تفسير سورة القصص

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة القصص (١)
١، ٢ - ﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ قد تقدم ما ذكر في هذا (٢)، و ﴿الْمُبِينِ﴾ يجوز أن يكون من: أبان إذا أظهر، ومن بان: إذا ظهر.
قال قتادة في هذه الآية: (مُبِينِ) والله بركته وهداه ورشده (٣).
وقال مقاتل: بين ما فيه (٤). وهذا من أبان المطاوع.
وقال أبو إسحاق: (مُبِين) الحق من الباطل، والحلال من الحرام، ومبين قصص الأنبياء (٥). وهذا من أبان الواقع.
٣ - ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ﴾ قال ابن عباس: يريد: نوحي إليك ﴿مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾ أي: من خبرهما وحديثهما ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي لا ريب فيه {لِقَوْمٍ
(١) سورة القصص مكية، وعدد آياتها: ثمان وثمانون آية "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب. وقد أورد الواحدي في كتابه "الوسيط" ٣/ ٣٨٩، في صدر هذه السورة حديث أبي ابن كعب، في فضائل السور، وهو حديث موضوع، سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان. وقد تبع الواحديُّ في ذلك الثعلبي ٨/ ١٣٩ ب.
(٢) في أول سورة الشعراء.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣١.
يُؤْمِنُونَ} يصدقون بالقرآن (١). يعني: أن (٢) صدق هذا الكتاب لمن آمن به وصدقه، فأما من لم يؤمن به (٣) فليس عنده بحق.
٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ قال الليث: العلو: العظمة والتجبر، يقال: علا الملك علوًا إذا تجبر (٤)، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ (٥) [القصص: ٨٣] قال المفسرون: استكبر وتجبر وبغى وتعظم وطغى. كل هذا من ألفاظهم (٦).
وقوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: أرض مصر (٧) ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ يعني: أحزابًا وفرقًا (٨)، كقوله: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ [الأنعام: ٦٥] وقد مر (٩).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ.
(٢) "حرف: أن، ساقط من نسخة (ج).
(٣) به، في نسخة (ج).
(٤) في نسخة (ب): إذا تكبر وتجبر.
(٥) كتاب "العين" ٢/ ٢٤٥ (علو)، بنحوه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ، بلفظ: تعظم. وابن جرير بلفظ: تجبر. "تاريخ الطبري" ١/ ٣٨٨. وأخرجه في التفسير ٢٠/ ٢٧، عن السدي بلفظ: تجبر في الأرض. وعن قتادة بلفظ: بغى في الأرض. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ ب، عن ابن عباس، بلفظ: استكبر، وعن السدي، بلفظ: تجبر.
(٧) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب، ولم ينسبه.
(٨) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٧. أي: فرق بني إسرائيل فجعلهم خَوَلًا للقبط. "وضح البرهان" ٢/ ١٤٥. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٢٧، نحوه عن قتادة خولاً: عبيدا. "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٦٤ (خال).
(٩) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: الشيع جمع: شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شيع وأشياع، قال الله -عز وجل-: ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ [سبأ: ٥٤] وأصله من التشيع وهو التتبع، ومعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضًا.
330
والمعني: جعلهم فرقًا وأصنافًا في الخدمة (١)، والتسخير (٢) ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ قال ابن عباس: وهم أسباط النبوة، يعني: بني إسرائيل (٣).
ثم فسر ذلك الاستضعاف فقال: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ قال المفسرون: يقتل أبناءهم، ويترك بناتهم فلا يقتلهن (٤)؛ وذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن مولودًا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكك (٥).
قال أبو إسحاق: والعجب من حمق فرعون؛ إن كان هذا الكاهن عنده صادقًا فلا ينفع القتل، وإن كان كاذبًا فما معنى القتل (٦).
وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ أي بالعمل في الأرض بالمعاصي. قاله ابن عباس ومقاتل (٧). وقال الكلبي: من المفسدين بالقتل (٨).
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٨.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب، ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٢٧، عن قتادة في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ أي: فرقًا، يذبح طائفة منهم، ويستحيي طائفة منهم، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٨، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٩، عن السدي في خبر طويل.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣٨، عن السدي.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٧ عن قتادة. و"تفسير مقاتل" ٦٣ أ. و"تاريخ الطبري" ١/ ٣٨٧، عن ابن إسحاق.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٢.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ. و"تفسير الطبري" ٢٠/ ٢٨، ولم ينسبه.
(٨) "تنوير المقباس" ٣٢٣. وما ذكره الواحدي هنا أمثلة لإفساد فرعون؛ قال ابن جرير ٢٠/ ٢٨: إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره في الأرض على أهلها، وتكبره على عبادة ربه.
331
٥ - قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ﴾ لفظ استقبال أريد به حكاية حال قد مضت. وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ (١) [يوسف: ١١٠] وهو أيضًا حكاية حال.
قوله: ﴿أَنْ نَمُنَّ﴾ قال مقاتل: نُنعم ﴿عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ مصر، وهم بنو إسرائيل (٢). ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ قال ابن عباس: يريد في الهدى، ونحوه (٣).
قال مقاتل: يُقتدَى بِهم في الخير (٤).
وقال قتادة: ولاة ملوكًا (٥). وهو اختيار أبي إسحاق؛ قال: نجعلهم ولاة يؤتم بِهم (٦).
وقال مجاهد: دعاة إلى الخير (٧). ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ لملك فرعون، يرثون ملكه، ويسكنون مساكنهم، ويرثون ما يترك فرعون ويخلف بعده (٨).
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو علي: هو حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت كما أن قوله: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] أشار إلى الحاضر والقصة ماضية لأنه حكى الحال.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٨، عن قتادة. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب.
(٣) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ ب، عن ابن عباس، بلفظ: قادة في الخير يقتدى بهم.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٣ أ.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٢٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤١. وذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ ب.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٢.
(٧) ذكره الثعلبي ٨/ ١٣٩ ب، عن مجاهد.
(٨) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٣٩ ب، بنحوه. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٢٨، عن قتادة: يرثون الأرض بعد فرعون وقومه.
٦ - وقوله: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ قال ابن عباس: نملكهم ما كان يملك فرعون. يقال: مكنته ومكنت له، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: ١٠] (١)، وقال: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] وقد مر (٢).
﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ﴾ الآية، أي مولود بني إسرائيل الذي يذهب ملكهم على يده، ويهلك القبط بسببه. وقرأ حمزة والكسائي: ﴿وَيرَى﴾ بالياء ﴿فِرْعَوْنَ﴾ وما بعده رفعًا، على معنى: أنَّهم يرونه إذا أُروه؛ والاختيار قراءة العامة؛ ليكون الكلام من وجه واحد (٣).
٧ - قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ قال قتادة: أي قذفنا في قلبها، وليس بوحي إرسال (٤).
(١) لم يتكلم الواحدي في تفسير هذه الآية عن دخول اللام في مكن، بل اقتصر على قوله: قال الزجاج: معنى التمكين في الأرض: التمليك والقدرة وهو قول ابن عباس قال: يريد: ملكناكم في الأرض؛ يريد: ما بين مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام.
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى ﴿مَكَّنَّاكُمْ﴾ ثم قال: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ ولم يقل: نمكنكم، وهما لغتان؛ تقول العرب: مكنته، ومكنت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له. قال صاحب النظم: العرب تتسع في الأفعال التي تتعدى بحروف الصفات، فربما عدوها بغيرها كقوله تعالى: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التكوير: ٢٦] المعنى: فإلى أين تذهبون.. أ. هـ.
حروف الصفات هي: حروف المعاني.
(٣) "السبعة في القراءات" ٤٩٢. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١١، ولم يذكر هذا الاختيار. وإعراب القراءات السبع ٢/ ١٦٨، و"النشر" ٢/ ٣٤١.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٧، وابن جرير ٢٠/ ٢٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤١، =
333
وقال مقاتل: أتاها جبريل بذلك (١).
قال أبو إسحاق: قيل: إن الوحي هاهنا إلهام؛ والآية تدل على أنه وحي إعلام؛ وهو قوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وجائز أو يُلقي الله في قلبها أنه مردود إليها، وأنه يكون مرسلًا، ولكن أن يكون الوحي هاهنا إعلامًا أبين (٢).
قال الكلبي ومقاتل (٣): لما ولدته أرضعته ثلاثة أشهر، فلما خافت أن يسمع الجيران بكاء الصبي اتخذت لها تابوتًا من بَردي وقَيَّرته (٤)، ووضعت فيه موسى ثم ألقته في نيل مصر، وذلك قوله: ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ (٥) ونحو هذا قال ابن جريج؛ إنَّها ألقته في اليم بعد أن أرضعته أشهرًا (٦).
= واقتصر عليه ابن قتيبة، في "غريب القرآن" ٣٢٨، وقال: ومثله ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة: ١١١].
(١) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٢. وقيل: إنه كان رؤيا منام. "وضح البرهان" ٢/ ١٤٥.
(٣) ومقاتل. في نسخة (ج).
(٤) البردي، بفتح الباء: نبات معروف، واحدته: بردية، ترتفع ساقه إلى نحو متر، أو أكثر، ينمو بكثرة في منطقة المستنقعات بأعالى النيل. "لسان العرب" ٣/ ٨٧، و"المعجم الوسيط" ١/ ٤٨، مادة: برد. قيرته: مأخوذ من القار، أو القِير: كل شيء يطلى به، وهو مادة سوداء تطلى بها السفن لمنع الماء أن يدخل. "تهذيب اللغة" ٩/ ٢٧٧. مادة: قرى.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب. و"تاريخ الطبري" ١/ ٣٨٩. واليم: النيل، في قول السدي أيضًا؛ أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٠.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٠. وفيه تحديد الأشهر بأربعة.
334
وقال السدي: أُمرت أن ترضعه بعد ولادها، وتلقيه في اليم (١). والقول الأول أليق بمنظم الآية؛ للفصل بين الإلقاء والإرضاع بالخوف (٢)، وخوفها ما ذكروا أنها خافت أن يسمع الجيران بكاء الصبي (٣).
قوله: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ قال مقاتل: قالت المرأة: رب إني قد علمت أنك قادر على ما تشاء (٤)، ولكن كيف لي أن ينجو صبي صغير من عمق البحر، وبطون الحيتان؟ فأوحى الله إليها: ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ عليه الضيعة فإني أوكل به ملكًا يحفظه في اليم (٥) ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ لفراقه ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ لتمام رضاعه لتكوني أنت ترضعيه ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى أهل مصر (٦).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٠.
(٢) قال ابن جرير ٢٠/ ٣٠: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم، وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه، وأي ذلك كان فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه، ولا خبر قامت به حجة، ولا فطرة في العقل لبيان أي ذلك كان.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٢، عن ابن عباس.
(٤) قدرة الله تعالى إذا ذكرت على أنها صفة فلا تقيد بالمشيئة حتى لا يوهم التقييد اختصاصها بما يشاؤه الله تعالى فقط، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] وإذا ذكرت المشيئة لتقرير أمر واقع فلا مانع من تقييدها بالمشيئة؛ لأن الواقع لا يقع إلا بالمشيئة. المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين ١/ ١١٨، باختصار.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب. في هذه الآية خبران، وأمران، ونهيان، وبشارتان. "وضح البرهان" ٢/ ١٤٦.
335
٨ - قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ أي: من البحر، والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب (١). والمراد بآل فرعون هاهنا: جواري امرأته اللاتي أخذن تابوت موسى من البحر على ما ذكره المفسرون (٢).
﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ وقرئ: (وَحُزْنًا) (٣) وهما لغتان، [مثل السَقَم والسُقْم، والعَرَب والعُرْب، وبابه (٤).
قال أبو إسحاق:] (٥) ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ﴾ أي: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم طلبوه وأخذوه لهذا، كما تقول للذي كسب مالاً فأداه ذلك إلى الهلاك: إنما كسب فلان لحتفه، وهو لم يطلب المال طلبًا للحتف. ومثله:
فللموت ما تلد الوالدة (٦)
(١) "تهذيب اللغة" ١٦/ ٢٤٩، مادة: لقط. ويطلق الالتقاط على الأخذ فجأة. "وضح البرهان" ٢/ ١٤٦.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣١، عن السدي. وذكر قولين آخرين: ابنة فرعون، أعوان فرعون. قال ابن جرير: ولا قول في ذلك عندنا أولى بالصواب مما قال الله -عز وجل- ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٣، عن أبي عبد الرحمن الحبلي. وذكره في خبر مطول الثعلبي ٨/ ١٤٠ أ.
(٣) قرأ حمزة والكسائي: (وَحُزْنًا) بضم الحاء، وتسكين الزاي، وقرأ الباقون بفتح الحاء، والزاي. "السبعة في القراءات" ٤٩٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٢، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤١.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٢.
قال الفراء: وكأن الحُزْن الاسم، وكأن الحزَن مصدر، وهما بمنزلة: العُدْم، والعَدَم. "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٢.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من نسخة (ج).
(٦) عجز بيت لشتيم بن خويلد، يرثي أولاده الثلاثة، وصدره:
فإن يكن الموت أمتاهم
وهي لم تلد طلبًا أن يموت ولدها، ولكن المصير إلى ذلك (١). قال مقاتل: ليكون لهم عدوًا في الهلاك، وغيظًا في قلوبهم (٢). ثم أخبر عنهم فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ﴾ إلى قوله: ﴿خَاطِئِينَ﴾ أي: عاصين آثمين (٣).
٩ - وقوله: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾ قال ابن عباس: أتت جواري امرأة فرعون يستقين فوجدن التابوت، فذهبن بالتابوت إليها، فلما فتحت امرأة فرعون التابوت فإذا موسى فيه، فألقى الله له المحبة من جميعهم، فحملته حتى أدخلته على فرعون، فهو قوله: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ (٤).
قال الفراء والمبرد والزجاج: رفعت ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ﴾ بإضمار: هو، أو:
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٣. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٣٢، وذكره الثعلبي ٨/ ١٤١ أ، بمعناه. وفي "الدر المصون" ٨/ ٦٥١: في اللام الوجهان المشهوران: العِلِّيَّة المجازية بمعنى: أن ذلك لما كان نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله، أو الصيرورة.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب. قال ابن جرير ٢٠/ ٣٣: عدوًا في دينهم، وحزنًا على ما ينالهم منه من المكروه.
(٣) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٣٣.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٤. والثعلبي ٨/ ١٤٠ أ. وهو جزء من حديث الفتون؛ الذي أخرجه النسائي، في "السنن الكبرى" ٦/ ٣٩٦، رقم: ١١٣٢٦، وقال عنه ابن كثير بعد أن ساقه بطوله في تفسير سورة: طه: هكذا رواه النسائي في سننه الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم، في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس منه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار، أو غيره. والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي، يقول ذلك أيضًا. "تفسير ابن كثير" ٥/ ٢٩٣
337
هذا الصبي قرةُ عين لي ولك يا فرعون (١). قال أبو إسحاق: ويقبح رفعه على الابتداء، وأن يكون الخبر ﴿لَا تَقْتُلُوهُ﴾ فيكون كأنها عرفت أنه قرة عين لها. ويجوز ذلك على بُعدٍ على معنى: إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتله (٢).
قال مقاتل: قالت لفرعون: لا تقتله فإن الله أتانا به من أرض أخرى، وليس من بني إسرائيل ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ فنصيب منه خيرًا (٣).
﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ قال المفسرون: وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها (٤).
قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أكثر المفسرين على أن هذا ابتداء من كلام الله تعالى، أخبر أنهم لا يشعرون أن هلاكهم في سببه، وهذا قول قتادة ومجاهد ومقاتل (٥).
وقال آخرون: هذا من تمام كلام المرأة، ومعنى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني: بني إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه؛ هذا قول محمد بن قيس (٦).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٢. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٣.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٣، وا لإشارة في قوله: ويجوز ذلك، أي: رفعه على الابتداء.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب.
(٤) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" ٦/ ٣٩٧. وهو جزء من حديث الفتون، الذي سبق الحديث عنه قريبا. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣١، عن السدي.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٧، عن قتادة وابن جرير ٢٠/ ٣٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٥، عن قتادة، ومجاهد. و"تفسير مقاتل" ٦٣ ب ورجحه ابن جرير ٢٠/ ٣٥.
(٦) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٣٥. والثعلبي ٨/ ١٤١ ب، عن محمد بن قيس. وهو الأسدي، الوالبي، الكوفي، روى عن الشعبي، وأبي الضحى، وروى عنه: شعبة، وأبو نعيم، وثقه ابن حجر، وقال عنه الذهبي: صدوق. "الكاشف" ٣/ ٨١، و"تقريب التهذيب" ٨٩٠.
338
وقال الكلبي: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ لا أنه ولدنا (١).
١٠ - وقوله: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ قال أكثر المفسرين: ﴿فَارِغًا﴾ من كل شيء من هم الدنيا والآخرة إلا هم موسى وذكره؛ وهذا قول ابن عباس في جميع الروايات، ومجاهد ومقاتل وعكرمة وقتادة والحسن وسعيد بن جبير والكلبي (٢)، واختيار الفراء وأبي إسحاق؛ قال الفراء: ﴿فَارِغًا﴾ لهمِّ موسى، فليس يخلط همّ موسى شيء (٣).
وقال محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد: ﴿فَارِغًا﴾ من الوحي الذي أوحى الله إليها، والعهد الذي عهده إليها أن يرده عليها؛ وذلك أنها لما رأت موسى يرفعه موج، ويخفضه آخر جزعت، وأتاها الشيطان فوسوس لها، وقال: لو قتله فرعون كان للآخرة، وقد توليت قتله بالإلقاء في اليم. ثم لما أتاها الخبر بأن موسى وقع في يد آل فرعون (٤)، قالت: قد
(١) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤١ ب. وذكر الوجهين الفراء. "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٣. وفي "تنوير المقباس" ٣٢٤: بنو إسرائيل لا يعلمون أنه ليس منا، ويقال: وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه. والقول الأول الذي عليه أكثر المفسرين هو الأقرب. والله أعلم.
(٢) نسب الثعلبي ٨/ ١٤١ ب هذا القول لأكثر المفسرين. وذكره البخاري عن ابن عباس معلقًا بصيغة الجزم ٨/ ٥٠٦. وأخرجه عنه الحاكم ٢/ ٤٤١، رقم ٣٥٢٩. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٨، عن قتادة، وأبي عمران الجوني. وهو في "تفسير مقاتل" ٦٣ ب. و"تنوير المقباس" ٣٢٣. وأخرجه أبو يعلى ٥/ ١٢، من طريق سعيد بن جبير. وهو جزء من الحديث الطويل حديث الفتون، الذي سبق الحديث عنه قريبا.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٣. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٤. واختاره ابن الأنباري، في كتابه "الأضداد" ٢٩٩.
(٤) أخرجه عنهما وعن الحسن ابن جرير ٢٠/ ٣٦، وأخرجه ابن أبيِ حاتم ٩/ ٢٩٤٦ عن ابن إسحاق فقط. وذكره عن الحسن وأبو إسحاق وابن زيد الثعلبي ٨/ ١٤١ ب.
339
وقع في يد عدوه الذي فررت به منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وهذا أيضًا قول مرضيّ.
وقال أبو عبيدة: ﴿فَارِغًا﴾ من الحزن، لعلمها أنه لم يقتل، ولم يغرق (١).
قال ابن قتيبة: وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون فؤادها فارغًا من الحزن في وقتها ذاك، والله تعالى يقول: ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ قال: والعرب تقول للجبان، والخائف: فؤاده هواء. لأنه لا يعي عزمًا، ولا صبرًا، وقد خالفه المفسرون إلى الصواب؛ فقالوا: ﴿فَارِغًا﴾ من كل شيء إلا من أمر موسى؛ كأنها لم تهتم بشيء مما يهتم به الحيُّ إلا أمرَ ولدها. انتهى كلامه (٢).
ووجه قول المفسرين ما ذكر؛ وهو: أن قلبها صار فارغًا من الصبر والعزم، وإنما قال المفسرون: إلا (٣) من ذكر موسى، لدلالة باقي الآية عليه؛ وهو قوله -عز وجل-: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: كادت تخبر أن هذا (٤) الذي وجدتموه في التابوت هو ابني.
(١) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٨. وذكر هذا القول ابن الأنباري، "الأضداد" ٢٩٨، عن بعض أهل اللغة، ولم يسمه، وجعل هذا الاختلاف مما يفسر من القرآن تفسيرين متضادين، وذكر القولين النيسابوري، "وضح البرهان" ٢/ ١٤٦، وصدر القول الثاني بـ: قيل.
(٢) "غريب القرآن" ٣٢٨. ويشهد له ما ذكره الفراء بإسناده عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- أنه قرأ: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ من الفزع. "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٣، وذكر هذه القراءة ابن جرير ٢٠/ ٣٧، ورد قول أبي عبيدة بقوله: وهذا لا معنى له؛ لخلافه قول جميع أهل التأويل.
(٣) كلمة: إلا، ساقطة من نسخة: (ب).
(٤) هذا، ساقطة من نسخة: (ب).
340
وقال في رواية عكرمة، وسعيد بن جبير: كادت تقول (١): وابناه، من شدة وجْدِها به (٢).
وقال مقاتل: خشيت عليه الغرق، وكادت تصيح شفقة عليه، فذلك قوله: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ تقول: إن همت لتشعر أهل مصر بموسى أنه ولدها (٣).
وعن مُغِيثِ بن سُمَيّ: كادت تقول: أنا أمه (٤).
وقال أبو إسحاق: إن كادت لتظهر أنه ابنها (٥).
وقال الفراء: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ يعني: باسم موسى أنه ابنها؛ وذلك أن صدرها ضاق بقول آل فرعون: هو ابن فرعون، فكادت تبدي به؛ أي: تظهره (٦).
وهذا معنى قول الكلبي (٧)؛ فالكناية من ﴿بِهِ﴾ تعود على اسم موسى على قول هؤلاء؛ وهو الصحيح. وسبب الإبداء مختلَف فيه، فعند بعضهم:
(١) تقول، ساقطة من نسخة: (ب).
(٢) رواية عكرمة أخرجها ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٧، والثعلبي ٨/ ١٤١ب ورواية سعيد ابن جبير أخرجها ابن جرير ٢٠/ ٣٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٧، والحاكم ٢/ ٤٤١، رقم: ٣٥٢٩. ولم أجد رواية عطاء.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٧.
مغيث بن سُمي، الأوزاعي، أبو أيوب الشامي، ثقة، روى عن عمر -رضي الله عنه- مرسلاً، وروى عن ابن عمر وطائفة، وروى عنه: زيد بن واقد، وعبد الرحمن بن يزيد، وغيرهم. "الكاشف" ٣/ ١٤٧، و"تقريب التهذيب" ٩٦٤.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٤.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٣. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٣٨.
(٧) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤١ ب. وهو في "تنوير المقباس" ٣٢٣.
341
وَجْدًا به. وعند مقاتل: شفقةً عليه من الغرق. وعند الكلبي ضيق صدرها (١) بما تسمع من قولهم: موسى بن فرعون (٢).
ويقال أبدى الشيء، ودخلت الباء هاهنا؛ لأنه أريد بالإبداء: الإخبار والإشعار، يدل على هذا ما روي في حرف عبد الله: إن كادت لتشعر به (٣).
﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ بالصبر واليقين والإيمان؛ قاله ابن عباس ومقاتل وقتادة (٤).
قال الزجاج: ومعنى الربط على القلب: إلهام الصبر وتشديده وتقويته (٥). وذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ [الأنفال: ١١] (٦).
وقوله: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: من المصدقين بوعد الله حين قال لها: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ قاله مقاتل والمفسرون (٧).
(١) في النسخ الثلاث: ضيق صدر.
(٢) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤١ ب.
(٣) ذكر هذه القراءة الفراء ٢/ ٣٠٣.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٨، عن قتادة. وكذا ابن جرير ٢٠/ ٣٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٧. و"تفسير مقاتل" ٦٣ ب.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٤. وذكره القاضي عبد الجبار في "متشابه القرآن" ٥٤٣.
(٦) قال الواحدي: معنى الربط في اللغة: الشد، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿وَرَابِطُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠] ويقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه، كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب، ويقال: رجل رابط الجأش؛ قال الأصمعي: هو الذي يربط نفسه يكفها بجرأته وشجاعته.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٧، عن سعيد بن جبير والسدي. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٢ أ.
342
١١ - قوله: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾ لأخت موسى ﴿قُصِّيهِ﴾: اتبعي أثره (١). يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئًا بعد شيء قصًا وقصصًا.
قال المبرد: فلان يقص أثر الجيش أي: يتبعه متعرفًا (٢).
وقد ذكرنا هذا الحرف في القصاص والقصص (٣).
قال ابن عباس: تريد: اطلبي أثره، وانظري أين وقع، وإلى من صار (٤). وقال مجاهد: اتبعي أثره كيف يصنع به (٥).
وقال مقاتل: قصي أثره حتى تعلمي علمه من يأخذه (٦).
وقال ابن إسحاق: انظري ماذا يفعلون به (٧). هذا قول المفسرين.
(١) أخرجه الحاكم ٢/ ٤٤١، رقم: ٣٥٢٩، عن ابن عباس. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٨. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٢ أ. و"وضح البرهان" ٢/ ١٤٧.
(٢) لم أجده في "التهذيب"، مادة: قص، وفي "الكامل" ٢/ ١٠١٨: تقصه: تتبعه، قال الله -عز وجل-: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي: اتبعي أثره.
(٣) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٧٩]: القصاص في اللغة: المماثلة، وأصله من قولهم: قصصت أثره إذا تتبعته، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١].
(٤) ذكره البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم ٨/ ٥٠٦، بلفظ: اتبعي أثره. وباللفظ الذي ذكره الواحدي هنا أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٨، وفي رواية عندهما عن ابن عباس: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا؟ أحي ابني أم أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها به.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب. واقتصر الأخفش على قول: قُصي أثره. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٢. وكذا قتادة، تفسير عبد الرزاق ٢/ ٨٨. وهو كذلك في "تاريخ الطبري" ١/ ٣٨٩.
(٧) في نسخة: (أ)، (ب): أبو إسحاق. وخبر ابن إسحاق أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٨، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٩، عن قتادة.
343
ودل كلامهم على أن القص: تتبع الأثر مع التعرف؛ كما قال المبرد.
قوله: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ قال ابن عباس: أبصرته (١).
قال المبرد: بصرت بالشيء، وأبصرته واحد في المعنى (٢). والفصل بينهما مع اجتماعهما في المعنى أن: بصرت به، معناه: صرت بصيرًا بموضعه. وهكذا فعلت، معناه: انتقلت إلى تلك الحال. قوله تعالى: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ أي: عن بعد (٣). وهو مصدر، ثم وصف به. وكذلك قالوا: رجل جنب، ورجال جنب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء: ٣٦] وقد مر (٤).
وقال المبرد: وقد يجمع أجنابًا، كما تقول (٥) في شُغل، وهو مصدر مثله: أشغال. قالت الخنساء ترثي (٦):
فابْكي أخاكِ لأيتامٍ وأرملةٍ وابكي أخاكِ إذا جاورتِ أجنابا (٧)
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٨، كلاهما بمعناه.
(٢) في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٨: هما لغتان. ولم أجد قول المبرد في "التهذيب". وذكر قول المبرد، الشوكاني "فتح القدير" ٤/ ١٥٦.
(٣) ذكره البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصيغة الجزم ٨/ ٥٠٦. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٨. وحكاه عنه ابن الأنباري، في كتابه "الزاهر" ١/ ٤٣٠. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٢ أ.
(٤) قال الواحدي في تفسير الجنب في سورة النساء: الجُنُب نعت على: فُعُل، مثل: أُحُد.. وأصله من الجنابة ضد القرابة، وهو البعد.. ورجل جنب إذا كان غريبًا متباعدًا عن أهله.
(٥) كما تقول: ساقط من نسخة (ج).
(٦) ترثي، في نسخة (ج).
(٧) "ديوان الخنساء" ٧. تخاطب في هذا البيت عينها. واستشهد به المبرد "الكامل" ٢/ ٩٠٤، على أنه يجمع: جُنُب: أجناب.
344
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ قال: عن جانب (١). [وقال مجاهد: عن بُعد (٢). وقال عكرمة وقتادة: بصرت به وهي مجانبة لم تأته (٣)] (٤).
وقال مقاتل: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ كأنها مجانبة له ترقبه، وعينها إلى التابوت وهي معرضة عنه بوجهها (٥). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء: أبصرته من شق عينها اليمنى.
وقال أبو إسحاق: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ أي: عن بُعد، تُبصره، ولا تُوهم أنها تراه (٦).
وقال ابن قتيبة: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ من بُعد منها عنه، وإعراض لئلا يفطنوا (٧)، والمجانبة من هذا (٨). وقال الفراء: يقول: كانت على شاطئ البحر حين رأت آل فرعون قد التقطوه (٩). ولم يذكر الفراء ما ذكره غيره من أنها تجتنب أن يفطنوا بها؛ واقتصر من تفسير قوله: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ على البعد فقط. وليس المعنى في قوله: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ بُعد المسافة كما توهمه؛ وإنما
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٨. وذكره الثعلبي ١٤٢ أ.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٣٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٨.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٨، عن قتادة. وكذا ابن جرير ٢٠/ ٣٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٨.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٣ ب.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٤. ونحوه في "وضح البرهان" ٢/ ١٤٧.
(٧) لها. غير موجودة في النسخ الثلاث.
(٨) "غريب القرآن" ٣٢٩.
(٩) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٣.
345
هو: التباعد والمجانبة أن يعلموا بحالها، وأنها ترقبه، كما ذكره المفسرون، وأهل المعاني، ولا تستعمل الجنب والجنابة في بعد المسافة، ألا ترى إلى قول علقمة بن عبدة:
فلا تَحْرِمَنّي نائلًا عن جَنَابةٍ فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ (١)
أراد بعد النسب لا بعد المسافة. فمعنى قوله: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ أي: عن تجنب منها وتباعد أبصرته.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ قال ابن عباس: وهم لا يعلمون أنها أخته (٢).
وقال مقاتل: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أنها ترقبه (٣).
وقال ابن إسحاق: لا يعرفون أنها منه بسبيل (٤).
١٢ - قوله -عز وجل-: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ الآية، ﴿الْمَرَاضِعَ﴾ يجوز أن يكون جمع امرأة مُرْضِعة (٥)، أو مُرْضِع: ذات ولد رضيع. ويجوز أن يكون
(١) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٨، ونسبه لعلقمة بن عبدة وكذا المبرد، "الكامل" ٢/ ٩٠٣، وقال: جنابة: غربة وبعد. وأنشده الزجاج ٤/ ١٣٤، ولم ينسبه. ونسبه لعلقمة: الأزهري ١١/ ١٢٣، وهو في "ديوان علقمة" ٣٠، آخر بيت من قصيدة له يمدح فيها الحارث بن جبلة الغساني، وكان قد أسر أخاه فرحل إليه يطلبه فيه. يقول: لا تحرمني العطاء بعد غربة وبعد عن دياري، فإنني امرؤ غريب. "حاشية الديوان".
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٩، عن السدي. وأخرجه ابن جرير في التاريخ ١/ ٣٨٩، عن السدي، عن ابن عباس، وابن مسعود. وذكره الفراء ٢/ ٣٠٣، ولم ينسبه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٩.
(٥) في نسخة (ج): راضعة.
346
جمع مَرْضِع منى: الإرضاع، ويجوز أن يكون جمع: مَرْضَع من قولهم: رَضَع يَرْضَع بمعنى: المصدر. ذكر ذلك المفضل والمبرد (١). وكلام المفسرين أيضًا يدل على نحو ما ذكرنا؛ قال ابن عباس في رواية عطاء: إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة تأخذه منها ترضعه، فكلما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها. وقال في رواية سعيد بن جبير: لا يؤتى بمرضع فيقبلها (٢).
وقال محمد بن إسحاق: جمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة فيقبل ثديها (٣). فهذا يدل على أن المراضع ذوات الإرضاع.
وقال مجاهد ومقاتل: لم يقبل موسى ثدي امرأة (٤).
وقال قتادة: كان لا يقبل ثديًا (٥).
وقال الفراء: يقول معناه: من قبول ثدي إلا ثدي أمه (٦). وهذا يدل على أن المراد بالمراضع [المرضعات، أو يراد: رضاعات.
وأما ابن قتيبة فقال: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾] (٧) معناه: أن يَرْضَع، والمراضع: جمع مُرْضِع (٨). يعني: الإرضاع. والمراد بالتحريم هاهنا
(١) لم أجد قول المبرد والمفضل في "التهذيب" مادة: رضع. ولا في "لسان العرب".
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٩.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤١. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٤١، رقم ٣٥٢٩، عن ابن عباس.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٠، عن مجاهد.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٨. وأخرجه بمعناه ابن جرير ٢٠/ ٤١.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٣.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من نسخة (ج).
(٨) "غريب القرآن" ٣٢٩.
347
تحريم المنع، وليس هناك نهي، ولكنه منع بالتبغيض، كالمنع بالنهي، وهذا كما يقال: حَرَّم فلانٌ على نفسه كذا بالامتناع بالأكل منه كالامتناع بالنهي (١).
قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ قال المفسرون: من قبل أمه، ومن قبل أن تأته أمه، ومن قبل أن نرده على أمه (٢). وذلك أن الله تعالى أراد أن يرده إلى أمه فبغض المراضع إليه حتى يُؤتى بأمه.
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل أن يولد في القضاء والقدر السابق، حرمنا عليه المراضع، وكان تحريم إرضاعهن عليه أن لا يقبل ثدي امرأة. والقول ما قال المفسرون؛ لأن المراضع لو حرمت عليه في القضاء السابق لحرم عليه رضاع أمه أيضًا؛ لعموم اللفظ، ولكن المعنى: حرمنا عليه المراضع قبل إرضاع أمه؛ وذلك أنه إذا رُدَّ إلى أمه فأرضعته يجوز أن يقبل ثدي مرضعة غير الأم.
وقوله: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ قال المفسرون: لما تعذر عليهم رضاعه، ورأت حرصهم على ذلك، قالت: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ أي: يكفلون لكم رضاعه، ويضمنون لكم القيام به (٣).
قال ابن عباس: قالوا لها: مَنْ؟ قالت: أمي، قالوا: ولأمك لبن؟
(١) قال النيسابوري: تحريم منع لا شرع. "وضح البرهان" ٢/ ١٤٧.
(٢) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٤٠. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٥، بمعناه.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٩، عن ابن إسحاق. و"غريب القرآن"، لابن قتيبة ٣٢٩، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٥. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٩. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٢ أ.
348
قالت: نعم، لبن هارون. وكان هارون ولد في سنةٍ لا يقتل فيها صبي، فقالوا لها (١): صدقتِ والله.
وقوله: ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ قال مقاتل: هم أشفق عليه، وأنصح له من غيره (٢). وقال السدي وابن جريج: لما سمعوا قولها: ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ قالوا: قد عرفتِ أهلَ هذا الغلام فدلينا على أهله، فقالت: لا أعرف، ولكني عَنيتُ: وهم للملِك ناصحون (٣)، فدلتهم على أم موسى، فدُفع إليها تربيه لهم (٤)، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها (٥)، وأتم الله لها ما وعدها.
١٣ - قوله: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ قال ابن إسحاق: بلغ لطف الله له ولها أن ردَّ عليها ابنها، وعَطَفَ عليه بقلب فرعون وأهل بيته، مع أمانها عليه (٦) من القتل الذي يُتخوَف على غيره، وكأنهم كانوا من بيت آل فرعون في الأمان والسعة (٧)؛ فذلك قوله: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ أي: بولدها ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾ على فراقه (٨) ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ برد ولدها إليها ﴿حَقٌّ﴾.
قال صاحب النظم: هي كانت عالمة بأن وعد الله حق قبل أن ردَّ إليها
(١) لها. زيادة من نسخة: (ب).
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
(٣) رواه ابن جرير ٢٠/ ٤١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٤٩. وذكره عنهما الثعلبي ٨/ ١٤٢ أ.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٥.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ، من قوله: فلما وجد الصبي. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٢ أ.
(٦) عليه. ساقطة من نسخة (ج).
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٠.
(٨) في النسخ الثلاث: فراقها.
ولدها، لقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أيَ: المصدقين بوعد الله، فهي مصدقة بوعد الله بربط الله على قلبها؛ ومعنى: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ لتعلم كون ذلك ووقوعه مع علمها بأن الله منجزها ما وعدها. وهذا الفرق بين العيان والخبر، وهو مثل قوله: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] لأن للمعاينة من ثَلَج اليقين ما ليس لغير المعاينة، وإن كان يقينًا (١).
قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها رده إليها (٢).
١٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ قال مقاتل: يعني لثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة (٣)، واستوى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وهذا قول الكلبي (٤).
وقال مجاهد: ولما بلغ أشده: ثلاثًا وثلاثين سنة، واستواؤه: أربعين سنة (٥).
(١) ثَلَجَتْ نفسي بالأمر: إذا اطمأنت إليه وسكنت وثبت فيها ووثقت به. "تهذيب اللغة" ١١/ ٢١ (ثلج)، و"لسان العرب" ٢/ ٢٢٢.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٢ أ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ، بلفظ: ولما بلغ موسى أشده، يعني: لثمان عشرة سنة، واستوى يعني: أربعين سنة.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٢٤. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤٢ أ، بلفظ: الأشد: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة.
(٥) في نسخة: (ج): واستوى وهو ابن أربعين سنة. وخبر مجاهد أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥١. ونسب الثعلبي ٨/ ١٤٢ أ، هذا القول لسائر المفسرين بعد أن ذكر قول الكلبي.
350
وهو قول ابن عباس وقتادة (١).
وقوله: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ قال مجاهد: الفقه والعقل والعلم قبل النبوة (٢).
قال محمد بن إسحاق: آتاه الله علما وفقهًا في دينه، ودين آبائه، وعلمًا بما في دينه من شرائعه، وحدوده (٣)، وكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه. وقال أبو إسحاق: فَعَلِم موسى -عليه السلام- وحكم (٤) قبل أن يُبعث (٥). والعالم الحكيم من استعمل علمه، ومن لم يعمل بعلمه فهو جاهل.
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ قال مقاتل: يقول: هكذا نجزي من أحسن، أي: من آمن بالله (٦).
(١) أخرج عبد الرزاق ٢/ ٨٨، عن قتادة، روايتين؛ أربعون سنة، وأخرجها كذلك عن مجاهد، والثانية: ثلاث وثلاثون. وأخرج الرواية عن ابن عباس ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥١، والثعلبي ٨/ ١٤٢ ب.
قال أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي في هذه الآية: هو منتهى شبابه وكماله واستقراره، فلا يكون فيه زيادة قبل أن يأخذ في النقصان. "اشتقاق أسماء الله الحسنى" ٣٣٤. ويشهد لتمام الأشد أربعين سنة قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: ١٥].
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٢. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٢ ب.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٣، في موضعين، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٢، وأصل الكلام في النسخ الثلاث: وعلمًا في دينه من شرائعه. وأثبت الزيادة من المصدرين السابقين.
(٤) وحكم، في نسخة (ج).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٦.
(٦) هكذا في "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. وفي نسخة (ج): أي: آمن باللهِ.
351
وقال الكلبي: ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يقول: الموحدين (١).
قال الزجاج: جعل الله إيتاء العلم والحكمة إياه مجازاة على الإحسان؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين (٢)، وهذه الآية مفسرة في سورة يوسف (٣).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ اختلفوا في هذه المدينة، وفي سبب دخول موسى المدينة؛ فقال السدي: دخلها متبعًا أثر فرعون؛ لأن فرعون ركب وموسى غير شاهد، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها: مَنْف (٤)، فهو قوله: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ﴾ (٥).
وقال ابن إسحاق: بل دخلها مستخفيًا من فرعون وقومه؛ وذلك أنه كان قد خالفهم في دينهم، وعاب عليهم ما كانوا عليه، وأنكر عليهم ذلك،
(١) "تنوير المقباس" ٣٢٤، بلفظ: المحسنين: النبيين بالفهم والنبوة، ويقال: الصالحين بالعلم والحكمة.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٦.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [٢٢]، قال الواحدي في تفسيرها: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: مثل ما وصفنا من تعليم يوسف ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد: نفعل بالموحدين. وقال أبو روق عن الضحاك: يعني الصابرين على النوائب، كما صبر يوسف.
(٤) أخرجه ابن جرير في "التاريخ" ١/ ٣٩٠، عن السدي.
و (مَنْف)، بالفتح ثم سكون: اسم مدينة فرعون بمصر، قال القضاعي: أصلها بلغة القبط: مافه، فعربت، فقيل: منف. "معجم البلدان" ٥/ ٢٤٧. وهي الآن جنوب الجيزة، والجيزة تقابل القاهرة من جهة الغرب.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٢. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٢ ب.
352
حتى أخافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفًا مستخفيًا فدخلها يومًا على حين غفلة من أهلها (١). وعلى هذا القول المدينة: مدينة فرعون التي كان يسكنها.
وقال مقاتل: هي قرية على رأس فرسخين من مصر تدعى: خانين (٢).
وقوله: ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ قال ابن عباس. في الظهيرة، عند المقيل (٣). وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل والسدي؛ قالوا: دخلها نصف النهار، وليس في طرقها أحد (٤). وروى عطاء عن ابن عباس: بين (٥) المغرب والعشاء (٦). وهو قول القرظي (٧).
وعلى قول ابن إسحاق: تعمد موسى الدخول على غفلتهم عنه؛ لأنه كان خائفًا مستخفيًا. وقال ابن زيد: لما كبر موسى وأنكر على فرعون وقومه دينهم، أمرَ فرعونُ بإخراجه من مدينته، فخرج منها، ولم يدخل عليهم إلا بعد الكبر، فدخلها عليهم وقد نسوا خبره وأمره؛ لبعد عهدهم به (٨). وعلى
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٣. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٢ ب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. لم أجد معلومات عن هذه المدينة.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٤.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٢، عن السدي، وابن عباس، وقتادة. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩، عن قتادة. و"تفسير مقاتل" ٦٤ أ. و"وضح البرهان" ٢/ ١٤٨، ولم ينسبه.
(٥) بين، ساقطة من نسخة (ج).
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٣. والمراد به عطاء الخراساني كما صرح به ابن جرير.
(٧) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤٢ ب.
(٨) أخرجه بنحوه ابن جرير ٢٠/ ٤٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٣. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٢ ب.
353
هذا المدينة: مصر (١)، وغفلتهم عنه: نسيانهم إياه لطول العهد؛ وهذا القول لا يليق بسياق القصة؛ لأن عَود موسى إليهم بعد طول العهد إنما كان بعد الوحي والنبوة، ونبوته كانت بعد ما ذكر الله تعالى من قصته مع شعيب في هذه السورة. قال الفراء: أراد على غفلة من أهلها، فأدخل: ﴿حِينِ﴾ فضلة في الكلام، ولو لم يكن ﴿حِينِ﴾ فضلة، لقيل: ودخل المدينة حين غفلة من أهلها (٢).
قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد: بأن أحدهما من بني إسرائيل، والآخر قبطي. وهو قول الجماعة (٣).
(١) مصر، ساقطة من نسخة: (أ)، (ب).
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٣. لم أجد هذه المسألة عند الزمخشري، ولا ابن عطية، ولا أبي حيان، ولا أبي السعود. وأما النحاس فقال: يقال في الكلام: دخلتُ المدينة حين غَفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها، ودخلتْ على في هذه الآية؛ لأن الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئتُ على غفلة، وإن شئت قلت: جئتُ على حين غفلة، فكذا الآية. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٣١. وكلامه تقرير لكلام الفراء؛ والأولى أن يقال: دخلت ﴿حِينِ﴾ لتأكيد معنى الدخول على غفلة؛ فإن وقت القائلة وما بين العشائين قد لا يُغفل فيه، و ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ في موضع الصفة لغفلة، وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها، بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم. "روح المعاني" ٢٠/ ٥٣.
قال ابن عاشور ٢٠/ ٨٨: ويتعلق ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ﴾ بـ ﴿دَخَلَ﴾ وعلى للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥]. فإعراب ﴿عَلَى حِينِ﴾ حال من المدينة، أو حال من الفاعل. "إملاء ما من به الرحمن" للعكبري ٢/ ١٧٧، و"الدر المصون" ٨/ ٦٥٦، و"الجدول في إعراب القرآن الكريم" ١٠/ ٢٣٣.
(٣) أخرجه أبو يعلى ٥/ ١٦، عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٤٥، عن ابن =
354
قال ابن إسحاق: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ﴾ مسلم، وهذا من دين آل فرعون كافر (١).
قال أبو إسحاق: المعنى فوجد فيها رجلين؛ أحدهما من شيعته، والآخر من عدوه، وقيل فيهما: (هَذَا) (وَهَذَا) وهما غائبان على جهة الحكاية للحضرة، أي: فوجد فيها رجلين إذا نظر إليهما الناظر قال: هذا من شيعته، وهذا من عدوه (٢).
وقال أبو علي: (هَذَا) يشار به إلى الحاضر، والقصة ماضية ولكنها حكاية حال (٣). وقد ذكرنا مثلها في قوله: ﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ [يوسف: ١١٠] (٤).
وقوله: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي: استنصر موسى الإسرائيلي على القبطي (٥) ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ الوكز: الضرب بجُمعِ الكف في الصدر (٦).
= عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٤، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. و"تفسير مقاتل" ٦٤ أ. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٩.
(١) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٤٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٤، وقد خالف في ذلك مقاتل؛ فقال: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ﴾ كافرين. "تفسير مقاتل" ٦٤ أ، وهو أقرب؛ لأن نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم-، لم يبعث بعد. وقد ذكر هذا القول الواحدي بعد ذلك، ورجح قول مقاتل. والله أعلم.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٦.
(٣) كتاب "الشعر" لأبي علي ١/ ٢٣٦.
(٤) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال أبو علي: هو حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت كما أن قوله ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] أشار إلى الحاضر والقصة ماضية لأنه حكى الحال.
(٥) و (٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٦، ١٣٧. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ أ.
355
قال الفراء: يريد: فلكزه، وفي قراءة عبد الله: (فَنكَزهُ). وكلٌ سواء (١).
قال المفسرون: وكزه موسى وكزة بجمع كله فقتله، وهو قوله: ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ أي: قتله. قاله ابن عباس والمفسرون (٢).
قال أبو عبيدة: كل شيء فرغت منه، فقد قضيت عليه وقضيته (٣).
قال المبرد: قضى عليه كقولك: أتى عليه، أي: صادف أجله، ومنه قول جرير:
أيُفايشُون وقد رأوا حُفَّاثهم قد عَضَّه فَقَضَى عليه الأشجعُ (٤)
أي: قتله. قال المفسرون: كان موسى شديد البطش، قد أوتي بسطة في الخَلْق، وشدة في البطش، ضَبَثَ (٥) بعدوه فوكزه وكزة قتله منها، وهو لا يريد قتله، فـ ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ (٦) أي: هذا القتل من تسبب
(١) "معاني القرآن" ٣/ ٣٠٢. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠. وذكر قراءة عبد الله الثعلبي ٨/ ١٤٣ أ. وفي "الدر المصون" ٨/ ٦٥٧: والفرق بين الوكز واللكز: أن الأول بجميع الكف، والثاني بأطراف الأصابع، وقيل: بالعكس. والنكز كاللكز.
(٢) أخرجه أبو يعلى ٥/ ١٦، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٦٤ أ. و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ٣٠٢. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ أ. و"وضح البرهان" ٢/ ١٤٨.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ أ. بنصه، ولم ينسبه. وكذا عند ابن قتيبة، "غريب القرآن". وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٩، أي: فقتله وأتى على نفسه.
(٤) "ديوان جرير" ٢٧٠، من قصيدة يهجو فيها الفرزدق، ومعنى الفياش: المفاخرة. "لسان العرب" ٦/ ٣٣٣، واستشهد ببيت جرير على ذلك. والحفاث: حية عظيمة. "لسان العرب" ٢/ ١٣٨ (حفث).
(٥) الضَّبْث: قبضك بكفك على الشيء. "تهذيب اللغة" ١٢/ ٧ (ضبث).
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٥، عن ابن إسحاق. وأخرجا نحوه عن قتادة، وأخرج نحوه عن ابن عباس ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٤. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ أ.
356
الشيطان؛ هيج غضبي حتى ضربت هذا ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ﴾ لابن آدم ﴿مُضِلٌّ﴾ له ﴿مُبِينٌ﴾ عداوته. قال المفسرون: لما قتله موسى ندم على القتل، وقال: لم أومر بذلك، فـ: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ (١).
قال أبو إسحاق: هذا يدل على أن قتله كان خطأً، وأنه لم يكن أُمِر موسى بقتل ولا قتال (٢). ثم استغفر الله فقال:
١٦ - ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بقتلي نفسًا لم أومر بقتلها ﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ أي: استر علي هذا الذنب ﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (٣).
١٧ - ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ أي: مننت عليّ إذ غفرت لي قتل هذه النفس (٤). قال مقاتل: أنعمت علي بالمغفرة (٥)؛ ولا أدري كيف علم موسى أن الله قد غفر له، وكان هذا قبل الوحي (٦)؟. وقوله: ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ قال ابن عباس: عونًا للكافرين (٧).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٥، عن ابن عباس. و"الثعلبي" ٨/ ١٤٣ أ، ولم ينسبه.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٧.
(٣) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٤٧، وأخرج عن قتادة قال: عرف المخرج فقال: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾.
(٤) في "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ أ: أنعمت علي بالمغفرة فلم تعاقبني.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
(٦) قال ابن عطية ١١/ ٢٧٦: ثم قال -عليه السلام- معاهدًا لربه -عز وجل-: رب بنعمتك علي وبسبب إحسانك فأنا ملتزم ألا أكون معينًا للمجرمين. هذا أحسن ما تُؤول. وقال ابن كثير ٦/ ٢٢٥: ﴿بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ أي: بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة. وعلى هذا لا يرد الاعتراض الذي أورده الواحدي.
(٧) ذكره عن ابن عباس ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٠٩، ثم قال بعده: وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرًا. وذكره ابن الأنباري، الأضداد، ٢٢٥، ولم ينسبه.
قال الأخفش: قوله: ﴿فَلَنْ أَكُونَ﴾ معناه: فلا أكونن (١). وهذا خبر في معنى الدعاء، كأنه قال: فلا تجعلني ظهيرًا. ونحو هذا ذكر الفراء؛ واحتج (٢) بأن في حرف عبد الله: (فلا تجعلني ظهيرًا)؛ على الدعاء (٣). ومذهب المفسرين أن هذا خبر وليس بدعاء؛ أخبر عن نفسه أنه لا يكون ظهيرًا للمجرمين بعد ذلك (٤).
قال ابن عباس: لم يستثن فابتُلي (٥). يعني: ما وقع له من غدِ ذلك اليوم؛ وهو قوله: ﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ﴾. وقال قتادة: لم يستثن -عليه السلام- حين قال: ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ فابتلي كما تسمعون (٦). قال مقاتل: إنما قال ذلك؛ لأن الذي نصره موسى كان كافرًا (٧). وقد حكينا عن ابن إسحاق: أنه كان مسلمًا (٨).
وسياق اللفظ يدل على صحة قول مقاتل. ومعنى الظهير في اللغة: المعين (٩). وقد مر تفسيره (١٠).
١٨ - قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ قال مقاتل: أصبح
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٢.
(٢) واحتج، ساقطة من نسخة: (ب).
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩، عن قتادة.
(٥) ذكره عنه الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٤. والثعلبي ٨/ ١٤٣ أ.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٧.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
(٨) سبق ذكره في تفسير قول الله تعالى: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [١٥].
(٩) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٩.
(١٠) عند قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٥].
358
موسى من الغد في المدينة خائفًا أن يُقتل ﴿يَتَرَقَّبُ﴾ ينتظر الطلب (١).
وقال ابن عباس: يتوقع (٢). وقال قتادة: ينتظر ما الذي يحدث به (٣).
وقال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به (٤). قال سعيد بن جبير: يتلفت (٥).
وقال ابن قتيبة: ينتظر سوءًا يناله منهم (٦). والترقب: انتظار المكروه (٧).
﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ﴾ قال المفسرون: فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استنقذه بالأمس يقاتل فرعونيًا يريد أن يسخره، وهو يستغيث بموسى (٨).
والاستصراخ: الاستغاثة والاستنصار (٩). وأمسِ: اسم لليوم الماضي الذي هو قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين.
وقال الكسائي: بُني على الكسر؛ لأنه فعل سمي به، وهو عنده مأخوذ من قولهم: أمسِ، فتركت السين على كسرتها، وهو اسم مبني
(١) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩٩.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٧، بلفظ: يترقب أن يؤخذ.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٢٤.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٧.
(٦) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠.
(٧) الترقُب: تَنَظُّرُ الشيءِ وتَوَقُّعُه. كتاب "العين" ٥/ ١٥٤ (رقب)، و"تهذيب اللغة" ٩/ ١٢٨.
(٨) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ، بمعناه. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٤٨، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠.
(٩) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٧.
359
ومعرفة بغير: (ألف)، ولا: (لام)، نحو هُنَيْدَة، وشَعُوب (١)، ونحو ذلك من المبنيات المعرَّفة بغير اللام. ومن العرب من يبنيه على الفتح، كقول الشاعر:
لقدْ رأيتُ عَجَبًا مُذْ أمْسَا عجائزًا مثلَ الأفاعي خمسا (٢)
فإذا أضفته أو نكرته أو أدخلت عليه الألف واللام أجريته بالإعراب، تقول: كان أمسُنا طيبًا، ورأيت أَمْسَنا المبارك، وسرت بأَمْسِنا، وتقول: مضى الأمسُ بما فيه (٣).
قال الفراء: ومن العرب من يخفض الأمسِ وإن أدخل عليه الألف واللام، وأنشد:
وإني قعدت اليومَ والأمسِ قبله وأقعد غدًا إن تأخروا في الأجل (٤)
(١) قال الأصمعي: هُنَيْدَة: مائة من الإبل معرِفة لا تنصرف، ولا يدخلها الألف واللام، ولا تجمع، ولا واحد لها من جنسها. "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٠٤ (هند). وشَعُوب: المنية؛ يقال: شَعبته شَعوبُ فأشعبَ؛ أي: مات. "تهذيب اللغة" ١/ ٤٤٣ (شعب). و"القاموس المحيط" ١٣٠.
(٢) أنشده سيبويه، "الكتاب" ٣/ ٢٨٥، وأبو زيد، "النوادر" ٥٧، وفي حاشية الكتاب: هو للعجاج، والشاهد فيه: إعراب أمس مع منعها من الصرف للعلمية والعدل عن الأمس. ومذ يرفع ما بعدها ويخفض أيضًا كما هنا. وهو في "ديوان العجاج" ٤٠٠. وأنشده في "اللسان" ٦/ ١٠ (أمس) مقتصرًا على صدره، ولم ينسبه.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٣/ ١١٨ (أمس)، من قوله: فإذا أضفته.. ونسبه للكسائي، ولم أجد فيه ما قبله من الكلام، ولا بيت الشعر.
(٤) لم أجده في "معاني القرآن" عند تفسير هذه الآية. وقد نقله الزهري في "تهذيب اللغة" ١٣/ ١١٨ (أمس)، ولم ينسبه. وأنشده في "اللسان"، في موضعين ٦/ ٨، ١٠ (أمس) ونسبه لنُصيب، والبيت بتمامه كما في "اللسان" في الموضع الثاني:
360
قال موسى للذي نصره بالأمس: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ (١) قال ابن عباس: يريد: لمضل بين الضلالة.
قال مقاتل: يقول: إنك لمضل بين؛ قتلتُ أمس في سببك (٢) رجلاً، وتدعوني اليومَ إلى آخر (٣).
والغوي هاهنا: فَعيل، من: أغوى يغوي، بمعنى مغوي، كالوجيع والأليم، ويجوز أن يكون الغوي بمعنى: الغاوي فيكون المعنى: إنك لغوي في قتالك من لا يطيق دفع شرِّه عنك (٤).
وقال الحسن: إنما قال للفرعوني: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ يعني بالتسخير والظلم (٥).
ثم أقبل موسى إليهما وهمَّ أن يبطش الثانية بالقبطي، وهو قوله:
= وفي الموضع الأول: وقفت، بدل: حبست. وفي "الدر المصون" ٨/ ٦٥٩: ﴿بِالْأَمْسِ﴾ معرب؛ لأنه متى دخلت عليه أل أو أضيف أُعرب، ومتى عري منهما فحاله معروف؛ الحجاز تبنيه، والتميميون يمنعونه الصرف كقوله: لقدْ رأيتُ عَجَبًا مُذْ أمْسَا.
على أنه قد يبنى مع أن ندورًا، كقوله:
وإني حُبست اليومَ والأمسِ قبلَه ببابِك حتى كادت الشمسُ تغرب
وإني حُبست اليومَ والأمسِ قبلَه إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٧.
(٢) في نسخة: (ج): سبيلك
(٣) ذكر نحوه الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٤. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠. ولم أجده في "تفسير مقاتل".
(٤) لم أجده في "تهذيب اللغة"، مادة: غوى. ونقله بنصه ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٠٩، ولم ينسبه.
(٥) ذكره الثعلبي ٨/ ١٤٣ ب، ولم ينسبه، وصوب القول الأول، وجعله أليق بنظم الآية، وهو أن هذا موجه للإسرائيلي، وليس للقبطي. وهو كذلك. والله أعلم.
361
١٩ - ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا﴾ أي: بالقبطي، الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي، [ظن الإسرائيلي] (١) أن موسى يريد أن يبطش به لقوله له (٢): ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ فقال: ﴿يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ وهذا قول جميع المفسرين (٣).
قال ابن عباس والكلبي: ولم يكن أحد اطلع ولا علم أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، حتى أفشى عليه الإسرائيلي أنه هو القاتل بالأمس، وسمع القبطي ذلك فعَلِم به، وأتى فرعون فأخبره (٤).
والذي قاله المفسرون: إنه لم يستثن فابتلي، هو هذا، وهو أنه وقع من الغد في مثل ما وقع بالأمس، وهمَّ بالبطش حتى فشت عليه قصته الواقعة بالأمس، حتى احتاج إلى الهرب.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: ما تريد إلا أن تكون جبارًا. قال المفسرون: قتالًا بالظلم (٥).
قال أبو إسحاق: الجبار في اللغة: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٢) له، من نسخة: (أ)، (ب).
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٨، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٦٤ أ. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٧. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ ب. و"وضح البرهان" ٢/ ١٤٨.
(٤) أخرجه أبو يعلى ٥/ ١٧، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٩، عن محمد بن إسحاق.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٤٩، عن قتادة، وابن جريج. وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٩، عن أبي عمران الجوني، وقتادة. وانظر: "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٣ ب.
362
الله، والقاتل بغير حق: جبار (١).
وقوله: ﴿وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾ قال أبو إسحاق: أي ما هكذا يكون الإصلاح (٢). قالوا: فلما سمع القبطي هذا من قول الإسرائيلي خلاه في يد موسى، وجاء القبطَ (٣) فأخبرهم بأن موسى هو (٤) القاتل، فأمر فرعون بقتله، وعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه، وأخبره بذلك (٥)، وهو قوله: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ﴾ قال ابن عباس: اسمه حزقيل، وهو الرجل المؤمن من آل فرعون. هذا قول أكثر المفسرين (٦).
وقال ابن إسحاق: يقال له: سَمْعان، ولم يذكر أنه المؤمن من آل فرعون (٧) ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ أي: من آخرها وأبعدها ﴿يَسْعَى﴾ قال مقاتل: على رجليه (٨). وقال ابن عباس: يشتد.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٧. والجبار، له معانٍ متعددة، أوصلها ابن الأنباري إلى ستة، منها: القتَّال، واستدل عليه بهذه الآية "الزاهر" ١/ ٨٠
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٠.
(٣) في نسخة: (ج): القبطي.
(٤) هو، ساقطة من: (أ)، (ج).
(٥) أخرجه أبو يعلى ٥/ ١٨، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٠، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. وذكر نحوه مقاتل ٦٤ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٤ أ.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩، عن قتادة، دون ذكر الاسم. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٩، عن ابن عباس، بلفظ: من شيعة موسى، ولم يذكر الاسم، ولا الصفة. قال الثعلبي ٨/ ١٤٤ أ: قال أكثر أهل التأويل: هو حزبيل بن صبورا.
(٧) أخرجه ابن جرب ٢٠/ ٥١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٥٩. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٤ أ، ولم ينسبه. وهذا خلاف لا فائدة فيه، ولا ثمرة ترجى من ورائه، والإعراض عنه أولى.
(٨) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
363
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ﴾ يريد: الأشراف، يعني: أشراف قوم فرعون (١) ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ قال أبو عبيدة: يتشاورون فيك ليقتلوك. واحتج بقول ربيعة بن جُعشم النَّمْرِيُّ (٢):
أَحارُ بنَ عمرٍو كأني خَمِر... ويعدو على المرء ما يأتمر (٣)
قال ابن قتيبة: وهذا غلط بَيَّنٌ لمن تدبر، ومضادَّةٌ للمعنى، كيف يعدو على المرء ما شاور فيه، والمشاورة بركة وخير؟ وإنما أراد: يعدو عليه بما يهم به من الشر. قال: وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ أي: يَهِمُّون بك. يدلك على ذلك قول النَّمر بن تَوْلب (٤):
اعْلَمن أن كل مُؤْتَمِر... مُخطئٌ في الرأي أحيانًا (٥)
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٨.
(٢) في النسخ الثلاث: النميري.
(٣) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٠. ونسب البيت لربيعة بن جُعشَم النمري. وعنه ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٠، والأزهري، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٩٤ (أمر). وأنشده البغدادي ١/ ٣٧٤، ونسبه لامرئ القيس، وهو في ديوانه ١١١، قال البغدادي: وأثبت هذه القصيدة له أبو عمرو الشيباني، والمفضل وغيرهما، وزعم الأصمعي في روايته عن أبي عمرو بن العلاء أنها لرجل من أولاد النمر بن قاسط يقال له: ربيعة بن جُعشم. وفيه: أحارُ: مرخم: يا حارث، كأني خمر: الخمار بقية السكر. وهو قول ابن جرير ٢٠/ ٥٢، قال: يتآمرون بقتلك، ويتشاورون، ويرتئون فيك. وذكر هذا القول دون البيت النيسابوري، في "وضح البرهان" ٢/ ١٤٩.
(٤) النمر بن تولب بن زهير، شاعر جواد، كان يسمى: الكيِّس لحُسن شعره، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسلم. "الإصابة في معرفة الصحابة" ٢٥٣، و"الشعر والشعراء" ١٩٥
(٥) أنشده ونسبه ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٠، وذكر بعده بيتًا آخر، هو:
فإذا لم يصب رشدًا... كان بعضُ اللوم ثُنيانًا
وعن ابن قتيبة ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٩٤، ولم ينسبه.
364
يقول: كلُّ من ركب هواه، وفعل ما يفعل بغير مشاورة أخطأ أحيانًا. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٦] لم يُرِد: تَشاوروا، إنما أراد: هُمُّوا به، واعتزموا عليه. ولو كان كما قال أبو عبيدة لقال: يتآمرون فيك (١).
وقال الزجاج في قوله: ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ يأمر بعضهم بعضًا بقتلك (٢).
قال الأزهري: يقال: ائتمر القوم، وتآمروا: إذا أمر بعضهم بعضًا (٣)، كما يقال: اقتتل القوم وتقاتلوا، واختصموا وتخاصموا. ومعنى: ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ يؤامر بعضهم بعضًا بقتلك؛ وهذا أحسن من قول القتيبي: إنه بمعنى: يَهِمُّون بك، وقول الله تعالى: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ ليأمر بعضكم بعضًا بمعروف. وجائز أن يقال: ائتمر فلان رأيه، إذا شاور عقله في الأمر الذي يأتيه. وقد يصيب الذي يأتمر رأيه مرة، ويخطئ أخرى، وهذا معنى قوله: اعلمن أن كل مؤتمر.
أي: من ائتمر رأيه فيما ينوبه يخطئ أحيانًا. انتهى كلامه (٤). ومعنى الائتمار في كلام العرب: المشاورة، وهو يعود إلى أن يأمر بعضهم بعضًا (٥)، كما ذكره الزجاج.
قال شمر: يقال: ائتمرت فلانًا في ذلك الأمر، إذا شاورته، وائتمر
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٠، مختصرًا، ونقل قول ابن قتيبة: الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٩٤ (أمر).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٨. و"وضح البرهان" ٢/ ١٤٩.
(٣) في نسخة: (ب)، زيادة: بقتلك. وهي غير موجودة في "التهذيب".
(٤) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٩٥ (أمر).
(٥) في نسخة: (أ)، (ب): بعضكم بعضًا.
365
القوم، إذا تشاوروا. ثم الائتمار يكون مرة مع ذوي العقل والرأي من الناس، وهو المحمود المسنون، [ومرة يكون مع النفس والهوى، وهو المذموم، الذي ذم في قوله: ويعدو على المرء ما يأتمر] (١)، ومرة يكون مع العقل والرأي، وهو الذي يخطئ مرة ويصيب مرة. وقد ذكره النمر في قوله. ومنه المثل: (لا يدري المكذوب كيف يأتمر). أي: كيف يرى رأيًا ويشاور نفسه (٢).
وقول أبي عبيدة والزجاج في تفسير: ﴿يَأْتَمِرُونَ﴾ هو الصحيح، وقولهما قريب من السواء، وقول ابن قتيبة لا أصل له في اللغة؛ ولا يقال: ائتمر بالشيء إذا هم به، ولم أر للمفسرين لفظًا في تفسير الائتمار.
قوله: ﴿لِيَقْتُلُوكَ﴾ أي: بالقبطي الذي قتلته بالأمس. قاله ابن عباس ومقاتل (٣) ﴿فَاخْرُجْ﴾ من القرية ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ أي: في أمري إياك بالخروج (٤).
٢١ - ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ قد مر تفسيره.
﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني المشركين، أهل مصر (٥).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٢) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٩٥ (أمر)، بتصرف. وقد ذكر المثل ولم يتكلم عليه. وهو في مجمع الأمثال ٢/ ٢٧٧، بلفظ: إلا يدري الكذوب كيف يأتمر). أي: كيف يمتثل الأمر ويتْبعه.
(٣) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٥٠، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
(٤) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٥٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٤ أ.
٢٢ - قال ابن إسحاق: ذُكر أنه خرج على وجهه ﴿خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ ما يدري أي وجه يسلك، فهيأ الله له الطريق إلى مدين (١)، وهو قوله: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ أي: قصدَها (٢). ونحو هذا قال ابن قتيبة: أي تجاه مدين ونحوها، وأصله: اللِّقاء، زيدت فيه التاء، وأنشد:
فاليوم قَصَّر عن تلقائكِ الأملُ
أي: عن لقائك (٣).
وقال أبو إسحاق: معنى: ﴿تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ أي: سلك في الطريق التي يلقى مدين فيها (٤).
قال محمد بن إسحاق، وغيره: خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد، ولا حذاء ولا ظَهر، وبينهما مسيرة ثمانية أيام (٥).
[قال ابن عباس:] (٦) وليس له بالطريق عِلْمٌ إلا حسن ظنه بربه، فإنه ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (٧).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٠.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٠، عن قتادة.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢، ولم ينسب البيت. وأنشده كاملًا سيبويه ٤/ ٨٤، ونسبه للراعي، وهو في "ديوانه" ١١٢، وصدره:
أملت خيرك هل تأتي مواعده.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٠، بنحوه.
(٥) أخرجه ابن جرير، في التاريخ ١/ ٣٩٧، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. وأخرجه عن محمد بن إسحاق: ابن جرير ٢٠/ ٥٣، وذكر العدد في خبر سعيد بن جبير الذي أخرجه ابن جرير أيضًا. وقال مقاتل ٦٤ ب: عشرة أيام. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٤ أ، ونسبه للمفسرين.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٣.
قال مقاتل: توجه نحو مدين بغير دليل، وخشي أن يضل الطريق فقال: عسى ربي يرشدني قصد الطريق إلى مدين (١).
ومعنى ﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾: قصد السبيل في الاستواء (٢).
٢٣ - قوله: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ جماعة من الناس (٣)، وهم: الرعاة يسقون مواشيهم وأنعامهم (٤). ﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ﴾ أي: من سوى الأمة ﴿امْرَأَتَيْنِ﴾ وهما: ابنتا شعيب، في قول أكثر المفسرين (٥).
﴿تَذُودَانِ﴾ تحبسان غنمهما. هذا قول أكثر المفسرين؛ الكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير والسدي، وغيرهم (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب. و"تأويل مشكل القرآن" ٤٤٣. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٤ أ.
(٢) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠١. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٨، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٤، عن قتادة، والحسن.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٩. وابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ١٤٩، وقد أوصل معاني الأمة إلى ثمانية.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٤، عن ابن إسحاق. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٤ أ، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب. وجزم الواحدي هنا باسم أبيهما، تابع فيه ما اشتهر عند أكثر المفسرين، وقد وقع الخلاف في اسمه، وهل هو النبي شعيب -عليه السلام- أم غيره؟ وحكى أنه شعيب: الثعلبي ٨/ ١٥٣ ب، عن: مجاهد والضحاك والسدي والحسن. قال ابن جرير: وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر في ذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه. وساق ابن كثير ٦/ ٢٢٨، الخلاف في هذا الرجل؛ واستبعد كونه نبي الله شعيب عليه السلام، ثم قال: وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده، كما سنذكره قريبًا إن شاء الله. ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه: ثبرون، والله أعلم.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٥. ولم ينسبه. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٥٥، وابن أبي=
368
قال مقاتل: حابستين الغنم، لتسقيا الغنمَ فضلَ الرِّعاء (١).
وقال السدي: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا، ويخلوا لهم البئر (٢).
وقال عبد الله بن مسلم: أي تكفان غنمهما، وحذف الغنم اختصارًا (٣).
ومعنى الذود في اللغة: الكف والطرد (٤)، ومعنى: ﴿تَذُودَانِ﴾: تدفعان وتكفان. ولم يُذكر في الآية عن أي شيء تدفعان الغنم، فذهب أكثر أهل التفسير إلى أنهما كانتا تدفعانها عن الماء؛ وهو قول من قال: تحبسان؛ لأن دفعها عن الماء حبس لها عنه. واختاره أبو إسحاق؛ قال: ﴿تَذُودَانِ﴾ غنمهما عن أن تقرب موضع الماء؛ لأنها تطردها عن الماء مَنْ هو على السقي أقوى منهما (٥).
وقال الحسن: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس (٦).
وقال قتادة: ﴿تَذُودَانِ﴾ الناس عن شائهما (٧).
= حاتم ٩/ ٢٩٦٢، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي مالك. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٤ أ، وذكره في ١٥٣ ب، عن قتادة، وابن إسحاق. ورجح هذا القول الثعلبي.
(١) أخرجه أبو يعلى ٥/ ١٨، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٦٤ ب.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٥، وابن أبيِ حاتم ٩/ ٢٩٦٢، عن أبي مالك، باللفظ نفسه، وأما لفظ السدي عندهما فهو: تحبسان غنمهما. وهذا بدل على أن قوله: قال السدي خطأ؛ لذكره قبل ذلك، فلعله يعني به أبا مالك. والله أعلم.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٥٠ (ذاد)، و"لسان العرب" ٣/ ١٦٧.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج٤/ ١٣٩.
(٦) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٣ ب
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٠. وابن جرير ٢٠/ ٥٦.
369
وقال الفراء: تحبسانها عن أن تشذ وتذهب، قال: ولا يجوز أن يقال: ذدت الرجل، إذا حبسته، وإنما كان الذياد حبسًا للغنم؛ لأن الغنم إذا أراد شيء منها أن يشذ ويذهب فرددته فذلك: ذود، وهو: الحبس (١). والقول هو الأول؛ لقوله: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ (٢) قال محمد بن إسحاق: ما شأنكما لا تسقيان (٣).
وقال أبو إسحاق: أي ما أمركما (٤). ومعناه: ما تخطبان، أي: ما تريدان بذودكما غنمكما عن الماء (٥). فلولا أنهما كانتا تحبسان غنمهما عن الماء في وقت السقي ما سألهما موسى عن شأنهما، ألا ترى أن في جوابهما دليلًا على أنه سألهما عن السبب في ترك السقي مع الناس، وهو قوله: ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ وقرئ (يَصْدُرَ) (٦) من: صَدَر، وهو
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٥. وقد تعقبه ابن جرير ٢٠/ ٥٥، بأنه قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا عند عُقْر حوضي أذود عنه الناس لأضربهم بعصاي حتى يرفَضَّ" فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذود في الناس. والحديث أخرجه ابن حبان، كتاب التاريخ، رقم: ٦٤٥٥، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ١٤/ ٣٦٧، وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط مسلم، ومعنى يرفض: يسيل. وعُقْر الحوض: موضع الشاربة منه "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير ٣/ ٢٧١.
(٢) وقد سبقه إلى هذا الترجيح ابن جرير ٢٠/ ٥٦، قال: لدلالة قوله: ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٣ ب. ولم ينسبه.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٩، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٩.
(٦) قرأ أبو عمرو وابن عامر (يَصْدُرَ) بفتح الياء، وضم الدال. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وحمزة والكسائي (يَصْدُرَ) بضم الياء، وكسر الدال. "السبعة في القراءات" ٤٩٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٢، و"النشر" ٢/ ٣٤١.
370
ضد: وَرَدَ. قال الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾ [الزلزلة: ٦] ومعنى ﴿يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ يرجعوا من سقيهم.
ومن قرأ: ﴿يُصْدِرَ﴾ أراد حين يصدروا مواشيهم من وردهم (١). قال ابن عباس: فيخلوا لنا الموضع (٢)، ولكنه حذف المفعول، ومثله كثير، و ﴿الرِّعَاءُ﴾: جمع راع، كما يقال: تاجر وتجار، وصاحب وصحاب، ويجمع أيضًا على: الرعاة، كالبكاة، والغزاة، والدعاة (٣).
قال مقاتل: ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ بالغنم راجعة من الماء إلى الرعي فنسقي فضلهم (٤).
وقال ابن إسحاق: ﴿قَالَتَا﴾ نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ لا يقدر على أن يغني ذلك من نفسه، وأن يسقي ماشيته، فنحن ننتظر الناس حتى (٥) إذا فرغوا سقينا ثم انصرفنا (٦). وهذا معنى قوله: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [قال مقاتل: لا يستطيع أن يسقي الغنم من الكبر (٧).
وقال أبو إسحاق: الفائدة في قولهما: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾] (٨)
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٢. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢، و"وضح البرهان" ٢/ ١٤٩.
(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير ٢٠/ ٥٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٤.
(٣) كتاب "العين" ٢/ ٢٤٠ (رعو). وفي "تهذيب اللغة" ٣/ ١٦٢ (رعى): ويجع الرعي: رعاة ورعيانًا، وأكثر ما يقال: رعاة للولاة، والرعيان لجمع راعي الغنم.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٠، عن قتادة.
(٥) حتى، من نسخة (ج).
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٤.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب.
(٨) ما بين المعقوفين من (ج).
371
أي: لا يمكنه أن يَرد ويسقي، فلذلك احتجنا ونحن نساء أن نستقي (١).
وقال الكلبي: قالتا: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ وليس له عون يعينه غيرنا (٢). فأتى موسى أهل الماء فسألهم دلوًا من ماء، فقالوا له: إن شئت ائت الدلو فاستق بها؛ قال: نعم، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر، فأخذ موسى الدلو فاستقى به وحده، وصب في الحوض، ودعا بالبركة، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت (٣).
وقال ابن إسحاق (٤): أخذ موسى دلوهما ثم تقدم إلى السقاة بفضل قوته، فزاحم القوم عن الماء حتى أخرهم عنه، ثم سقى لهما (٥).
وقال مقاتل: قال لهما موسى: أين الماء؟ فانطلقتا به إلى الماء، فإذا هو بحجر على رأس البئر لا يزيله إلا عصابة من الناس، فرفعه موسى بيده وحده، ثم أخذ الدلو فأدلى دلوًا واحداً، فأفرغه في الحوض، ثم دعا بالبركة فسقى الغنم، فرويت (٦).
٢٤ - فذلك قوله: ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ أي: فسقى أغنامهما لهما، يعني: لأجلهما. فحذف مفعول السقي. قال أبو إسحاق: أي فسقى لهما من قَبل الوقت الذي كانتا تسقيان فيه (٧).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٣٩.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٢٥.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٥، بمعناه. وأخرجه نحوه عبد الرزاق ٢/ ٩٠، عن قتادة. وكذا عند مقاتل ٦٤ ب. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٤، عن السدي.
(٤) في نسخة: (أ)، (ب): أبو إسحاق. وهو خطأ.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٤.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٥.
372
وقوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ قال السدي: ظل شجرة (١). وقال مقاتل: ثم انصرف إلى ظل شجرة فجلس تحتها من شدة الحر وهو جائع (٢) ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ قال ابن عباس: يريد طعامًا يأكله، يقول: إني إليه لمحتاج (٣).
وقال مجاهد: ما سأل إلا طعامًا يأكله (٤).
وقال إبراهيم: ما كان مع موسى رغيف ولا درهم (٥).
وروى سعيد بن جبير [عن ابن عباس] (٦) قال: لقد قال موسى هذا وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة (٧).
وعن سعيد بن جبير قال: ما سأل إلا شُبْعَه (٨). واللام في قوله: ﴿لِمَا أَنْزَلْتَ﴾ معناها: إلى ما أنزلت؛ قال الأخفش: يقال: هو فقير له وإليه، ومحتاج له وإليه، وأوحي إليه وأوحي له (٩)، كل يقال بما يقوم بعض مقام بعض. ونحو هذا قال قطرب (١٠).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٨. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٣ ب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٨.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٩. في نسخة: ج: سأل طعامًا يأكله.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٩.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٠، ولم ينسبه. ولم أجده بهذا اللفظ عند ابن جرير ولا ابن أبي حاتم. والله أعلم.
(٨) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٥٩، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير.
(٩) لم أجده عند الأخفش في كتابه "المعاني". وذكر هذا القول ابن الجوزى، "زاد المسير" ٦/ ١٢٣، ولم ينسبه. ونسبه للزجاج الشوكاني ٤/ ١٦٠.
(١٠) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٤ أ.
373
قال محمد بن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما وسألهما، فأخبرتاه الخبر (١)، فقال لإحديهما (٢). اعجلي عليَّ به، فأتته ﴿عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ فقالت: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾ (٣).
٢٥ - وقال مقاتل: فرجعت المرأتان إلى أبيهما؛ فقال: ما أعجلكما اليوم؟ فأخبرتاه، فقال: بئس ما صنعتما لجئتماني به، فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه، فذلك قوله تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا﴾ يعني: الكبرى ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ (٤) قال عمر رضي الله عنه: مستترة بكم درعها، لم تكن بسَلْفَع من النساء، خَرَّاجةٍ ولَّاجةٍ، قائلة بيدها على وجهها، يعني: واضعة (٥).
قال أبو إسحاق: أي: تمشي مشي من لم تعتد الدخول والخروج، متحفزة مستحيية (٦).
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ أي:
(١) الخبر، ساقطة من نسخة (ج).
(٢) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وعند الثعلبي ٨/ ١٥٤ أ. وفي نسخة: (ج): لإحداهما.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦١. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٤ أ.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٤ ب.
(٥) أخرجه الحاكم ٢/ ٤٤١، رقم: ٣٥٣٠، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٥، وصحح إسناده ابن كثير ٦/ ٢٢٨. السَّلْفَع من النساء: البذيئة الفحَّاشة القليلة الحياء، ورجل سلفع: قليل الحياء. والذكر والأنثى فيه سواء؛ يقال: رجل سلفع، وامرأة سلفع. "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٩، ٣٣٩ (سلفع).
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٠، ومتحفزة: مأخوذ من قول: إذا صلت المرأة فلتحتفز، أي: تتضام وتجتمع. "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٢ (حفز).
ليقضيك؛ من: جزى يجزي، إذا قضى، قاله المبرد. قال مقاتل: فقام يمشي معها، ولولا الجوع الذي أصابه ما تبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، ثم أمرها أن تمشي خلفه وتدله بصوتها على الطريق كراهية أن ينظر إليها (١).
وقال عمر: قال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فإنا (٢) لا ننظر إلى أدبار النساء (٣).
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ﴾ قال مقاتل: فلما أتى موسى شعيبًا ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ يعني: أمرَه أجمع؛ مِنْ أمر القوابل اللاتي قتلن أولاد بني إسرائيل، وحين وُلد، وحين قُذف في التابوت، وفي اليم، وقتل الرجل القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه (٤)، قال له شعيب: ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا سلطان له بأرضنا، ولسنا في مملكته (٥).
٢٦ - ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا﴾ قال مقاتل: وهي الكبرى التي تزوجها موسى (٦) ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ أي اتخذه أجيرًا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
(١) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ. وأخرج نحوه أبو يعلى ٥/ ١٩، عن ابن عباس.
(٢) في نسخة: (ب): فإننا.
(٣) أخرجه الحاكم ٢/ ٤٤١ (٣٥٣٠). وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦١، عن ابن إسحاق.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٥، عن ابن عباس، و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٦١، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٠. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٤ أ.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ. أخرج ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود الشاذكوني، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى فقل: أوفاهما. وإن سألوك: أيهما تزوج فقل: الصغرى منهما". "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي ٣/ ٣٠، قال ابن =
الْأَمِينُ} أي: خير من استعملت مَنْ قوي على عملك، وأدى الأمانة فيه (١).
قال عمر رضي الله عنه، وجميع المفسرين: قال شعيب: من أين علمتِ قوته؟ قالت: كان الحجر لا يطيقه إلا عشرة فرفعه، فقال: من أين عرفتِ أمانته؟ قالت: قال لي: لا تمشي أمامي فيصفك الريح لي، ولكن امشي خلفي فدليني (٢).
قال مجاهد: رفع صخرة لا يرفعها إلا فئام من الناس، وغض طرفه عنهما حين سقى لهما (٣).
٢٧ - فصدرتا وقد عرفتا قوته وأمانته، فلما ذكرت المرأة من حاله بما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه فقال: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ أي: أزوجكها ﴿عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ أي: تكون أجيرًا لي ثماني سنين (٤).
وقال الفراء: يقول أن تجعل ثوابي أن ترعى عليَّ غنمي {ثَمَانِيَ
= حجر: سليمان الشاذكوني: متروك، من التاسعة. "تقريب التهذيب" ١٣١٥، رقم: ٨٥٨٣ فهو لم يلق أبا هريرة فالطبقة التاسعة: الطبقة الصغرى من أتباع التابعين. "تقريب التهذيب" ٨٢ وقد ذكر ابن جرير ٢٠/ ٦٢، اختلاف الروايات في أسماء المرأتين، وهو مما لا دليل عليه، وقد أحسن الواحدي في إعراضه عنه.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٠، بنصه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ. وأخرج نحوه عبد الرزاق ٢/ ٩٠، عن قتادة. وأخرج نحوه أبو يعلى ٥/ ١٩، عن ابن عباس. وأخرج هذا القول بألفاظ متقاربة ابن جرير ٢٠/ ٦٣، عن ابن عباس، ومجاهد، وعمرو بن ميمون، وقتادة، وغيرهم، وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٧، عن هؤلاء، وعن عمر -رضي الله عنه-، من طريق عمرو بن ميمون. "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٤ أ.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٦.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤١.
376
حِجَجٍ} (١) وقال ابن قتيبة: أي تجازيني من التزويج، والأجر من الله: الجزاء على العمل (٢).
وقال مقاتل: على أن تأجرني نفسك ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ (٣).
قال الأخفش: وهي لغة للعرب؛ منهم من يقول: أجَّرت (٤) غلامي أجرًا فهو مأجور، وأَجَرْتُه إيجارًا فهو مُؤجَر، وآجرتُه، على: فاعلته، فهو: مُؤَاجَر (٥).
وقال المبرد: ويقال: أجرت داري ومملوكي، غير ممدود، وآجرت ممدود (٦)، والأول أكثر: إيجارًا وإجارة. والإجارة: اسم لما فعلت، والمصدر: الإيجار (٧).
﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ أي ذلك تفضل منك ليس بواجب عليك (٨) ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ في العشر (٩) ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال مقاتل: من الرافقين بك (١٠). وعن عمر، أي: في حسن الصحبة، والوفاء بما قلت (١١).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٥.
(٢) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ.
(٤) هكذا في النسخ الثلاث: أجرت. وعند الأخفش: أجر.
(٥) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٢.
(٦) قوله: وآجرت ممدود. ساقط من نسخة (ج). وذكر قول المبردِ الشوكانيُّ ٤/ ١٦٣.
(٧) ذكر نحوه الأزهري ١١/ ١٨٠، عن أبي زيد، ولم يذكر قود المبرد.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤١.
(٩) و (١٠) "تفسير مقاتل" ١٦٥أ.
(١١) أخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٢، رقم: ٣٥٣٠. وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه، =
377
٢٨ - قال موسى: ﴿ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ قال أبو إسحاق: ﴿ذَلِكَ﴾ رفع بالابتداء وخبره: ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ ومعناه: ذلك (١) الذي وصفت ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ أي: ما شرطت عليَّ فلك، وما شرطت لي من تزويج إحداهما (٢) فلي، كذلك الأمر بيننا (٣). وتم الكلام هاهنا.
ثم قال: ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ﴾ أي من الثمان والعشر (٤) ﴿قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ أي: لا ظلم علي، أكون منصفًا في أيهما قضيت. وأيَّ، في معنى الجزاء، منصوبة بـ ﴿قَضَيْتُ﴾ وما زائدة مؤكدة، وجواب الجزاء: ﴿فَلَا عُدْوَانَ﴾ (٥).
ومعنى ﴿فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ على ما ذكر أبو إسحاق: لا أوصف بظلم في قضاء أيهما كان من الأجلين (٦).
فإن قيل: العدوان غير موهوم في قضاء العشر، فما معنى قوله: ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ قال: المعنى راجع إلى أقصى الأجلين، وإن كان اللفظ شاملًا لهما جميعًا، على أن ابن عباس قال: ﴿فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ فيما بقي، أي: لا سبيل علي بأن تعتدي بإلزامي أكثر من الأجلين،
= ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٦٩، عن ابن إسحاق.
(١) ذلك. ساقط من نسخة (ج).
(٢) في (أ): إحديهما.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤١، وليس فيه ذكر الإعراب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ.
(٥) قوله: زائدة، يراد به: من ناحية الإعراب فقط. قال الفراء: فجعل: ما، وهي صلة، من صلات الجزاء مع: أي. "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٥.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٢، بمعناه.
378
وتطالبني بالزيادة على الأجل الذي قضيت (١).
وهذا القول أشبه باللفظ؛ لأن معنى: ﴿لَا عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ لا أُظلم ولا يُعتدى علي. ويبعد أن يقال: معناه: لا ظلم مني (٢).
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك (٣).
فإن قيل: المهر يكون للمرأة، فكيف جعل مهر هذه المرأة إجارة موسى نفسه من أبيها يعمل له؟
قيل: يجوز أن تكون الغنم للمرأة، فيكون العمل لها، ولكن الأب عقد الإجارة عنها لها (٤)، ويجوز: أن يكون الأب يعطيها عوضًا من ذلك، على أن هذا إخبار عن شرع مَنْ قبلنا، فلا يلزمنا العمل به (٥).
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢، بمعناه، ولم ينسبه. ولم أجده عند ابن جرير، ولا ابن أبي حاتم.
(٢) هذا القول اختيار مقاتل ٦٥ أ، قال: فلا سيل علي.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦٦، عن مجاهد. و"تنوير المقباس" ٣٢٥.
(٤) وهو قول النيسابوري، "وضح البرهان" ٢/ ١٤٩.
(٥) اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا إذا لم يصرح شرعنا بنسخه على قولين؛ الأول: أنه شرع لنا، والثانية: ليس بشرع لنا. قال ابن قدامة بعد أن ذكر أدلة الفريقين: الواجب الرجوع إلى ما ثبت منها بشرعنا؛ كآية القصاص، والرجم، ونحوهما، وهو مما تضمنه الكتاب والسنة فيكون منهما؛ فلا يجوز العدول عنه. والله أعلم. "روضة الناظر" ٢/ ٥٢٤. و"الإحكام" للآمدي ٤/ ١٣٧.
قال عبد القاهر البغدادي: في قصة شعيب وموسى عليهما الصلاة والسلام، دلالة لمن أجاز كون منافع الحر مهرًا، وبه قال الشافعي، ولذلك أجاز أن يكون تعليم القرآن مهرًا، وأجاز الإجارة على الأذان، وأبو حنيفة منع من ذلك. "الناسخ والمنسوخ" ٨٨.
379
٢٩ - وقوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ قال أبو عمران الجَوْني: بلغني أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن سألوك أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: "أكثرهما وأفضلهما". وأيَّ الجاريتين تزوج؟ فقال: "الصغرى منهما" (١).
وقال القرظي: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أوفاهما وأتمهما" (٢).
وقال سعيد بن جبير: قال لي يهودي وأنا أتجهز للحج: يا سعيد إني أراك رجلاً تَتَبَّعُ العلم (٣)، أخبرني: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: قلت: لا علم لي، وأنا قادم على حبر العرب (٤)؛ يعني: ابن عباس، فسائله عن ذلك، فلمَّا قدمتُ مكةَ سألت ابن عباس عن ذلك، وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما: عشرًا؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، قال سعيد: فقدمتُ العراقَ فلقيت اليهودي، فأخبرته بقول ابن
(١) هذا حديث مرسل، ولم ينبه الواحدي على ذلك، وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٦ ب، وصدره بقوله: روي، ثم قال: فإن صح هذا الخبر فلا نعدل عنه. ذكر مقاتل في "تفسيره" ٦٥ أ، أن موسى -عليه السلام-، قد تزوج الكبرى منهما، وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا يترتب على العلم به فائدة.
(٢) وهذا أيضًا حديث مرسل، انظر ترجمة القرظي في "جامع التحصيل" للعلائي ٣٢٩، رقم: ٧٠٧. قال الزيلعي عن هذا الحديث: هذا حديث لا يصح. "تخريج أحاديث الكشاف" ٣/ ٣٠.
(٣) التَتَبُّع: أن يَتَتَبَّع في مهلة شيئاً بعد شيء، وفلان يَتَتَبَّعُ مَدَاقَّ الأمور. "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٨٢ (تبع).
(٤) حبر، بفتح الحاء، وكسرها، لغتان، أي: الرجل العالم. "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٣ (حبر).
380
عباس، فقال: صدق، وما أنزل على موسى، هذا والله العالم (١).
وقال مجاهد ومقاتل: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ عشر سنين (٢) ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ وذلك أنه استأذن صهره (٣) في العود إلى مصر، لزيارة والدته وأخيه، فأذن له، فسار بأهله. وهذه الآية مفسرة في سورتي: طه، والنمل (٤).
قوله تعالى: ﴿أَوْ جَذْوَةٍ﴾ فيها ثلاث قراءات: فتح الجيم، وضمها، وكسرها. وهي كلها لغات (٥). قال أبو عبيدة: الجذوة، مثل: الجِذمة؛ وهي القطعة الغليظة من الخشب، ليس فيها لهب. وأنشد قول ابن مُقْبلٍ:
باتت حواطبُ ليلى يلتمسن لها جَزْلَ الجذَا غيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرٍ (٦)
(١) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، رقم: ٢٦٨٤، "فتح الباري" ٥/ ٢٩٠. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٦٨، والثعلبي ٨/ ١٤٤ أ، وفيه: والله العالم.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٥ أ. وأما خبر مجاهد فهو يدل على أنه مكث عشرًا أخرى زيادة، أخرج ذلك عنه ابن جرير ٢٠/ ٦٨، والثعلبي ٨/ ١٤٦ ب. ولفظه: مكث بعد ذلك عند صهره عشرًا أخرى، يعني: عشرين سنة. وظاهر الآية لا يؤيد هذا المعنى.
(٣) يقال: ختن الرجل: صهره، والمتزوج فيهم: أصهار الختن، والصهر: زوج بنت الرجل، وزوج أخته، والختن: أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته. ومن العرب من يجعلهم أصهارًا كلهم. "تهذيب اللغة" ٦/ ١٠٧، و"اللسان" ٤/ ٤٧١ (صهر).
(٤) عند قوله تعالى: ﴿إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ طه، الآيات: ١٠ - ١٢. وسورة النمل، الآيات: ٧ - ١٠.
(٥) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: ﴿جَذْوَةٍ﴾ بكسر الجيم، وقرأ عاصم: ﴿جَذْوَةٍ﴾ بفتح الجيم، وقرأ حمزة: ﴿جُذْوَةٍ﴾ بالضم. "السبعة في القراءات" ٤٩٣، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٣، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤١.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٠٢، ونسب البيت لابن مقبل. وأنشده عن أبي عبيدة الأزهري ١١/ ١٦٧، ولم ينسبه. وأنشده ونسبه المبرد، "الكامل" ٢/ ٦٨٢، وعنه أبو علي =
381
وقال المبرد والزجاج: الجذوة: القطعة الغليظة من الحطب (١). وقال ابن قتيبة: ﴿أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ أي: قطعة منها، قال: وفي التفسير: الجذوة: عود قد احترق (٢)؛ قاله مقاتل (٣).
وقال ابن عباس: قطعة حطب فيها نار (٤).
وقال مجاهد في قوله: ﴿جَذْوَةٍ﴾ قال: أصل (٥).
وقال قتادة: أصل الشجرة في طرفها النار (٦).
وقال الكلبي: شعلة من النار (٧).
٣٠ - قوله تعالى: ﴿مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ قال أبو عبيدة: شاطئ الوادي، وشطُّ الوادي: عِدْوتاه (٨).
وقال الليث: شاطئ الوادي: جانبه، هكذا من غير فعل، وإن ثني
= "الحجة" ٥/ ٥٤١٤، وأنشده ونسبه ابن جرير ٢٠/ ٦٩، والثعلبي ٨/ ١٤٦ ب. وهو في "ديوان ابن مقبل" ٨٠. وفي حاشية "الدر المصون" ٨/ ٦٦٨: الجزل: الحطب اليابس وما عظم منه، والخوار الضعيف، والدعر: الكثير الدخان.
(١) "الكامل" للمبرد ٢/ ٦٨٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٢.
(٢) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٢، ولم ينسبه.
(٣) قال مقاتل ٦٥ أ: يعني: شعلة، وهو عود قد احترق بعضه.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٢، عنه بلفظ: يقول: شهاب. وعن ابن زيد بلفظ: العود من الحطب الذي فيه النار.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٢. بلفظ: أجل شجرة.
(٦) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩١، وابن جرير ٢٠/ ٧٠، عن قتادة. وفيه: الشجرة والنار، معرفتان بالألف واللام، واتفقت النسخ الثلاث على تعريف: الشجرة، وانفردت نسخة: (ج)، بتنكير النار.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٠، عن الكلبي.
(٨) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٣. عِدوة الوادي وعُدوته: جانبه. "تهذيب اللغة" ٣/ ١١٠ (عدا).
382
وجمع قيل: شاطئان وشواطئ (١).
وقال أبو خيرة (٢): شاطئ الوادي: شَفَتُه، وجمعه: شُطآن وشواطئ (٣).
وقال مجاهد: ﴿الْوَادِ الْأَيْمَنِ﴾ عن يمين موسى (٤).
وقال مقاتل: عن يمين الجبل (٥).
وقوله: ﴿الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾: البُقعة: القطعة من الأرض (٦). ويقال أيضًا: بَقعة، بالفتح.
قال أبو إسحاق: فمن قال بَقعة: فجمعها: بِقاع، مثل: (٧) قَصْعة وقِصَاع، ومن قال: بُقعة فأجود الجمع: بُقَع، مثل: غُرْفة وغُرَف، ويجوز في جمع بُقعة: بِقاع، مثل: حُفْرة وحِفَار (٨).
﴿الْمُبَارَكَةِ﴾ سميت مباركة؛ لأن الله كلم موسى فيها، وبعثه نبيًّا. قاله
(١) كتاب "العين" ٦/ ٢٧٦ (شطأ)، بلفظ: شاطئ الوادي: شَفَتُه، اسم من غير فعل. وليس فيه ذكر التثنية، ولا الجمع، ولم أجد قول الليث في "التهذيب".
(٢) أبو خيرة، نهشل بن زيد، أعرابي بدوي من بني عدي، دخل الحاضرة، وأفاد وأخذ عنه الناس، وصنف في الغريب كتبا. "إنباه الرواة على أنباه النحاة" ٤/ ١١٧، و"بغية الوعاة" ٢/ ٣١٧.
(٣) "تهذيب اللغة" ١١/ ٣٩٢ (شطأ). قال الأخفش: جماعة الشاطئ: الشواطئ، وقال بعضهم: شَطّ، والجماعة: شُطُوط "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٣.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٨٥ (بقع).
(٧) في نسخة: (أ): زيادة: حفرة، وحفار. وهي تكرار لما ذكره الزجاج في آخر كلامه، حيث لا يستقيم إيراد حُفرة، مثالًا على الفتح. والله أعلم.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
383
مقاتل والزجاج (١).
وقال ابن عباس: يريد: المقدسة.
وقوله: ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ قال المفسرون: من ناحية الشجرة (٢).
وقال قتادة: من عند الشجرة (٣).
قال ابن عباس: وهىِ العُنَّاب (٤).
وقال مقاتل: وهي: عَوْسَجَة، وهو قول قتادة (٥).
وقال ابن مسعود: كانت سَمُرة (٦).
وقال الكلبي: شجرة العوسج (٧).
٣١ - وقوله: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ أي: من أن ينالك منها مكروه (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٦ ب.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧١.
(٤) نسبه لابن عباس ابنُ الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢١٨. والعُنَّاب: شجر شائك، يبلغ ارتفاعه ستة أمتار، ويطلق العناب على ثمره أيضًا، وهو: أحمر حلو لذيذ الطعم. "المعجم الوسيط" ٢/ ٦٣٠ (عنب). لم يذكر في "التهذيب" ٣/ ٦، و"اللسان" ١/ ٦٣٠: إلا أنه من الثمر، وأنه معروف. والعَّنَاب بالفتح: بائع العِنَب. "اللسان" ١/ ٦٣٠، و"القاموس المحيط" ١٥٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب، أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧١، عن قتادة، وذكره عنه الثعلبى ٨/ ١٤٧ أ. والعوسج: شجر كثير الشوك، وهو أنواع منها ما يثمر، ومنها ما لا يثمر. "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٨، و"اللسان" ٢/ ٣٢٤، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٦٠٠ (عسج).
(٦) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٧١. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤٧ أ.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩١، عن الكلبي.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
٣٢ - وقوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ قال مجاهد: اضمم إليك يدك من الفَرَق (١). وهذا قول جميع المفسرين؛ قالوا: لما ألقى موسى عصاه فصارت جانًا رَهِبَ وفَزعَ، فأمره الله أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفَزَع (٢).
قال مجاهد: كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع؛ وقرأ هذه الآية (٣). قال الزجاج: والمعنى في جناحك هاهنا: العضد. ويقال: اليد كلها جَناح (٤).
وقال الفراء: الجَناح ما بين أسفل العَضُد إلى الرُّفْغ، وهو: الإبْط (٥).
وقرئ (الرُّهْبِ) و (الرَّهَبِ) (٦) ومعناهما جميعًا واحد، مثل: الرُّشْد والرَّشَد (٧).
قال أبو علي: قال أبو عبيدة: جناحا الرجل: يداه (٨). وقال غيره في
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٥، وأخرجاه أيضًا عن قتادة، وابن زيد.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٩، عن قتادة "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ. ولم ينسبه. ونسبه لمجاهد ابنُ الجوزي ٦/ ٢٢٠.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٦. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣. الرَّفْغُ، والرُّفْغُ: لغتان، وهي: الآباط، والمغابن من الجسد. "تهذيب اللغة" ٨/ ١٠٨ (رفغ).
(٦) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ بفتح الراء والهاء، وقرا عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ بضم الراء وسكون الهاء. "السبعة في القراءات" ٤٩٣، و"الحجة" ٥/ ٤١٤، و"النشر" ٢/ ٣٤١.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٨) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٤. بنصه، وفي "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٤: ﴿جَنَاحَكَ﴾ أي: يدك.
385
الآية: إنه العضد (١). وقول أبي عبيدة أبين عندنا. قال: وقد جاء الاسم المفرد يراد به التثنية، وأنشد أبو الحسن:
يداكَ يدٌ إحداهما الجودُ كُلُّه وراحتُك الأخرى طِعَانٌ تغامره (٢)
المعنى: يداك يدان؛ بدلالة قوله: إحداهما؛ ولأنك إن جعلت قوله: (يدٌ) مفردًا، بقي لا يتعلق به شيء، ويجوز أن يراد بالإفراد: التثنية، كقوله:
وعَينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ شُقَّتْ مَآقيهما من أُخُر (٣)
فيجوز على هذا القياس في قوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أن يراد بالإفراد: التثنية، كما أريد بالتثنية: الإفراد، في قوله:
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٨، ولم ينسبه. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣، ولم ينسبه، ثم قال: ويقال: اليد كلها جناح.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٨، من إنشاد أبي الحسن، والبيت للفرزدق ١/ ٢٧٦، من قصيدة يمدح فيها أسد ابن عبد الله القسري، ورواية الديوان مختلفة:
يداك يد إحداهما النبل والندى وراحتها الأخرى طعان تعاوره
قوله: وراحتك الأخرى: جعل الراحة موضع اليد، والطعان مصدر: طاعن، وليس بجمع طعنة، وتغامره فاعله: الراحة، أي: تغامر الراحةُ الطعانَ، وتكون أنت أيها المخاطب تغامر الطعان. والشاهد فيه: يد، فإنه وإن أفردها لكن المراد بها: التثنية، كأنه قال: يداك يدان إحداهما. "شرح الأبيات المشكلة" لأبي علي ١/ ٢٠٩.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٨، من إنشاد أبي الحسن، ونسبه أبو علي لامرئ القيس، "شرح الأبيات المشكلة" ١/ ٢١١، وحدرة بدرة، أي: مكتنزة صلبة ضخمة، بدرة: يبدو بالنظر، وشقت مآقيهما: تفتحت فكأنها انشقت، وقوله: من أخر، أي: من مآخير العين. "شرح الأبيات المشكلة"، وحاشيته. والبيت في "ديوان امرئ القيس" ١١٦، يصف فرسا. وأنشده البغدادي، "الخزانة" ٥/ ١٩٧، ولم ينسبه.
386
فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ انزجرْ (١)
ومن الناس من يحمل قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] على ذلك. انتهى كلامه (٢). وقد جاء من هذا أن قوله: ﴿جَنَاحَكَ﴾ معناه: يداك، و ﴿الرَّهْبِ﴾: الخوف (٣). والمعنى ما ذكره مجاهد. ونحو ذلك قال ابن عباس فيما روى عنه عطاء؛ قال: يريد: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف، ولا خوف عليك. والمعنى على هذا: أن الله أمره أن يضم يده إلى صدره، فيذهب الله عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية (٤). وتقدير الآية على هذا المعنى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ معالجًا من الرَّهْبِ، أو ما أشبه هذا من التقدير؛ لأنه أُمر بضم الجَناح إليه ليذهب عنه الفزع، ويعالج بذلك ما ناله من الفزع.
وقال الفراء في تفسير الجناح في هذه الآية: إنه العصا (٥).
وقال مقاتل: يعني عصاك مع يدك (٦).
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٩. وفي الحاشية: صدر بيت لسويد بن كراع، وعجزه:
وإن تدعاني أَحمِ عِرضًا ممنعًا
وأنشده البغدادي "الخزانة" ١١/ ١٧، ولم ينسبه. وأنشده ابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" ٢٩١، ولم ينسبه. وفي حاشيته: كان سويد قد هجا بني عبد الله بن دارم فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان بن عفان، فقال سويد قصيدته.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٩، من قوله: وقول أبي عبيدة أبين عندنا.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٦.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب.
387
هذا الذي ذكرنا قول المفسرين.
وقال أبو علي الفارسي في هذه الآية: ذُكر لموسى الخوفُ في مواضع من التنزيل؛ كقوله: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ٢١] و ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: ٢٥] وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ [الشعراء: ١٢] وقال: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ [طه: ٤٦] ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾ [طه: ٤٥] ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ [طه: ٦٧] وقال ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧]. فلما أضاف -عليه السلام- الخوفَ في هذه المواضع إلى نفسه، أو نُزِّلَ منزلة من أضافه إلى نفسه، قيل له: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ فأُمر بالعزم على ما أُريد له مما أُمر به، وحُضَّ على الجدِّ فيه؛ لئلا يمنعه من ذلك الخوفُ والرهبةُ التي قد تغشاه في بعض الأحوال (١)، وأن لا يستشعر ذلك فيكون مانعًا له مما أمر بالمضي فيه. وليس يراد بضم الجناح هاهنا: الضم المُزيل للفُرْجة والخصاصة (٢) بين الشيئين، كقول الشاعر:
اُشْدُدْ حيازيمَكَ للموت... فإن الموتَ لاقيكَ (٣)
(١) في نسخة: (أ)، (ب): والرهب والذي قد يغشاه في بعض الأحوال.
(٢) الخصاصة: الخَلَل، خصاص المنخل، والباب، والبرقع: خللَّه، واحدته: خصاصة. "تهذيب اللغة" ٦/ ٥٥١ (خص).
(٣) "الحجة" ٥/ ٤١٦، ولم ينسب البيت. وأنشده المبرد مع بيت آخر، وهو:
ولا تجزع من الموت... إذا حل بواديكا
ونسبهما لعلي -رضي الله عنه-، قالهما بعد أن أُتي بابن ملجم وقيل له: إنا سمعنا من هذا كلامًا ولا نأمن قتله لك، فقال: ما أصنع به، ثم قال هذين البيتين. "الكامل" ٣/ ١١٢١. وأنشد البيت الأول في "اللسان" ١٢/ ١٣٢ (حزم)، وقال: حيازيمك: جمع: الحيزوم: وهو الصدر، وقيل: وسطه. وهو في ديوان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ١٤٠، مع عدد من الأبيات.
388
ليس يريد به الشد الذي هو الربط والضم، وإنما يريد: تأهب له واستعد للقائه حتى لا تهاب لقاءه، ولا تجزع من وقوعه. هذا كلامه (١). والمعنى على هذا: فشمر واستعد. والتقدير: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ خارجًا من الرهب.
وذكر الأزهري قال: قال (٢) مقاتل في قوله: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ أرادكُمَّ مِدْرَعَته (٣).
وروى ثعلب عن عمرو (٤) عن أبيه قال: يقال لِكُمِّ القميص: القُنُّ والرُّدْن والخِلاف. وحكى عن ابن الأعرابي: أَرْهَبَ الرجلُ: إذا أطال رَهَبَه؛ وهو: كُمَّه.
قال الأزهري: وأكثر المفسرين ذهبوا في قوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ أنه بمعنى الرهبة (٥)، ولو وجدت إمامًا من أهل التفسير يجعل الرهب كُمًا لذهبت إليه؛ لأنه أشبه بالتفسير، وأليق بمعنى الكلام، والله أعلم بما أراد. هذا كلامه (٦). وهو متناقض؛ لأنه حكى عن
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٥.
(٢) هكذا في جميع النسخ: وذكر الأزهري قال: قال مقاتل. يعني: أن الأزهري قد ذكر قول مقاتل.
(٣) "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٩٢ (رهب)، ولم أجده في "تفسير مقاتل". ولم ترد كلمة: ﴿الرَّهْبِ﴾ في كتاب الله -عز وجل- إلا في هذا الموضع. "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" ٣٢٥. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٦ أ، ونسبه لأهل المعاني. والمدرعة: نوع من الثياب التي تلبس، ولا يكون إلا من صوف. "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١ (درع).
(٤) عمرو بن أبي عمرو الشيباني.
(٥) ذكر ذلك أبو عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١٠٤، ولم ينسبه.
(٦) "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٩٢ (رهب). وفيه قال الأزهري: ولو وجدت إمامًا من السلف..
389
مقاتل أنه قال في الرهب: إنه كُم مِدْرَعَتِه. ثم قال: لو وجدت إمامًا من أهل التفسير يجعل الرهب كُمًّا لذهبت إليه (١).
ثم قال: لأنه أشبه بالتفسير، وليس الأمر على ما ذكر؛ كيف يكون أشبه ولا معنى لقولك: واضمم إليك جناحك من الكم وكيف يكون ما ذكر أشبه بالتفسير؛ وقد قال مِقْسم في قوله: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ إنما قيل: في جيبك؛ لأنه لم يكن له كم، كانت زُرْمَانقة (٢).
وذكر المفسرون: أن موسى كانت عليه تلك الليلة مِدْرَعة من صوف مُضَرَّبة، لا كُمَّ لها (٣). وإذا صح هذا فكيف يجوز أن (٤) يحمل الرهب على الكم؟ مع أنا لو ارتكبنا هذا لم يخرج للكلام معنى صحيح. وروى حفص عن عاصم ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ بفتح الراء وجزم الهاء (٥)، وهو لغة في: الرَّهَب الذي هو بمعنى: الكُم (٦).
(١) وصف الواحدي للأزهري بالتناقض بإيراده قول مقاتل لعله غير وجيه؛ لأن الأزهري قال: إمامًا من السلف، ولم يقل: إمامًا في التفسير كما نقل الواحدي، فلعله يعني بذلك: إمامًا من الصحابة والتابعين؛ ومقاتل من أتباع التابعين، ت ١٥٠ هـ، ويبعد أن يكون الأزهري يجهل قول مقاتل؛ إذ إن ذكرَه لقوله قريبٌ جدا. والله أعلم.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٠، في تفسير سورة النمل، عن ابن عباس، من طريق مقسم، وليس فيها: زرمانقة، بل: جبة من صوف. والزرمانقة: جبة صوف. "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٠٢ (زرمانق).
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٨، عن مجاهد وابن مسعود. والضريبة: الصوف يضرب بالمطرَق، ويطلق على: الصوف أو الشعر ينفش ثم يدرج ليغزل. "تهذيب اللغة" ١٢، ١٩/ ٢٠ (ضرب).
(٤) يجوز أن. زيادة من نسخة (ج).
(٥) "السبعة في القراءات" ٤٩٣، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤١٤.
(٦) "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٩٢ (رهب).
390
وقوله: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني اليد والعصا، حجتان من الله تعالى لموسى على صدقه (١). وقُرئ ﴿فَذَانِكَ﴾ بتخفيف النون وتشديده (٢).
قال أبو عبيد: كان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد [من بين إخوانه. ويحكى أن التشديد لغة قريش (٣)، قال أبو إسحاق: التشديد] (٤) يشبه ذلك، والتخفيف يشبه ذاك، جعل بدل اللام في ذلك تشديد النون في: ﴿ذَانَّكَ﴾ (٥). وهذا قول الأخفش؛ قال: أدخلوا التثقيل للتأكيد، كما أدخلوا اللام في ذلك (٦). وهذا مما قد تقدم القول فيه في سورة النساء (٧).
وروى شِبل عن ابن كثير: ﴿فَذَانِيكَ﴾ خفيفة النون بياء (٨)؛ كأنه أبدل من الثانية الياء كراهية التضعيف، كما أنشد أبو زيد:
فآليت لا أَشْرِيه حتى يَمَلَّنِي بشيء ولا أمْلاهُ حتى يُفارقا (٩)
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣، و"الطبري" ٢٠/ ٧٣. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ أ.
(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿فَذَانِكَ﴾ مشددة النون، وقرأ الباقون: ﴿فَذَانِكَ﴾ بالتخفيف. "السبعة" ٤٩٣، و"الحجة" ٥/ ٤١٩، و"النشر" ٢/ ٣٤١.
(٣) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٧٤، ولم يذكر أبا عبيد.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٣.
(٦) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٣. قال المبرد: تبدل من اللام نونًا، وتدغم إحدى النونين في الأخرى. "المقتضب" ٣/ ٢٧٥. وذكر ذلك أيضًا ابن جني، "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٨٧.
(٧) ذكره في تفسير الآية: ١٦ ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾.
(٨) "السبعة" ٤٩٣، و"الحجة" ٥/ ٤١٩، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٧٤.
(٩) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٠، ونسبه لأبي زيد. وهو في "النوادر" ٤٤، مع بيتين قبله منسوبًا للأسود بن يعفر النهشلي، بلفظ: =
391
يريد: لا أَمَلُّه حتى، فأبدل من التضعيف: الألف، كما أبدل من الأول: الياء (١). والإبدال من التضعيف كثير، ومنه قوله: ﴿يَتَمَطَّى﴾ [القيامة: ٣٣] إنما هو: يتمطط، ومثله: التقصي، والتظني (٢).
وقوله: ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ قال أبو إسحاق: أي: أرسلناك إلى فرعون وملأه بهاتين الآيتين (٣). ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ عاصين. قاله ابن عباس ومقاتل (٤).
٣٤ - قوله: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ قال المفسرون: أي: أحسن بيانًا (٥).
قال ابن عباس: وكان في لسان موسى عُقدة، من قِبَل النار (٦)، فذلك قول فرعون: ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، وذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ [طه: ٢٧] (٧).
= فأقسمت لا أشريه حتى أمله بشيء ولا أملاه حتى يفارقا
وفيه: أشريه: أبيعه، ولا أملاه: أي: لا أَمَلُّهُ.
(١) يعني من قوله تعالى: ﴿فَذَانَّيكَ﴾ على قراءة الياء.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٠، باختصار. والتظنَّي: إعمال الظن، وأصله: التظنُّن، أُبدل من إحدى النونات ياء. "اللسان" ١٣/ ٢٥٧. و"القاموس" ١٥٦٦.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٦، عن سعيد بن جبير.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٧٤. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب.
(٧) ذكر الواحدي في تفسير هذه الآية أن العقدة: الربطة في الحبل والخيط، وأراد بالعقدة هاهنا رثة كانت في لسانه تمنعه من الانطلاق في الكلام. قال سعيد بن جبير -وهو قول العامة-: عجمة من جمرة أدخلها في فيه. والقصة في ذلك معروفة. وفي الحاشية نقد لهذه القصة. وسبق بيان أن القول بأن العلة كانت بسبب الجمرة ليس بصحيح، في تفسير سورة الشعراء الآية ١٣.
392
قال أهل اللغة: الفصيح من الكلام: ما لا لحن فيه ولا خطأ. وأصل الكلمة: ظهور الشيء وصفاؤه. يقال: أفصح الصبح إذا بدا وظهر، وأفصح اللبن إذا زالت الرُّغوة عنه، وبدا صريحه (١). وإذا كان الكلام صافيًا من اللحن، خالصًا عما يوجب اللبس من لَجْلَجة أو مَجْمَجة (٢) شُبَّه باللبن الخالص من الرُّغوة فسمي: فصيحًا (٣).
وقوله: ﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا﴾ قال المفسرون: عونًا ومعينًا (٤). قال النضر: يقال فلان رِدْءٌ لفلان أي: يَنْصُره ويَشُد ظهره، وأصله من قولهم: ردأت الحائط أردأه، إذا دعمته بخشب أو لَبِن يدفعه أن يسقط.
وقال يونس: أردأت الحائط بهذا المعنى.
وقال الليث: رَدَأْت فلانًا بكذا أي: جعلتُه قوةً له وعمادًا. وأردأتُ فلانًا أي: ردأته (٥).
(١) الصريح: المحض الخالص من كل شيء، ويقال لِلَبَن: صريح، إذا لم تكن له رغوة. "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٣٧ (صرح).
(٢) اللجلجة: أن يتكلم الرجل بلسانٍ غير بين. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٩٥ (لج). والمجمجة، يقال: مجمج بي: إذا ذهب بك في الكلام مذهبًا على غير الاستقامة، وردك من حال إلى حال. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٥٢٣ (مجمج)، وفي "اللسان" ٢/ ٣٦٣: مجمج الرجل في خبره: إذا لم يبينه.
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٥٣ (فصح)، بنحوه.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩١، عن قتادة. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٧، عن مجاهد وقتادة و"تفسير مقاتل" ٦٥ ب و"الأضداد" لابن الأنباري ٢٠٨. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٧، عن مسلم بن جندب، أنه قال: ﴿رِدْءًا﴾ أي: زيادة.
(٥) كتاب "العين" ٨/ ٦٧ (ردء).
393
ابن السكيت: أردأتُ الرجلَ إذا أعنتُه (١).
أبو عبيدة: أردأته على عدوه، وعلى ضيعته أي: أعنته (٢).
وقرأ نافع: (ردًا) بغير همز (٣)، خفف الهمزة وألقى حركتها على الساكن الذي قبلها، نحو: ﴿الْخَبْءَ﴾ [النمل: ٢٥] فيمن خفف (٤). وقد جاء (٥) في بعض القوافي: في (٦) الردء الرد (٧)، وذلك على أنه وقف بعد التخفيف على الحرف فشدده، كما ثُقِّل: هذا فَرَجٌّ، وهذا خَالِدٌّ، فضُعَّف الحرف للوقف، ثم يُطلق كما أطلق نحو: سبسبَّا والقَصَبَّا (٨).
(١) "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٦٧ (ردأ)، من بداية قول النضر بن شميل.
(٢) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٤. ونقله عنه أبو علي في الحجة ٥/ ٤٢٠.
(٣) قرأ نافع وحده: (ردًا) مفتوحة الدال، منونة غير مهموزة. وقرأ الباقون: ﴿رِدْءًا﴾ ساكنة الدال مهموزة "السبعة في القراءات" ٤٩٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٠، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٧٥، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤١. وقراءة نافع يعبر عنها بالنقل؛ قال السمين الحلبي: وقرأ نافع: (ردا) بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينونه كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ونافع ليس من قاعدته النقل في كلمة إلا هنا، وقيل: ليس فيه نقل وإنما هو من أردى على كذا. "الدر المصون" ٨/ ٦٧٧، وفي الحاشية: النقل: نقل حركة الهمزة إلى الدال ثم حذف الهمزة.
(٤) سبق ذكر هذه القراءة في تفسير قوله تعالى ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ [النمل: ٢٥].
(٥) وقد جاء. ساقطة من نسخة (ج).
(٦) في. ساقطة من نسخة: (ب).
(٧) لم يذكر الواحدي مثالاً على ما جاء في بعض القوافي، وبحثت عن ذلك فلم أجد.
(٨) هاتان الكلمتان من قول رؤبة بن العجاج ١٦٩، من قصيدة له يصف فيها الجراد في انتشاره، وسرعة مره كالسيل إذا امتد، وكالحريق، أي: النار في القصب أو التبن، حاشية "المسائل العسكرية" ٢٢٤، وفيه ذكرِ أبيات رؤبة، وأما أبو علي في "المسائل العسكرية" فقد ذكر الشطر الآتي ولم ينسبه: مثلُ الحريق وافق القصبَّا. =
394
وقال أبو الحسن: هو فعل من رَددتُ، أي: يَرُدَّ عني (١).
قوله: ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ قرئ بالرفع، والجزم (٢). فمن رفع فهو صفة للنكرة، وتقديره: ردءًا مصدقًا، وسأل ربه إرساله بهذا الوصف. ومن جزم كان على معنى الجزاء، أي: إن أرسلته صدقني، وهو جيد في المعنى؛ لأنه إذا أرسله معه صدقه (٣). والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل: لكي يصدقني فرعون (٤)؛ والقول هو الأول.
٣٥ - وقوله: ﴿قَالَ﴾ أي: قال الله لموسى ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ أي: سنعينك ونقويك به (٥).
= وذكر الكلمة الأولى: سبسبَّا سيبويه، "الكتاب" ٤/ ١٦٩، وفي الحاشية: إشارة إلى قول العجاج:
تترك ما أبقى الدُّبى سَبْسَبًّا
وفي حاشية "الحجة" ١/ ٦٥: ذكر البيت كاملاً، وصدره:
وهبت الريح بمور هبَّا
ثم قال: المور بضم الميم: الغبار، والسبسب: القفر، والدَّبا بتشديد الدال المفتوحة: الجراد.
والشاهد في هذا كله: تفعيف الباء للضرورة؛ قال أبو علي: ويضطر الشاعر فيجري الوصل بهذه الإطلاقات في القوافي مجرى الوقف، وقد جاء ذلك في النصب أيضًا، ثم ذكر بيت رؤبة، ثم قال: وهذا لا ينبغي أن يكون في السعة. "المسائل العسكرية" ٢٢٤.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٠.
(٢) قرأ عاصم وحمزة: ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ بضم القاف، وقرأ الباقون: ﴿يصْدقني﴾ بجزم القاف. "السبعة في القراءات" ٤٩٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢١، وإعراب القراءات السبع وعللها ٢/ ١٧٥، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤١.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢١، وهو قول الأخفش، "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٥ ب.
(٥) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٤. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٤. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب.
395
وشَدُّ العضد مَثَلٌ في التقوية والإعانة. وذلك أن من قَوّيت عضدَه فقد أعنته.
قوله تعالى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: أي: حجة تدل على النبوة (١).
قال أبو إسحاق: أي حجة نَيَّرة، والسلطان أبين الحجج، ولذلك قيل للزيت: السَّليط؛ لأنه يستضاء به (٢).
وقوله: ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ أي: بقتل ولا بسوء ولا أذى؛ وذلك أنهما خافا من فرعون أن يقتلهما، وهو قوله: ﴿إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ [طه: ٤٥] (٣).
وقوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ قال المبرد: فيه تقديم وتأخير، المعنى: سلطانًا بآياتنا ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ (٤).
وذكر أبو إسحاق وجهين آخرين؛ أحدهما: أن يكون ﴿بِآيَاتِنَا﴾ من صلة: ﴿يَصِلُونَ﴾ كأنه قال: ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ تمتنعان منهم بآياتنا. والثاني: أن يكون ﴿بِآيَاتِنَا﴾ مُبِينًا عن قوله: ﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ أي: تغلبون بآياتنا (٥). وهذا معنى قول ابن عباس؛ يريد: قد أعطيتك آياتٍ تقوى بها على جميع الخلق، فلا يَصِل إلى أذاك أحدٌ.
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٦، عن مجاهد، والسدي، و"تفسير مقاتل" ٦٥ ب، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣، ولم ينسبه.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٤.
(٣) استدل بهذه الآية على هذا المعنى مقاتل ٦٥ ب.
(٤) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٢، ولم ينسبه.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٤، ولم ينسبه.
396
٣٦ - قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى﴾ أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قِبل نفسك. أي: لم يأتوا بحجة يدفعون بها ما أظهر من الآيات إلا أن قالوا: إنها سحر.
والإشارة في قوله: ﴿مَا هَذَا﴾ تعود إلى ما ذكرنا؛ كأنهم قالوا: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر (١).
٣٧ - ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ أي: هو أعلم بالمحق منا، ومن الذي جاء بالبيان من عنده (٢).
قال مقاتل: أي فأنا الذي جئت بالهدى من عند الله (٣). وقوله: ﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أي: وهو أعلم بمن تكون له الجنة (٤) ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ لا يسعد من أشرك بالله. قاله ابن عباس (٥). وهذه القطعة مفسرة في سورة: الأنعام (٦).
(١) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٧٦، بمعناه.
(٢) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٧٦، بمعناه. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٨، من طريق الضحاك، ولفظه: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ يقول: الكافرون.
(٦) عند قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [١٣٥] قال الواحدي: موضع ﴿مِن﴾ نصب بوقوع العلم عليه، ويجوز أن يكون رفعًا على معنى: تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢] والوجهان ذكرهما الفراء، قال ابن عباس: ﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ يعنىِ: الجنة.. إلى آخر كلامه، فانظره هناك.
٣٨ - وقوله: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ قال مقاتل: يقول: أوقد النار على الطين، حتى يصير اللبِن آجرًا. وكان فرعون أول من طبخ الآجر (١). [ونحو هذا قال قتادة: إنه أول من طبخ الآجر (٢). وقال أبو إسحاق: أي اعمل لي الآجر] (٣) (٤).
﴿فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا﴾ يعني: قصرًا طويلًا عاليًا مرتفعًا. قاله ابن عباس والمفسرون (٥).
وتفسير الصرح مذكور في سورة: النمل (٦).
﴿لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ قال ابن عباس: أصعد إليه (٧). وهذا إيهام من فرعون للناس أن الذي يدعوه إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة، (٨) حيث قال: ﴿لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
(١) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب، ولم ينسبه.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩١، وابن جرير ٢٠/ ٧٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٥، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣، والآجُرُّ، والأجُرُّ، والآجِرُ، والآجُرُ: طبيخ الطين، وهو الذي يبنى به. "لسان العرب" ٤/ ١١ (أجر).
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٥. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٧ ب.
(٦) عند قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ [٤٤].
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٩، عن السدي. و"تنوير المقباس" ٣٢٧.
(٨) لفظ الجهة والمكان لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولم يتكلم به سلف الأمة، وإنما الذي ورد وصف الله تعالى بالعلو على خلقه واستوائه على عرشه، وأنه تعرج إليه الملائكة والروح، ويصعد إليه الكلم الطيب، قال شيخ الإسلام:. فيقال لمن =
398
مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي في ادعائه إلها غيري، وأنه رسوله (١).
قال أبو إسحاق: قد اعترف بأنه شاكٌ لم يتيقن أن موسى كاذب. وفي هذا بيانُ أنه كَفَرَ بموسى على غير تيقن أنه ليس بنبي (٢).
وقال مقاتل: يقول: إني لأحسب موسى من الكاذبين فيما يقول: إن في السماء إلهًا (٣).
قال الكلبي: يقول: إني لأظن موسى كاذبًا، ما في السماء من شيء (٤). وهذان القولان يوهمان التشبيه والقولَ بالجهة (٥).
= نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق فالله تعالى ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالَم فلا ريب أن الله فوق العالَم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة؛ أتريد بذلك أن الله فوق العالَم، أو تريد: أن الله تعالى داخل في شيء من المخلوقات فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل. وكذلك يقال في المكان. "التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية" ١٦٨، و"مختصر العلو للعلي الغفار" للذهبي ٦٨.
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ أ.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٢٧.
(٥) هذا الكلام من الواحدي -عفا الله عنه- تلميح لنفي صفة العلو. قال شيخ الإسلام: والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. لكن لفظ التشبيه في كلام الناس لفظ مجمل؛ فإن أراد بلفظ التشبيه ما نفاه القرآن ودل عليه العقل فهذا حق؛ فإن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته وإن أراد بالتشبيه أنه لا يُثبَت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له علم ولا قدرة ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات، فلزمه أن لا يقال له: حي عليم قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك. "منهاج السنة" ٢/ ١١٠.
399
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ﴾ أي: تعظموا عن الإيمان، ولم ينقادوا للحق، ولِمَا دعاهم إليه موسى ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ في أرض مصر ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (١) قال ابن عباس: بالباطل والظلم والعدوان. وقال مقاتل: بالمعصية (٢).
٤٠ - قوله تعالى: ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ قال ابن عباس: يريد: في البحر المالح؛ بحر القُلْزُم (٣).
وقال قتادة: هو بحر من وراء مصر غرقهم الله فيه (٤).
وقال مقاتل: يعني: بحر النيل الذي بمصر (٥). والمعروف أنه غرق في بحرٍ غير النيل (٦).
(١) ولا يفهم من هذا الآية أن الاستكبار قد يكون بحق، فإن هذا غير مراد، وهو كقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وأفضل ما يحمل عليه المعنى: دفع أدنى شبهة لهم في الاستكبار فهم تكبروا بدون أدنى شبهة، أو اشتباه في الأمور، وكذا في قتل الأنبياء فإن أولئك قد قتلوا الأنبياء بدون أدنى شبهة يتعلقون بها. والله أعلم. "القواعد الحسان لتفسير القرآن" للسعدي، القاعدة ٢٥، ص: ٨٢.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٣) القُلْزُم: مأخوذ من القلزمة؛ وهي ابتلاع الشيء، وسمي بحر القلزم بهذا لالتهامه من ركبه. "معجم البلدان" ٤/ ٤٣٩، قال ياقوت: وهو البحر الذي غرق فيه فرعون. وفي "المعجم الوسيط" ٢/ ٧٥٤: القلزم: بلد قديم بني في موضعه: السويس، وبحر القلزم: البحر الأحمر.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٠. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤٨ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٦) الذي يظهر أن لا دليل على شيء بما ذكر، ولا ينافي حصول هذه الآية الاختلاف في تحديد مكانه، وظاهر الآيات المصرحة بالبحر كقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣] تدل على أنه البحر المالح. والله أعلم.
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ قال ابن عباس: يريد أئمة ضلالة (١).
وقال الكلبي ومقاتل: قادة في الكفر والشرك (٢). جعل فرعون وملأه قادة في الشرك، فأتبعهم أهل مصر.
ومعنى الإمام في اللغة: المقدم للإتَّباع (٣). ورؤساءُ الضلالة قُدِّموا في المنزلة؛ لأنهم يُتبعون فيما يَدْعون إليه.
وقوله: ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يدعون إلى الشرك بالله (٤)، فمن أطاعهم ضل ودخل النار ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ﴾ لا يمنعون من العذاب (٥).
٤٢ - وقوله: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ مفسر في موضعين من سورة: هود (٦). قال مقاتل في هذه الآية: يعني: الغرق (٧).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ. و"تنوير المقباس" ٣٢٧.
(٣) الإمام: كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم، أو كانوا ضالين. "تهذيب اللغة" ١٥/ ٦٣٨ (أم).
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٠، عن مجاهد بلفظ: يدعون إلى المعاصي.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٦) عند قوله تعالى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [٦٠] وقوله تعالى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ قال الواحدي في تفسير هذه الآية: أي: أردفوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم؛ هذا معنى الإتباع، وهو أن يتبع الثاني الأول ليتصرف معه بتصرف. ومعنى اللعنة: الإبعاد من رحمة الله ومن كل خير.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
401
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ أي: من المبعدين الملعونين (١)؛ من القُبْح، وهو: الإبعاد.
قال الليث: يقال: قَبَحَه الله، أي: نحَّاه من كل خير (٢).
وقال أبو زيد: قَبَحَ الله فلانًا قُبْحًا وقُبُوْحًا، أي: أقصاه وباعده من كل خير، كقبوح الكلب والخنزير، قال الجعدي:
ولَيْسَتْ بْشوهَاءَ مَقْبُوحَةٍ تُوافِي الديارَ بوجهٍ غَبِر
قال أبو عبيدة: ﴿مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ المهلكين (٣).
وقال ابن عباس: يريد: تسود وجوههم، وتزرق أعينهم، ويشوه خلقهم (٤).
وقال الكلبي: يعني: سَواد الوجه، وزرقة العين (٥). وهذا يوجب أن يكون ﴿مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ بمعنى: المقبَّحين.
وقد روى أبو عبيد عن أبي عمرو: قَبَحْتُ له وجهَه، مخففة؛ بمعنى: قَبَّحت (٦). وأهل اللغة في: ﴿الْمَقْبُوحِينَ﴾ على القول الأول (٧).
قال أبو علي الفارسي في إعراب هذه الآية: يحتمل أن يكون: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ ولعنةً يوم القيامة، فحذف المصدر،
(١) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٧٩، عن قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة.
(٢) كتاب "العين" ٣/ ٥٣ (قبح). ونقله عنه الأزهري ٤/ ٧٥.
(٣) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٦. وقال الثعلبي ٨/ ١٤٨ أ: الممقوتين. وكذا في "وضح البرهان" ٢/ ١٥٢.
(٤) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٤٨ أ.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٧.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٧٥ (قبح).
(٧) المراد به: ﴿الْمَقْبُوحِينَ﴾ المبعدين.
402
وأقيم ﴿يَوْمَ﴾ مقامه، فانتصب انتصاب المفعول به، ويكون ﴿هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ جملة استغني عن حرف العطف فيها بما تضمنت من ذكرهم، كما استغني عنه بذلك في قوله: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] ولو كانت الواو لكان ذلك حسنًا كما قال: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] قال: ويجوز أن يكون: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ محمولَّا عَلى موضع: في هذه الحياة الدنيا، كما قال الشاعر:
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا (١)
ويشهد لهذين الوجهين قوله: ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: ٢٣] وقوله: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [هود: ٦٠] ويكون قوله: ﴿هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ على ما ذكرنا في الوجه الأول. قال: ويجوز أن يكون العامل فيه: ﴿مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ لأن فيه معنى فعل، وإن كان الظرف متقدمًا، كأنه قيل: ويوم القيامة يقبحون. كما أجاز سيبويه: كل يوم لك ثوب.
٤٣ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى﴾ قال مقاتل: يعني قوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم، كانوا قبل موسى (٢).
(١) أنشده كاملًا سيبويه ١/ ٦٨، ونسبه لكعب بن جعيل، وصدره:
ألا حيَّ ندماني عمير بن عامر
الندمان، ومثله: النديم: الذي يجالسك ويشاربك، وفي الحاشية: شاهده عطف: غدًا، على محل: اليوم، ؛ لأنه مسبوق بمن الزائدة. وأنشده المبرد "المقتضب" ٤/ ١١٢، وابن جني "المحتسب" ٢/ ٣٦٢، ولم ينسباه. وهو في "الإنصاف" ١/ ٣٣٥، غير منسوب، قال: فنصب: غدًا، حملًا على موضع: من اليوم، وموضعها نصب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أهلك الله -عز وجل- قومًا بعذاب من السماء منذ أنزل الله سبحانه التوراة؛ غير القرية التي مسخوا قردة، ألم تر أن الله -عز وجل- قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى﴾ " (١).
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد من بعد ما غرق فرعون وقومه، وخسف بقارون (٢). والقول هو الأول.
وقوله: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ قال أبو إسحاق: المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر، أي: هذه حال ايتائنا إياه الكتاب مبينًا للناس (٣).
وقال مقاتل: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ في هلاك الأمم الخالية، بصيرة لبني إسرائيل، وغيرهم (٤). وعلى هذا التقديرُ: أهلكناهم بصائر للناس؛ ليتبصروا ويعتبروا بهلاكهم. والقول ما قاله أبو إسحاق؛ لأن المعنى: آتينا موسى الكتاب بصائر للناس؛ ليتبصروا به، فدل على صحة هذا قوله: ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ وهو من صفة الكتاب، يعني: التوراة هدى من الضلالة، لمن عمل به، ورحمة لمن آمن به من العذاب (٥).
٤٤ - وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ قال قتادة والسدي ومقاتل:
(١) أخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٢، رقم: ٣٥٣٤، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه من هذا الطريق الثعلبي ٨/ ١٤٨ أ، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨١، موقوفًا على أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(٢) ذكره القرطبي ١٣/ ٢٩٠، ولم ينسبه، وصدره بـ: قيل.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٦ أ، بنصه.
404
يعني جبلًا غربيًّا (١). وهو اختيار أبي إسحاق (٢). أي: وما كنت بجانب الجبل الغربي.
وقال أبو علي الفارسي: هذا على جانب المكان الغربي، لا يكون على غير ذلك، يعني: أنه لا يكون الجانب مضافًا إلى الغربي؛ لأنه هو الغربي (٣).
وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي (٤).
قال ابن عباس: يريد: حيث ناجى موسى ربَّه.
وقوله: ﴿إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾ قال مقاتل: إذ عهدنا إلى موسى الرسالة إلى فرعون وقومه. وهو قول المفسرين (٥). وقال عطاء عن ابن عباس: إذ أخبرناه أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأمم (٦).
قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ لذلك الأمر (٧). وقال ابن عباس: لم
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٢، عن قتادة، وقد تصحفت فيه كلمة: غربيًّا، إلى: قريبًا، وهذه الطبعة للكتاب مليئة بأخطاء كثيرة جدًا، في الآيات، والأحاديث، والأقوال، فلم تحظ بأدنى قسط من التحقيق. وقول مقاتل في "تفسيره" ٦٦ أ.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٦.
(٣) قال السمين الحلبي: قوله: ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ يجوز أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه؛ أي: بجانب المكان الغربي، وأن يكون من إضافة الموصوف لصفته، وهو مذهب الكوفيين. "الدر المصون" ٨/ ٦٨٠.
(٤) ذكره عنه الشوكاني ٤/ ١٦٩، وفي "تنوير المقباس" ٣٢٧: الجبل.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب، و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٨٠، بمعناه.
(٦) نسبه لابن عباس، القرطبي ١٣/ ٢٩١
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
405
تحضر ذلك (١). وقال الكلبي: لم تشاهد ما هنالك (٢).
قال صاحب النظم: ليس للحضور هاهنا معنى؛ لأن قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ قد أغنى عنه، وهو من الشهادة على الشيء، يعني: لم نُشهدك على ما جرى هنالك.
٤٥ - قوله: ﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا﴾ أي: خلقنا أممًا من بعد موسى ﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ أي: طالت عليهم المهلة، فنسوا عهد الله، وتركوا أمره (٣).
قال ابن عباس: مِثْلُ قوله في الحديد: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [١٦] (٤).
قال صاحب النظم: قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ لا يقال إلا لرجل قد كان جرى له ذكر في موضع بخير أو شر، فهو إعلام من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه أجرى ذكرَه في هذا الموضع لمعنى؛ إلا أنه غير موقوف على حقيقته، فلما قال: ﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ دل ذلك على أنه قد عهد إلى قوم موسى عهودًا، فلما طال عليهم العمر نسوها، وتركوا الوفاء بها، وطول العهد والعمر ينسي العهودَ والوفاءَ بها، ألا ترى أن موسى لما عاتب قومه في اتخاذ العجل قال لهم: ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ [طه: ٨٦]، وذكرَ الله -عز وجل- في مواضع ما عهدَه إلى قوم موسى في التوراة من الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يحتمل أن يكون هذا الذي أُومِئَ إليه في هذا
(١) قال الثعلبي ٨/ ١٤٨ أ: الحاضرين. ولم ينسبه.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٢٧، بلفظ: من الحاضرين هناك.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ أ.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ أ، ولم ينسبه لابن عباس.
الموضع إلا العهد الذي ذكره في مواضع، فالذي خلص من تأويل هذا الفصل على ما درجنا: أنه -عز وجل- ذكر امتنانه على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه لما بعث موسى نبيًا ورسولًا إلى فرعون، أعلمه في ذلك الوقت أنه يبعث من ولد إسماعيل نبيًا، وأنه أخذ بعد ذلك على أمته عهدًا أن يؤمنوا به، وأن العلة في كفرهم به بعد أخذ العهد إنشاؤه منهم قرنًا بعد قرن، فتطاول العمر عليهم حتى نسوا ذلك، وتهاونوا به فلم يؤمنوا.
وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا﴾ أي: مقيمًا في أهل مدين (١)، كمقام موسى وشعيب فيهم ﴿تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ تذكرهم بالوعد والوعيد.
قال مقاتل: يقول لم تشهد أهلَ مدين فتقرأ على أهل مكة خبرَهم ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ أرسلناك إلى أهل مكة (٢)، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها.
قال أبو إسحاق: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تُليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك (٣).
٤٦ - قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ قال مقاتل: يعني: بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليمًا (٤) ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ قال ابن عباس: إن الله تعالى وتبارك نادى: يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم
(١) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٧. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣، و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٨١، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٦. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ أ. وقال مقاتل ٦٦ ب: شاهدا.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
407
قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني. ونحو هذا روي عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير موقوفًا عليه (١). وروي عنه عن أبي هريرة مثل ما ذكرنا عن ابن عباس (٢).
قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكرَ الله له فضل محمد وأمته، قال: يا رب أرينيهم، قال الله: إنك لن تدركهم، وإن شئت ناديتُ أمته فأسمعتُك صوتَهم، قال: بلى يا رب، فقال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، ثم قال الله تعالى: قد أجبتكم قبل أن تدعوني (٣)، كما ذكر ابن عباس.
وقال مقاتل بن حيان: ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ أمتك وهم في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بُعثتَ (٤).
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩١، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي مدرك، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، رفع الحديث هكذا في تفسير عبد الرزاق. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٨١، والثعلبي ٨/ ١٤٨ ب، من كلام أبي زرعة. وأبو زُرعة، قيل اسمه: هرم، وقيل: عمرو، وقيل غير ذلك، ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البَجلي، الكوفي، من الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين، ثقة. "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٨، و"تقريب التهذيب" ١١٤٨. ولا يصح رفع هذا الحديث كما هي رواية عبد الرزاق لأنه برفعه يكون الحديث مرسلاً. والصواب: وقفه، كما قال الواحدي. والله أعلم.
(٢) أخرجه النسائي في "تفسيره" ٢/ ١٤٣، رقم: ٤٠١، موقوفًا على أبي هريرة من طريق أبي زرعة، وكذا الحاكم ٢/ ٤٤٣، رقم: ٣٥٣٥، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. ومن طريق أبي زرعة أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨١، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ ب، من كلام وهب بن منه.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٣.
408
وقال السدي: ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ موسى (١). ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان (٢)، فعلى هذا المنادى: موسى.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ ولكن رحمناك رحمة بإرسالك، والوحي إليك (٣).
قال الزجاج: المعنى: فعلنا ذلك للرحمة، كما تقول: فعلت ذلك ابتغاء الخير، فهو مفعول له (٤).
وقال مقاتل: يقول: ولكن كان (٥) القرآن رحمة من ربك، يعني: نعمة، يعني: النبوة حين اختصصت بها، وأوحينا إليك أمرهم ليعرف كفار مكة نبوتك، فذلك قوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (٦) يعني: أهل مكة (٧) ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ قال ابن عباس: يتعظون (٨).
٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ قال مقاتل: يعني العذاب في الدنيا ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من المعاصي، يعني: كفار مكة (٩) ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ﴾ هلا أرسلت إلينا رسولاً (١٠) ﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٤، عن قتادة.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٣) قال الأخفش: فنصب ﴿رَحْمَتَ﴾ على: ولكن رحمك ربك رحمة. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٣.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٧.
(٥) كان. ساقطة من نسخة (ج).
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٧) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ ب.
(٨) "تنوير المقباس" ٣٢٧.
(٩) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(١٠) "مجار القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٧.
يعني القرآن ﴿وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدقين بتوحيد الله (١). والمعنى: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة لكفرهم. وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف؛ تقديره ما ذكرنا (٢).
وقال مقاتل في تقدير الجواب: لأصابتهم مصيبة (٣).
قال الزجاج: أي: لولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسول، ومواترة الاحتجاج (٤).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ قال ابن عباس: جاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- (٥). قال مقاتل: يعني القرآن (٦).
قال أبو إسحاق: أي: فلما جاءت الحجة القاطعة التي كان يجوز أن يعتلوا بتأخرها عنهم ﴿قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ أي: هلا أوتي محمد من الآيات مثلَ ما أوتي موسى من العصا واليد، وغير ذلك. قاله ابن عباس (٧).
وقال مقاتل: هلا أعطي محمد القرآن جملة واحدة {مِثْلَ مَا أُوتِيَ
(١) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٢) قال الثعلبي ٨/ ١٤٨ ب: جواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف، أي: لعاجلناهم بالعقوبة.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٤) هكذا في النسخ الثلاث، وكذا في "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٧؛ أي: متابعة الاحتجاج. والله أعلم.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٨٣، والثعلبي ٨/ ١٤٨ ب، ولم ينسباه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٧، ولم ينسبه. أخرج ابن جرير ٢٠/ ٨٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٤، عن مجاهد: يهود تأمر قريشًا أن تسأل محمدًا مثل ما أوتي موسى.
410
مُوسَى} التوراة جملة واحدة (١).
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ أي: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من التوراة (٢) قبل القرآن. يعني: كفار مكة احتج الله عليهم لما قالوا: هلا أوتى محمد مثل ما أوتى موسى؟ بكفرهم بما أوتي موسى. أي: فقد كفروا بآيات موسى، كما كفروا بآيات محمد، و ﴿قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ قال الكلبي: وذلك أنهم بعثوا رهطًا إلى يهود المدينة يسألونهم عن بعث محمد وشأنه! فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فرجع الرهط إليهم، وأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ (٣).
وقرئ (سَاحِرَانِ) (٤) وهو اختيار أبي عبيدة؛ لقوله: ﴿تَظَاهَرَا﴾ أي: تعاونا، والمعاونة إنما تكون في الحقيقة للساحرين، لا للسحرين (٥)،
(١) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٨ ب، ولم ينسبه. والتأويل الأول أقرب؛ لأنهم سألوا معجزات مادية محسوسة كما ذكر الله عنهم في آخر سورة الإسراء: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ الآيات [٩٠ - ٩٣].
(٢) في نسخة: (أ)، (ب): أي: أولم يكفروا بتوراة موسى.
(٣) ذكره الثعلبي ٨/ ١٤٩ أ، عن الكلبي. وظاهر هذا أن الآية خطاب لكفار قريش، وفيها التشنيع عليهم بكفرهم بموسى عليه الصلاة والسلام، وهذا بعيد، والأقرب ما أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٣، عن مجاهد في تفسير هذه الآية: يقول الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: قل لقريش يقولوا لهم، أي: لليهود: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل.
(٤) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿سِحْرَانِ﴾ ليس قبل الحاء ألف، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (سَاحِرَانِ) بألف قبل الحاء. "السبعة في القراءات" ٤٩٥، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٣، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤١.
(٥) ذكر هذا التوجيه أبو علي في "الحجة" ٥/ ٤٢٣، ولم ينسبه لأبي عبيد؛ وإنما نسبه له الثعلبي ٨/ ١٤٩ أ.
411
والتظاهر بالناس وأفعالهم أشبه. قال ابن عباس: يريدون: موسى وهارون. وهو قول سعيد بن جبير (١).
وروى مسلم بن يسار عن ابن عباس قال: يعنون: موسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم، وهو قول الحسن (٢). ومن قرأ: ﴿سِحْرَانِ﴾ أراد: الكتابين (٣).
قال مقاتل: يعنون التوراة والقرآن (٤). وهو قول عكرمة والكلبي (٥). وعلى هذا معنى: ﴿تَظَاهَرَا﴾ تعاونا على الضلالة (٦)؛ كأن المعنى: كل سِحرٍ منهما يقوي الآخر، ويتفقان، فنسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع (٧).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٥، عن مجاهد، وسعيد بن جبير.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٥، عن ابن عباس، من طريق: مسلم بن يسار. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٢، عن الكلبي. وذكره الفراء، ولم ينسبه، وصدره بـ: يقال. "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٦. واقتصر عليه النيسابوري، في "وضح البرهان" ٢/ ١٥٣.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٩ أ، ولم ينسبه.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٢، عن الكلبي، وهو في "تنوير المقباس" ٣٢٨. وأخرج عبد الرزاق ٢/ ٩٢، رواية تخالف ما ذكر عن عكرمة؛ فعن مجاهد قال: سألت ابن عباس وهو بين الركن والباب، في الملتزم، وهو متكئ على يد عكرمة مولاه، فقلت: أسحران، أم ساحران قال: فقلت ذلك مرارًا، فقال عكرمة: ساحران، اذهب أيها الرجل، أكثرت عليه. وأخرج القول بأن المراد بهما: القرآن والتوراة، ابن جرير ٢٠/ ٨٤، عن ابن عباس، وابن زيد.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٧.
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٣.
412
وقوله تعالى. ﴿وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريدون: الذي جئتَ به، والذي جاء به موسى (١).
وقال مقاتل: بالتوراة والقرآن كافرون لا نؤمن بهما (٢).
قال الله لنبيه -عليه السلام-: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
٤٩ - ﴿قُلْ﴾ لكفار مكة (٣): ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ﴾ قال ابن عباس: يريد: من القرآن والتوراة (٤). يقول: أنا أتبعه إن جئتم بأفضل مما جئتُ به إليكم، والذي جاء به موسى. وهذا دليل لقراءة من قرأ: ﴿سِحْرَانِ﴾ وذلك أنهم لَمَّا قالوا: القرآن والتوراة ﴿سِحْرَانِ﴾ قيل لهم: ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ﴾ ﴿أَهْدَى مِنْهُمَا﴾ ومن قال: (سَاحِرَانِ) قال: المعنى: هو أهدى من كتابيهما، فحذف المضاف. ذكر ذلك أبو إسحاق، وأبو علي (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قال مقاتل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأنهما ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ (٦).
٥٠ - ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ قال مقاتل: فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن (٧). وقال عطاء عن ابن عباس: فإن لم يؤمنوا بما جئت به. والأول
(١) أخرج نحوه ابن جرير ٢٠/ ٨٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٦، عن مجاهد، وابن زيد.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٦، عن ابن عباس.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٦، عن ابن زيد.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٨، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٣.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
أظهر.
﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ قال أبو إسحاق: أي: فاعلم أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا فيه الهوى، وقد علموا أن الذي أتيتَ به الحق (١).
ثم ذمهم فقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ أي: لا أحد أضل (٢) ممن يتبع هواه بغير رشاد، ولا بيان جاءه من الله. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لا يجعل جزاء المشركين الجاحدين آياته أن يهديهم إلى دينه.
٥١ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ قال الفراء: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضًا (٣).
وقال أبو عبيدة: أتممنا (٤)، كوصل الشيء بالشيء.
وقال المبرد: تأويله: بَينَّا، وإنما هو من وصْلِ بعضه ببعض، والتثقيل يدل على المبالغة.
وقال الزجاج: أي: فصلناه بأن وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص مَنْ مضى بعضها ببعض (٥).
وقال ابن قتيبة: أي أتبعنا بعضه بعضًا فاتصل عندهم؛ يعني: القرآن (٦). هذا قول أهل المعاني وألفاظهم؛ وهي مأخوذة من ألفاظ
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٧.
(٤) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٨.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٨.
(٦) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٣.
المفسرين؛ قال مجاهد: فصلنا القول لقريش (١).
وقال الكلبي: بينا لهم القول في القرآن (٢). وهو قول السدي ومقاتل وسفيان بن عيينة (٣). ومن فسر التوصيل بالتفصيل؛ أراد به: البيان؛ فإن القول يفصَّل للبيان، وُيوصَل بعضه ببعض للبيان.
قال قتادة: وصلَ لهم القول في هذا القرآن يُخبرهم كيف صَنع بمن مضى (٤).
وقال الكلبي: فصل لهم القرآن بما يدعوهم إليه مرة بعد مرة. وقال ابن زيد: ﴿وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ في الخبر عن أمر الدنيا والآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا (٥).
وقال مقاتل: يقول لقد بينا لكفار مكة بما في القرآن من خبر الأمم الخالية (٦) كيف عذبوا بتكذيبهم (٧). ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ لكي يتعظوا ويخافوا فيؤمنوا (٨).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٧.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٢٨.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٧٨، عن السدي، و"تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٨.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٨. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٩ أ.
(٦) في نسخة: (ج): الماضية.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب. وفي مرجع الضمير في قوله تعالى: ﴿وَصَّلْنَا لَهُمُ﴾ قولان ذكر الواحدي أحدهما، وهو: رجوعه لقريش، والثاني: يرجع لليهود، أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٨، عن رفاعة القرظي -رضي الله عنه-، قال: نزلت هذه الآية في عشرة، أنا أحدهم. ولا تعارض بين القولين. والله أعلم.
(٨) "تفسير مقاتل" ٦٦ ب.
٥٢ - قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ من قبل القرآن (١). قال ابن عباس والسدي: نزلت في عبد الله بن سلام وابن يامين، ومن أسلم من اليهود (٢).
وقال قتادة: كنا نُحَدَّث أنها نزلت في أناس من أهل الكتاب؛ كانوا على شريعة من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا وصدقوا (٣).
وقال ابن عباس: نزلت في أهل الإنجيل (٤). وهو قول مقاتل؛ قال: نزلت في مسلمي أهل الإنجيل، كانوا مسلمين قبل أن يبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أربعين رجلًا؛ اثنان وثلاثون من الحَبَش قدموا مع جعفر بن أبي طالب، المدينة، وثمانية نفر قدموا من الشام، فنعتهم الله في كتابه (٥).
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ يعني القرآن (٦) ﴿قَالُوا آمَنَّا بِهِ﴾ صدقنا بالقرآن ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا﴾ (٧) وذلك أن ذكرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مكتوبًا
(١) قال الثعلبي ٨/ ١٤٩ أ: ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: من قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-. وبين القولين تلازم.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٩، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٨، عن ابن عباس، والسدي، وفي خبر السدي ذكر قصة عبد الله بن سلام لما أسلم، وأخرج ابن جرير ٢٠/ ٨٩، عن مجاهد: هم مسلمة أهل الكتاب.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٠، عن قتادة، وفيه: منهم: سلمان، وعبد الله بن سلام.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٨، عن ابن عباس، بلفظ: من آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٨، عن سعيد بن جبير، أن المراد بهذه الآية: النصارى الذين قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، من الحبشة فآمنوا.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ أ.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٨٩
عندهم في التوراة والإنجيل، فلم يعاند هؤلاء وآمنوا وصدقوا، وقالوا للقرآن: ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ (١) قال مقاتل: إنا كنا من قبل هذا القرآن مخلصين لله بالتوحيد (٢).
وقال الكلبي: يقولون: إنا كنا من قبل أن يأتينا محمد مؤمنين به أنه سيكون (٣).
وقال السدي: يقولون: كنا من قبله على دين إبراهيم وإسماعيل، وتلك الأمم كانوا على دين محمد (٤).
٥٤ - ثم أثنى الله عليهم خيرًا فقال: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ أجرًا بتمسكهم بدينهم حتى أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا به، وأجرًا بإيمانهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. قاله مقاتل (٥). وهو معنى قول ابن عباس: ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾
(١) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٨٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٢٨. وهو قول الفراء، قال: وذلك أنهم يجدون صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابهم فصدقوا به، فذلك إسلامهم، وقال أيضًا: ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ هذه الهاء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كانت الهاء كناية عن القرآن كان صوابًا؛ لأنهم قد قالوا: ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا﴾ فالهاء هاهنا أيضًا تكون للقرآن، ولمحمد -صلى الله عليه وسلم-. "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٧.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٩.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ. أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٠، عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩١، عن الضحاك. وكان الأولى بالواحدي رحمه الله تعالى أن يورد هنا حديث أبي هريرة المتفق عليه؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها ويؤدبها فيحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران، ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمنًا ثم آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فله أجران، والعبد الذي يؤدي حق الله وينصح لسيده". أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد، رقم: ٣٠١١، "فتح الباري" ٦/ ١٤٥، ومسلم ١/ ١٣٤، كتاب الإيمان، رقم: ٢٤١. وقد أهمل الواحدي إيراده في كتابيه: "الوسيط" و"الوجيز".
على دين عيسى، وآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (١)
وقال قتادة: ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ على الكتاب الأول، والكتاب الثاني (٢)
قال مقاتل: فلما تبعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- شتمهم المشركون فصفحوا عنهم، وردوا معروفًا، فأنزل الله فيهم: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ (٣) أي: يدفعون ما يسمعون من الأذى بالصفح والعفو (٤).
وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك (٥).
قال أبو إسحاقِ: يدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات (٦). ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من الأموال ﴿يُنْفِقُونَ﴾ في طاعة الله (٧).
قال ابن عباس: يتصدقون على أهل دينهم (٨).
٥٥ - ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾ قال الكلبي: يعني الباطل (٩). وهو ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم. ونحو هذا قال مقاتل (١٠).
(١) هذا على أن المراد بأهل الكتاب: النصارى، كما سبق أن سعيد بن جبير، جعل الآية في النصارى الذين قدموا من الحبشة فآمنوا. أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٨٨.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٨٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٠.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ.
(٤) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٨، بمعناه.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٨، بلفظ: يدفعون بالكلام الحسن؛ بلا إله إلا الله الكلامَ القبيح؛ الشرك من غيرهم.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٩.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ.
(٨) أخرج نحوه ابن جرير ٢٠/ ٩٠، عن قتادة، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٩، بلفظ: يتصدقون، ولم ينسبه.
(٩) "تنوير المقباس" ٣٢٨، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٠، عن قتادة
(١٠) "تفسيره" ٦٧ أ. وأخرجه الطبري ٢٠/ ٩١، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٢، عن مجاهد.
418
وقوله تعالى: ﴿أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ أي: عن اللغو، فلم يردوا عليهم مثل ما قيل لهم (١).
وقال أبو إسحاق: إذا سمعوا ما لا يجوز، وينبغي أن يُلغى لم يلتفتوا إليه (٢).
﴿وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ قال مقاتل: لنا ديننا ولكم دينكم، وذلك حين عيروهم بترك دينهم (٣). وقال (٤) غيره: لنا ما رضينا به لأنفسنا، ولكم ما رضيتم به لأنفسكم (٥).
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ قال السدي: لما أسلم عبد الله بن سلام، جعل اليهود يشتمونه، وهو يقول: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (٦) ومعناه: أمنة لكم من أن تسمعوا منا ما لا تحبون.
قال أبو إسحاق: ولم يريدوا بقولهم: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ التحية؛ والمعنى: أنهم قالوا: بيننا وبينكم المتاركة والتسليم. وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال (٧).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٩.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ.
(٤) في نسخة: (أ)، (ب): وقالوا.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩١، بنصه.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٣.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٩، يعني أن هذه الآية منسوخة بآية الجهاد والقتال، وقد سبق الحديث عن نسخ هذه الآية وما شابهها في سورة الفرقان، عند قوله تعالى ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ قال مكي بن أبي طالب: والذي عليه أهل النظر -وهو الصواب- أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن معنى السلام فيها: =
419
وقوله تعالى: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ قال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه (١). وقال الكلبي: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه (٢). وعلى هذا يكون التقدير: لا نبتغي دين الجاهلين (٣).
وقيل: لا نبتغي محاورة الجاهلين (٤).
وقال أبو علي: لا نبتغي مجاراتهم ولا الخوض معهم فيما يخوضون فيه؛ فالمضاف محذوف.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ قال ابن عباس: يريد أبا طالب (٥). وقال الكلبي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يسلم عمه أبو طالب، فنزل: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (٦).
وقال مجاهد في هذه الآية: قال محمد -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب: "قل كلمة الإخلاص أجادلْ بها عنك يوم القيامة"، قال: يا ابن أخي: ملة الأشياخ! (٧).
وقال السدي: نزلت في أبي طالب حين قال له: "قل: لا إله إلا الله،
= المتاركة والمداراة من الكفار، وليس من السلام الذي هو التحية؛ لأن السلام عليهم محظور بقوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ [طه: ٤٧]. "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ٣٧٥.
(١) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٢٨. بلفظ: لا نطلب دين المشركين بالله.
(٣) هذا بنصه كلام الكلبي؛ لا نبتغي دين الجاهلين. "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ أ.
(٤) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩١. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ أ. ولم ينسباه.
(٥) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩١، و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ أ.
(٦) "تنوير المقباس" ٣٢٨.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٤.
420
أشهدُ لك بها يوم القيامة"، قال: لولا أن يقولوا: جَزع عمك عند الموت لقلتها! (١).
وقال مقاتل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا؛ أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي: قد علمتُ أنك صادق، ولكن أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أخيك غضاضة (٢) ومَسبَّة بعدي لقلتُها، ولأقررت بها عينك عند الفراق، لِمَا أرى من شدة حرصك ونصيحتك، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف!. فأنزل الله هذه الآية (٣). ونحو هذا قال قتادة والحسن والشعبي وابن عمر (٤).
قال أبو إسحاق: أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب (٥).
وقد حدثنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم -رحمه الله- قال: حدثنا الحسن بن أحمد الشيباني (٦)، أخبرنا أحمد بن محمد بن
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٢، عن أبي هريرة.
(٢) يقال: ما أردت بذا غضيضة فلان، ولا مغضته، كقولك: ما أردت نقيصته، ومنقصته. "تهذيب اللغة" ١٦/ ٣٦ (غض).
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٧ أ. وأخرجها النسائي في كتاب "التفسير" ٢/ ١٤٤، رقم: ٤٠٣، عن سعيد بن المسيب عن أبيه. وكذا الثعلبي ٨/ ١٤٩ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٢، عن أبي هريرة، وسعيد بن المسيب عن أبيه، وابن عمر، ومجاهد وقتادة وأخرجه النسائي في التفسير ٢/ ١٤٥، عن ابن عمر.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٩.
(٦) الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن مخلد بن شيبان المخلدي، النيسابوري، مع أبا العباس السراج، ومؤمل بن الحسن، وابن الشرقي، =
421
الحسن الحافظ (١)، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة؟ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمه: "قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة"، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش؛ يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (٢).
= وحدث عنه الحاكم، ويعقوب الصيرفي، وغيرهم. قال الحاكم: هو صحيح السماع والكتب، ومتقن في الرواية، محدث عصره، ت: ٣٨٩ هـ. "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٥٣٩، و"شذرات الذهب" ٤/ ٤٧٧.
(١) أحمد بن محمد بن الحسن النيسابوري، أبو حامد، ابن الشرقي، حافظ خراسان، سمع محمد بن يحيى الذهلي، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وغيرهم، حدث عنه: أبو علي النيسابوري، وأبو عبد الله الهروي، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٣٧. و"طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٤١.
(٢) هذا الحديث ساقه الواحدي بسنده عن شيخه الثعلبي أحمد بن محمد بن إبراهيم. "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ ب. وأخرجه بهذا اللفظ من طريق يحيى بن سعيد، عن يزيد ابن كيسان، مسلم في صحيحه ١/ ٥٥، كتاب الإيمان، رقم: ٢٥. وأصل الحديث في الصحيحين، من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنده أبو جهل، فقال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب!، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: ١١٣] ونزلت: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾. أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، رقم ٣٨٨٤، "فتح الباري" ٧/ ١٩٣، ومسلم ١/ ٥٤ في الإيمان، رقم ٢٤. وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ٣٣٨، وذكر تخريج مسلم له. وأخرجه ابن حرير ٢٠/ ٩٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٤.
422
قال الزجاج: ابتداء نزولها بسبب أبي طالب، وهي عامة؛ لأنه لا يهدي إلا الله -عز وجل-، ولا يرشد ولا يوفق إلا هو، وكذلك هو ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ (١).
وقال الفراء: ﴿مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ يكون على جهتين؛ إحداهما: من أحببته للقرابة، والثانية: من أحببت أن يهتدي، كقولك: إنك لا تهدي من تريد (٢). قال مقاتل: إنك لا تهدي للإسلام ﴿مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (٣) ولكن الله يهدي ويرشد (٤) من يشاء لدينه. قاله ابن عباس.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ يقول: هو أعلم بمن قدر له الهدى. قاله مجاهد ومقاتل (٥).
٥٧ - قوله: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ قال الكلبي ومقاتل والمفسرون: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف (٦)، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكن يمنعنا من ذلك أن
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٤٩. وذكر الواحدي قول الزجاج في "أسباب النزول" ٣٣٨، بإسناده.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٤) ويرشد. ساقطة من نسخة (أ)، (ب).
(٥) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٩٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٥، عن مجاهد. و"تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٦) الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، من زعماء قريش في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، وقد قتل يوم بدر كافرًا، قتله خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، ثم أسر خبيب يوم الرجيع فابتاعه بنو الحارث بن عامر ليقتلوه بأبيهم، وقصته في ذلك مشهورة. "السيرة النبوية" لابن هشام ٣/ ١٨٠.
423
العرب تخطفنا من أرضنا، يعني: من مكة، فإنما نحن أكلة رأس (١)، والعرب على ديننا، ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله هذه الآية (٢).
وقوله: ﴿نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ قال المبرد: التخطف: الانتزاع بسرعة، كما يتخطف البازي، ولا يكون الخطف إلا بسرعة (٣). وقد مر في في له: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] (٤).
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ يعني: ذا أمن يأمن فيه الناس. قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون بحرمة الحرم (٥).
وقال قتادة: كان أهل الحرم آمنين، يذهبون حيث شاءوا، فإذا خرج أحدهم قال: أنا من أهل الحرم، لم يَعْرِض له أحد، وكان غيرهم يقتل ويسلب (٦)، كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾. قال مقاتل: يقول: هم آمنون في الحرم من القتل والسبي،
(١) أكلة رأس، مثل يضرب لقلة العدد، فكأنهم لو اجتمعوا على أكل رأس لكان كافيًا لهم. "الزاهر في معاني كلمات الناس" ٢/ ١٤، و"مجمع الأمثال" ١/ ٨٤.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب، وفيه: الحارث بن نوفل بن عبد مناف، وذكر نحوه الزجاج ٤/ ١٥٠، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٥، والنسائي، كتاب التفسير ٢/ ١٤٦ رقم ٤٠٥. وذكره الثعلبي ٨/ ١٤٩ ب. والواحدي "أسباب النزول" ٣٣٨، وفيه: الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف.
(٣) يقال: خَطِفت الشيء، واختطفته: إذا اجتذبته بسرعة. "تهذيب اللغة" ٧/ ٢٤١ (خطف)، ولم يذكر قول المبرد.
(٤) لم أجد في هذا الموضع إلا قوله: ومعنى الآية: يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمر دينهم.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ ب.
(٦) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٢، وابن جرير ٢٠/ ٩٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٦.
424
فكيف يخافون إذا أسلموا (١).
وقال أبو إسحاق: أعلمهم الله بأنه قد تفضل عليهم بأن أمنهم بحرمة البيت، ومنع منهم العدو. أي: فلو آمنوا لكانوا أولى بالتمكين والسلامة (٢).
وقال الفراء: أو لم نسكنهم حرمًا لا يخاف مَنْ دخله، فكيف يخافون أن تَستَحِل العرب قتالَهم فيه (٣). وقال ابن قتيبة: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ أي: أو لم نسكنهم، ونجعله مكانًا لهم (٤).
قوله تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: يجمع إليه (٥)، وهو من قولك: جِبْتُ الماءَ في الحوض؛ إذا جمعته (٦).
وقال الفراء في "مصادر القرآن": جببت المال والماء جباية، إذا جمعته وجبوته جباوة. والجباية: الحوض العظيم. والجبا مقصور: الماء المجموع (٧).
وقرئ ﴿يُجْبَى﴾ بالياء والتاء (٨)، وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث
(١) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٠.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٨.
(٤) "غريب القرآن" ٣٣٣، بلفظ: نسكنهم إياه.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٩ ب.
(٦) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٨. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٤، ولم ينسبه.
(٧) "تهذيب اللغة" ١١/ ٢١٤ (جبا)، من قول الكسائي: الجبا مقصور. ولم أجد فيه ما قبله.
(٨) قرأ نافع وحده: ﴿تُجْبَى﴾ بالتاء، وقرأ الباقون: ﴿يُجْبَى﴾ بالياء. "السبعة في القراءات" ٤٩٥، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٤، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٧٨.
425
جمع، وليس بتأنيث حقيقي، وإذا كان كذلك كان بمنزلة الوعظ، والموعظة، والصوت، والصيحة، فإذا ذُكِّرَت كان حسنًا، وكذلك إذا أنثت. ذكر ذلك صاحب الحجة (١).
وقال الفراء: ذُكَّرَت ﴿تُجْبَى﴾ وإن كانت الثمرات مؤنثة؛ لأنك فرقت بينهما بإليه، كما قال الشاعر:
إنَّ امْرَأً غَرَّه منكن واحدةٌ بعدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ (٢)
وبهذه العلة اختار أبو عبيد التذكير؛ فقال: قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل (٣).
قال ابن عباس ومقاتل: يعني: يُحمل إلى الحرم ثمرات كل شيء (٤)؛ من مصرَ والشام واليمن والعراق. وقوله: ﴿رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ أي: رزقناهم رزقًا من عندنا ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ يعني: أهل مكة (٥) ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنا فعلنا ذلك.
قال مقاتل: أي: إنهم يأكلون رزقي آمنون في حرمي، وهم يعبدون
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٤.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٨، ولم ينسب البيت. واستشهد به ابن جني "الخصائص" ٢/ ٤١٤، على تذكير المؤنث. واستشهد به كذلك الأنباري، "الإنصاف" ١/ ١٧٤، وفي حاشيته: الشاهد فيه: غره منكن واحدة، حيث أسند الفعل إلى اسم ظاهر حقيقي التأنيث، ولم يؤنث الفعل لوجود فاصل بين الفعل وفاعله وهو: منكن. ولم أقف على قائل البيت.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٦، عن ابن عباس بلفظ: ثمرات الأرض.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٤.
426
غيري (١). وقال ابن عباس. ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ قدر ربوبيتي وعظمتي (٢).
٥٨ - ثم خوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية فقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ معنى البَطَر في اللغة: الحيرة، والبطر في النعمة هو: أن تكثر عليه النعمة فيدْهشَ فيها، ولا يهتدي للشكر عليها (٣).
قال الليث: البطر: الحَيرة، يقال: لا يُبْطِرن جَهلُ فلانٍ حِلمكَ. أي: لا يُدْهشكَ عنه (٤). ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الكِبْر بطر الحق" (٥)، وهو أن يتحير في الحق فلا يراه حقًا (٦). هذا هو أصل معنى البطر.
وقال أبو إسحاق: البطر: الطغيان عند النعمة (٧). وبطر الحق على قوله: أن تطغى عند الحق؛ أي: تتكبر فلا تقبله.
وقال أبو علي الفارسي: البطر فيما قال بعض الناس: كراهة الشيء من غير أن يستحق أن يكره. وانتصاب المعيشة عند الفراء بنقل الفعل
(١) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٢) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٦، عن ابن عباس، في هذه الآية: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعقلون.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٣٦ (بطر). والدَّهَش: ذهاب العقل من الذَّهْل والوَلَه. "تهذيب اللغة" ٦/ ٧٧ (دهش).
(٤) كتاب "العين" ٧/ ٤٢٢ (بطر). ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٣٦.
(٥) جزء من حديث عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر" قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَة قَالَ: "إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَق وَغَمْطُ النَّاسِ". أخرجه مسلم ١/ ٩٣ في الإيمان" رقم ٩١. والترمذي ٤/ ٣١٧، كتاب البر، رقم ١٩٩٨.
(٦) "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٣٦ (بطر).
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٠.
427
وتحويله عنها، فإنه قال: نَصبُكَ المعيشةَ، كقوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] وكنَصْب قوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ [النساء: ٤] ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ [هود: ٧٧] وقد مر (١).
وقال الزجاج: نُصب ﴿مَعِيشَتَهَا﴾ بإسقاط في، وأُعملَ الفعلُ، وتأويله: بطرت في معيشتها (٢).
وهذا هو الوجه؛ لأن المعيشة لا تبطر، حتى يقال: كان الفعل لها، فنقل عنها: إنما يُبطر فيها (٣).
قال ابن عباس: حملهم البطر والأشر.
وقال مقاتل: بطروا وأشروا، وتقلبوا في رزق الله، فلم يشكروا نعمه (٤).
وقال عطاء: عاشوا في البطر، فأكلوا رزق الله، وعبدوا الأصنام (٥).
قوله تعالى: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قال مقاتل: لم تسكن بعد هلاك أهلها إلا قليلاً من المساكن، فقد سكن في
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٨. قال الواحدي في تفسير الآية ٤، من سورة النساء: قال الفراء والزجاج: المعنى فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق فنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا: أنت حسن وجهًا، والفعل في الأصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسَّرًا لموقع الفعل، ومثله: قررت به عينًا، وضقت به ذرعًا.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٠.
(٣) وهذا قول الثعلبي ٨/ ١٥٠ أ: أي: أشرف وطغت وكفرت بربها، وجعل الفعل للقرية، وهو في الأصل للأهل.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ، عن عطاء بن أبي رباح.
428
بعضها (١). وعلى هذا الاستثناء من المساكن، يعني: أن بعضها مسكون فيه. وهذا القول هو اختيار الفراء؛ قال: يقول: قليل منها سُكن، وأكثرها لم يسكن، وهي خَرِبَة (٢).
ورُدَّ عليه هذا بأن قيل: لو كان الاستثناء من المساكن، كان الوجه فيه الرفع، كقولك: القوم لم يُضرب إلا قليلٌ، ترفع إذا كان المضروب قليلاً، فإذا نصبت: كان القليل صفة للضرب أي: لم يُضرب إلا ضربًا قليلاً. وهذا معنى قول ابن عباس في هذه الآية؛ قال: لم يسكنها إلا المسافر، ومارُّ الطريق يومًا أو ساعة (٣). وعلى هذا التقدير: لم تسكن من بعدهم إلا سكونًا قليلاً. وهذا هو الصحيح معنًى ولفظًا؛ لأن منازل المهلَكين لم يعمر منها شيء، ولم تسكن بتة.
وقوله: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ أي: لِما خَلَّفوا بعد هلاكهم (٤)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ﴾ (٥) [مريم: ٤٠] وقد مر (٦).
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ يعني القرى الكفرة أهلها ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ أكثر المفسرين على أن المراد بأمَّها:
(١) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ. ونقل الرد على الفراء وقول ابن عباس: القرطبي ١٣/ ٣٠١.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ.
(٦) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة مريم. أي: نميت سكانها فنرثها ومن عليها؛ لأني أميتهم، وهذا كقوله: ﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: ٢٣] وذكرنا الكلام فيه.
429
مكة (١). وهو اختيار الفراء والزجاج (٢).
وعلى هذا القول المراد: القرى التي حول مكة، لا البعيدة عنها؛ لأن التي بعدت عنها لا تنتفع ببعث الرسول في مكة. ويكون المعنى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾ يا محمد ﴿مُهْلِكَ الْقُرَى﴾ التي حول مكة بكفرها في زمانك ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾ وهي مكة ﴿رَسُولًا﴾ أي: يبعثك رسولاً فتنذرهم، ثم بعثه الله إليهم رسولاً. وهذا قول قتادة في تخصيص القرى (٣).
وأظهر من هذا القول وأصح: أن القرى على عمومها، والمراد بأمها: أعظمها (٤). يقول: ما كان الله ليهلك القرى الكافرة حتى يبعث في أعظمها رسولاً ينذرهم. وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها؛ لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف، وأشراف القوم وملوكهم يسكنون المدائن الكبيرة، والمواضع التي هي أمُّ ما حولها. وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وقول الكلبي (٥).
قال (٦) ابن عباس: ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ [يريد: في أهلها،
(١) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٥. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩. قال: وإنما سميت أم القرى؛ لأن الأرض فيما ذكروا دحيت من تحتها. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٠. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٨.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٧.
(٤) وهو قول ابن قتيبة "غريب القرآن" ٣٣٤. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٧، عن الحسن: ﴿فِي أُمِّهَا﴾ قال: في أوائلها.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٩.
(٦) في نسخة (ج)، جاءت الجملة هكذا: وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، وقول الكلبي، وقال الكلبي قول ابن عباس. ففيها زيادة: الكلبي قول.
430
يعني: يسكن معظم أهلها. وقال الكلبي: ﴿فِي أُمِّهَا﴾] (١) يقول: في عظيمها (٢). وهو ما ذكرنا.
قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا (٣).
وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد بظلمهم أهلكتهم (٤). قال الكلبي: وظلمهم هاهنا: شركهم (٥).
وقال مقاتل: يقول: إلا وهم مذنبون. أي: لم نعذب على غير ذنب (٦). ونظير هذه الآية قوله: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٣١]. وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧].
٦٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال الكلبي ومقاتل: يعني كفار مكة، يقول: ما أُعطيتم من خير ومال ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ تتمتعون بها أيام حياتكم، ثم هي إلى فناء وانقضاء (٧).
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثواب والنعيم للمؤمنين ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أن الباقي أفضل من الفاني
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٢) "تنوير المقباس" ٣٢٩.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٨، مطولاً.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٩، وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٠ أ، ولم ينسبه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٧ ب و"تنوير المقباس" ٣٢٩.
الذاهب. قال ذلك ابن عباس ومقاتل (١).
وروي عن أبي عمرو: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ بالياء (٢). والمعنى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ يا محمد ذلك (٣).
٦١ - وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا﴾ قال مقاتل: يعني الجنة (٤). والمعنى: أفمن وعدناه على إيمانه وطاعته الجنة والثواب الجزيل ﴿فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ أي: مصيبه ومدركه (٥). والمعنى: فهو لاقيه ما وعد، وصائر إليه. ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كمن هو متمتع بشيء يفنى ويزول عن قريب (٦). ومتاع في موضع المصدر أي: متعناه تمتيع الحياة الدنيا، أي: تمتيعًا فيها بالمال والولد. والحياةُ الدنيا تنقطع عن قريب فينقطع تمتعه.
وقوله: ﴿ثُمَّ هُوَ﴾ أي: هذا المتمتع ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ النار (٧)، كقوله: ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ (٨) [الصافات: ٥٧] وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الروم: ١٦] يدل على هذا أن ابن عباس قال: يريد: من المعذبين. وقال: نزلت في حمزة، وأبي جهل.
(١) أخرج نحوه ابن جرير ٢٠/ ٩٦، عن ابن عباس، و"تفسير مقاتل" ٦٧ ب.
(٢) قرأ أبو عمرو وحده: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ بالياء والتاء، وقرأ الباقون بالتاء. "السبعة في القراءات" ٤٩٥، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٤. قال ابن الجزري: والأشهر عن أبي عمرو بالغيب. "النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٢.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ.
(٦) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٦، بمعناه.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٤.
(٨) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ.
وقال مقاتل: نزلت في محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأبي جهل (١).
وقال مجاهد: نزلت في حمزة، وعلي، وأبي جهل (٢). وهو قول القرظي (٣).
وقال الكلبي: نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل (٤).
وقال السدي: في عمار، والوليد بن المغيرة (٥).
وقال قتادة: نزلت في المؤمن والكافر (٦). وهو اختيار أبي إسحاق؛ قال: فالمؤمن آمن بالله ورسوله، وأطاعه ووقف عند أمره، فلقي جزاء ذلك الجنة، والذي متع متاع الحياة الدنيا الكافر؛ لم يؤمن بالله، ثم أُحضر يوم القيامة العذاب (٧).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ الكلام فيما يتعلق الظرف به هاهنا ذكرناه عند قوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١] (٨) وسنذكر
(١) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. وذكره الزجاج ٤/ ١٥٠، ولم ينسبه، وكذا الثعلبي ٨/ ١٥٠ أ، وصدره الواحدي في "أسباب النزول" ٣٣٩، بـ: قيل.
(٢) أخرجه عنه الواحدي "أسباب النزول" ٣٣٩.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٧، وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٠ أ.
(٤) في "تنوير المقباس" ٣٢٩، هو محمد عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، ويقال: هو عثمان بن عفان ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني: أبا جهل بن هشام.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٨. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٠ أ. وكذا الواحدي في "أسباب النزول" ٣٣٩.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٩٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٩٨.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٠. وهذا الاختيار حسن، ويدخل تحته جميع ما ذكره فإنها أمثلة للمؤمن والكافر.
(٨) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ قال أبو إسحاق: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى: اذكر يوم ندعو، =
ذلك أيضًا عند قوله: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ﴾ [فصلت: ١٩] إن شاء الله (١). والمعنى: ويوم ينادي الله المشركين.
قال مقاتل: يعني كفار مكة ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ في الدنيا أنهم شركائي (٢).
قال أبو إسحاق: هذا على حكاية قولهم، المعنى: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ في قولكم، والله -عز وجل- واحد لا شريك له (٣).
٦٣ - وقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ أي: حقت عليهم كلمة العذاب، وهم: الشياطين. في قول مقاتل (٤).
= قال: ويجوز أن يكون منصوبًا بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو، قال أبو علي الفارسي: الظرف هاهنا بمنزلة إذا؛ لأنه لا يجوز أن يكون العامل فيه ما قبله من قوله: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ﴾ لأنه فعل ماض، وليس العامل أيضًا يدعو؛ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف تعلق بما دلّ عليه قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾؛ كما أن قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٢] على تقدير: أإذا متنا بعثنا، كذلك هاهنا يجعل الظرف بمنزلة إذا، فيصير التقدير: إذا دُعي كل أناس لم يُظْلموا.
(١) لم أجد في تفسير الواحدي لهذه الآية شيئًا عن هذه المسألة التي أحال عليها.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ، ولم ينسبه. والآية عامة في جميع المشركين.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١، وتابعه على ذلك أبو قاسم الزجاجي، فقال. نسبهم إلى نفسه حكاية لقولهم، كأنه قال: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي. "اشتقاق أسماء الله" ٣٠٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٢، وابن جرير ٢٠/ ٩٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٠، عن قتادة، و"قال الزجاج ٤/ ١٥١: الجن والشياطين.
وقال ابن عباس في رواية الكلبي: هم رؤوس الضلالة (١).
﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا﴾ يعنون: كفار بني آدم. في قول مقاتل (٢).
وفي قول الكلبي: يعنون: الأتباع (٣). ومعنى ﴿أَغْوَيْنَا﴾: سوَّلنا لهم الغي والضلال (٤)؛ لأن التزيين إليهم، والله تعالى يهدي ويضل.
قوله تعالى: ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: أضللناهم كما ضللنا ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ﴾ منهم (٥). تتبرأ الشياطين ممن كان يطيعهم ويعبدهم، والرؤساء ممن كان يقبل منهم ويتبعهم في الدنيا. قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض، وصاروا أعداءً كما قال الله -عز وجل-: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ الآية (٦) [الزخرف: ٦٧]
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ﴾ أي: لكفار بني آدم (٧) ﴿ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ أي: استعينوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونها. أي: لينصروكم ويخلصوكم من العذاب.
﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ فلم يجيبوهم (٨). ونظير هذه الآية في: الكهف [٥٢]؛ قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ﴾ الآية (٩). {وَرَأَوُا الْعَذَابَ
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ، من قول الكلبي. و"تنوير المقباس" ٣٢٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٢٩.
(٤) "معانى القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١، بنصه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.
(٦) "معانى القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٨.
(٨) "معانى القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١.
(٩) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.
لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}. قال المفسرون وأهل المعاني: جواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، على تقدير: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة، ولما اتبعوهم (١).
٦٥ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ﴾ يعني: يسأل الله الكفار ﴿فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما كان جوابكم لمن أُرسل إليكم من النبيين؟.
٦٦ - ﴿فَعَمِيَتْ﴾ أي: فخفيت واشتبهت (٢) ﴿عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ﴾ قال مجاهد ومقاتل: الحجج (٣). و ﴿الْأَنْبَاءُ﴾ معناها: الأخبار (٤)، جمع نبأ. وسميت حججهم: أنباءً؛ لأنها أخبار (٥) يُخبر بها. قال ابن عباس: يريد: الأخبار والجواب، وجوابهم لو أجابوا كان خبرًا.
﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ لا يسأل بعضهم بعضًا عن الحجج؛ لأن الله أدحض حجتهم، وكلل ألسنتهم. قاله مقاتل (٦). وهو معنى قول قتادة: لا يحتجون (٧).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١، بنصه. و"تفسير مقاتل" ٦٨ أ، بنحوه.
(٢) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٩. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٨. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. وذكره البخاري عن مجاهد. "فتح الباري" ٨/ ٥٠٥. وأخرج عنه ابن جرير ٢٠/ ٩٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٠. وهو قول ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٤.
(٤) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٩. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ أ، بلفظ: الأخبار والأعذار والحجج.
(٥) في نسخة: (ج). أنباء.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. وفيه وأكلَّ ألسنتهم.
(٧) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ ب.
وقال ابن عباس: لا ينطقون؛ يعني: بحجة (١). وذلك أن الله تعالى قد أعذر إليهم في الدنيا ببعث الرسول، ونصب الأدلة، فلا يكون لهم حجة، ولا عذر يوم القيامة (٢).
قال الفراء: جاء في التفسير: عميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا، فذلك قوله: ﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ أي: في تلك الساعة (٣). وهو معنى قول الكلبي: لم يدروا ما يجيبون به من ذلك الهول حين سئلوا (٤)، ثم أجابوه بعد ذلك، يعني: ما ذكر عنهم مما يجيبون به في القيامة، كقولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ونحو ذلك.
٦٧ - ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: من الشرك ﴿وَآمَنَ﴾ صدق بتوحيد الله (٥) ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أدى الفرائض ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ من الناجين الفائزين الذين سعدوا. قالوا جميعًا: و: (عسى)، من الله واجب (٦).
٦٨ - قوله: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ قال المفسرون:
(١) نسبه لابن عباس القرطبي ١٣/ ٣٠٤.
(٢) ذكر نحوه ابن جرير ٢٠/ ٩٩، ولم ينسبه. قال ابن جرير: وقيل: معنى ذلك: فعميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا فهم لا يتساءلون في حال سكوتهم.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٢٩، بلفظ: لا يجيبون.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٩، ولم ينسبه. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠١، نحوه عن ابن عباس.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩. ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠١، عن ابن عباس. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٩، ولم ينسبه.
437
نزلت هذه الآية جوابًا للمشركين حين قالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ﴾ الآية، [الزخرف: ٣١] ومعناه: ويختار ما يشاء لنبوته ورسالته (١). أي: فكما أن الخلق إليه، فهو يخلق ما يشاء، فكذلك الاختيار إليه في جميع الأشياء، فيختار مما خلق ما يشاء، ومن يشاء. ثم نفى الاختيار عن المشركين؛ وذلك أنهم اختاروا الوليد بن المغيرة من مكة، أو عروة بن مسعود من الطائف، اختاروا إما هذا أو ذاك للرسالة، فقال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ أي: الاختيار. أي: ليس لهم أن يختاروا على الله -عز وجل- (٢).
قال ابني قتيبة: أي: لا يرسل الله الرسل على اختيارهم (٣).
و ﴿الْخِيَرَةُ﴾ اسم من [الاختيار، يقام مقام المصدر، والخيرة: اسم للمختار] (٤). يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ويجوز التخفيف فيهما، ذكر ذلك الليث والفراء، وغيرهما (٥). وعلى هذا (مَا) تكون نفيًا، وهو الصحيح الذي عليه عامة المفسرين، وأصحاب القراءة؛ وذلك أن جميع أصحاب
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٠ ب، قال: هذا جواب لقول الوليد بن المغيرة: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٤، وأخرج ابن جرير ٢٠/ ١٠٠ وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠١، في هذه الآية عن ابن عباس: كانوا يجعلون خير أموالهم لآلهتهم في الجاهلية.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩. ولم أجد قول الليث في كتاب "العين"، وإنما ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٤٨ (خار)، وقول: يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ذكره الأزهري عن ابن السكيت.
438
الوقوف، ذكروا أن تمام الوقف على قوله: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ذكر ذلك نافع، ويعقوب، وأحمد بن موسى، وأبو حاتم، وعلي بن سليمان، ونصير، وغيرهم (١).
وذكر أبو إسحاق وجهًا آخر؛ فقال: ويجوز أن تكون: (مَا) في معنى: [الذي، فيكون المعنى:] (٢) ويختار الذي لهم فيه الخيرة، ويكون معنى الاختيار هاهنا: ما يتعبدهم به. أي: ويختار فيما يدعوهم إليه من عبادته ما لهم فيه الخيرة، قال: والقول الأول وهو: أن تكون (مَا) نفيًا أجود. انتهى كلامه (٣).
والقدرية ربما تتعلق بالوجه الثاني الذي ذكره أبو إسحاق؛ فيقولون:
(١) "القطع والائتناف" للنحاس ٢/ ٥١٤، بنصه. وذكره في "إعراب القرآن" ٣/ ٢٤١، عن علي بن سليمان. وذكر الداني أن كلا الوقفين تام، "المكتفى في الوقف والابتداء" ٤٣٩. واختار ذلك الثعلبي ٨/ ١٥٠ ب.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: أ، (ب).
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١، نقل النحاس عن علي بن سليمان: ولا يجوز أن تكون ﴿مَا﴾ في موضع نصب بـ ﴿وَيَخْتَارُ﴾؛ لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٤١، و"القطع والائتناف" ٢/ ٥١٥. وأما ابن جرير ٢٠/ ١٠٠، فقد جعل ﴿مَا﴾ في موضع نصب، بمعنى: الذي، وصحح هذا القول ونصره، ورد على من قال بالقول الأول؛ وهو أن ﴿مَا﴾ نافية. وخالفه في ذلك ابن كثير ٣/ ٣٩٧، وقال عن القول الذي اختاره ابن جرير: وقد احتج بهذا المسلك طائفة من المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح، ثم قال: والصحيح أنها نافية، كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وغيره أيضًا، فإن المقام في بيان انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير، والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا قال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً.
439
إن الله تعالى يريد بنا، ويختار لنا ما فيه الخيرة لنا، ويحتجون بالآية، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن حمل الآية على هذا الوجه إبطال لقول جميع المفسرين والقراء (١)؛ أما المفسرون فإنهم ذكروا سبب نزولها (٢)، وحَمْلُ الآية على الوجه الثاني يُبطل ما قالوا.
وأما القراء فكلهم وقفوا على قوله: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ولو كان الأمر على ما يذهبون إليه لم يصح الوقف على: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ وأيضًا فإن الكناية في قوله: ﴿لَهُمُ﴾ عن المشركين، يقول: ما كان للمشركين أن يختاروا على الله، فكيف يصح ما ذهبوا إليه.
وقال أبو جعفر النحوي: لو صح ما قالوه لكان وجه الكلام نصب ﴿الْخِيَرَةُ﴾ على خبر كان (٣)، ثم وإن صح على البُعد فتأويله ما ذكره الزجاج؛ وهو: أن هذا الاختيار يعود إلى ما اختار الله لعباده مما أمرهم به.
قال مقاتل: ثم نزه نفسه عن شركهم فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٤) وهذا يدل على أن الكناية في ﴿لَهُمُ﴾ عن المشركين خاصة.
(١) وقد ذكر أن في هذا ردًا على القدرية، علي بن سليمان. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٤١. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٢، عن أبي عون الحمصي، أنه إذا ذكر له شيء من قول أهل القدر، قال: أما يقرءون كتاب الله تبارك وتعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
(٢) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ٣٣٩، بقوله: قال أهل التفسير: نزلت جوابًا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله تعالى عنه: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم.
(٣) "القطع والائتناف" ٢/ ٥١٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.
440
ثم أخبر -عز وجل- بنفوذ علمه فيما خفي وظهر، فقال: ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾
٦٩ - ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ ما تستر قلوبهم من الكفر، والعداوة لله ورسوله ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من ذلك (١) بألسنتهم من الكفر والمعاصي. قال ذلك ابن عباس والكلبي ومقاتل (٢).
٧٠ - ثم وحد نفسه فقال: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾ قال مقاتل: يحمده أولياؤه في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة يعني: أهل الجنة (٣) ﴿وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ أي: الفصل بين الخلائق (٤).
وقال ابن عباس: يريد ما حكم لأهل طاعته من المغفرة والرحمة، وما حكم لأهل معصيته من الشقاء والويل (٥).
٧١ - قوله: ﴿قُلْ﴾ أي: لأهل مكة (٦) ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا﴾ السرمد: الدائم. في قول جميع أهل اللغة والمفسرين (٧).
(١) من ذلك. ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب. و"تنوير المقباس" ٣٢٩. أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٢، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ قال: يقول: ما عملوا بالليل والنهار.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٠٣.
(٤) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٠٢.
(٥) أخرج نحوه مطولًا ابن أبي حاتم ٢٠/ ٣٠٠٣، عن وهب بن منبه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٣، عن ابن عباس، ومجاهد، وكذا ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٣، وعن قتادة أيضًا. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٤، و"معانى القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٢، و"تهذيب اللغة" للأزهري ١٣/ ١٥٢ (سرمد). و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥١ أ.
قال أبو عبيدة. وكل شيء لا ينقطع من عيش، أو غمٍّ أو بلاء دائم، فهو سرمد (١).
وقال المبرد: يقال: هو يسهر سهرًا (٢) سرمدًا، إذا لم يكتحل فيه بغمض، ولا يكون السرمد ما يقع فيه فصل. قال المفسرون: دائمًا، لا نهار معه (٣).
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾ قال ابن عباس: بنور تطلبون فيه المعيشة (٤).
وقال أبو إسحاق: أي بنهار تبصرون فيه، وتتصرفون في معايشكم، وتصلح فيه ثماركم ومنابتكم؛ لأن الله -عز وجل- جعل الصلاح للخلق بالليل مع النهار، فلو كان واحد منهما دون الآخر هلك الخلق (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ أي: سماع فهم وقبول. يعني: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ هذه الحجة فتتدبرونها وتعملون بموجبها إذا كانت بمنطقة (٦) بأن ما أنتم عليه خطأ وضلال. وقال الكلبي: يقول: أفلا تطيعون من يفعل ذلك بكم (٧).
٧٢ - وقوله: ﴿تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾ قال ابن عباس: يريد: تأوون فيه إلى
(١) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٠٩.
(٢) سهرا. ساقطة، نسخة (ج).
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩.
(٤) ذكره القرطبي ١٣/ ٣٠٨، ولم ينسبه.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٢.
(٦) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وفي نسخة: (ج): بموجبها وكانت هذه الناطقة بأن..
(٧) "تنوير المقباس" ٣٣٠.
مساكنكم، كما تأوي الطير إلى وكورها (١).
وقال مقاتل: تستقرون فيه من النَّصَب (٢).
وقال أهل المعاني: امتن الله على عباده بالليل للسكون والراحة، ولا ليل في الجنة؛ لأن دار التكليف لابد فيها من التعب الذي يحتاج معه إلى الراحة والحمَّام (٣)، وليس كذلك دار النعيم؛ لأنه إنما يتصرف فيها بالملاذ.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة والظلم.
وقال الكلبي: أفلا تعقلون أنه ليس معه إله غيره يفعل ذلك بكم.
قال أصحابنا: الإتيان من دلائل إثبات صانع واحد، وذلك أنه كان يجوز في العقل دوام كون الظلمة، وكذلك الضياء، فلما تعاقبا دلا على صانع يكور أحدهما على الآخر، ولما كان تعاقبهما على حسابٍ معلوم في الزيادة والنقصان، لا يختلفان في عام منذ خلقا، دل ذلك على توحيد الصانع؛ إذ لو كان معه إله لأشبه أن يريدَ أحدُهما بقاءَ الليل حين يريد الآخر انقضاءه، وكذلك ضياء النهار، فيختلفان حينئذ في حسابهما.
٧٣ - ثم أخبر أن الليل والنهار رحمة فقال (٤): ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ قال الكلبي: ومن نعمته أن جعل لكم الليل والنهار (٥)
(١) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٣، عن السدي ﴿تَسْكُنُونَ﴾ تقرون فيه. وفي "تنوير المقباس" ٣٣٠: تستقرون فيه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٣) الحميم: الماء الحار، والحمَّام: مشتق منه، تذكَّره العرب. "تهذيب اللغة" ٤/ ١٥ (حمم).
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٢، بنصه.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٣٠
443
﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال ابن عباس: جعل لكم الليل لتأووا فيه مع أزواجكم، والنهار لتلتمسوا فيه من فضل الله.
وقال الكلبي: السكون بالليل، والتماس المعيشة بالنهار (١). وعلي هذا قال الفراء: تجعل الهاء في قوله: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ راجعة على الليل خاصة، وأَضمرتْ للابتغاء هاءً أخرى تكون للنهار، قال: وإن شئت جعلت الليل والنهار كالفعلين؛ لأنهما ظلمة وضوء، فرَجتْ الهاء في ﴿فِيهِ﴾ عليهما جميعًا، كما تقول: إقبالك وإدبارك يؤذيني؛ لأنهما فعل، والفعل يُرَدُّ كثيره وتثنيته إلى التوحيد، فيكون ذلك صوابًا (٢).
وذكر أبو إسحاق الوجهين أيضًا؛ فقال في الوجه الأول: المعنى: ﴿لِتَسْكُنُوا﴾ بالليل، وتبتغوا من فضله بالنهار، قال: وجائز: أن تسكنوا فيهما، وأن تبتغوا من فضل الله فيهما، فيكون المعنى: جعل الله لكم الزمان ليلاً ونهارًا ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ (٣).
وقال المبرد: السكون إنما هو في الليل، والابتغاء من فضله يكون بالنهار، ولكن لما عطف أحدهما على الآخر، أُخرجا مخرج الواحد الجامع للشيئين. ونظير هذا من الكلام: لئن لقيت زيدًا وعمرًا، لتلقين منهما شجاعة وفصاحة؛ على أن الفصاحة لأحدهما، والشجاعة لأحدهما.
وقوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي الذي أنعم عليكم بهما فتوحدونه. قاله مقاتل (٤).
(١) "تنوير المقباس" ٣٣٠.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٠.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
444
وقال ابن عباس. يريد: لكي تطيعوا (١).
٧٤ - وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي: تكذِبون في دار الدنيا بأنهم شركائي. قال ابن عباس: وكل: زَعَم، في كتاب الله فهو كَذَب. وتفسير هذه الآية قد مر آنفًا (٢).
قال أهل المعاني: وإنما كرر النداء بـ ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ تقريعًا بالإشراك بعد تقريع. وقيل: إن الأول تعزير بإقرارهم على أنفسهم بالغي الذي كانوا عليه، وهو قولهم: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا﴾ الآية، والثاني: تعجيز عن إقامة البرهان لَمَّا طولبوا به بحضرة الأشهاد، وهو:
٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ قال مقاتل: يعني: وأخرجنا، وشهيدها: رسولها الذي يشهد عليها بالبلاغ (٣)، وبما كان منها؛ في قول ابن عباس والمفسرين (٤).
قال ابن قتيبة: أي: أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم (٥). والإحضار معنى، وليس بتفسير. وهو لفظ أبي عبيدة (٦). وهذا كقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] وقوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [النحل: ٨٤] (٧).
(١) في نسخة: (أ): تطيعوه.
(٢) الآية: ٦٢، من السورة نفسها.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٤، عن مجاهد وقتادة. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٣. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥١ أ.
(٥) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٤.
(٦) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٠.
(٧) ذكر الآيتين، الثعلبي ٨/ ١٥١ أ.
وقوله: ﴿فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون وتقولون (١).
وقال مقاتل: حجتكم بأن معي شريكًا (٢).
وقال أبو إسحاق: أي هاتوا فيما اعتقدتم برهانًا، أي: بيانًا، إن كنتم على حق (٣).
قوله: ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ﴾ قال ابن عباس: فلم يجيبوا، وعلموا أن الذي جاءهم به رسلهم هو الحق. وقال مقاتل: فعلموا أن التوحيد لله ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ في الآخرة ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ في الدنيا أن مع الله شريكًا (٤). وافتراؤهم: ادعاؤهم الآلهة مع الله.
٧٦ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ قال ابن عباس: يريد: من بني إسرائيل، ثم في سبط (٥) موسى، وهو ابن خالته. وقال قتادة ومقاتل وإبراهيم: كان ابن عمه لخالته (٦)، كان قارون بن يصهر ابن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث (٧).
وقال ابن إسحاق: كان موسى ابن أخي قارون، وقارون كان عم
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٥) السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، والسبط في الشجرة، فالسبط الذين هم من شجرة واحدة. "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٢١٧.
(٦) في نسخة: (أ): لخالاته.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٦، عن النخعي، وقتادة. ونسبه الثعلبي ٨/ ١٥١ أ، لأكثر المفسرين.
446
موسى لأبيه وأمه؛ لأن عمران وقارون كانا ابني: يصهر بن قاهث (١).
وقوله: ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ أي: بكثرة ماله، كأنه جاوز الحد بالتكبر والتجبر عليهم. وهذا قول قتادة؛ قال: بغى عليهم بكثرة ماله وولده بالكِبْر والبذخ (٢). ونحوه قال مقاتل (٣).
وقال المسيب (٤): كان قارون عاملًا لفرعون على بني إسرائيل، فكان يبغي عليهم ويظلمهم (٥).
وقال الفراء: بغيه عليهم: أنه قال: إذا كانت النبوة لموسى، وكان المَذبح والقربان في يد هارون، فمالي (٦)؟ وهذا قول الكلبي؛ قال: إن قارون قال لموسى: يا موسى ألك النبوة، ولهارون الحُبورَة (٧)؟ ولستُ في شيء من ذلك، لا أصبر على هذا أبدًا (٨). وعلى هذا بغيه: طلبه ما ليس له
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٥، وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥١ أ. وهذا الاختلاف مما لا طائل تحته، ولا ترجى من ورائه فائدة، فقارون من قوم موسى كما أخبر الله تعالى عنه، فكونه من قرابته أم لا، لا يغير في المسألة شيئاً. والله أعلم.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٦، عن قتادة. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥١ أ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٤) المسيب هو: عيسى بن المسيَّب كما صرح به الثعلبي ٨/ ١٥١ أ، البجلي، قاضي الكوفة، روى عن قيس ابن أبي حازم، والشعبي والنخعي، ضعفه يحيى بن معين وغيره. "الكامل في ضعفاء الرجال" ٥/ ١٨٩٢، و"الجرح والتعديل" ٦/ ٢٨٨.
(٥) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥١ أ.
(٦) "معاني القرآن" للفراء٢/ ٣١٠.
(٧) ذكر الواحدي معنى الحبرة في سورة الروم، آية: ١٥ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ وسيأتى -إن شاء الله تعالى-.
(٨) "تنوير المقباس" ٣٣٠، وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٣ أ. في خبر طويل نسبه للعلماء بأخبار القدماء، ولم يسمهم.
447
أن يطلبه من مساواة الأنبياء في درجتهم.
وقال شهر بن حوشب في تفسير قوله: ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾: زاد عليهم في الثياب شبرًا (١). وهذا معنى القول الأول، لأنه يريد: تكبر عليهم وتجبر، وطولُ الثوب من علامات الكبر، ولذلك نُهي عنه (٢).
قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ قال الأخفش: يريد: الذي إن مفاتحه، وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه بـ: إن (٣). يعني: أنَّ (إِنَّ) هاهنا من صلة ما لا يبتدأ به هاهنا، فالوقف على (مَا) وإن كان (إِنَّ) من حروف الابتداء؛ لأن ما (٤) مع ما بعده من صلة الموصول (٥).
والمراد بالمفاتيح هاهنا: الخزائن في قول الأكثرين. وهو قول مقاتل
(١) أخرجه: "ابن جرير" ٢٠/ ١٠٦، و"ابن أبي حاتم" ٩/ ٣٠٠٦. وذكره عنه "الثعلبي" ٨/ ١٥١ ب.
(٢) في أحاديث كثيرة؛ منها حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". أخرجه مسلم ١/ ١٠٢، كتاب الإيمان، رقم: ١٠٦.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٤، بلفظ: إن الذي مفاتحه. وفي نسخة: (ب)، (ج): الذي إن مفاتحه، وفي نسخة: (أ): إن مفاتحه. بإسقاط: الذي. وذكر هذا المعنى ابن قتيبة، عن أبي صالح، "غريب القرآن" ٣٣٥.
(٤) ما: ساقطة من نسخة (أ)، (ج).
(٥) قال سيبويه: (إِنَّ) صلة لـ (مَا) كأنك قلت: ما والله. الكتاب ٣/ ١٤٦، وذكر أبو علي هذه الآية مثالاً لكسر: إن، إذا وقعت بعد الاسم الموصول. "الإيضاح العضدي" ١٦٣.
448
والضحاك وأبي صالح وأبي رزين؛ قالوا: ﴿مَفَاتِحَهُ﴾ خزائنه (١). وهذا كقِوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] يعني: خزائن الغيب (٢)، وقد مرَّ (٣).
وقال آخرون: المفاتح هاهنا جمع: مفتاح، وهو ما يفتح به الباب. وهو قول قتادة ومجاهد وخيثمة؛ قالوا: كانت مفاتيحه من جلود الإبل (٤). والأول اختيار الفراء والزجاج؛ قال: الأشبه في التفسير: ﴿إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾: خزائن ماله (٥).
وقال الفراء: ﴿مَفَاتِحَهُ﴾ خزائنه (٦). وأيضًا فإن المفاتح لو كان جمع مفتاح لكان وجه الكلام أن يقال: مفاتيح، وإن كان المفاتح جائزًا.
قال الليث: وجمع المفتاح (٧) الذي يفتح به المِغلاقُ: مفاتيح، وجمع المَفْتَح الخزانة: مفاتح (٨).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٧، عن أبي صالح، والضحاك، وأخرجه عن أبي رزين ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٧. و"تفسير مقاتل" ٦٨ ب. والزاهر في معاني كلمات الناس ١/ ٤٦٤، ولم ينسبه. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥١ ب، عن أبي صالح، وأبي رزين.
(٢) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٥.
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام: قال السدي والحسن: ﴿مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ خزائن الغيب. ونحو ذلك قال ابن عباس، والضحاك ومقاتل في المفاتح أنها: الخزائن.
(٤) وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١١٠. وذكره الزجاج ٤/ ١٥٤، ولم ينسبه. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥١ أ، عن مجاهد.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٠.
(٧) من هنا بدأ السقط في نسخة: (ج)، إلى الآية: ٧٩.
(٨) كتاب "العين" ٣/ ١٩٤ (فتح)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٤/ ٤٤٧.
449
وقوله: ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ معنى النَّوء في اللغة: النهوض بجهد ومشقة (١).
قال ذو الرُّمة يصف الفراخ:
يَنُوءنَ ولم يُكْسَيْنَ إلا منازعًا من الريش تَنْواءَ الفِصالِ الهَزائلِ (٢)
ويقال: ناء بحمله، إذا نهض به مثقلًا.
قال ذو الرمة:
تَنوءُ بأُخراها فَلأيًا قيامُها وتمشي الهُوينى عن قريبٍ فَتُبْهرُ (٣)
يريد: أنها تنهض بجهد لما في آخرها، وهي عجيزتها من اللحم. قال الأزهري: وأصل النَّوء: الميل في شِقٍ، أنشد الفراء:
حتى إذا ما التأمَتْ مَوَاصِلُه وناء في شِقِّ الشمالِ كاهلُه
يعني: الرامي لَمَّا نزع القوس مال في جانب الشمال (٤). وقيل لمن نهض بحمله: ناء به؛ لأنه إذا نهض به وهو ثقيل أناء الناهض، أي: أماله.
(١) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٣٦ (ناء).
(٢) معنى: ينوءن: ينهضن، يعني: الفراخ، ولم يكسين إلا منازعًا، أي: بقايا ريش، والهزائل: جمع هزيل، أي: مهزول. "ديوان ذي الرمة" شرح الخطيب التبريزي ٤٦٤.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٣٧ (ناء)، ونسبه لذي الرمة. وأنشده الثعلبي ٨/ ١٥١ ب، ولم ينسبه. ومعنى: تنوء: أي: تنهض بعجيزتها، وتنوء بها عجيزتها، فلأيا: أي: بعد بطء قيامها، وتبهر: تعيا، ومعناه: أن أخراها وهي عجيزتها تثنيها إلى الأرض لضخمها وكثرة لحمها. "ديوان ذي الرمة" شرح الخطيب التبريزي ٢٢١، ورواية الديوان: وتمشي الهوينى من قريب.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٠، ولم ينسب البيت، وفيه: الثمال، بدل: الشمال وهو تصحيف. وعنه ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٤٠ (ناء). بلفظ: الشمال. ومعنى البيت: أن الرامي لما نزع القوس مال على شقه.
450
وكذلك النجم إذا سقط مائلًا عن مغيبه الذي يغيب فيه (١). وذكرنا تفسير العصبة عند قوله: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: ٨، ١٤] (٢).
قال ابن عباس في رواية عطاء: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً، أقوى ما يكون من الرجال (٣).
وقال مجاهد: العصبة ما بين العشرة إلى خمسة عشر (٤).
وقال مقاتل: العصبة: عشرة نفر إلى أربعين (٥).
وقال الكلبي: ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين (٦).
وقال أبو صالح: العصبة أربعون (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٤٠ (ناء).
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال الفراء: العصبة من العشرة إلى الأربعين. وقال المبرد: العصبة الجماعة، وتعصب القوم إذا اجتمعوا على هيئة يشد بعضهم بعضًا، ومنه العصبة في النسب؛ وهم الذين يجمعهم التعصب، فمعنى: العصبة: جماعة متعاونة.
(٣) أخرج ابن جرير ٢٠/ ١٠٧، عن الضحاك: يزعمون أن العصبة: أربعون رجلاً ينقلون مفاتحه من كثرة عددها. وهو قول أبي صالح، ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥١ ب، وذكر عن الضحاك عن ابن عباس، أنه ما بين الثلاثة إلى العشرة.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٨. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥١ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٧، عن خيثمة، ومجاهد. واقتصر عليه ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٥، ولم ينسبه. وهو قول أبي زيد، "تهذيب اللغة" ٢/ ٤٦ (عصب).
(٦) "تنوير المقباس" ٣٣٠، بلفظ: ذوي القوة وهو أربعون رجلاً يحملون مفاتيح خزائنه.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٧، وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥١ ب. واختار هذا القول واقتصر عليه الأنباري "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ٤٦٤. ولم يذكر دليله على ذلك.
451
قال أبو إسحاق: والعصبة في اللغة: الجماعة الذين أمرهم واحد، يتابع بعضهم بعضًا في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض (١).
روى الأعمش عن خيثمة قال: كان إذا ركب قارون حملت المفاتيح على ستين بغلًا أغرَّ محجلًا (٢).
وقال أبو صالح: كانت تُحمل على أربعين بغلاً، وقيل: سبعون بغلًا (٣). ولست أدري كيف فسروا العصبة بالبغال، وهي في الرجال (٤)!
قال مقاتل في تفسير: ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ عن حمل خزائنه (٥).
وقال ابن عباس: ليثقلهم حمل المفاتيح (٦).
واختلفوا في وجه: ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾؛ فقال أبو زيد: يقال نؤت بالحمل أنوء به، إذا نهضت به. وناءني الحمل إذا أثقلني (٧). وهذا معنى قول
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥. وهذا أحسن ما يقال في تعريف العصبة.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٠٦، عن خيثمة من طريق الأعمش. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥١ ب. الغرة: البياض في وجه الفرس. "تهذيب اللغة" ١٦/ ٧٠ (غرر). والتحجيل: بياض في قوائم الفرس، تقول العرب: فرس مُحجَّل. "تهذيب اللغة" ٤/ ١٤٥ (حجل).
(٣) أخرج رواية الأربعين، ابن جرير ٢٠/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٨، وأخرج رواية السبعين، ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٨، بلفظ: سبعون رجلاً. فلعل بغلًا حرفت إلى: رجلاً.
(٤) وهذا نقد حسن، وكان الأولى الإعراض عن هذه الأقوال كلها. والله أعلم.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٦) ذكر البخاري عن ابن عباس، في قوله تعالى ﴿أُولِي الْقُوَّةِ﴾ قال: لا يرفعها العصبة من الرجال. "فتح الباري" ٨/ ٥٠٦.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥، و"تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٣٦ (ناء).
452
ابن عباس: ليثقلهم (١). وعلى هذا الباء في: ﴿بِالْعُصْبَةِ﴾ للتعدية. وشرح ذلك الفراء والمبرد؛ قال الفراء: نوؤها بالعصبة أن تثقلهم. والمعنى: ﴿إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ تَنيءُ العصبةَ، أي: تميلهم من ثقلها، فإذا أدخلت الباء قلت: تنوء بهم، كما قال الله تعالى: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦] والمعنى: ائتوني بقِطْر، فإذا حذفت الباء زدت على الفعل ألفا من أوله (٢).
وقال المبرد: مجازه في الحقيقة: ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ أي: تجعل العصبة تنوء؛ وهذا كقولك: قم بنا، أي: اجعلنا نقوم، واعدل بنا إلى فلان، وهذا محض كلام العرب. وأنشد لقيس بن الخطيم:
ديارَ التي كادت ونحن على مِنًى تَحُلُّ بنا لولا نَجاءُ الرَّكائبِ (٣)
أي: تجعلنا نحلها (٤). ونحو هذا قال أبو إسحاق: ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ لتثقل العصبة (٥).
وقال أبو عبيدة ومن وافقه: هذا مقلوب، إنما العصبة تنوء بالمفاتيح (٦)، وهذا قول الأخفش، وأنشد:
(١) ذكره البخاري عنه، معلقًا بصيغة الجزم ٨/ ٥٠٦.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٠.
(٣) أنشده ونسبه المبرد، "الكامل" ٢/ ٨١٣. وهو في ديوان قيس بن الخطيم ٧٧، وفي الحاشية: يقول: أنا نظرنا إليها ونحن سائرون، فلولا أن الإبل -لَمَّا شُغلنا بالنظر إليها- سارت ونحن لا نعلم لكنا قد نزلنا.
(٤) "الكامل" للمبرد ١/ ٤٧٥، ولفظه: العصبة تنوء بالمفاتيح، أي: تستقل بها في ثقل. وليس فيه إنشاد البيت.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥.
(٦) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٠. وذكره عنه الأنباري، في "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ٤٦٣، ولم يعلق عليه.
453
ما كنتَ في الحربِ العَوانِ مُغَمَّرًا إذْ شَبَّ حَرُّ وَقودِها أجزَالها (١)
والأجزال: هي شَبَّت الحرَّ، فجعل هذا مثل قولهم:
أوْ بلغتْ سؤاتُهم هَجَرُ (٢)
يريد: بلغت سؤاتهم هجر. قال الفراء: فإن كان سمع بهذا أثرًا فهو وجه، وإلا فإن الرجل جهل المعنى (٣).
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٤، ولم ينسب البيت. وأنشده ابن جرير ٢٠/ ١٠٩، ونسبه للأعشى. المغمر: الذي لم يجرب الأمور بعد، والأجزال، مفردها: جزل: الحطب اليابس، والبيت من قصيدة له يمدح فيها قيس ابن معد يكرب. "شرح ديوان الأعشى" ٢٥٩.
(٢) أنشده كاملاً الأخفش، "معاني القرآن" ١/ ٣١٨، ولم ينسبه، والبيت بتمامه:
مثل القنافذ هدَّاجون قد بلغت نجران أو بلغت سؤاتهم هجر
قال الأخفش: هو يريد أن السؤات بلغت هجرًا، وهجرُ رفع لأن القصيدة مرفوعة. وأنشده كذلك أبو عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ٣٩، ونسبه للأخطل، وقال: إنما السوءة البالغة هجرَ، وهذا البيت مقلوب. وعنه أنشده المبرد "الكامل" ١/ ٤٧٥، وقال: فجعل الفعل للبلدتين على السعة. ورواية الديوان:
على العِيارات هدَّاجون قد بلغت نجران أو حُدثت سواءتهم هجرُ
العيارات: جمع: عير، أي: الحمار، هدَّاجون: من هدج، أي: سار سيرًا ضعيفاً. والبيت في هجاء بني كُليب. "شرح ديوان الأخطل" ١٧٨.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٠، وذكر هذا القول بعد أن قال: وقد قال رجل من أهل العربية: إن المعنى: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه فحول الفعل إلى المفاتح. وقد رد على أن الآية من باب المقلوب ابن قتيبة، ولم يرتض أن يستشهد على ذلك بما وقع لبعض الشعراء؛ فقال: وهذا ما لا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله -عز وجل-، لو لم يجد له مذهبًا؛ لأن الشعراء تقلب اللفظ، وتزيل الكلام على الغلط، أو على طريق الضرورة للقافية، أو لاستقامة وزن البيت، ثم ذكر شواهد من الشعر على وقوع القلب فيها، ثم قال بعد ذلك: وأراد بقوله تعالى: ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ أي: تُميلها من ثقلها. "تأويل مشكل القرآن" ٢٠٠.
454
وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ﴾ قال مقاتل: بنو إسرائيل (١).
وقال الفراء: يعني موسى، وهو من الجمع الذي أريد به الواحد، كقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] وإنما كان رجلاً من أشجع؛ يقال له نعيم بن مسعود (٢).
قوله تعالى: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ قال المفسرون: لا تأشر ولا تمرح ولا تبطر ولا تفخر (٣). وأنشد أبو عبيدة في الفرح بمعنى البطر قول هُدبة (٤):
ولستُ بِمفْراحٍ إذا الدهرُ سَرَّني ولا جازعٍ من صَرْفِه المُتَقَلِب (٥)
وأنشد لابن أحمر:
ولا يُنسِيني الحَدَثانُ عِرْضي ولا أُلقِي من الفرحِ إلإزارا (٦)
(١) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١١، ولم يذكر الاسم. وقد ذكر الواحدي في تفسير الآية من سورة آل عمران ثلاثة أقوال؛ هذا أحدها، والثاني: ركب من عبد القيس، والثالث: المنافقون.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٨ ب. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١١. و"تأويل مشكل القرآن " ٤٩١، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥١ ب.
(٤) هُدْبة بن خَشرم بن كُرز، من بني عامر بن ثعلبة، من قضاعة، شاعر فصيح، راوية من أهل بادية الحجاز، قتل في المدينة قصاصًا نحو سنة ٥٠ هـ "الشعر والشعراء" ٤٦٤، و"الأعلام" ٨/ ٧٨.
(٥) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١١، ونسبه لهدبة. وأنشد البيت المبرد، في "الكامل" ٣/ ١٤٥٥، في قصة قتل هدبة قصاصًا، وبعد هذا البيت:
ولا أبتغىِ الشرَّ والشرُّ تاركي ولكنِّي متى أحملْ على الشرِّ أركبُ
وأنشده ولم ينسبه ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٥، وكذا الثعلبي ٨/ ١٥١ ب.
(٦) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١١، ونسبه لابن أحمر، وأنشده المبرد في "الكامل" ١/ ٥٩، ولم ينسبه، وفيه: ولا أرخي من المرح.
455
يعني من البطر والأشر. وقال ابن قتيبة وغيره: أراد: لا تأشر؛ لأن السرور غير مكروه (١).
وهذا نحو قوله: ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ (٢) [هود: ١٠] وقد مر (٣).
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ يعني: الأشرين البطرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. قاله مجاهد ومقاتل (٤).
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد: المستهزئين (٥). وهو معنى وليس بتفسيرة وذلك أن الاستهزاء من علامات البطر.
٧٧ - وقال أبو إسحاق: أراد لا تفرح بكثرة المال في الدنيا، لأن الذي يفرح بالمال يصرفه في غير أمر الآخرة. والدليل على أنهم أرادوا لا تفرح بالمال في الدنيا، قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ (٦) واطلب فيما أعطاك الله من المال (٧) والخير والنعمة والسعة:
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٥.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥١ ب.
(٣) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال ابن عباس: يفاخر أوليائي بما وسعت عليه. وهذا بيان عما يوجبه بطر النعمة من تناسي حالة الشدة، وترك الاعتراف بنعمة الله وحمده على ما صرف عنه من الضر مع المرح والتكبر على عباد الله.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١١، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠٩، عن مجاهد، و"تفسير مقاتل" ٦٨ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٢ أ، ولم ينسبه.
(٥) ذكر البخاري عن ابن عباس، معلقًا بصغية الجزم: ﴿الْفَرِحِينَ﴾ المرحين. "فتح الباري" ٨/ ٥٠٦. وكذا أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١١، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٠، ولم أجد فيهما الرواية التي ذكرها الواحدي.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥.
(٧) في نسخة (أ): الأموال. والمناسب الإفراد؛ لإفراد ما بعده.
456
الجنة. قاله ابن عباس ومقاتل (١).
والمعنى: اطلب فيما أنعم الله به عليك الجنة، وهو: أن يشكر الله، وينفق مما أوتي في رضا الله، يدل عليه قوله: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: العمل لله فيها بما يحب ويرضى.
وقال في رواية الأعمش: أي: تعمل فيها لآخرتك (٢).
وهو قول مقاتل ومجاهد وابن زيد؛ قالوا: لا تترك أن تعمل لآخرتك (٣)؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته (٤). ونحو هذا روى الوالبي عن ابن عباس (٥). وهو معنى ما روي عن علي: لا تنس صحتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة (٦).
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: العمل بطاعة الله نصيبه من الدنيا، الذي يثاب عليه في الآخرة (٧).
وقال قتادة: لا تنس الحلال من الدنيا؛ ابتغ الحلال (٨). والمعنى على
(١) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٠، من طريق الأعمش.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٠، عن مجاهد وابن زيد. وذكره عنهما الثعلبي ٨/ ١٥٢ أ. و"تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٥.
(٥) ذكره الثعلبي ٨/ ١٥٢ أ، من طريق الوالبي، علي بن أبي طلحة.
(٦) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٢ أ.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٠، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
(٨) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١١.
457
هذا: لا تترك أن تطلب فيها حظك من الرزق الحلال (١).
وقال الحسن: أُمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه، وُيقدَّم ما سوى ذلك لآخرته (٢). وعنه أيضًا في هذا المعنى: قَدِّم الفضل، وأمسك ما يُبلغك (٣) وعلى هذا المراد بالنصيب: قدر ما يكفيه، يقول: اترك ذلك، وقدِّم ما سواه. ونحو هذا روي عن ابن زاذان (٤).
قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يريد أطع الله واعبده كما أنعم عليك. وقال مقاتل: وأحسن العطية في الصدقة والخير ﴿كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ يقول: لا تبغ بإحسان الله إليك أن تعمل في الأرض بالمعاصي (٥).
وقال الكلبي: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ فتدعو إلى عبادة غير الله (٦). فلما أمروه أن يطيع الله في ماله، قال لهم (٧):
٧٨ - ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ قال أبو إسحاق: ادعى أنه أعطي المال لعلمه بالتوراة (٨).
(١) اقتصر عليه أبو عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١١١. وابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٥.
(٢) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٢ أ.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١١.
(٤) أخرجه الثعلبي ٨/ ١٥٢ أ، بسنده عن منصور بن زاذان، قال: قوتك وقوت أهلكْ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٦) "تنوير المقباس" ٣٣٠.
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٦.
458
وقال الفراء: على فضلٍ عندي، أي: كنت أهله ومستحقًا له (١) إذ أعطيته لفضل علمي (٢). ويروى أنه كان أقرأَ رجلٍ في بني إسرائيل للتوراة؛ فقال: إنما فضلني الله بهذا المال عليكم كما فضلني عليكم بالعلم (٣). وهذا معنى قول مقاتل: على خيرٍ عَلِمه الله عندي (٤).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ فكفر؛ يعني: كفر لَمَّا رأى أن المال حصل له بعلمه، ولم يَرَ ذلك من عطاء الله إياه، فكأنه أراد: بعلمه في التصرف، وأنواع المكاسب؛ ويدل على هذا المعنى ما روى علي بن زيد بن جُدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل (٥) أنه ذَكَر سليمان بن داود فيما أوتي من الملك، ثم قرأ قوله: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ [النمل: ٤٠] ولم يقل: هذا من كرامتي، ثم ذكر قارون فقال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ يعني أن سليمان -عليه السلام- رأى ما أُعطي فضلاً من الله عليه، وقارون رأى ذلك من نفسه (٦).
(١) في نسخة: (ج): ومستحقه.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١١. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٥، ولم ينسبه. وأخرج نحوه ابن جرير ٢٠/ ١١٣، عن ابن زيد، وكذا ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٢، وأخرج نحوه أيضًا عن السدي.
(٣) ذكره نحوه الثعلبي ١٥٢ أ، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٥) عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث الهاشمي، أبو محمد المدني، أمير البصرة، ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وجده صحبة، مجمع على ثقته، حدث عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وغيرهم -رضي الله عنهم- حدث عنه ابنه إسحاق، وعبد الله، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وآخرون. ت: ٧٩ هـ، وقيل غير ذلك. "سير أعلام النبلاء" ١/ ٢٠٠، و"تقريب التهذيب" ٤٩٨.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٨.
459
وقال الكلبي: قال ابن عباس: ﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ بصنعة الذهب (١).
قال الزجاج: والذي روي أنه كان يعمل الكيمياء لا يصح؛ لأن الكيمياء باطل لاحقيقة له (٢).
(١) "تنوير المقباس" ٣٣٠.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٦. وذكر الثعلبي ٨/ ١٥٢ أ، عن سعيد بن المسيب، أن قارون كان يعلم الكيمياء. والكيمياء: الحيلة والحذق، ويراد بها عند القدماء: تحويل بعض المعادن إلى بعض؛ فهو علم يُعرف به طرق سلب الخواص من الجواهر المعدنية، وجلب خاصة جديدة إليها؛ ولا سيما تحويلها إلى ذهب. وأما عند المحدثين فهو علم يبحث فيه عن خواص العناصر المادية والقوانين التي تخضع لها الظروف المختلفة، وبخاصة عند اتحاد بعضها ببعض. "المعجم الوسيط" ٢/ ٨٠٨. ولذلك تكلم عنها أهل العلم وذموا متعاطيها لما فيها من الغش والتدليس والخداع؛ إذ فيها يُشبه المصنوع بالمخلوق، وقصد أهلها أن يُجعل هذا كهذا فينفِّقونه، ويعاملون به الناس، وهذا من أعظم الغش.. ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم فالمصنوع من الكيمياء يستحيل ويفسد ولو بعد حين، بخلاف الذهب المعدني. "مجموع الفتاوى" ٢٩/ ٣٧٠.
وذكر شيخ الإسلام أنه ناظر أحد رؤوس هؤلاء المتعاملين بالكيمياء فكان بما اعترض به على شيخ الإسلام أن قال: إن قارون كان يعمل الكيمياء، فرد عليه الشيخ بقوله: وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لم يقله عالم معروف، وإنما يذكره مثل الثعلبي في تفسيره عمن لا يُسمي، وفي "تفسير الثعلبي" الغث والسمين، فإنه حاطب ليل، ولو كان مال قارون من الكيمياء لم يكن له بذلك اختصاص؛ فإن الذين عملوا الكيمياء خلق كثير لا يحصون، والله سبحانه قال: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ فإخبر أنه آتاه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، والكنوز إما أن يكون هو كنزها، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ الآيه، وإما أن تكون اطلع على كنائز مدفونه، وهو الركاز، وهذا لا ريب أنه موجود. "مجموع الفتاوى" ٢٩/ ٣٧٧.
ذكر الداوودي في "طبقات المفسرين" ٢/ ٩٦، أن لابن القيم كتابًا في بطلان =
460
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ﴾ قارون ﴿أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ﴾ بالعذاب ﴿مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ﴾ في الدنيا حين كذبوا رسلهم ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ للأموال (١).
قال ابن عباس ومقاتل: يريد نمروذ بن كنعان، الجبار، وغيره (٢).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ قال مجاهد: الملائكة لا تَسأل عنهم (٣) قد عرفتهم زرقًا، سود الوجوه (٤).
وقال الكلبي: لا يُسأل الكافر عن ذنبه، كل معروف بسيماه (٥). واختار الفراء هذا القول (٦)؛ فقال: يقول: يعرفون بسيماهم، كما قال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ﴾ الآية، [الرحمن: ٣٩] ثم قال: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] (٧). وهذا القول لا يصح؛ لأن سؤالهم عن ذنوبهم ليس لمعرفتهم وليعرفوا، ولو قيل: ولا يَسأل عن المجرمين، لصح المعنى الذي ذهبوا إليه. والصحيح ما قال قتادة؛ قال: إنهم يدخلون النار بغير
= الكيمياء من أربعين وجهًا. وذكر هذا الكتاب الشيخ بكر أبو زيد في كتابه: "ابن قيم الجوزية حياته وآثاره" ١٣٦، وأفاد أنه لم يقف على نسخة خطية لهذا الكتاب.
(١) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٣) من هنا بدأت النسخة: (ج)، بعد السقط الذي كان فيها.
(٤) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٢٠/ ١١٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٠١٣. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٢ ب.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٣٠.
(٦) القول، من نسخة (ج).
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١١. وذكره ابن قتيبة، في "معاني القرآن" ٣٣٥، ولم ينتقده.
461
حساب (١). فأما قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)﴾ [الحجر: ٩٢] فإنهم يُسألون سؤال تقريع وتوبيخ؛ كما قال الحسن في هذه الآية: لا يُسألون ليُعلم ذلك مِنْ قِبَلِهم، وإن سئلوا فسؤال تقريع وتوبيخ (٢).
وقال أهل المعاني: ﴿يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ سؤال من لعل له عذرًا يسقط لائمته (٣).
وقال مقاتل: يقول لا يُسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا، فإن الله قد أحصى أعمالهم الخبيثة وعلمها (٤). وعلى هذا القول الكناية في: ﴿ذُنُوبِهِمُ﴾ لا تعود [إلى المجرمين] (٥)، إنما تعود إلى مَنْ أهلك الله من القرون؛ وهو أيضًا ليس بالقوي.
٧٩ - قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ يعني بني إسرائيل ﴿فِي زِينَتِهِ﴾ قال مقاتل: يعني بالزينة: الشارة (٦).
قال عطاء عن ابن عباس: قالوا: البغال الشُّهْب (٧) حَمَل عليها
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٤، وابن جرير ٢٠/ ١١٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٣.
(٢) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٢ ب.
(٣) في نسخة: (أ)، (ب): عذرًا سقط عنه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٤، عن الضحاك. يقال: ما أحسن شَوَار الرجل، وشارَته، يعني: لباسه وهيئته. "تهذيب اللغة" ١١/ ٤٠٤ (شار).
(٧) الشهب في ألوان الخيل: أن تشق معظم لونه شعرة، أو شعرات بيض. "تهذيب اللغة" ٦/ ٨٨ (شهب).
462
الكواعب من الجواري (١)، وألبسهن ثياب الحمرة (٢).
وقال مجاهد: خرج بجوارٍ عليهن ثياب حمر، على بَراذينَ بيضٍ، عليها سرج حمر من أُرجوان (٣).
وقال قتادة: خرج على أربعة آلاف دابة، عليهم ثياب حمر، منها ألف بغلة بيضاء عليها قطائف الأُرجوان (٤).
وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سَرج من ذهب، عليه الأُرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل، عليهم وعلى دوابهم الأُرجوان، ومعهم ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحلي، والثياب الحمر، على البغال الشُّهب (٥).
قال أبو إسحاق: والأرجوان في اللغة: صبغ أحمر، وهو: ما روي
(١) الكواعب: هي التي نهد ثديها، إذا ارتفع عن الصدر، وصار له حجم. "اللسان" ١/ ٧١٩ (كعب) و (نهد) ٣/ ٤٢٩.
(٢) أخرجه نحوه ابن جرير ٢٠/ ١١٧، عن ابن عباس، من طريق عبد الله بن الحارث.
(٣) أخرجه نحوه ابن جرير ٢٠/ ١١٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٣، عن مجاهد. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٢ ب. والبراذين: جمع: بِرذُون، الدابة، والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العِراب. "اللسان" ١٣/ ٥١، وفي "المعجم الوسيط" ١/ ٤٨: البرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، من الفصيلة الخيلية، عظيم الخِلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحوافر.
والسَّرج: رَحْل الدابة. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٥٨٢ (سرج)، و"اللسان" ٢/ ٢٩٧. والأرجوان: شجر له زهر شديد العمرة، حسن المنظر، وليست له رائحة. "المعجم الوسيط" ١/ ٣١.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٤، وابن جرير ٢٠/ ١١٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٤.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٢ ب.
463
أنه كان عليهم وعلى خيلهم الديباج الأحمر (١). ونحو هذا قال إبراهيم والكلبي (٢)؛ وزاد الكلبي: خرج بثوب أخضر، كان الله أنزله على موسى من الجنة، فسرقه منه قارون.
وروى مبارك عن الحسن في قوله: ﴿فِي زِينَتِهِ﴾ قال ثياب صفر (٣). ونحو هذا روى عثمان بن الأسود عن مجاهد، قال: عليهم ثياب معصفرة (٤). وهو قول ابن زيد قال: خرج في سبعين ألفًا عليهم المعصفرات (٥).
قال مقاتل: فلما نظر مؤمنو أهل (٦) ذلك الزمان في تلك الزينة والجمال، تمنوا مثل ذلك، وهو قوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ لذو نصيب وافر من الدنيا (٧).
٨٠ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ قال ابن عباس: يريد الأحبار من بني إسرائيل (٨).
وقال مقاتل: ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بما وعد الله في الآخرة؛ قالوا للذين
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٦.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٥، عن إبراهيم النخعي. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٢ ب.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٤.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٣.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠١٤. وهذا كله مما لا دليل عليه؛ والأولى الإعراض عنه؛ إذ المقصود في الآية: أنه خرج على قومه في زينة بهرتهم.
(٦) أهل. ساقطة من نسخة: (ب).
(٧) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٨) ذكره عنه ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٤٣.
تمنوا مثل ما أوتي قارون: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ﴾ ما عند الله من الثواب والجزاء ﴿خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ﴾ صدَّق بتوحيد الله ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ وقام بالفرائض. أي: إن ذلك خير مما أعطي قارون في الدنيا (١).
﴿وَلَا يُلَقَّاهَا﴾ [قال مقاتل: لا يؤتاها يعني: الأعمال الصالحة (٢). وعلى هذا الكناية تعود إلى ما دل عليه قوله: ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ وقال الكلبي:] (٣) ولا يعطاها في الآخرة ﴿إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ على أمر الله، يعني: الجنة (٤). ودل عليها قوله: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ﴾ وقال الزجاج: ولا يُلقى هذه الكلمة، يعني قولهم: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ (٥) ﴿إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ على طاعة الله، وعن زينة الدنيا (٦).
وقال ابن قتيبة: ولا يوفق لها ولا يُرزقَها (٧). وهو قول الفراء؛ يقول: ولا يُلقَّى أن يقول: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ ﴿إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ (٨).
٨١ - قوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ ذكرنا معنى الخسف في سورة: سبحان (٩).
قال مقاتل وقتادة: فهو يتجلجل في الأرض كلَّ يوم قامةَ رجلٍ إلى يوم
(١) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٩ أ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٤) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٦.
(٦) ذكره بنصه الثعلبي ٨/ ١٥٣ أ.
(٧) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٦، وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١١١.
(٨) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١١.
(٩) عند قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ [٦٨].
القيامة (١).
وقال ابن عباس: خُسف به إلى الأرض السفلى (٢).
وقال مقاتل: لما خَسف الله بقارون، قالت بنو إسرائيل: إن موسى إنما أهلك قارون ليأخذ ماله وداره، فخسف الله بعد قارون بثلاثة أيام بدار قارون، وماله الصامت وانقطع الكلام (٣).
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يقول: لم يكن له جند يمنعونه من الله ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ من الممتنعين مما نزل به من الخسف (٤). والمنتصر: الذي قد بلغ حالة النُّصرَة (٥).
٨٢ - وقوله: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ﴾: صار أولئك الذين تمنوا ما رُزق من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني؛ وهو قوله: ﴿يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ﴾ الآية (٦).
قال سيبويه في هذه الكلمة: سألت عنها الخليل فزعم أنها: (وَيْ)، مفصولة من: (كأن)، وأن القوم تنبهوا، فقالوا: (وَيْ)، متندمين على ما
(١) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٠ عن قتادة. ومعنى: يتجلجل في الأرض: أي: ساخ فيها ودخل. "اللسان" ١١/ ١٢١ (جلل).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١١٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٠، بلفظ: الأرض السابعة.
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب. والصامت: الذهب والفضة. "تهذيب اللغة" ١٢/ ١٥٦، و"اللسان" ٢/ ٥٥ (صمت). وظاهر الآية أن الخسف به وبداره حصل في وقت واحد. والله أعلم.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١١٩. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٤٥ أ
(٥) النُّصرة: حسن المعونة. "تهذيب اللغة" ١٢/ ١٦٠ (نصر)، و"اللسان" ٥/ ٢١٠
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٦، بنحوه.
466
سلف منهم، وكل من يندم أو نُدِّم فإظهار ندامته أن يقول: (وَيْ) (١). وذكر الفراء في هذه الكلمة قولين؛ أحدهما قال: يذهب بعض النحويين إلى أنهما كلمتان؛ يريد: ويك أنه، أراد: ويلك، فحذف اللام وجعل أنَّ مفتوحة بفعل مضمر، كأنه قال: ويلك أعلم، فأضمر: أعلم.
قال الفراء: ولم نجد العرب تُعمل الظن والعلم بالإضمار، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: يا هذا أنك قائم، تريد: علمت أو أعلم (٢). وهو (٣) الذي ذكره قول قطرب (٤).
قال الفراء: وأما حذف اللام من: ويلك، حتى تصير: ويك، فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام، قال عنترة:
ولقد شَفَى نفسي وأبرأَ سُقمها قولُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقدِمِ (٥)
(١) "الكتاب" ٢/ ١٥٤. بمعناه. وذكره بنصه الزجاج ٤/ ١٥٦، والأزهري، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٦٥٣ (وي). والثعلبي ٨/ ١٥٤ ب. قال ابن قتيبة: وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هي كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، كأنه لا يفلح الكافرون، وقال: وي: صلة في الكلام. وهذا شاهد لقول الخليل. "تأويل مشكل القرآن" ص ٥٢٦.
(٢) نقل كلام الفراء ابن جرير ٢٠/ ١٢١، بلفظ: ولم نجد العرب تُعمل الظن مضمرًا، ولا العلم وأشباهه في: أنَّ، وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين، أو في آخر الكلمة، فلما أضمر جرى مجرى المتأخر؛ ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول: يا هذا، أنك قائم، ويا هذا أن قمت، تريد: علمت، أو أعلم، أو ظننت، أو أظن.
(٣) في النسخ كلها: وهو. ولعل المناسب: وهذا.
(٤) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٢، ونسبه لعنترة، وهو في "ديوانه" ٣٠. وأنشده أبو علي في المسائل الحلبيات ٤٤، ولم ينسبه. وأنشده ونسبه الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب. =
467
قال: وقد قال آخرون: إن معنى: ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ وي، منفصلة من: (كأن)، تقول للرجل: (وي)، أما ترى ما بين يديك؟ فقال الله تعالى: وي، ثم استأنف: كأن الله يبسط الرزق، وهي تعجب، (وكأن)، في مذهب الظن والعلم؛ وهذا وجه مستقيم، غير أن العرب لم تكتبها منفصلة، ولو كان على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن يكون كَثُر بها الكلام فوُصِلت بما ليست منه؛ كما اجتمعت العرب على كتابة: ﴿يَبْنَؤُمَّ﴾ [طه: ٩٤] فوصلوها لكثرتها (١). فعلى هذا ﴿وَيْكَأَنَّ﴾: تقرير، كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله، وأنشد النحويون جميعًا:
سَأَلَتاني الطلاقَ إذْ رَأتانِي قَلَّ مالي قد جِئتُماني بِنُكرِ
ويْكأنَّ مَنْ يكن له نَشَبٌ يُحـ ـبَبْ ومَنْ يفتقِرْ يعشْ عيشَ ضُرَّ (٢)
قال الفراء: وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول
= وأنشده ولم ينسبه، ابن جني، "الخصائص" ٣/ ٤٠. والشاهد فيه: حذف اللام من: ويلك، حتى تصير: ويك.
(١) حكى الداني كتابة ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ في الموضعين من سورة القصص، بوصل الياء بالكاف. "المقنع" ٧٦. وأما (ابنَ أم) فكتبت في كل المصاحف في الأعراف [١٥٠] ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ﴾ بالقطع، وفي طه [٩٤] كتبت متصلة ﴿يَبْنَؤُمَّ﴾. المقنع ٧٦.
(٢) أنشده سيبويه، ونسبه لزيد بن عمرو بن نفيل. "الكتاب" ٢/ ١٥٥، وفي الحاشية: سألتاني، يعني: زوجتيه اللتين ذكرهما في بيت قبله. وأنشده الأخفش ٢/ ٦٥٥، ولم ينسبه. والنَّشَب: المال والعقار. وأنشد البيت الثاني: أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ٢/ ١١٢، وابن قتيبة "تأويل مشكل القرآن" ٥٢٧، وابن جني، "الخصائص" ٣/ ٤١، ولم ينسبوه. وأنشد البيتين، ولم ينسبهما، الزجاج ٤/ ٥٧. والشاهد فيه: ويكأن، فهي عند سيبويه والخليل مركبة من: (وي): للتنبيه، و: كأن، للتشبيه، ومعناها: ألم تر.
468
لزوجها: أين ابنكَ ويلكَ؟ فقال. ويكأنه وراء البيت، معناه: أما ترينه وراء البيت (١)، وقال الكسائي: ﴿وَيْكَأَنَّ﴾ في التأويل: ذلك أن الله (٢). وهو مأخوذ من قول ابن عباس؛ فإنه قال في هذه الآية: قالوا: ذلك أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وعلى هذا هي كلمة تحقيق وابتداء. وهو قول الحسن.
وقال أبو عبيدة: سبيلها سبيل: ألم تر (٣).
وقال مجاهد وقتادة: معناها: ألم تعلم (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ قال ابن عباس: بالعافية والرحمة (٥).
وقال مقاتل: بالإيمان (٦) ﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ أي: الله تعالى (٧). ومن قرأ (لَخُسِفَ بِنَا) (٨) فإنه يؤول إلى الخسف في المعنى، غير أنه بني الفعل
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٢. وهذا النقل الطويل من أول قوله: وذكر الفراء في هذه الكلمة قولين إلى هنا، كله عن الفراء.
(٢) ذكر ابن قتيبة، أن الكسائي قال في معنى هذه الكلمة: ألم تر. "تأويل مشكل القرآن" ٥٢٦.
(٣) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٢. بلفظ: مجازه: ألم تر.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٤، وابن جرير ٢٠/ ١٢٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٢٠٢١، عن قتادة. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، عن مجاهد، بلفظ: ألم تعلم. واختاره ابن جرير. قال ابن قتيبة: وهذا شاهد لقول الكسائي، يعني به: ألم تر. تأويل مشكل القرآن ٥٢٧. وأما مقاتل فقال: يعني: لكن الله. "تفسير مقاتل" ٦٩ ب.
(٥) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٤٧، ولم ينسبه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب.
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٤.
(٨) قرأ عاصم في رواية حفص: ﴿لَخَسَفَ﴾ بالفتح، وقرأ الباقون: ﴿لخُسِفَ﴾ بضم =
469
للمفعول (١) ﴿وَيْكَأَنَّهُ﴾ أكثر المفسرين يقولون معناه: ألم تر أنه، و: أما ترى أنه (٢). قال الزجاج: وهذا مشاكل لتفسير الخليل؛ لأن قول المفسرين: أما ترى، تنبيه (٣).
﴿لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ قال ابن عباس: لا يسعد من كفر بالله (٤).
٨٣ - وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يريد الجنة (٥).
﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ قال مقاتل: تعظمًا في الأرض عن الإيمان (٦). ونحوه قال الكلبي: هو الاستكبار عن الإيمان بالله (٧). وقال ابن عباس: علوًا على خلقي في الأرض (٨). وهو: معنى قول سعيد ابن جبير: ﴿عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ بغيًا (٩).
= الخاء. "السبعة في القراءات" ٤٩٥، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٤، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٧٩، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٢.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٥.
(٢) "تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٢٠.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٧، بلفظ: فهذا تفسير الخليل، وهو مشاكل لما جاء في التفسير، لأن قول المفسرين هو تنبيه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب.
(٥) أخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٢، عن عكرمة، و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ١٢٢، ولم ينسبه. و"تفسير مقاتل" ٦٩ ب.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب.
(٧) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٨) أخرج ابن جرير ٢٠/ ١٢٢، عن عكرمة: العلو: التجبر.
(٩) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٢.
470
قال علي رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه شرَاك نعله فيدخل في هذه الآية: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾ (١). يعني أن من تكبر على غيره بلباس يعجبه، فهو ممن يريد علوًا في الأرض. وهو قول مسلم البَطِينِ: التكبر في الأرض بغير الحق (٢).
وقال الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانهم (٣).
قوله: ﴿وَلَا فَسَادًا﴾ قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله (٤). وقال مقاتل: عملًا بالمعاصي (٥). وهو قول ابن جريح (٦).
وقال عكرمة والبطين: هو أخذ المال بغير الحق (٧).
قوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد عاقبة المتقين الجنة (٨). وقال الكلبي: وهم الذين اتقوا الكبائر والفواحش (٩).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٣، قال ابن حجر: إسناده ضعيف. "الكافي الشاف" بحاشية الكشاف ٣/ ٤٢١. والشَّرَاك: سير النعل. "تهذيب اللغة" ١٠/ ١٧ (شرك).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٢. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، عنه، وعن ابن جريج ومقاتل وعكرمة.
(٣) هكذا في النسخ الثلاث: عند ذي سلطانهم. ورواية ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٣: عند ذوي سلطانهم.
(٤) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، وفي "تنوير المقباس" ٣٣١: بالنقش والتصاوير والمعاصي.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب. و"تأويل مشكل القرآن" ٤٧٦.
(٦) ذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٢، عن ابن جريج، وعكرمة، ومسلم البطين.
(٨) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٩) "تنوير المقباس" ٣٣١.
471
وقال قتادة: أي الجنة للمتقين (١). وهم الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
٨٤ - قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ مفسر في سورة: النمل (٢)، إلى قوله: ﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾ والمفسرون كلهم على أن المراد بالحسنة: شهادة أن لا إله إلا الله. وأن السيئة: الشرك.
وهو قول ابن عباس وعبد الله وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبي صالح وعطاء ومقاتل والجميع (٣).
قال أبو ذر: قلت يا رسول الله: لا إله إلا الله، من الحسنات؟ قال: "هي أحسن الحسنات" (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا (٥).
وقال مقاتل: يعني الذين عملوا الشرك ﴿إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٣. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب.
(٢) سورة النمل [٨٩، ٩٠].
(٣) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب. وانظر أقوالهم في تفسير ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٤.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٤، من طريق الأعمش، عن شِمْر بن عطية، عن رجل من التيم، عن أبي ذر. وأخرجه الإمام أحمد من طريق الأعمش عن شِمْر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله أوصني قال: "إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمسحها قال: قلت يا رسول الله: أمن الحسنات لا إله إلا الله قال: هي أفضل الحسنات". "المسند" ٨/ ١١٣، رقم: ٢١٥٤٣. وهذا إسناد لا يصح؛ لأن الأعمش، وهو سليمان بن مهران، مع كونه ثقة فإنه يدلس، "تقريب التهذيب" ٤١٤، رقم: ٢٦٣٠، ولم يصرح هنا بالسماع، وأما شِمْر بن عطية فهو صدوق، والواسطة بينه وبين أبي ذر -رضي الله عنه-، مجهول. والله أعلم.
(٥) تفسير ابن الجوزي ٦/ ٢٤٩، ولم ينسبه.
الشرك، فإن جزاء الشرك النار (١).
وقال ابن عباس: يريد ليس لعقابهم صفة ينتهي إليها عذابهم أعظم مما يوصف. والتقدير: إلا جزاء ما كانوا يعملون، وجزاء ما عملوا النار، على ما ذكره المفسرون.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾ قال ابن عباس: أنزل عليك القرآن (٢). ونحو ذلك قال مقاتل والمفسرون (٣).
قال أبو إسحاق: معنى ﴿فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾: أنزله عليك، وألزمك، وفرض عليك العمل بما يوجبه القرآن (٤). وتقدير الآية ما ذكره أبو علي؛ فقال: المعنى: فرض عليك أحكام القرآن، وفرائض القرآن. وعلى هذا: الآية من باب حذف المضاف، وقول المفسرين معنى وليس بتفسير؛ وذلك أن الذي فَرض عليه فرائض القرآن هو الذي أنزله، وفرض فرائضه بإنزاله، فقيل فيه: أنزل القرآن.
﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: مكة (٥). ونحو ذلك روى العوفي عنه (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب.
(٢) بنصه عند الفراء، وأبي عبيدة، ولم ينسباه. "معاني القرآن" ٢/ ٣١٣. و"مجاز القرآن" ٢/ ١١٢
(٣) لم أجده عند مقاتل، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٥، عن مجاهد. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، عن أكثر المفسرين، ولم يسمهم.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٧، قال ابن قتيبة: أي: أوجب عليك العمل به. "غريب القرآن" ٣٣٦.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٤ ب، من قول عطاء بن أبي رباح.
(٦) أخرجه البخاري، من طريق عكرمة، في التفسير، رقم ٤٧٧٣، "فتح الباري" =
473
وهو قول الكلبىِ ومقاتل؛ قالا: لما نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- الجُحفة (١) في مسيره إلى المدينة من مكة لما هاجر اشتاق إليها، وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، فقال جبريل: فإن الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ يعني إلى مكة ظاهرًا عليهم، فنزلت هذه الآية بالجُحفة، وليست مكية ولا مدنية (٢).
ونحو هذا روى الضحاك عن (٣) ابن عباس في نزول الآية بالجحفة (٤).
وروى عكرمة عن ابن عباس، ويونس عن مجاهد: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
= ٨/ ٥٠٩، وأخرجه النسائي، في كتاب التفسير ٢/ ١٤٧، رقم: ٤٠٦، عن عكرمة عن ابن عباس، وابن جرير ٢٠/ ١٢٥، من طريق عكرمة، وسعيد بن جبير. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، عن العوفي عن ابن عباس.
(١) الجُحفة: قرية كبيرة على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا على المدينة فميقاتهم ذو الحليفة. "معجم البلدان" ٢/ ١٢٩. وتوجد اليوم آثارها شرق مدينة رابغ بحوالي ٢٢ كم. "معجم المعالم الجغرافية" ٨٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٩ ب. و"تأويل مشكل القرآن" ٤٢٥، ونسبه لأبي صالح، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٦. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، عن مقاتل. ويعني بقوله: ليست مكية ولا مدنية: المكان، أما من ناحية التعريف الاصطلاحي فالراجح أن ما كان قبل الهجرة فهو مكي، وإن نزل خارج مكة، وما كان بعد الهجرة فهو مدني، وإن نزل خارج المدينة، والله أعلم. "البرهان في علوم القرآن" ١/ ٢٣٩، و"الإتقان في علوم القرآن" ١/ ١١.
(٣) في نسخة: (ب): عن مجاهد وابن عباس.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٦، من قول الضحاك. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٤ ب، عن الضحاك عن ابن عباس.
474
إلى مولدك: مكة (١). وهو قول الضحاك، واختيار الفراء (٢). وعلى هذا قيل لمكة: معاد؛ لأن معاد الرجل: بلده، وذلك أنه يتصرف في أسفاره، ثم يعود إلى بلده (٣).
وذكر الفراء وجهين آخرين؛ فقال: المعاد هاهنا، إنما أراد به حيثُ وُلدتَ، وليس من: العَود. قال: وقد يكون أن يجعل قوله ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ لَمصيرك إلى أن تعود إلى مكة مفتوحة لك (٤). فالوجه الأول: معنى المعاد: المولد. وهو قول أحمد بن يحيى. والوجه الثاني: المعاد: مصدر بمعنى: العود.
القول الثاني في المعاد، أنه: الجنة. وهو قول [أبي سعيد الخدري؛ قال: معاده: آخرته الجنة. ورواية السدي عن أبي صالح، و] (٥) سعيد بن جبير عن ابن عباس، ورواية ليث عن مجاهد (٦). وعلى هذا معنى المعاد: الموضع الذي يصير إليه. [فكل شيء إليه] (٧) المصير فهو: المعاد.
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٥، عن ابن عباس من طريق عكرمة وسعيد بن جبير، ومجاهد من طريق يونس بن عمر، وهو ابن أبي إسحاق. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٦، ونسبه لمجاهد.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٣. واقتصر عليه أبو القاسم الزجاجي، في كتابه: "اشتقاف أسماء الله تعالى" ٤٣٨.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ٤٢٥.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٦، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأخرجه عن السدي من طريق أبي صالح، وأخرجه عن مجاهد أيضًا. وأخرجه عن ابن عباس، أبو يعلى الموصلي ٢/ ٣٧٠، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" ٧/ ٨٨
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
475
ومصيره -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة إلى الجنة، فهي معاده.
القول الثالث في المعاد: أنه القيامة. وهو رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: يحييك يوم القيامة. وهو قول الحسن والزهري؛ قالا: معاده: الآخرة (١). واختاره الزجاج؛ فقال: أكثر التفسير: لباعثك، وعلى هذا كلام الناس: اذكر المَعَاد، أي: اذكر مبعثك في الآخرة (٢). وذُكر فيه قولٌ رابع: ﴿إِلَى مَعَادٍ﴾ إلى الموت؛ رواه الأعمش عن بعض أصحابه، عن سعيد بن جبير [عن ابن عباس، وروي ذلك أيضًا عن أبي سعيد الخدري] (٣).
وأهل المعاني اختاروا القول الثاني؛ وقالوا: المعنى: إنه يعود في النشأة الثانية إلى الجنة.
وتم الكلام عند قوله: ﴿إِلَى مَعَادٍ﴾ ثم ابتدأ كلامًا آخر فقال: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى﴾ قال مقاتل: هذا جواب لكفار مكة لما كذبوا محمدًا، وقالوا له: إنك في ضلال، فأنزل الله: ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى﴾ [وأنا الذي جئت بالهدى، وهو أعلم بـ ﴿مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ نحن
(١) أخرجه عنهما عبد الرزاق ٢/ ٩٤، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٤، عن عكرمة وعطاء ومجاهد والحسن والزهري، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٦، عن ابن عباس، من طريق عكرمة، وعن مجاهد، وقتادة.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٨.
(٣) ما ببن المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب). وأخرج هذا القول ابن جرير ٢٠/ ١٢٥، عن ابن عباس، وسعيد ابن جبير، وأخرجه أيضًا عن ابن عباس، من طريق الأعمش عن سعيد بن جبير، وكذا ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٥، عن ابن عباس، من طريق الأعمش عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة ومجاهد مثله. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٥ أ، عن سعيد بن جبير، وابن عباس.
476
أم أنتم (١)، وهذا كقوله: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى﴾] (٢) [﴿مِنْ عِندِهِ﴾] (٣) وقد تقدم في هذه السورة (٤). و (مَنْ) هاهنا في موضع نصب، بإسقاط الخافض منه.
٨٦ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: أن يوحى إليك القرآن (٥).
وقال الكلبي: ما كنت ترجو أن تكون نبيًا (٦).
وقال مقاتل: أن ينزل عليك القرآن، يذكره النعم (٧).
وقوله: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ قال ابن عباس: يريد: رحمةً مني سبقت لك، وأنت في صلب آدم.
وقال مقاتل: يقول: كان الكتاب رحمة، يعني: نعمة من ربك، حين اختُصِصت بها يا محمد (٨).
قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع؛ ومعناه: وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم، تتلوها على أهل مكة، ولم تحضرها ولم تشهدها إلا أن ربك رحمك (٩).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (أ)، (ب).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب).
(٤) عند الآية: ﴿وَقَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ [٣٧].
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٧، عن ابن عباس، والحسن.
(٦) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٨) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٩) "معانى القرآن" للفراء ٢/ ٣١٣.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ﴾ معينًا للكافرين على دينهم (١). قال مقاتل: وذلك حين دُعي أن يرجع إلى دين آبائه، فذكَّره الله النعمة، ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه، وأمره بالتحذر منهم بقوله:
٨٧ - ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآن ﴿بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ إلى معرفته وتوحيده (٢). ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ قال ابن عباس: هو مخاطبة لأهل دينه (٣). يعني أن هذا الخطاب وإن كان ظاهره له فالمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم (٤)، وكذلك قوله:
٨٨ - ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ أي: لا تعبد معه غيره (٥). قال ابن عباس: هذا تخويف للمشركين، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد عصمه الله من أن يتخذ معه إلهًا [آخر. أي: لا تعبد معه غيره. قال ابن عباس:] (٦) يريد: أنه إذا نُهي عن عبادة غير الله، كان ذلك تخويفًا لمن عبد معه غيره. وهذا فائدة النهي عن عبادة غيره بعد أن عُصم عن ذاك، وحكم له بالنبوة في سابق الحكم.
ثم وحَّد نفسه فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (٧) قال
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٣) ذكره ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٥١، ولم ينسبه.
(٤) وليس في توجيه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعن فيه، بل في ذلك غاية التحذير من الوقوع فيما نُهي عنه، لأنه إذا وجه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عن الشرك، وعبادة غير الله تعالى، فغيره من باب أولى، وأنه لا عذر لأحد في ذلك. والله أعلم.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
478
ابن عباس: يريد: إلا ما أريد به وجهه (١). وهو قول الكلبي؛ قال: كل عمل لغيره فهو هالك، إلا ما كان له (٢).
وقال سفيان: إلا ما أريد به وجه الله من الأعمال (٣). وهو اختيار الفراء، وأنشد قول الشاعر:
استغفر الله ذنبًا لستُ مُحصِيه ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ
أي: إليه أوجه العمل (٤).
فعلى هذا وجهُ الله ما وُجِّه إليه من الأعمال. والمعنى ما ذكره الكلبي.
وقال مقاتل: يقول كل شيء من الحيوان ميت، ثم استثنى نفسه بأنه حي لا يموت؛ فقال: ﴿إِلَّا وَجْهَهُ﴾ يعني: إلا هو (٥).
ونحو هذا روي عن مجاهد (٦)، واختاره الزجاج؛ فقال: ومعنى:
(١) ذكره البخاري، ولم ينسبه، وصدره بقوله: ويقال. "فتح الباري" ٨/ ٥٠٥. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٨، عن مجاهد. واقتصر على هذا القول النيسابوري، في "وضح البرهان" ٢/ ١٥٨، ولم ينسبه.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٨.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٤. ولم ينسب البيت. وأنشده سيبويه ١/ ٣٧، ولم ينسبه، وفي الحاشية: البيت من الأبيات الخمسين التي استشهد بها سيبويه، ولا يعرف قائلها. وذكره ابن جرير ٩/ ١٢٧، بعد أن قال: وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما أريد به وجهه، واستشهدوا لتأويلهم ذلك بقول الشاعر، فذكر البيت، ولم ينسبه. وفي الحاشية: وهو شاهد عند النحاة على أن أصله: أستغفر الله من ذنب، ثم أسقط الجار فاتصل المجرور بالفعل فنصب مفعولًا به. وأنشده ابن جني، "الخصائص" ٣/ ٢٤٧، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ. وهو قول أبي عبيدة "مجاز القرآن" ٢/ ١١٢. وهذا أقرب إلى ظاهر الآية، والله أعلم.
(٦) الذي روي عن مجاهد كما سبق: إلا ما أريد به وجهه.
479
﴿إِلَّا وَجْهَهُ﴾ إلا إياه (١). وعلى هذا: الوجه، صلةٌ في الكلام. وقال ابن كيسان: إلا ملكه (٢).
والوجه يجوز أن يكون عبارة عن: المُلك؛ لأن الوجه من الوجاهة، والمَلِك مِنْ أوجه الناس، فسمي المَلِك وجهًا. وهذا معنى قول الضحاك في هذه الآية: كل شيء هالك إلا الله، والجنة، والنار، والعرش. والاختيار: القول الأول، وهو الذي يليق بمعنى الآية (٣).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٨، واقتصر عليه ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ٢٥٤، ٤٨٠.
(٢) ذكره البخاري، ولم ينسبه. "الفتح" ٨/ ٥٠٥.
(٣) إن كان المقصود من هذا إنكار صفة الوجه لله -عز وجل- فهذا قول باطل؛ فالوجه من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق. "أضواء البيان" للشنقيطي ٦/ ٤٥٧. والقول بأن المراد بالوجه في الآية ما أريد به وجه الله من الأعمال قول صحيح، لا ينافي القول الأول فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله -عز وجل- من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية، وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. "تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٦٢. لكن لا يجوز أن يُفهم من القول الثاني إنكار صفة الوجه؛ وكلام الواحدي يُشعر بذلك، حيث قال الواحدي بعد ذكره مؤيدًا له: وهو الذي يليق بمعنى الآية. وصرح الواحدي بنفي صفة الوجه في تفسير: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦، ٢٧] قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أي: ربك الظاهر بأدلته ظهور الإنسان بوجهه. "الوسيط" ٤/ ٢٢١. وفي "البسيط" ذكر القول الذي اقتصر عليه في "الوسيط"، وزاد قولاً آخر؛ وهو: ويبقى ربك، وهو السيد المعظم، والوجه يذكر بمعنى الشيء المعظم، كقولهم: هذا وجه القوم، ووجه التدبير، أي: التدبير المعظم. ولا يجوز أن يكون الوجه هاهنا صلة لقوله: ﴿ذُو﴾ بالرفع وهو من صفة الوجه، ولو كان الوجه صلة لقيل: ذيَ، ليكون صفة لقوله ربك. أهـ
وهذا التعليل الذي ذكره الواحدي وصرف به الآية عن ظاهرها ليس بوجيه فإن =
480
وقوله: ﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ قال الكلبي: له الحكم في الآخرة (١)، يعني: له الفصل بين الخلائق دون غيره ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم (٢)، ويقضي بينكم (٣).
= ﴿ذُو﴾ صفة للوجه الذي أضيف إلى الله -عز وجل-، فعبر بالوجه عن الذات. قال ابن كثير ٦/ ٢٦١، في تفسير آية القصص: إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله هاهنا: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ أي: إلا إياه.
(١) "تنوير المقباس" ٣٣١.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ أ.
(٣) في نهاية النسخة: (ج)، كتب: تم الجزء السابع من كتاب "البسيط" في التفسير، تصنيف: الإمام: الواحدي، ويتلوه الجزء الثامن، سورة العنكبوت، على يد الفقير إلى رحمة ربه: محمد علي محمد الأنصاري، في رابع ربيع الآخر، سنة سبع وستمائة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد رسوله وصحبه وسلم تسليما. ا. هـ.
481
سورة العنكبوت
483
Icon