حمزة أو عثمان بن عفان وفي أبي جهل. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ معطوف على يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) ؟ أي ويوم ينادي الله المشركين فيقول توبيخا لهم: أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة، تزعمون أنهم يشفعون لكم، أين هم لينصروكم من هذا الذي نزل بكم؟! قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي الذين ثبت عليهم مدلول
203
قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: ١٣] رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا.
قال أبو علي: «الذين أغوينا» خبر لاسم الإشارة، و «أغويناهم» مستأنف. والمعنى:
هؤلاء هم الذين أضللناهم فصاروا أتباعا آثروا الكفر على الإيمان، فضلوا باختيارهم ضلالا مثل ضلالنا باختيارنا وكنا سببا في كفرهم فقبلوا منا وما أكرهناهم عليه تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) أي ما كانوا يطيعوننا، وإنما كانوا يطيعون أهواءهم، وَقِيلَ للكفار تبكيتا لهم: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولا انتفعوا بهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ
كانُوا يَهْتَدُونَ
(٦٤) أي أبصر المشركون العذاب لو أنهم يبصرون شيئا، فإنهم لما خاطبهم الله تعالى بقوله: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ اشتد الخوف عليهم حتى يصيروا بحيث لا يبصرون شيئا. أو المعنى: لما قيل: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ دعوا الأصنام مرارا كثيرة حتى كان الأصنام يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين. أو المعنى: وعلم الكفار حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون.
قال الرازي: وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف ما قبله سئلوا أولا: عن إشراكهم. وثانيا: عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك فَيَقُولُ الله تعالى: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) إليكم بما دعوكم فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أي فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سئلوا عن ذلك فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب النافع، لأنهم يتساوون جميعا في العجز عن الجواب المنجي لفرط الدهشة، فلا نطق ولا عقل. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وَعَمِلَ صالِحاً أي خالصا فيما بينه وبين الله فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) أي فليطمع في الفلاح والنجاة من العذاب وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه وَيَخْتارُ ما يشاء اختياره. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم الاختيار المؤثر عنهم، وليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل.
قال العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقوم على أمر من أمور الدنيا إلا حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك بأن يصلي صلاة الاستخارة بالكيفية المشهورة، وأهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، فلا يرضيهم، إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده، فيمضيه، وروي أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة حين قال: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ويقصد بذلك الوليد بن المغيرة، أو أبا مسعود الثقفي، فأجاب الله تعالى عنه بقوله تعالى: وَرَبُّكَ إلخ، والمعنى: لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار
204
المرسل إليهم. سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) أي تنزيها له تعالى عن أن يزاحم اختياره تعالى اختيار. والمقصود أن يعلم العبد أن الإعزاز والإذلال مفوّض إليه تعالى ليس لأحد في الخلق، والاختيار شركة له تعالى وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) من الطعن في الرسول بألسنتهم وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي وهو المستحق للعبادة لا أحد يستحقها إلا الله. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لأن الثواب غير واجب عليه، بل هو تعالى، يعطيه فضلا وإحسانا منه تعالى، فله الحمد في الدنيا والآخرة لأنه معطي النعم كلها، فيحمده المؤمنون في الآخرة فرحا بفضله، والتذاذا بحمده بقولهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده وَلَهُ الْحُكْمُ النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغير في الدنيا والآخرة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) بالخروج من القبور.
قُلْ يا أفضل الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق غير المرئي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ يخرجكم من مشقة الظلام؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) هذا الكلام الحق سماع تفهم تطيعون من يفعل ذلك! قُلْ لهم: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، استراحة عن متاعب الأشغال؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)، هذه المنفعة الظاهرة ولا تنتظرون بقلوبكم ما أنتم عليه من الخطأ! وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي نعمته تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لأغراض ثلاثة لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في أحدهما وهو الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في الآخر، وهو النهار بأنواع المكاسب. ففي هذا مدح للسعي في طلب الرزق كما ورد في الحديث: «الكاسب حبيب الله وهو لا ينافي التوكل».
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) أي لكي تشكروا على المنفعتين معا. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي أذكر يوم ينادي الله المشركين يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) ؟ أي أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصهم من الهلاك؟ وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي أخرجنا من كل أمة نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه في كل زمان، فيدخل فيه الأحوال التي في أزمنة الفترات، وفي الأزمنة التي حصلت بعد سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْنا لهم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا أي كل أمة يومئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي أن حقيقة الإلهية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) أي زال عنهم ما كانوا يعبدون في الدنيا بالكذب إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى.
وروى أبو إمامة الباهلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان قارون من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله تعالى»
- قيل هو ابن عم موسى- وعن ابن عباس كان ابن خالته، ثم قيل: إنه
205
كان يسمى المنور ولحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، إلا أنه نافق كما نافق السامري فَبَغى عَلَيْهِمْ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره، كما قاله القفال، وقال ابن عباس: تكبر عليهم اه-، ثم حسد موسى على رسالته، وهارون على إمامته في الذبح فكفر بعد ما آمن بهما بسبب كثرة ماله.
ويروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر جعل الحبورة والقربان لهارون فقال قارون:
يا موسى لك الرسالة، ولهارون الحبورة- وهي إمامة الذبح- ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه السلام: والله ما صنعت ذلك لهارون، ولكن جعله الله له. فقال: لا والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون فأمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصا، فجاءوا بها، فحزمها موسى، فألقاها في قبة له، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون. فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي وأعطينا قارون من الأموال المدخرة الذي أن مفاتيح صناديقه لتثقل الجماعة الكثيرة الأقوياء وأخرج الدينوري عن خيثمة قال: قرأت في الإنجيل أن مفاتيح كنوز قارون وقر ستين بغلا كل مفتاح منها على قدر إصبع، لكل مفتاح منها كنز إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ أي المؤمنون من بني إسرائيل لا تَفْرَحْ بكثرة المال فالفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقا. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) بزخارف الدنيا وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي اطلب ثواب الله تعالى بسبب المال بأن تصرفه إلى ما يؤديك إلى الجنة كصدقة وصلة رحم، وإطعام جائع، وكسوة عار ونفقة على محتاج وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك العمل في الدنيا للآخرة، وخذ ما تحتاجه من الدنيا وأخرج الباقي كما في الحديث: «اغتنم خمسا: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» «١». وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى عباد الله تعالى إحسانا كإحسان الله تعالى إليك فيما أنعم إليك، فيدخل في الإحسان الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أي لا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) أي أنه تعالى يعاقب المفسدين بسوء أفعالهم. قالَ قارون مجيبا لناصحه: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي أنما أعطيت هذا المال حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي، وفضلت به على الناس
(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى (١٠: ١٦٣)، والسيوطي في الدر المنثور (٥: ١٤٧).
206
بالمال والجاه، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة، واستحقاقي لذلك، أي لأنه أقرأ بني إسرائيل للتوراة كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي اه-.
وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلّم قارون ثلث العلم، ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى
أضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، والنحاس فيجعله ذهبا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي أعلم قارون ما ادعاه، ولم يعلم أن الله قد أهلك من هو أقوى منه، وأغنى، وأكثر جماعة حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته؟! وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)، أي لا يسأل الله عن صفة ذنوب المجرمين وعددها إذا أراد أن يعاقبهم لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوم السبت متزينا مع أتباعه كانوا أربعة آلاف على زيه، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج، وكانت بغلته شهباء سرجها من ذهب وكان على سرجها الأرجوان- بضم الهمزة والجيم، وهو قطيفة حمراء- وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، ومعهم ألوان السلاح.
وقال ابن زيد: خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا من المؤمنين جريا على طريقه الجبلة البشرية من الرغبة في السعة يا للتنبيه لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من هذه الأموال وهذه الزينة إِنَّهُ أي قارون لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩). أي لذو بخت وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الدنيا والآخرة للراغبين في الدنيا: وَيْلَكُمْ أي ضيق الله عليكم الدنيا. وهذا زجر عن ذلك التمني ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً من هذه النعم، لأن الثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار، ودائمة، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاثة.
وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) أي ولا يعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح إلا الصابرون على أمر الله، والمرازي. أو ولا يعطى الجنة التي هي الثواب إلا الصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة.
فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ.
روي أن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وكذلك سائر الأشياء، ثم رجع إلى بيته فحسبه، فوجده شيئا كثيرا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فمرنا بما شئت. قال: نبرطل فلانة البغي كي تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك رفضه بنو إسرائيل، فدعوها، فجعل قارون لها طشتا من ذهب مملوءا ذهبا، فلما كان يوم عيد قام
207
موسى خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن كان محصنا رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا قال: إن بني إسرائيل يقولون: إنك فجرت بفلانة قال موسى: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة ألا تصدقين فتداركها الله بالتوفيق، فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل عنه، فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويقول له: قارون بالله والرحم، وموسى عليه السلام لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال:
يا أرض خذيهم. فانطبقت الأرض عليهم، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. فَما كانَ لَهُ أي لقارون مِنْ فِئَةٍ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره بدفع العذاب عنه وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) أي من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله تعالى، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ أي وصار الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب، يَقُولُونَ متنبهين على خطأهم في تمنيهم لمّا شاهدوا الخسف وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي أعجب أنا، لأن الله يوسع المال على من يشاء من عباده وهو مكر منه تعالى- كما كان لقارون- ويقتر على من يشاء وهو نظر منه تعالى فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف تندموا على تمنيهم حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله، ولا تضييقه لهوانه عنده فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ و «وي» اسم فعل بمعنى:
أعجب أنا، والكاف للتعليل.
وقال أبو الحسن و «وي» اسم فعل، والكاف حرف خطاب و «أن» على إضمار اللام.
وقيل: «وي» اسم فعل، و «كأن» للتحقيق أي أعجب أنا وقد علمت أن كلا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى، وليس البسط للكرامة والقبض للهوان لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالإيمان والرحمة لَخَسَفَ بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢). وقيل «وي» كلمة للزجر، والكاف حرف خطاب، و «أن» معمولة لمحذوف أي انزجر عن تمنيك.
واعلم أنه لا ينجو المكذبون برسول الله من عذاب الله تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي نعطيها لمن لا يريدون غلبة وتكبرا وَلا فَساداً أي
208
ظلما على العباد كدأب فرعون وقارون، وَالْعاقِبَةُ الحميدة- وهي الجنة- لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) أي الذين يتقون ما لا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة متصفا بالحسنة، المقبولة، الأصلية، المعمولة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي فله بمقابلتها ثواب خير منها ذاتا، وصفة، وقدرا بالمضاعفة. ومثل المعمولة ما في حكمها كما لو تصدق عن غيره، فخرج بالمعمولة ما لو همّ بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنها يجازى عليها من غير تضعيف، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف له، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهي ما يذم فاعلها شرعا فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) أي الإجزاء مثل ما كانوا يعملون إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن والعمل بما فيه من الأحكام لرادك إلى مكة.
فإنه صلّى الله عليه وسلّم خرج من الغار ليلا وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل وقال له:
أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم». فقال جبريل: إن الله تعالى يقول:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي مكة غالبا عليهم قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وما يستحقونه من العقاب والإذلال في بلدهم يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك نفسه والمشركين، وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وما كنت قبل مجيء الرسالة إليك ترجو إنزال القرآن عليك، وكونك نبيا فإنزاله عليك ليس عن ميعاد وكونك نبيا ليس عن تطلب سابق منك ولكن أنزل إليك القرآن وتجعل نبيا لأجل الترحم من ربك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) أي معينا لهم بالإجابة إلى طلبتهم وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي لا تركن إلى أقوال الكافرين فيصدوك عن اتباع آيات الله بعد وقت إنزالها عليك وإيجاب العمل بها وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادع الناس إلى دين ربك وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) بإعانتهم في الأمور، لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا
في أمورك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ أي معدوم في حد ذاته فإن وجوده كلا وجود، لأن وجوده ليس ذاتيا إِلَّا وَجْهَهُ أي ذاته تعالى.
وقيل: معنى كونه هالكا: كونه قابلا للهلاك والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله:
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي ونار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
لَهُ الْحُكْمُ النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ أي إلى جزائه بالعدل عند البعث تُرْجَعُونَ (٨٨).
209
Icon