تفسير سورة القصص

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة القصص من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي نقرأُ عليكَ خَبَرَ موسَى وفِرعَوْنَ بالصِّدقِ بينَهما، ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي تَجَبَّرَ وتَكَبَّرَ في أرضِ مِصْرَ ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ﴾ ؛ أي فِرَقاً وأصْنَافاً في الخدمةِ والتَّسخيرِ ؛ يُكْرِمُ قَوماً وَيُذِلُّ آخَرِين. وقولهُ تعالى :﴿ يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ ﴾ ؛ يعني بنِي إسرائيلَ، ثُم فَسَّرَ ذلكَ فقال :﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾ ؛ يقتلُ الأبناءَ ويتركُ البناتِ فلا يقتُلُهنَّ. وَقِيْلَ : معناهُ : يذبحُ أبناءَهم صغاراً ويُبقِي نساءَهم للخِدْمَةِ.
وسببُ ذلك : أنَّ بعضَ الكَهَنَةِ قالوا له : إنَّ مولُوداً يولَدُ في بني إسرائيلَ يكون سَبباً لذهاب مُلْكِكَ. قال الزجَّاج :(وَالْعَجَبُ مِنْ حُمْقِ فِرْعَوْنَ إنْ كَانَ ذلِكَ الكَاهِنُ عِنْدَهُ صَادِقاً فَمَا يَنْفَعُ القتلُ؟! وَإنْ كَانَ كَاذِباً فَمَا مَعْنَى الْقَتْلِ؟). وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ ؛ يعني بالقَتْلِ والعملِ بالمعاصي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي نريدُ أن نُنْعِمَ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وهم بنو إسرائيلَ، ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ﴾ ؛ يُقتَدَى بهم في الخيرِ. قال قتادةُ :(وُلاَةً وَمُلُوكاً) ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾[المائدة : ٢٠] ﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ ؛ لِمُلكِ فرعونَ، ولِمساكنِ قومه، يَرِثُونَ ديارَهم وأموالَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي يُمَكِّنُهم ما كانَ يَملكُ فرعون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ ﴾ ؛ أي ما كانوا يَخافُونَهُ من هذا المولودِ الذي به يذهبُ مُلْكُهم على يدَيهِ، وذلك أنَّهم أُخبرُوا أنَّ هلاكَهم على يدَي رَجُلٍ من بني إسرائيلَ، فكانوا على وَجَلٍ منهم فأرَاهُم اللهُ تعالى ﴿ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ ﴾ أي ما كانوا يَخَافُونَ من جهَتِهم من ذهاب مُلكِهم على أيديهم.
وقرأ الأعمشُ وحمزةُ والكسائيُّ وخلف :(وَيُرِي فِرْعَوْنُ) بالياء وما بعدَهُ رفعاً على أنَّ الفعل لَهم، وقرأ الباقونَ بالنُّون مضمومة وما بعده نصبَ بوقوعِ الفعلِ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ ؛ لَم يُرِدْ بالوحي وحيَ الرِّسالة، وإنَّما أراد الإلْهَامَ كما في قولهِ تعالى﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾[النحل : ٦٨]. ويقالُ : أرَاهَا اللهُ في المنامِ فعرفته بتفسير الرُّؤيا. وقال بعضُهم : أتاها ملائكةٌ خاطَبُوها بهذا الكلامِ. واسمُ أُمِّ موسى نُوخَابدُ بنتُ لاَوي بنِ يعقوبَ.
قال وهبُ بن منبه :(لَمَّا حملَتْ أُمُّ موسَى بموسَى كتَمَتْ أمرَها عن جميعِ النَّاسِ فلم يطَّلِعْ على حَملِها أحدٌ مِن خلقِ الله تعالى، فلما كانت السَّنةُ التي ولِدَ فيها موسَى بَعَثَ فرعون القوابلَ يُفَتِّشْنَ النساء، وحَمَلتْ أمُّ موسى ولَم يَنْتَأْ بطنُها، ولَم يتغيَّر لونُها، ولَم يظهر لبَنُها، وكانت القوابلُ لا تتعرضُ لَها، فلما كانت الليلةُ التي وُلِدَ فيها ولدَتْهُ أُمُّهُ ولا رقيبَ عليها ولا قابلةَ، لَم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ إلاّ أختهُ).
ثُم أوحَى اللهُ إليها : أنْ أرْضِعِيْهِ، ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ ﴾ ؛ قال : فكتمَتْهُ ثلاثةَ أشهُرٍ ترضعهُ في حِجرِها لا يبكِي ولا يتحرك، فلما خافَتْ عليه عمِلَتْ له تَابُوتاً مطبقاً ومهدت له فيه، ثم ألقتْهُ في البحرِ ليلاً كما أمرَها اللهُ، فلما أصبحَ فرعونُ جلسَ في مجلسهِ على شاطئِ النِّيلِ، فبَصُرَ بالتابوتِ، فقالَ لِمن حولَهُ : ائْتُونِي بهذا التابوتِ، فأتُوا به، فلما وُضِعَ بين يديه فتحوهُ، فوجدوا فيه موسَى، فلما نَظَرَ إليه فرعونُ إغتاظَ وقالَ : كيف أخطأَ هذا الغلامَ الذبحُ؟!
وكان لفرعونَ امرأةٌ يقال لَها آسيَةُ مِن خِيَار النِّساءِ من بنات الأنبياءِ، وكانت أُمّاً للمسلمينَ ترحَمُهم وتتصدَّقُ عليهم، فقالت لفرعونَ وهي قاعدةٌ إلى جَنبهِ : هذا الولدُ أكبرُ من ولد سنةٍ وأنتَ إنَّما أمَرتَ أن تذبحَ الولْدَانَ بهذه السَّنةِ، فدَعْهُ يكون قُرَّةَ عَيْنٍ لِي ولكَ، لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنَا أوْ نَتَّخِذهُ وَلَداً، فقال فرعونُ لَها : عسَى أن ينفعَكِ، فأما أنَا فلا أريدُ نفعَهُ.
قال وهبُ :(لو قالَ فرعون كما قالَتِ امرأتهُ : عَسَى أنْ يَنْفَعَنَا ؛ لنفعَهُ اللهُ به، ولكنه أبَى أن يقولَ للشَّقاءِ الذي كتبَهُ الله عليهِ، فتركَهُ فرعونُ ولَمْ يَقتُلْهُ)
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ أي أرْضِعِيهِ ما لَم تَخَافِي عليه الطلبَ، فإذا خِفْتِ عليه الطلبَ ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ ﴾ أي في البحرِ، فقالت : يَا رَب، إنِّي أخافُ عليه حِيتَانَ البحرِ، فَأُمِرَتْ أنْ تجعلَهُ في تابوتٍ مُقَيَّرٍ، فذهبت إلى النَّجَّارِ، فَأَمرَتْهُ أن يصنعَ لَها تابوتاً على قدرهِ، فعرفَ ذلك فذهبَ إلى الْمُوَكَّلِيْنَ بذبحِ بني إسرائيل لِيُخبرَهم بذلك، فلما انتهَى إليهم أُعْقِلُ لسانهُ فلم يُطِقِ الكلامَ، فجعلَ يشيرُ بيدهِ فلم يفهَمُوا، فقال كبيرُهم : اضْرِبُوهُ ؛ فضربوهُ وأخرَجوهُ، فلما انتهَى النجَّارُ إلى موضعهِ رَدَّ اللهُ عليه لسانَهُ، فرجعَ إليهم ليخبرَهم فاعتقَلَ لسانهُ، فجعلَ يشيرُ إليهم بيدهِ، فلم يَفْهَمُوهُ فضربوهُ، ففعلَ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فعرفَ أنه من عندِ الله تعالى، فَخَرَّ للهِ ساجداً وأسلَمَ، ثُم صَنَعَ التابوتَ وسَلَّمَهُ إلى أُمِّ موسى فوضعتْهُ فيه وألْقَتْهُ في النِّيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي ﴾ ؛ أي لاَ تَخافِي من الغرقِ والْهَلاَكِ، ولا تَحزَنِي لفراقهِ، ﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ إلى فرعونَ وقومهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا ألْقَتْهُ أُمُّهُ فِي الْبَحْرِ أقْبَلَ تَهْوِي بهِ الأَمْوَاجُ حَتَّى اختار مَنْزِلَ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَتْ جَوَاري فِرْعَوْنَ تَسْقَينْ الْمَاءَ، فَأَبْصَرَتِ التَّابُوتَ بَيْنَ الشَّجَرِ وَالْمَاءِ فَأَخْرَجَتْهُ وَذَهَبَتْ بهِ إلَى امْرَأةِ فِرْعَوْنَ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾.
وقولهُ تعالى :﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ ؛ هذه (لام) العاقبةِ لأنَّ أحداً لا يلتقطُ الولدَ ليكون له عدُوّاً، ونظيرُ هذا قولُهم : لِدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَاب. وقولهُ تعالى ﴿ وَحَزَناً ﴾، قرأ أهلُ الكوفةِ إلاّ عاصماً بضمِّ الحاءِ وجزم الزَّاي وهما لُغتان، مثل السَّقَمِ والسُّقْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ ﴾ ؛ أي متعمِّدين في الإقامةِ على الكُفْرِ والمعصية، يقالُ : خطأَ فُلانٌ يُخْطِئُ خَطأً إذا تعمَّدَ الذنبَ وأخطأَ إذا وَقَعَ منهُ على غيرِ الصَّواب، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كانُوا آثِمينَ عاصِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ﴾ ؛ وذلكَ أنَّ فرعون هَمَّ بقَتْلِهِ، فقالت له امرأتهُ : ليس من أولادِ بَنِي إسرائيلَ، وقد أتانَا اللهُ به من أرضٍ أُخرَى، ﴿ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا ﴾، فلاَ تقتُلْهُ أيُّها الملكُ، فهو قُرَّةُ عَيْنٍ لِي ولكَ، وعسَى أن ينفعَنا في أمورنا، ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ ؛ أنَّ هلاكَهم على يديهِ، وَقِيْلَ : وهم لا يشعرونَ أنِّي أفعلُ ما أريدُ ولا أفعلُ ما يَهْوُونَ، أنَّ هلاكَهم على يديهِ، وَقِيْلَ : وهم لا يشعرونَ أنِّي أفعلُ ما أريدُ ولا أفعلُ ما يَهْوُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ ﴾ مشتقٌّ من القُرُور ؛ وهو الماءُ الباردُ، ومعنى قولِهم : أقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ ؛ أي أبردَهُ معكَ ؛ لأن دمعةَ السُّرور باردةٌ، ودمعةَ الحزنِ حارَّةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً ﴾ ؛ أي أصبحَ قلبُ أمِّ موسى وهي نُوخابدُ بنتُ لاوي بنِ يعقوبَ فَارغاً من كلِّ شيءٍ إلاّ عن هَمِّ موسَى وذِكرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ ؛ أي لولاَ أنْ شَدَدْنَا على قلبها بالصبرِ عن إظهار ذلكَ، ﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي مِن المصدِّقين بما سبقَ من الوعدِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ﴾[القصص : ٧] ولو أظهرَتْ لكان ذلك سَبَباً لقتلهِ.
والرَّبْطُ على القلب : هو إلْهَامُ الصَّبرِ وتقويتهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : وأصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارغاً من الصَّبرِ على فِرَاقِ موسَى لولاَ أنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبهَا لأَبْدَتْ بهِ. وَقِيْلَ : فَارغاً من الْحُزْنِ لعِلْمِها بأنه لَم يعرفْهُ. قرأ فُضَالَةُ بنُ عبيدٍ (وَأصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً) بالزَّاي والعينِ من غير ألِفٍ من الفَزَعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ ؛ أي قالت أُمُّ موسَى لأُختهِ - واسْمُها مَرْيَمُ - : ابْتَغِي أثَرَهُ وَانظُرِي أين وقعَ ؛ لتَعْلَمِي خبرَهُ وإلى مَن صارَ، فذهبَتْ في إثرِ التَّابوتِ، ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ ﴾ ؛ بموسى، ﴿ عَن جُنُبٍ ﴾ ؛ أي عن بُعْدٍ قد أخذوهُ، ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ ؛ أنَّها قد جاءَتْ لتعرِفَ عن خبرهِ.
وقال ابنُ عبَّاس :(الْجُنُبُ أنْ يَسْمُو بَصَرُ الإنْسَانِ إلَى الشَّيْءِ الْبَعِيْدِ وَهُوَ إلَى جَنْبهِ لاَ يَشْعُرُ بهِ) وكانت مُجانبةً لتحديقِ النَّظر إليه كَيلاَ يعلم بما قصدَتْ به. وقال قتادةُ :(كَانَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّهَا لاَ تُرِيْدُهُ)، وكان يقرأُ (عَنْ جَنْبٍ) بفتحِ الجيم وسُكون النُّون. وقرأ النُّعمان بن سالِم :(عَنْ جَانِبٍ) أي عن ناحيَةٍ ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أنَّها أُخْتُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ الْمَرَاضِعُ جمعُ مُرْضِعَةٍ، وقولهُ تعالى :﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبلِ مَجِيء أُمِّهِ، ومعنى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ﴾ أي مَنَعْنَاهُ، وقد يذكرُ التحريم بمعنى المنعِ، قال الشاعرُ : جَاءَتْ لِسُرْعَتِي فَقُلْتُ لَهَا اصْبرِي إنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُأي مُمْتَنِعٌ.
وذلك أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن يَرُدَّهُ إلى أُمِّهِ، فَمَنَعَهُ من قَبولِ ثَدْي المراضعِ، فلما تَعَذرَ عليهم رضَاعُهُ ؛ ﴿ فَقَالَتْ ﴾ ؛ أُخته :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ﴾ ؛ أي يَضْمَنُونَ لكم القيامَ به ورضَاعَهُ، ﴿ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ ؛ أي يُشفِقُونَ عليه وينصَحُونه، قالوا لَها : مَنْ ؟ قَالَت : أُمِّي، قالوا : ولأُمِّكِ لبَنٌ ؟ قالت : نَعَمْ ؛ لبنُ أخِي هارونَ، وكان هارونَ وُلِدَ في سنَة لا يُقتَلُ فيها صبيٌّ، فقالوا : صَدَقْتِ. فدلَّتْهُم على أُمِّ موسى، فدُفِعَ إليها لتُربيَهُ لَهم.
فلما وَجَدَ الصبيُّ ريْحَ أُمِّهِ قَبلَ ثديَيْها وأتَمَّها اللهُ ما وعدَها وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ ﴾ ؛ على فِرَاقهِ، ﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ ؛ برَدِّ ولدِها إليها، ﴿ حَقٌّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنَّ اللهَ وعدَها برَدِّ ولدِها إليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ﴾ ؛ قال مجاهدُ :(بَلَغَ أشُدَّهُ ؛ أيْ ثَلاَثاً وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً)، ﴿ وَاسْتَوَى ﴾ أي بَلَغَ أربعينَ سَنَةً، وهو قولُ ابنِ عبَّاس وقتادةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾ يعني الفِقْهَ والعقلَ والِعْلمَ في دينهِ ودِين آبائهِ، قد تعلَّمَ موسَى وحَكَمَ قبلَ أن يُبْعَثَ نبيّاً. وقال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا بَلَغَ مُوسَى أرْبَعِيْنَ سَنَةً آتَاهُ اللهُ النُّبُوَّةَ). وَقِيْلَ : الأَشُدُّ : منتَهَى الشبَّاب والقُوَّةِ، والاستواءُ : إتْمَامُ الْخَلْقِ واعتدالُ الجسمِ في الطُّول والعِظَمِ، وإنَّما يبلغُ المرء هذا الحدَّ في اثنين وعِشرين سنةً إلى أربعينَ سَنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ فيهِ بيانُ أنَّ إنشاءَ العلمِ والحكمة يجوزُ أن يكون على الإحْسَانِ ؛ لأنَّهما يؤَدِّيان إلى الجنَّةِ التي هي جزاءُ الْمُحسِنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ﴾ ؛ أي دخلَ مُوسَى مدينةَ فرعون وهي مدينةٌ يقالُ لَها منف، وكانت مِن مِصْرَ على فَرْسَخَيْنِ. وقولهُ تعالى :﴿ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾، قال ابنُ عبَّاس :(فِي وَقْتِ الظَّهِيْرَةِ عِنْدَ الْمَقِيْلِ وَقَدْ خَلَتِ الطُّرُقُ).
وَقِيْلَ : ودخلَها بين المغرب والعِشَاء، وَقِيْلَ : دخلَها يومَ عيدِهم وكانوا مشغولِين عن موضعِ مدينَتِهم باللَّهْوِ واللَّعب، ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ ﴾ ؛ أي مِن بَنِي إسرائيلَ، ﴿ وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ ؛ أي من القِبْطِ، وكان القبطيُّ يُسَخِّرُ الإسرائيليَّ ليحمِلَ له حَطَباً إلى مَطبَخِ فرعون، والإسرائيليُّ يَأْبَى ذلكَ، ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ ﴾ ؛ أي اسْتَنْصَرَهُ الإسرائيليُّ، ﴿ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾، على القِبْطِيِّ، ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى ﴾ ؛ أي ضَرَبَهُ بجمعِ كفِّهِ في صدرهِ، ﴿ فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ ؛ أي قَتَلَهُ فوقعَ القبطيُّ مَيِّتاً. وكلُّ شيءٍ فَرَغْتَ منهُ وأتْمَمْتَهُ فقد قَضَيْتَ عليهِ وقَضَيْتَهُ، والوَكْزُ : الضَّرْبُ بجمعِ الكَفِّ.
وكان مُوسَى عليه السلام قد أُوْتِيَ بَسْطَةً في الْخَلْقِ وشدَّةَ القوةِ والبطش، وكان مِن نِيَّةِ موسى أنه لا يريدُ قَتْلَهُ ولَم يتعمَّدْ هَلاكَهُ، بل قَال له أوَّلاً : خَلِّ سَبيْلَهُ، فقال : إنَّما أريدهُ ليحمِلَ الحطبَ إلى مطبخِ فرعونَ، ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ أي قَتَلَهُ وفَرَغَ من أمرهِ، والوَكْزُ واللَّكْزُ وَالْهَز بمعنى واحدٍ وهو الدَّفْعُ، ويقالُ : وَكَزَهُ بعَصَاهُ.
فَلَمَّا قَتَلَهُ موسَى عليه السلام نَدِمَ على قتلهِ وقالَ : لَمْ أدْر بهذا، ثُم دفعَهُ في الرَّمْلِ، ﴿ قَالَ هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ ؛ لأنِّي كنتُ لا أريدُ قَتْلَهُ، ولكن هَيَّجَ الشيطانُ حَرْبي حتى ضربتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي عَدُوٌّ لبَنِي آدمَ مُضِلٌّ له مُبيْنٌ عداوتَهُ لَهم.
ثُم استغفرَ مُوسَى رَبَّهُ فـ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ ؛ بقَتْلِ القبطيِّ قَبْلَ وُرودِ الأمرِ والإذنِ لِي فيهِ، ﴿ فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ ؛ أي بما أنعمتَ عليَّ بالمغفرةِ والحِلْمِ والعلمِ فلن أكونَ عَوْناً للكافرينَ، وهذا يدلُّ على أنَّ الإسرائيليَّ الذي أعانَهُ موسى كان كَافِراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ ﴾ ؛ أي أصبحَ مِن عند ذلك اليوم في تلك المدينة التي فَعَلَ فيها ما فعلَ خائفاً على نفسهِ من فرعون وقومهِ ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ أي ينظرُ عاقبةَ أمرهِ، والتَّرَقُّبُ : انتظارُ المكروهِ ؛ أي ينتظرُ سوءاً ينالهُ منهم، ﴿ فَإِذَا ﴾ ؛ ذلكَ الإسرائيليُّ، ﴿ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ﴾ ؛ أي يستغيثهُ على رجلٍ آخر من القِبْطِ، ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي ضَالٌّ عن طريقِ الحقِّ بَيِّنُ الجِدَالِ، يقاتلُ مَن يقاومهُ، وقد قتلتُ أمس في سبَبكَ رجُلاً، وتدعونِي اليومَ إلى آخرَ.
ُثُم أقبلَ موسى وهمَّ أن يبطُشَ الثانيةَ بالقبطيِّ، ظَنَّ الإسرائيليُّ أنه يريدُ أن يبطشَ به لقولهِ ﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ فقال الإسرائيليُّ : يا موسى أتريدُ أن تقتُلَني كما قتلتَ نفساً بالأمس ؟ ولَم يكن أحدٌ مِن قومِ فرعون عَلِمَ أنَّ موسى هو الذي قَتَلَ القبطيَّ حتى أفشَى عليه هذا الإسرائيليُّ، وسَمع القبطيُّ ذلك فأتَى فرعونَ فأخبرَهُ، وذلك معنى قولهِ تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ ﴾ ؛ وكان أيضاً هذا القبطيُّ الثانِي سَخَّرَ الإسرائيليَّ يحمِلُ عليه حَطباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي ما تريدُ إلاَّ أن تكون قَتَّالاً في أرضِ مصرَ بالظُّلم. قال الزجَّاجُ :(الْجَبَّارُ فِي اللُّغَةِ : الَّذِي لاَ يَتَوَاضعُ لأَمْرِ اللهِ، وَالْقَاتِلُ بغَيْرِ حَقٍّ جَبَّارٌ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ ؛ أي مِن الذين يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنْهَوُنَ عن المنكرِ. فلمَّا سَمع القبطيُّ مقالةَ الإسرائيليِّ عَلِمَ أنَّ موسى هو الذي قَتَلَ القبطيَّ بالأمسِ، ولَم يكن أحدٌ عَلِمَ ذلكَ قَبْلَ هذا فانطلقَ القبطيُّ فأَخبرَ فرعون، فأرسلَ فرعونُ إلى أولياءِ المقتول أنِ اقتُلُوا موسَى.
قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَآءَ رَجُلٌ ﴾ ؛ مِن شيعة موسى، ﴿ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ﴾ ؛ أي مِن آخرِها إلى مُوسَى فأخبرَهُ بذلكَ، وقولهُ تعالى :﴿ يَسْعَى ﴾ ؛ أي يَمشي على رجلَيْهِ مُسرِعاً وهو حزقيل بن صوريا مؤمنٌ من آلِ فرعون، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ له :﴿ يامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ ؛ أي أنَّ الْخَوَاصَّ مِن قومِ فرعونَ يتشَاورُونَ في قتلِكَ، ﴿ فَاخْرُجْ ﴾ ؛ مِن المدينةِ، ﴿ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ ؛ وقال الزجَّاج :(يَأْتَمِرُونَ أيْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بقَتْلِكَ). فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِيْنَ في أمري لكَ بالخروجِ، ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً ﴾ ؛ أي خرجَ موسى من المدينةِ، ﴿ يَتَرَقَّبُ ﴾ ؛ أي ينظرُ متى يُلْحَقُ فيُؤْخَذُ، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ عندَ ذلك :﴿ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي مِن فرعونَ وقومهِ أين يذهب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ ﴾ ؛ أي لَمَّا سارَ نَحوَ مِدْيَنَ، وكان قد خرجَ بغيرِ زاد ولا حِذاءٍ ولا ركوبةٍ، بل خرجَ هَائِماً على وجههِ هارباً من فرعونَ وقومهِ لا يدري أينَ يذهبُ، فخافَ أن يُخطِئَ الطريقَ. ومَدْيَنُ اسمُ ماءٍ لقوم شُعيب، وبينَهُ وبين مصرَ ثَمانيةُ أيَّامٍ، سُمي ذلكَ الماءُ باسم مَدْيَنَ بنِ إبراهيمَ عليه السلام.
فلمَّا لَم يكن لِموسى علمٌ بالطريق خَشِيَ أن يذهبَ يَميناً وشِِمالاً فـ ﴿ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ ﴾ ؛ أي يُرشِدَنِي قصدَ الطريقِ إلى مَدْيَنَ، فلمَّا دَعَا موسى بهذا جاءَهُ مَلَكٌ على فَرَسٍ فانطلقَ به إلى مَدْيَنَ. قال المفسِّرون : خرجَ موسَى من مصرَ بلا زادٍ ولا درهَمٍ ولا رُكوبَةٍ إلى مَديَنَ، وبينهما مسيرةُ ثَََمان ليالٍ، ولَم يكن له طعامٌ إلاّ ورقَ الشَّجرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ ﴾ ؛ أي بلغَ بئْرَهُمْ التي كانوا يَسْقُونَ منها، قال ابنُ عبَّاس :(وَرَدَ مَاءَهُمْ وَأنَّهُ لَيَرَى خُضْرَةَ الشَّجَرَةِ فِي بَطْنِهِ مِنَ الْهُزَالِ). وقولهُ :﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ ؛ أي وجَدَ على ذلك الماءِ جماعةً من الناسِ يَسْقُونَ أغنامَهم مواشِيهم، ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ ﴾ ؛ أي تَحْبسَانِ غنمَهما عن الماءِ حتى تفرغَ الناسُ ويخلو لَهما الماءُ، وهما بنْتَا شُعيب.
والذوْدُ في اللغة : الطَّرْدُ والدفعُ والكَفُّ، ومعنى ﴿ تَذُودَانِ ﴾ تَدْفَعَانِ وتكُفَّان الغنمَ مِن أن يخلطَ بأغنامِ الناس، وحتى يقربَ الماءُ إلى أن يفرغَ القومُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ ؛ أي قالَ موسَى لابنَتَي شُعيب :﴿ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ أي ما شَأنُكُمَا لا تسقِيَانِ غنمَكُما مع الناسِ ؟ ﴿ قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ ﴾ ؛ قرأ الحسنُ وابن عامر وأبو عمرو بفتح الياء وضَمِّ الدال، جعلُوا الفعلَ للرِّعَاءِ ؛ أي حتى يرجعَ الرِّعَاءُ عنِ الماء، وقرأ الباقون (يُصْدِرُ) بضَمِّ الياءِ وضمِّ الدال ؛ أي حتى يُصْدِرُوا مواشيهم من وردِهم، فيخْلُوا لنا الموضعَ فنَسقِي أغنامَنا فَضْلَ ما في الحوضِ. والرِّعَاءُ جمعُ رَاعٍ.
قال ابنُ اسحقَ :(قَالَتَا : نَحْنُ امْرَأتَانِ لا نَسْتَطِيْعُ أنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ ؛ لا يقدرُ أن يسقِي ماشيتَهُ من الكِبَرِ والضَّعْفِ، وليس له أحدٌ غيرُنا، فلذلك احتَجْنا ونحنُ نساءٌ أن نسقي الغنمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ ؛ فلما سَمِعَ موسَى قولَهما رحِمَهُما، فقامَ ليسقِي لَهما غنمَهما، فوجدَ بقُربهما بئراً أُخرى على رأسِها صخرةٌ عظيمة لا يطيقُ رفعَها إلاَّ جماعة من الناسِ، فاقتلَعَها وحدَهُ ثُم أخذ الدَّلو من القوم، فأدلاَها في البئرِ، ونزعَها في الحوضِ، ثُم دعا بالبَرَكَةِ فشَرِبَ الغنمُ حتى رَوي.
وَقِيْلَ : إنه زَاحَمَ القومَ على بئرِهم وسقَى لَهما غنمَهما، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَقَى لَهُمَا ﴾ أي سقَى لَهما أغنامَهما قبلَ الوقتِ الذي كانا يسقِيَان فيه، ثُم رجعَ من الشَّمسِ إلى ظلِّ شجرةٍ فجلسَ تحتَها من شدَّةِ الحرِّ، وهو جائعٌ، ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ ؛ أي إنِّي لَمُحْتَاجٌ فقيرٌ إلى ما قدَّرتَ لِي من الطعامِ، وكان خرجَ من مصر بغيرِ زادٍ وكان لا يأكلُ في الأيام الثمانيةِ إلاّ الحشيشَ والشَّجرَ إلى أن بلغَ ماء مَدْيَنَ، فلما أدركَهُ الجوعُ الشديد ؛ وكان لا يقدرُ على شيءٍ ؛ سألَ الله أكلَهُ من الطعامِ.
قال ابنُ عبَّاس :(سَأَلَ اللهَ فَلْقَ خُبْزٍ أنْ يُقِيْمَ بهِ صُلْبَهُ)، فال سعيدُ بن جبير :(لَقَدْ قَالَ مُوسَى : إنِّي لِمَا أنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خُبْزٍ فَقِيْرٌ، وَهُوَ أكْرَمُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وَلَقَدِ افْتَقَرَ إلَى شِقِّ تَمرةٍ)، وقال مُحمَّدٌ :(مَا سَأَلَ اللهَ إلاَّ الْخُبْزَ). واللامُ في قوله تعالى ﴿ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ ﴾ بمعنى : إلَيَّ، يقالُ : فقراءُ وفقيرٌ إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ ﴾ ؛ وذلك أنَّ موسى عليه السلام لَمَّا سقى لَهما، رجَعَا إلى أبيهما سَريعاً، فقالَ لَهما أبُوهُما : مَا أعْجَلَكُمَا ؟ قالتا : وجَدْنا رجُلاً صالحاً رَحِمَنا، فسقَى لنا أغنامَنا، فقال لإحداهُما : اذهَبي فادعِيه لِي، فجاءتْهُ تَمشي مُستحيةً مشيَ مَن لا يعتادُ الدُّخولَ والخروحَ، واضعةً كفَّها على وجهِها، مُعرِضَةً من الحياءِ، وكانت التي أرسَلَها أبوها إلى موسَى هي الصُّغرى منهما، واسْمُها صُورَا، قال عمرُ بن الخطَّاب في قولهِ تعالى :﴿ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ ﴾ :(وَاضِعَةً ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا ؛ أيْ مُسْتَتِرَةً بكُمِّ ذِرَاعِهَا). قال أهلُ اللُّغة : السَّلْفَعُ : الجريئة التي هي غيرُ مُستحِيَةٍ.
وقولهُ تعالى :﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ أي ليعطيكَ ذلك، فلما قالت ذلكَ لِموسَى شُقَّ عليه قولُها، وهَمَّ أن لا يتبعَها وكان بينه وبين أبيها مقدارَ ثلاثةِ أميَالٍ، ثُم إنه لَم يجدْ بُدّاً من اتِّباعِها ؛ لأجْلِ الْجُهْدِ والجوعِ الذي حَلَّ به ولأجلِ الخوف الذي خرجَ لأجلهِ، فانطلقَ معها، وكانت الريحُ تضربُ ثوبَها فَنَكَّرَتْهُ برَدْفِها فتصفُ له عجيزتَها، وكانت ذات عَجِزٍ، فجعل موسَى يَغْضُّ بَصَرَهُ ويُعرِضُ عنها، ثُم قال لَها :(يَا أمَةَ اللهِ كُونِي خَلْفِي، وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيْقَ بقَوْلِكِ، وَدُلِّينِي عَلَيْهَا إنْ أنا أخْطَأْتُ، فَإنَّا بَنُوا يَعْقُوبَ لاَ نَسْتَطِيْعُ النَّظَرَ إلَى أعْجَاز النِّسَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي فلمَّا جاءَ مُوسَى إلى شُعيب إذ هو بالعَشَاءِ مُهَيَّأً، فقالَ له شُعيب : مَن أنتَ ؟ قال : أنا رجلٌ من بَنِي إسرائيلَ مِن أهلِ مصر، وحَدَّثَهُ بما كان منهُ من قَتْلِ القبطيِِّ وفرارهِ من فرعون، فقال له شعيبُ : إِجلِسْ ﴿ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي نجوتَ من فرعونَ وقومهِ، فإنَّهم لا سلطانَ لَهم بأرضِنا، ولَسْنَا مملكتَهُ.
فجلسَ معه موسى عليه السلام فقالَ له شعيبُ : هَاكَ فَتَعَشَّ، فقال : أعوذُ باللهِ، فقال له شعيبُ : ولِمَ وأنتَ جائعٌ ؟ قال : أخافُ أن يكون هذا عِوََضاً لِمَا سقيتُ لكم، وإنَّا أهلُ بيتٍ لا يَبْغِ شيئاً من عَمَلِ الآخرةِ بملْئِ الأرِض ذهباً، فقال شعيبُ : لاَ وَاللهِ! ولكنَّها عادَتِي وعادةُ آبائي، نُقْرِي الضَّيفَ ونُطعِمُ الطعامَ، فجلسَ مُوسَى عليه السلام يتعَشَّى حينئذٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ﴾ ؛ أي قالَتْ إحداهُما وهي التي تزوَّجَها موسى : يا أبَتِ اتَّخِذْهُ أجيراً يرعَى لنا غنمَنا، فإنَّ خيرَ منِ استأجرتَ الذي يقوَى على العملِ، ويؤدِّي الأمانةَ.
فقال لَها أبُوهَا : وما عِلْمُكِ بقوَّتهِ وأمانتهِ ؟ فقالت : أمَّا قوَّتهُ فإنه لَمَّا رأى أغنامَنا محبوسةً عن الماءِ، قال لنا : هل بقُربكُما بئرٌ ؟ قلنا : نَعَمْ ؛ لكن عليها صخرةٌ عظيمة لا يرفَعُها إلاّ أربعونَ رجُلاً، قال : انطَلِقا بي إليها، فانطلَقا به إليها، فأخذ الصخرةَ بيدهِ ونَحَّاهَا سَهْلاً من غيرِ كُلْفَةٍ. وأمَّا أمانتهُ فإنه قال لِي في بعضِ الطَّريق : إمْشِ خلفِي، فإنْ أخطأتُ الطريقَ فارْمِ قِبَلِي بحصاةٍ حتى أنْهَجَ نَهْجاً، فإنَّّا قومٌ لا ننظرُ إلى وراءِ النِّساء. ولِهذا المعنى قال عمرُ رضي الله عنه :(لاَ يَصْلُحُ لأُمُور الْمُسْلِمِيْنَ إلاَّ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَالرَّقِيْقُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ).
قال فلمَّا ذكرَتِ المرأةُ من حالِ موسى ازدادَ أبُوهَا رغبةً فيهِ و ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ ؛ أي على أن تَرْعَى غنَمِي، ويكون فيها أجْراً إلى ثَمان سِنين، ﴿ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ﴾ ؛ فهو بفَضْلٍ منكَ ليس بواجبٍ عليكَ، ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾ ؛ في العشرِ، ولا أكلفَّكَ إلاّ العملَ المشروط، والمرادُ بالحِجَجِ السِّنين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ مِمن وافَقَ فِعْلَهُ. وَقِيْلَ : ستجدُنِي إن شاءَ اللهُ من الوَافِيْنَ بالعهدِ، الْمُحسِنينَ الصُّحبةَ.
فـ ﴿ قَال ﴾ مُوسَى لشعيب :﴿ ذَلِكَ ﴾ ؛ الشرط ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ﴾ ؛ يعني الذي وصفتَ وشَرَطْتَ على ذلك، وما شرطتَ لِي مِن تزويجِ إحداهما عَلَيَّ فلي، والأمر بيننا. وثم السلام. ثُم قال :﴿ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ ﴾ ؛ أيُّ الأجلَين من الثَّمانِ أو العَشْرِ، ﴿ قَضَيْتُ ﴾ ؛ أي أتْمَمْتَ وفَرَغْتَ، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ ؛ أي لا ظُلْمَ ولا حرجَ ولا كُلفَةَ. قال الفرَّاء :(مَا) صِلَةٌ فِي قَوْلِهِ :﴿ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ ﴾.
وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ ؛ أي شهيدٌ على ما عَقَدَ بعضُنا على بعضٍ. قال ابنُ عبَّاس :(وَاللهُ شَهِيْدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ).
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ :" سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ فَقَالَ :" أوْفَاهُمَا وَأبْطَئُهُمَا " وعن أبي ذرٍّ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" وَإذا سُئِلْتَ عَنْ أيِّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ فَقُلْ : خَيْرُهُمَا أوْ أبَرُّهُمَا، وَإنْ سُئِلْتَ أيُّ الْمَرْأتَيْنِ تَزَوَّجَ ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا وَالَّتِي جَاءَتْ فَقَالَتْ : يَا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ ؛ أي فلَمَّا وَفَّى موسى أتَمَّ الأجلَين وهو عشرُ سنين، وسارَ بأهلهِ نحو مصرَ، قال مقاتلُ :(اسْتَأْذنَ مُوسَى صِهْرَهُ شُعَيْبَ فِي الْعَوْدِ إلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهِ وَأُخْتِهِ. فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ بأَهْلِِهِ نَحْوَ مِصْرَ ؛ ﴿ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ ﴾ فَأَبْصَرَ باللَّيْلِ الظَّلِيمِ عن يسار الطَّريق، أي الجبَلِ، ﴿ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ ﴾ ؛ أي انزِلُوا ها هُنا، ﴿ إِنِّي آنَسْتُ ﴾ ؛ أي أبصرتُ، ﴿ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ ؛ أي مِن عند النار بخبرٍ، وأعلمُ لِمَ أُوقِدَتْ تلك النارُ. ويقالُ : كانت أخطأَ الطريقَ فأرادَ أن يَسْأَلَ عن الطريقِ مَن يَجِدُهُ عندَ النار. وقولهُ تعالى :﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ ﴾ ؛ معناهُ : أو آتِيكُمْ بقطعةٍ من الحطَب في رأسِها شعلةٌ من النار لكي تَدَفَّئُوا من البردِ، وكانوا في شدَّةِ الشِّتاء).
وفي قوله ﴿ جَذْوَةٍ ﴾ ثلاثُ قراءاتٍ : فتحُ الجيمِ وهي قراءةُ عاصم، وضمُّها وهي قراءةُ حمزةَ، وكسرُها وهي قراءة الباقين، وقولهُ تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ ؛ أي تُدْفَئُونَ بها عن البردِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ﴾ ؛ أي فلمَّا أتَى موسى النارَ نُودِيَ من جانب الوادِي الأيْمَنِ أراد يَمينَ موسَى، وقولهُ تعالى ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ﴾ أي الْمُقَدَّسَةِ، وقولهُ تعالى :﴿ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ أي من الشَّجرةِ وهي شجرةُ العُنَّاب في قولِ ابنِ عبَّاس، وقال مقاتلُ :(هِيَ عَوْسَجَةٌ)، وسُمِّيت البقعةُ مباركةً ؛ لأن الله كَلَّمَ مُوسَى فيها وَبَعثَهُ نبيّاً. وقولهُ تعالى :﴿ أَن يامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ ؛ أي نُودِيَ بأنْ ألْقِ عصاكَ من يدِكَ، وموضعُ (أنْ ألْقِ) نصب، ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾ ؛ أي فلما رَآهَا بعدَ ما ألقَاهَا تتحرَّك في غايةِ الاضْطِرَاب كأنَّها جَانٌّ في الخِفَّةِ مع عِظَمِهَا، ﴿ وَلَّى مُدْبِراً ﴾ ؛ أي هَارباً، ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ ؛ أي ولَم يَلْتَفِتْ إلى ما رآهُ، فقال اللهُ لهُ :﴿ يامُوسَى أَقْبِل ﴾، إليها، ﴿ وَلاَ تَخَفْ ﴾ منها ؛ ﴿ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ﴾ مِن أن ينالَكَ منها مكروهٌ، فأخذها موسى فإذا هي عصَا كما كانت، ويقال سُميت جَانٌّ في هذهِ الآية ؛ لأنَّها صارت جَانّاً في البقعةِ المباركة، وثُعبَاناً عند فرعونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ﴾ ؛ أي أدْخِلْهَا في جيبكَ، ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ ﴾ ؛ لَها شعاعٌ كشُعَاعِ الشَّمسِ، ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ ؛ أي من غيرِ بَرَصٍ، من الفزعِ، فتصيرَ آمِناً مما كنتَ تخافهُ، وهذا لأنَّ من شَأْنِ الْخَائِفِ أن يرتعدَ ويقلق فيكون ضَمُّ يدهِ إلى نفسهِ في معنى السُّكون.
قال مجاهد :(كُلُّ مَنْ فَزَعَ فَضَمَّ جَنَاحَيْهِ إلَيْهِ ذَهَبَ عَنْهُ الْفَزَعُ، وَقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ). وَجَناحُ الإنْسَانِ : عَضُدُهُ، ويقالُ : اليدُ كلُّها جَنَاحٌ. وقال بعضُهم : معنى قولهِ ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾ أي سَكِّنْ رَوْعَكَ، وضَمُّ الجناحِ هو السُّكون، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾[الإسراء : ٢٤] يريدُ الرِّفْقَ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[الشعراء : ٢١٥] أي ارْفِقْ بهم، وألِنْ جناحَكَ بهم. وقال الفرَّاء (أرَادَ بالْجَنَاحِ الْعَصَا). وقولهُ تعالى ﴿ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ وقُرئ (مِنَ الرَّهَب) أيضاً وهما لُغتان مثل الرُّشْدِ والرََّشَدِ، ويقالُ : إنَّ قوله (مِنَ الرَّهْب) متَّصلٌ بقولهِ (مِنَ الآمِنِيْنَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ﴾ ؛ يعني اليدَ والعصا حُجَّتَانِ مِن الله لِمُوسَى على صدقهِ، والمعنى : هما حُجَّتَانِ من ربكَ أرسلناكَ بهما ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ ؛ أي أشرافِ قومه، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ ؛ أي خَارجِين عن طاعةِ الله تعالى، " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون " وقرأ الباقونَ بالتخفيف. قال الزجَّاج :(التَّشْدِيْدُ تَثْنِيَةُ ذلِكَ، وَالتَّخْفِيْفُ تَثْنِيَةُ ذاكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً ﴾ ؛ يعني القبطِيَّ الذي قتلَهُ، ﴿ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾، ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً ﴾ ؛ أي أبْيَنُ مِنِّي كَلاماً وأحسنُ بياناً، وكان في لسانِ موسى عقدةٌ من قِبَلِ الجمرةِ التي تناولَها، ولذلك قال فرعونُ : وَلاَ يَكَادُ يُبيْنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً ﴾ ؛ أي عَوْناً ومُصَدِّقاً لِي، يقالُ : فلانٌ ردْءُ فلانٍ ؛ إذا كان ينصرهُ ويشدُّ ظهرَهُ. وقرأ نافعُ (رداً) من غيرِ هَمْزٍ طلباً لِلْخِفَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُصَدِّقُنِي ﴾ ؛ قرأ عاصمُ وحمزة :(يُصَدِّقُنِي) بضمِّ القاف، وقرأ الباقونَ بالجزمِ على الجواب بالأمر، ومَن رفعَ كان صفةً لنكرةٍ، جواباً للمسالة تقديرهُ ردْءاً مُصَدِّقاً لِي، والتصديقُ هارون في قولِ الجمع. وقال مقاتلُ :(لِكَي يُصَدِّقَنِي فِرْعَوْنُ) ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ ؛ أي قالَ اللهُ تَعَالَى لِموسى : سنُعِينُكَ ونقوِّيكَ وننصرُكَ بأخيكَ، وشَدُّ العَضُدِ كنايةٌ عن التقويةِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ﴾ حجَّةً وبيِّنة تدلُّ على النبوَّة، ﴿ فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ﴾ بقَتْلٍ ولا سُوءٍ ولا أذَى، ﴿ بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ ؛ لِمَن خالَفَكما، وقولهُ تعالى :﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾ موضعهُ التقديمُ ؛ والمعنى ونجعلُ لكُمَا سُلطَاناً بآياتِنَا ؛ أي بما نُعطِيكُما من المعجزاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ ؛ يعني المعجزاتِ فلم يقدِرُوا على دفعِ تلك الآياتِ، ﴿ قَالُواْ مَا هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى ﴾، إلاّ أنْ قالوا هذا سِحْرٌ مُفْتَرَى ؛ أي مُخْتَرَعٌ من قِبَلِ نفسِكَ ولَم تُبعَثُ بهِ، ﴿ وَمَا سَمِعْنَا بِهَـاذَاْ ؛ ﴾ ؛ الذي تَدْعُونَا إليه، ﴿ فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ ﴾ ؛ أي هو أعلمُ بالحقِّ مِنَّا وبمن يدعُو إلى الضَّلالةِ ؛ أي أنَا الذي جِئْتُ بالْهُدَى مِن عندِ الله. وقرأ ابنُ كثير :(قَالَ مُوَسَى) بغير واوٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ ؛ أي هو أعلمُ بمن تكونُ له الجنَّة، ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ أي لا يُسْعَدُ مَن أشْرَكَ باللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي ﴾ ؛ أي قالَ فرعونُ الخَوَاصِّ قومهِ :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي ﴾ وهذه إحدَى كَلِمَتَيْهِ اللَّتين أخذهُ الله بهما، والأُخرى قولهُ﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾[النازعات : ٢٤].
وقولهُ تعالى :﴿ فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ ؛ أي اتَّخِذْ لِي آجُرّاً، ﴿ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً ﴾ ؛ أي قَصْراً طَويلاً متَّسِعاً مرتفعاً، ﴿ لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى ﴾ ؛ أي أصعدُ إليه، ظَنَّ بجهلهِ أنه يَتَهَيَّأُ له أنْ يبلُغَ بصرحهِ إلى السَّماءِ، وظنَّ أن إلهَ مُوسَى جِسْماً مشاهَداً كما تقولُ الْمُشَبهَةُ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلِكََ.
قال المفسِّرون : لَمَّا أمرَ فرعونُ وزيرَهُ هامانَ ببناء الصَّرح، جَمَعَ خمسين ألفَ بَنَّاءٍ سِوَى الاتباعِ والأُجَرَاءِ ممن يطبخُ الآجُرَّ والجصَّ، وينحتُ الخشبَ والأبوابَ، ويضربُ المساميرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ؛ أي في ادِّعاء (إلَهاً غَيْرِي) وأنه رسولهُ، وهذا اعترافٌ مِن فرعونَ بالشَّكِّ لأنه شَاكٌّ لا يدري مَن في السَّماء، ولو كان إلَهاً لَمْ يجهَلْ ولَم يشُكَّ، والمبطلُ تظهرُ عليه الْمُنَاقَضَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ؛ تعظَّمُوا عن الإيْمانِ ولَم ينقَادُوا للحقِّ، وقولهُ تعالى ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ أي في أرضِ مِصْرَ ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ أي بالباطلِ والظُّلم، ﴿ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾ ؛ أي يُرَدُّونَ إلينا بالبعثِ للحساب والجزاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ﴾ ؛ أي طَرَحْنَاهُمْ في البحر. قال عطاءُ :(يُرِيْدُ الْبَحْرَ الْمَالِحَ بَحْرَ الْقُلْزُمِ) ﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ حين صَارُوا إلى الْهَلاكِ.
قًَوْلُه تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ ؛ أي جعلنَاهم في الدُّنيا أئِمَّةَ ضَلاَلَةٍ وقَادَةً في الكُفْرِ والشِّرك، يقودُونَ الناسَ إلى الشِّركِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ لأن مَن أطَاعَهم ضَلَّ ودخلَ النارَ، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ أي لا يُدْفَعُ عنهم عذابُ اللهِ، ﴿ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾ ؛ يعني لَعْنَةَ الملائكةِ والمؤمنين، ﴿ وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ ؛ أي مِن الْمُشَوَّهِيْنَ في النَّار، سَوَادُ وجُوهِهم وزرقَةُ الأعيُنِ، فعلى هذا يكونُ المعنى : هُمُ الْمَقْبُوحِيْنَ. وَقِيْلَ : معناهُ : هم مِن الْمُبْعَدِيْنَ الملعونِينَ من القَبْحِ، وهو الإبعادُ. قال أبو يَزيدٍ :(يُقَالُ : قَبَّحَ اللهُ فُلاَناً قُبْحاً وَقُبُوحاً ؛ أي أبْعَدَهُ مِن كُلِّ خَيْرٍ).
قوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ ﴾ ؛ يعني القُرُونَ الأُولَى قومَ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وغيرَهم، كانوا قَبْلَ مُوسَى. وقولهُ تعالى ﴿ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ ﴾ أي أعطَينا موسَى التَّوراةَ من بعدِ ما أهلكنا الأمَمَ الماضيةَ عِظَةً وعِبْرَةً للناسِ ليُبْصِرُوا بها أمرَ دينِهم ؛ أي ليُبصِرُوا بالتوراةِ ويهتَدُوا بها، وهُو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُدًى ﴾ ؛ مِن الضَّلالةِ لِمن عَمِلَ به ؛ أي بالكتاب ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ ؛ لِمن آمَنَ به، ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي يتذكَّرُوا بما فيه من المواعظ والبصائرِ.
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ، أنَّ النبيَّ ﷺ قال :" مَا أهْلَكَ اللهُ قَوْماً وَلاَ قَرْناً وَلاَ أمَّةً وَلاَ أهْلَ قَرْيَةٍ بعَذابٍ مِنَ السَّمَاءِ مُنْذُ أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ غَيْرَ أهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِيْنَ مُسِخُواْ قِرَدَةً، ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ قَالَ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ ﴾ ؛ معناهُ : ما كُنْتَ يا مُحَمَّدُ بجانب الوادِي الغربيِّ ﴿ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ ﴾ أي إذ أوْحَيْنَا الأمرَ بما ألزمناهُ وقومَهُ، ﴿ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ ؛ تلكَ الحالةِ، وإنَّما أخبرناكَ بذلك لتكونَ معجزةً لك.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً ﴾ ؛ أي خَلَقْنَا قَرْناً بعدَ قرنٍ، ﴿ فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ ؛ أي طَالَتْ عليهم الْمُهَلُ فنَسُوا عهدَ اللهِ، وتركُوا أمرَهُ، وكذبُوا الرُّسُلَ فأهلكناهم قَرْناً بعدَ قرنٍ، وهذا كلامٌ يدلُّ على أنه قد عَهِدَ إلى موسَى وقومه عهوداً في مُحَمَّد ﷺ والإيْمَانِ بهِ، فلما تَطَاوَلَ عليهِمُ الْعُمُرُ، وخُلِقَتِ القرونُ بعدَ القرونِ، وترَكُوا الوفاءَ بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً ﴾ ؛ أي مُقِيماً ﴿ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ ؛ كقِيَامِ مُوسَى وشُعيب فيهم، ﴿ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ ؛ أي تذكِّرُهم بالوعدِ والوعيد. قال مقاتلُ :(وَالْمَعْنَى : لَمْ تَشْهَدْ أهْلَ مَدْيَنَ فَتَقْرَأُ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ كَخَبَرِ مَنْ شَاهَدَهُمْ) ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ ؛ أي أرسلناكَ إلى أهلِ مَكَّةَ، وأنزلَ عليك هذهِ الأخبارَ، ولولاَ ذلك لَمَا علَمْتَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ﴾ ؛ أي وما كُنْتَ يا مُحَمَّدُ بناحيةِ الْجَبَلِ الذي كَلَّمَ اللهُ عليه مُوسَى إذ نَادَيْنَا موسى : إنِّي أنَا اللهُ، ويَا مُوسَى أقْبلْ وَلاَ تَخَفْ، ﴿ وَلَـاكِن ﴾ ؛ أوحينَاها إليكَ وقصَصْنَاها عليكَ، ﴿ رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ ؛ لَم يأْتِهم رسولٌ يُخَوِّفُ قبلَكَ، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي يَتَّعِظُونَ.
ومعنى ﴿ رَّحْمَةً ﴾ أي رَحِمْنَاكَ رحمةً بإرسالِكَ والوَحْيِ إليكَ. وقولهُ تعالى :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ ﴾ يعنِي أهلَ مكَّة لعلَّهُم يتَّعظُونَ، واسمُ الجبلِ الذي نُودِي عليه موسى جَبَلُ رسمه. قرأ عيسَى بن عمر :(وَلَكِنْ رَحْمَةٌ) بالرفعِ على معنى : ولكن هِيَ رحمةٌ مِن ربكَ إذ أطْلَعَكَ اللهُ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : وَلَوْلاَ أنْ يُصِيْبَهُمُ الْعَذابُ فِي الدُّنْيَا بمَا قَدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي) يعني كفارَ مكَّة، ﴿ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾ ؛ أي هلاَّ أرسلتَ إلينا رَسُولاً، ﴿ فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ﴾، يعني القُرْآنَ، ﴿ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
والمعنى : لولا أنَّهم يحتَجُّون بتركِ الإرسالِ إليهم لعجَّلنَاهم بالعقوبةِ بكُفْرِهم. وحقيقةُ كَشْفِ معنى الآية : لَولاَ أنَّهُ إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيْبَةٌ ؛ أي عقوبةٌ بما قدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ من الكُفْرِ فيقولُوا عندَ نُزولِ العذاب بهم : رَبَّنَا هَلاَّ أرسلتَ إلينا رَسُولاً فَنَتَّبِعُ كتابَكَ ورسولكَ، ونكون مِن المؤمنينَ ؛ لعجَّلْنَاهم العقوبةَ. قِيْلَ : معناهُ : لولا إذا أصابَتْهم عقوبةُ الآخرةِ فيقولُوا ربَّنا لولاَ أرسلتَ إلينا رسُولاً في الدُّنيا لَمَا أرسلناكَ. وفي الآية بيانُ أنَّ الله تعالى أرسَلَ النبيَّ ﷺ مبالغةً في الحُجَّةِ وقطعِ الْمَعْذِرَةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا ﴾ ؛ أي فلما جاءَ أهلَ الحقُّ مِن عِنْدِنَا وهو مُحَمَّدُ والقُرْآنُ، ﴿ قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى ﴾ ؛ أي هلاَّ أعطِيَ مثلَ ما أعطِيَ موسى، يعنونَ هَلاَّ أنْزِلَ عليه القُرْآنُ جُمْلَةً كما أنزلَ التوراة على موسى جُملة واحدةً، وهلاَّ أعطَى مُحَمَّداً اليدَ والعصا والمنَّ والسَّلوى وغيرَ ذلك من الآيات.
فاحتجَّ اللهُ عليهم بقوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي فقد كَفَرُوا بما أوتِيَ موسَى، كما كَفَرُوا بآياتِ مُحَمَّد و ﴿ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ ؛ أي تَعَاوَنا على السِّحرِ والضَّلالِ، يعنونَ موسَى ومُحَمَّداً عليهم السَّلاَمُ. وقرأ أهلُ الكوفة (سِحْرَان) بغيرِ ألفِ التَّوْرَاةُ والقُرْآنُ، ﴿ وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ ﴾، مِنَ التَّوراةِ والقُرْآنِ، ﴿ كَافِرُونَ ﴾.
قال اللهُ لِنَبيِّهِ ﷺ :﴿ قُلْ ﴾ ؛ لكُفَّار مكَّة :﴿ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ ﴾ ؛ أي مِن التَّوراةِ والقُرْآنِ حتى ﴿ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ أنَّهما كانا سِحرَانِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ ﴾ ؛ أي فإن لَم يأتُوا بمثلِ التَّوراةِ والقُرْآنِ، ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ وإنَّ ما رَكِبُوهُ من الكُفْرِ لا حُجَّةَ لَهم فيه، وإنَّما آثرُوا فيه الْهَوَى.
ثُمَّ ذمَّهُم اللهُ فقال :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي لا أحدَ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هواهُ بغيرِ رَشَادٍ ولا بيانٍ جاءَ من الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ ومعنى قولهِ ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ ﴾ أي فإنْ لَم يُجِيبُوكَ إلى ما سألتَهم ولا يجيبون.
قوله :﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا ﴾ ؛ رسُلَنا، ﴿ لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي وصَّلنَا لأهلِ مكَّة ذِكْرِ الأنبياءِ والأُمَمِ وأقاصيصِ بعضهم لبعضٍ، وأخبَرْنَاهم أنَّا أهلكنا قومَ نوحٍ بكذا وقومَ صالحٍ بكذا لكي يتَّعِظُوا بالقُرْآنِ، ويخَافُوا أن يَنْزِلَ بهم مثلَ ما نزلَ بمن قبلَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ﴾ ؛ أي من قَبْلِ القُرْآنِ، ﴿ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قال السديُّ :(يَعْنِي مُسْلِِمِي الْيَهُودِ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلام وَأصْحَابُهُ). وقال مقاتلُ :(يَعْنِي مُسْلِمِي أهْلِ الإنْجِيْلِ، وَهُمُ الَّذِيْنَ قَدِمُواْ مَعَ جَعْفَرَ بْنِ أبي طَالِبٍ مِنَ الْحَبَشَةِ).
ثُم نَعَتَهم اللهُ تعالى فقالَ :﴿ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ يعنِي القُرْآنَ، ﴿ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ ﴾ ؛ أي صدَّقنَا بالقُرْآنِ، ﴿ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ ﴾ ؛ لا ذِكْرَ النبيِّ ﷺ، وكان مَكتُوباً عندَهم في التَّوراةِ والإنجيل فلَمْ يعانِدوا، وقالوا للقُرْآنِ : إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبنَا، ﴿ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ ﴾ ؛ قبل القُرْآنِ، ﴿ مُسْلِمِينَ ﴾ ؛ مُخلِصِين للهِ بالتوحيد، مؤمِنين بمُحَمَّدٍ ﷺ أنَّهُ نَبيٌّ.
ثُم أثْنَى اللهُ عليهم خيراً، فقالَ :﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ ؛ مرَّةً بتمسُّكِهم بدِينهم حتى أدرَكُوا مُحَمَّداً ﷺ فآمَنُوا به، ومرَّةً بإيْمانِهم به. وقال قتادةُ :(كَمَا صَبَرُواْ عَلَى الْكِتَاب الأَوَّلِ وَالْكِتَاب الثَّانِي)، وَقِيْلَ : مرَّةً لإيْمانِهم بموسَى ومرّةً لإيْمَانِهم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ ؛ أي يدفَعُونَ بشهادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ الشِّرْكَ، كذا قال ابنُ عبَّاس، وقال مقاتلُ :(يَدْفَعُونَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ أذِيَّةِ الْكَافِرِيْنَ وَشَتْمِهِمْ لَهُمْ بالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالاحْتِمَالِ). ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ ؛ مِن الأموالِ في طاعة الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ؛ أي وإذا خُوطِبُوا بالسَّفاهَةِ وشتَمَهم المشركونَ رَدُّوا عليهم جَميلاً، وأعْرَضُوا عن الكلامِ الذي لا فائدةَ فيه، ﴿ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا ﴾ أي دِينُنا، ﴿ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي دِينُكم.
وذلك أنَّهم عَيَّرُوهُمْ بتَرْكِ دِينهم. قال السديُّ : لَمَّا أسْلَمَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ جَعَلَ الْيَهُودُ يَشْتُمُونَهُ، وَهُوَ يَقُولُ :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ ؛ قال الزجَّاج :(لَمْ يُرِيدُواْ التَّحِيَّةَ، وَالْمَعْنَى أنَّهُمْ قَالُواْ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْمُتَارَكَةُ والتَّسَلُّمُ، وَهَذا قَبْلَ أنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُون بالْقِتَالِ)، فَكَأنَّهُمْ قَالُوا : سَلِمْتُمْ مِنَّا لاَ نَعْتَرِضَنَّكُمْ بالشَّتْمِ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ أي لا نريدُ أن نكونَ مِن أهلِ الْجَهْلِ والسَّفَهِ. وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : لاَ نُحِبُّ دِينَكُمُ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ ؛ ذهبَ أكثرُ المفسِّرين أنَّ هذهِ الآيةَ " نزلت في أبي طَالِبٍ، وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ لَهُ :" يَا عَمِّ ؛ قُلْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قالَ : لَوْلاَ أنْ يُعَيِّرَنِي نِسَاءُ قُرَيْشٍ وَيَقُلْنَ : إنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذلِكَ الْجَزَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ، لأَقْرَرْتُ بهَا عَيْنَكَ "، فأنزلَ اللهُ تعالى ﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ هِدايَتَهُ. وَقِيْلَ : إنَّكَ لا تَهدِي من أحبَبتَهُ.
و " عن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَمِّهِ أبي طَالِبٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ، وَعِنْدَهُ أبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ بَنِ الْمُغِيْرَةِ، فَقَالَ لَهُ :" يَا عَمِّ ؛ قُلْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ أُحَاج لَكَ بهَا عِنْدَ اللهِ " فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ : أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِب؟!
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَهُمَا يُعَاودَانِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ بهِ : أنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَلِب، وَأبَى أنْ يَقُولَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ "، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي أبي طَالِبٍ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ قال الزجَّاج :(ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بسَبَب أبي طَالِبٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ ؛ لأنَّهُ لاَ يَهْدِي إلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾.
قَوْلُُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ ﴾ ؛ أي قالت قُريش لِمُحَمَّدٍ ﷺ : إن اتَّبَعْنَاكَ على دِينِكَ يتخطَّفُنا العربُ على أنفُسِنا أن يخرجُوا من أرضِنا مكَّة إن ترَكْنا ما يَعبُدونَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً ﴾ أي ذا أمْنٍ يَأْمَنُ فيه الناسُ.
وذلك أن العربَ كانت يُغِيْرُ بعضُهم على بعضٍ، وأهلُ مكَّة آمِنُونَ في الْحَرَمِ مِن القَتْلِ والسَّيفِ والغَارَةِ ؛ أي فكيفَ يخافون إذا أسْلَمُوا وهُم في حَرَمٍ آمِنُونَ. ومعنى ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً ﴾ أي أوَلَمْ نَجْعَلْهُ مكاناً لَهم.
وقولهُ تعالى :﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ؛ ومعنى ﴿ يُجْبَى&#١٦٤٨ ﴾ أي يحملُ الْحَرَمِ ﴿ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً ﴾. قرأ نافعُ ويعقوب :(تُجْبَى) بالتاء لأجلِ الثَّمرات، وقرأ الباقونَ بالياء لقولهِ ﴿ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً ﴾ ومعنى (تُجْبَى) أي تُحْمَلُ إلى الحرمِ ﴿ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من مِصْرَ والشَّام واليمَنِ والعِرَاقِ.
وقولهُ تعالى :﴿ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ﴾ ؛ أي رزْقاً مِن عندِنا، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أنَّا فعَلْنا ذلك يعني أهلَ مكَّة، والمعنى : أوَلَمْ يجعل أهلَ مكَّة في أمَانٍ قبلَ الإيْمَانِ يُجْبَى إلى الحرمِ ثَمَراتُ كلِّ شيءٍ نعمةً من عندِنا، فكيفَ يخافون زوالَ الأمانِ، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ لأنَّهم لا يتدبَّرُون ولا يتفكَّرُون.
ثُم خوَّفَهم بمثل عذاب الأُمَمِ الخاليةِ، فقال :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ ؛ أي كم أهلَكْنا مِن أهلِ قَرْيَةٍ بَطَرَتْهَا معيشَتها، والبَطَرُ : الطُّغيانُ عند النِّعمةِ، وَقِيْلَ : معناهُ : بَطَرَتْ في معِيشَتِها. قال عطاءُ :(عَاشُواْ فِي الْبَطْرَةِ، فَأكَلُواْ رزْقَ اللهِ وَعَبَدُواْ الأَصْنَامَ).
وقوله تعالى :﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي منازلُهم التي كانوا يسكنُونَها لَم يَسْكُنُهَا أحدٌ إلاّ المسافرونَ ومَارُّوا الطريقِ ينْزِلون ببعضِها يوماً أو ساعةً ثُم يرحَلُون. والمعنى لَمْ تُسْكَنْ مِن بعدِهم إلاَّ سُكوناً قليلاً، ﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ ؛ أي لَم نجعَلْ لَهم أحداً بعدَ هلاكِهم في منازِلِهم، فبقيَتْ خَراباً غيرَ مسكُونةٍ كقولهِ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ﴾[مريم : ٤٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ ؛ معناهُ : وما كان ربُّكَ يَا مُحَمَّدُ مُعَذِّبَ القُرَى الكافرةُ أهلُها حتى يبعثَ في أعظَمِها قريةً رَسُولاً يُنذِرُهم ويقرأ عليهم آياتِنا، وخصَّ الأعْظَمَ من القُرى ببعثةِ الرَّسُولِ فيها ؛ لأن الرَّسُولَ إنَّما يُبعَثُ إلى الأشرافِ، وأشرافُ القومِ وملوكُهم يسكنونَ المدائنَ والمواضع التي هي أمُّ ما حولِها.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ ؛ أي ما نُهلِكُهم إلاَّ بظُلْمِهم وشِركِهم، وَقِيْلَ : المرادُ بالقُرَى القرى التي حَوْلَ مكَّة، والمرادُ بأُمِّها مكَّة سُميت أمُّ القُرْى ؛ لأن الأرضَ دُحِيَتْ من تحتِها.
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ﴾ ؛ تتمتَّعون بها أيَّامَ حياتِكم ثُم تنقطعُ وتفنى وتنقَضِي، ﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ ؛ من الثَّواب والجنة، ﴿ وَأَبْقَى ﴾ ؛ وأدومَ لأهلهِ وأفضلَ مما أُعطِيتُمْ في الدُّنيا، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أنَّ الباقي أفضلُ من الفَانِي الذاهب. وَقِيْلَ :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ خيرَ الأمرَين فتطلبوهُ وشَرَّ الأمرَين فتتركوهُ. قرأ أبو عمرٍو (أفَلاَ يَعْقِلُونَ) بالياء.
وقولهُ تعالى :﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ؛ استفهامُ يعني التقرب، أي كيفَ يستوِي حالُ مَن وَعَدْنَاهُ الثوابَ والجنةَ في الآخرةِ فَهُوَ لاَقِيْهِ، وحالُ من متَّعناهُ بعَرَضِ الدُّنيا، ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ ؛ العذابَ.
والمعنى :﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ ﴾ على إيْمانهِ وطاعته الجنةَ والثوابَ الجزيل ﴿ فَهُوَ لاَقِيهِ ﴾ أي مُدركُهُ ﴿ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ ﴾ أي كمن هو مُمَتَّعٌ بشيءٍ يَفْنَى ويزول عن قريبٍ ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ النارَ. قال قتادةُ :(يَعْنِي الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، فَالْمُؤْمِنُ سَمِعَ كِتَابَ اللهِ وَصَدَّقَهُ وَآمَنَ بمَوعُودِ اللهِ فِيْهِ، وَلَيْسَ كَالْكَافِرِ الَّذِي تَمَتَّعَ بالدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِيْنَ فِي عَذاب اللهِ)، قال مجاهدُ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَأبي جَهْلٍ)، وقال السديُّ :(نَزَلَتْ فِي عَمَّار وَالْوَلِيْدِ بْنِ الْمُغِيْرَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ﴾ ؛ أي يُنادي اللهُ المشركينَ يومَ القيامةِ، ﴿ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ ؛ في الدُّنيا أنَّهم كانوا شُركَائِي، والمعنَى : واذْكُرْ يومَ يُنادَى الكفارُ وهو يومُ القيامةِ فيقولُ أيْنَ شُرَكَائِي في قولِكم، وليس للهِ شريكٌ، ولكن خرجَ هذا الكلامَ على ما كانوا يلفِظُون بهِ، فيقولون : هؤلاءِ شركاءُ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ ؛ أي الذين حَقَّتْ عليهم كلمةُ العذاب أو وَجَبَ عليهم العذابُ وهم الرُّؤُوسُ :﴿ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ ﴾ ؛ يَعْنُونَ سَلَفَهُمْ وأتبَاعَهم، ﴿ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ ؛ أي أضْلَلْنَاهُمْ كما ضَلَلْنَا، ﴿ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ ﴾ ؛ منهم، وَقِيْلَ : تَبَرَّأنَا بحمْلِنا إليك الضَّلال، ﴿ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ ما كانوا يعبدُونَنا بإكراهٍ مِن جِهَتِنَا، وَقِيْلَ : ما كانوا يعبدُوننا بحُجَّة ولا استحقاقٍ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ﴾ ؛ أي يقالُ لَهم : لَستُمْ تُسأَلُونَ عن الإغواءِ والغِوَايَةِ، ولكن ادعُوا آلِهَتَكُمْ حتى يذُودوا عنكم العذابَ، ﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ ﴾ ؛ أي لَم يُجيبُوهم إلى نصرتهم ﴿ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾ ؛ أي رَأوا كلُّهم القادةُ والأتباعُ العذابَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ ﴾ ؛ جوابُ (لَوْ) محذوفٌ تقديرهُ : لو أنَّهم كانوا يَهْتَدُونَ في الدُّنيا لَمَا رَأوُا العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ ﴾ ؛ أي فأُلبسَتْ عليهم الأجوبةُ يومئذٍ، ولَم يَدْرُوا ماذا يقولونَ من الفَزَعِ والتَّحَيُّرِ، ﴿ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ ؛ لا يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً في تلكَ السَّاعة لردِّ الجواب. وَقِيْلَ : لا يسألُ أحدٌ عن حالِ أحدٍ لانشغال كلِّ واحدٍ منهم بنفسه. وَقِيْلَ : لا يسألُ أحدٌ أحداً أن يَتْرُكَ طاعةً أو يتحمَّلَ عنهُ معصيةً، ومعنى قولهِ تعالى ﴿ فَعَمِيَتْ ﴾ أي خَفِيَتْ واشتَبهت عليهم الأنباءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ ؛ أي مَن تَابَ من الشِّركِ وآمَنَ وصدَّقَ بتوحيد اللهِ وبمُحَمَّدٍ ﷺ ﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي أدَّى الفرائضَ، ﴿ فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ ؛ أي مِن النَّاجِينَ الفائزينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ ؛ وذلكَ أنَّ الوليدَ بن المغيرةِ كان يقولُ : لَولاَ نُزِّلَ هَذا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيْمٌ، يعني نفسَهُ وأبا مسعودٍ الثقفيُّ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ مَن يُنَبَّؤُ للرسالةِ والنُّبوةِ ؛ أي فكما أن الخلقَ إليه يخلقُ ما يشاء، فكذلك الاختيارُ إليهِ في جميع الأمور، فيختارُ مِمَّنْ خَلَقَ ما يشاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ ؛ ابتداءُ الكلامِ نفيُ الاختيار عن المشركين، وذلك أنَّهم اختَارُوا الوليدَ بن المغيرةِ من مكَّة وأبُو عُرْوَةَ بن مسعودٍ من الطَّائف، فقالَ اللهُ ﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ أي ليسَ لَهم الاختيارُ على اللهِ، ثُم نَزَّهَ اللهُ نَفْسَهُ فقالَ :﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ؛ ومن قرأ (وَنَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةَُ) من غيرِ أنْ يَقِفَ على (وَنَخْتَارُ)، جعلَ (مَا) بمعنى الَّذي، كأنَّه قال :
ونَخْتَارُ الذي لَهم الْخِيَرَةُ فيصنعُ بهم ما صَلُحَ لَهم، وأنشدَ محمودُ الورَّاقُ : تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ أرَدْتَ فَإنَّ اللهَ يَقْضِي وَيُقَدِّرُمَتَى مَا يُرِيدُ ذُو الْعَرْشِ أمْراً بعَبْدِهِ يُصِبْهُ وَمَا لِلْعَبْدِ مَا يَتَخَيَّرُفَقَدْ يَهْلَكُ الإنْسَانُ مِنْ حَيْثُ أمْنُهُ وَيَنْجُو بحَمْدِ اللهِ من حَيْثُ يَحْذرُ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ﴾ ؛ أي ما تَسْتُرُ من الكفرِ والعداوة لله ولرسولهِ ؛ أي يعلمُ ما تُضْمِرُ قلوبُهم من ذلك، ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ بألسِنَتِهم من الكفرِ والمعاصي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ ﴾ ؛ يستحقُّ الحمدَ في الدَّارَين، ﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ ﴾ ؛ أي الفَصْلُ بينَ الخلائقِ ؛ حَكَمَ لأهلِ طاعته بالمغفرةِ، ولأهلِ معصيته بالشَّقاءِ والوَيْلِ، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ أي موضع جَزَائِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : أخبرُونِي إنْ جعلَ اللهُ عليكم الليلَ دائماً أبَداً إلى يومِ القيامة، لا نَهار معهُ، ﴿ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ ﴾ ؛ أي بنَهَارٍ مُضِيءٍ تتصرَّفون فيه وتطلُبون فيه المعيشةَ، ﴿ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ﴾ ؛ سَماع قَبُولٍ وتَفَهُّمٍ فتستدِلُّون بذلك على توحيدِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي قُل : أخْبرُونِي إنْ جَعَلَ اللهُ عليكم النهارَ دائماً، ﴿ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ﴾، تستَريحُونَ فيه من الحركةِ ومن النَّصَب ؟ ﴿ أَفلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ ؛ أدِلَّةَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ ؛ أي ومِن نِعْمَتِهِ عليكم أن خَلَقَ لكم الليلَ والنَّهار لتَستَرِيحوا لَيلاً، ولتَنصَرِفوا نَهاراً، والمعنى :﴿ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ أي في اللَّيل، ﴿ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ أي ولِتَلْتَمِسُوا في النهار من فضلِ الله، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ الذي أنْعَمَ عليكم بهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ ؛ فقد تقدَّم تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ ؛ أي وأخرَجْنا من كلِّ أُمَّةٍ رسُولَها الذي يشهدُ عليهم بالتبليغِ وما كان منهم، ﴿ فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ ؛ أي فقُلْنَا للمَشهُودِ عليهم :﴿ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ أي حُجَّتَكُمْ بأنَّ معي شَريكاً، ﴿ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ﴾ ؛ أي أنَّ التوحيدَ للهِ، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ ﴾ ؛ أي زالَ عنهم وبَطَلَ في الآخرةِ، ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ ؛ في الدُّنيا من قولِهم : إنَّ مع اللهِ شريكاً.
قََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : كان قارونُ ابنَ عمِّ موسَى من بني إسرائيلَ، وكان مِن العلماءِ بالتَّوراةِ. وقال بعضُهم كان ابنَ خَالَتِهِ. وقولهُ تعالى ﴿ فَبَغَى عَلَيْهِمْ ﴾ أي بكَثْرَةِ مالهِ، والمعنى : أنه تَطَاوَلَ على موسَى وقومه وجاوزَ الحدَّ في التَّكَبُّرِ عليهم. والبَغْيُ في اللغة : طَلَبُ الْعُلُوِّ بغيرِ حَقٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ ﴾ أي أعطيناهُ من الأموالِ الْمَجموعَةِ ما إنَّ مَفَاتِحَهُ، قال ابنُ عبَّاس :(أرَادَ بالْمَفَاتِحِ الْخَزَائِنَ، كَانَتْ خَزَائِنُهُ لِتَثْقَلُ بالْجَمَاعَةِ ذوي الْقُوَّةِ إذا حَمَلُوهَا).
قال بعضُهم : هو جمعُ مِفْتَاحٍ ؛ وهو ما يُفْتَحُ به البابُ، وهذا قولُ قتادةَ ومجاهد. وَقِيْلَ : مفاتحُ جمع مِفْتَحٍ بكسرِ الميم وهي المفتاحُ، فجمعهُ مفاتيحُ. قال خَيَثَمَةُ :(كَانَتْ مَفَاتِيْحُ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الإصْبَعِ، مِفْتَاحُ كُلِّ خِزَانَةٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإذا رَكِبَ حَمَلَ الْمَفَاتِيحَ عَلَى سِتِّيْنَ بَغْلاً). وقال ابنُ عبَّاس :(كَانَ يَحْمِلُ مَفَاتِيْحَهُ أرْبَعُونَ رَجُلاً أقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ).
ومعنى قولهِ تعالى ﴿ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ﴾ وإنَّما العُصْبَةُ تَنُوءُ بالمفاتيحِ ؛ أي يثقُلُ في حَملِها، قِيْلَ : هذا شائعٌ في الكلامِ كما يقالُ : عَرَضَتِ الناقةُ على الحوضِ، وإنَّما يعرضُ الحوض عليها، ولا تعرضُ الناقةُ على الماءِ. والكَنْزُ في اللُّغة : اسمٌ لِلمَالِ الذي يُجْمَعُ بعضهُ على بعضٍ، وإذا أُطْلِقُ أُريدَ به ما يُخَبَّأُ تحتَ الأرضِ.
وقال خَيْثَمَةُ :(وَجَدْتُ فِي الإنْجِيْلِ : أنَّ مَفَاتِيْحَ خَزَائِنِ قًارُونَ وقرُ سِتِّينَ بَغْلاً غُرّاً مُحَجَّلَةً). وَقِيْلَ : إنَّها كانت من جُلودِ الإبلِ، وكانت من حديدٍ، فلما ثَقُلَتْ عليه جُعلَتْ من خَشَبٍ، فلما ثَقُلَتْ عليه جُعلت من جُلودٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ ﴾ ؛ قال له قومهُ مِن المؤمنين من بني إسرائيل : لا تَفْرَحْ بالكُنُوزِ والمالِ ولا تَأْشَرْ ولا تَبْطَرْ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ ؛ أي الأَشِرِيْنَ البَطِرِيْنَ الذين لا يشكُرونَ اللهَ على ما أعطاهم. والفَرَحُ إذا أُطْلِقَ أُريدَ الْمَزْحُ الذي يخرجُ إلى البَطَرِ، ولذلكَ قالَ :﴿ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾، وقال﴿ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾[هود : ١٠]، وأما قولهُ﴿ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾[آل عمران : ١٧٠] فهو بهدايَةِ النَّفسِ وهو حسنٌ جميل، قال الشاعرُ : وَلَسْتُ بمِفْراحٍ إذا الدَّهْرُ سَرَّنِي وَلاَ جَازعٍ مِنْ صَرْفَهِ الْمُتَقَلَّب
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ﴾ ؛ أي واطلُبْ فيما أعطاكَ اللهُ من الأموالِ والنِّعمةِ الجنَّةَ، وهو أن يقومَ بشُكْرِ اللهِ فيما أنعمَ اللهُ ويُنْفِقَهُ في رضَا اللهِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي ولا تَنْسَ لتعمَلَ لآخرتِكَ، وقال الحسنُ (أنْ يُقَدِّمَ الْفَضْلَ وَأنْ يُمْسِكَ مَا يُغْنِيْهِ).
وقولهُ :﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ ؛ أي أحْسِنْ إلى الفُقراءِ والمساكين، كَمَا أحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : أطِعِ اللهَ واعْبُدْهُ كما أنعمَ عليكَ، ﴿ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي ولا تَعْمَلْ في الأرضِ بالمعاصِي ومخالفةِ موسى عليه السلام، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾، قال عطاءُ :(فَكَفَرَ قَارُونُ لَمَّا رَأى أنَّ الْمَالَ حَصَلََ لَهُ بعِلْمِهِ وَلَمْ يَرَ ذلِكَ مِنْ عَطَاءِ اللهِ). والمعنى : قال قارونُ : إنَّما أعطيتُ هذا المالَ على عِلْمٍ عندي بوجوهِ الاكتساب والتِّجارات لا يعلمُها أحدٌ غيرِي.
وَقِيْلَ : معناهُ : على عِلْمٍ عندي يعني لفَضْلِ عِلمِي، فكنتُ أهلاً لِمَا أُعطِيتهُ، وكان أقرأهم للتوراةِ، والمعنى : فضَّلَنِي اللهُ عليكم بهذا المالِ، لفَضْلِي عليكم بالعلمِ، يعني علمَ الكيمياءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ﴾ ؛ معناهُ :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ ﴾ هذا المسكينُ الذي قد أعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وما مَلَكَ من الدُّنيا يعني قارونَ ﴿ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ ﴾ بالعذاب ﴿ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ ﴾ حين كذبوا رسولَهُ ﴿ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ﴾ ﴿ وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ ؛ للمالِ والْخَدَمِ والْحَشَمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ ؛ معناهُ : لا يُسْئَلُ الْمُجرمونَ عن ذُنوبهم في الآخرةِ، فإنَّهم يُعرَفُونَ بسِيمَاهُمْ. قال قتادةُ :(إنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بغَيْرِ حِسَابٍ).
وأما قوله تعالى﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[الحجر : ٩٢] فإنَّهم يُسئَلُونَ سُؤالَ تَقْرِيْعٍ وتَوْبيْخٍ، كما قال الحسنُ في معنى هذه الآيةِ (أنَّهُمْ لاَ يُسْئَلُونَ سُؤَالَ الاخْتِيَار لِيَعْلَمَ ذلِكَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَإنَّمَا يُسْئَلُونَ سُؤَالَ التَّوْبيْخِ وَالْمُنَاقَشَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ ؛ قال السديُّ :(خَرَجَ فِي جَوَارٍ بيْضٍ : عَلَى سُرُوجٍ مِنْ ذهَبٍ ؛ عَلَى قِطَفِ أُرْجُوَانٍ ؛ " وَهُنَّ " عَلَى بغَالٍ بيْضٍ عَلَيْهُنَّ ثِيَابٌ حُمْرٌ وَحُلِيٌّ مِن ذهَبٍ). وقال مقاتلُ :(خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذهَبٍ عَلَيْهِ الأُرْجُوَانُ، وَمَعَهُ أرْبَعَةُ آلاَفِ فَارسٍ عَلَى الْخَيْلِ، عَلَيْهِمْ وَعَلَى دَوَابهِمُ الأُرْجُوَانُ، وَمَعَهُ ألْفُ جَاريَةٍ عَلَى بغَالٍ شُهْبٍ سُرُوجُهُنَّ الذهَبُ ؛ وَلِبَاسُهُنَّ أُرْجُوَانٌ أحْمَرُ، عَلَيْهِنَّ الْحِلِيَّ وَالْحُلَلَ).
وقال ابن زَيدٍ :(خَرَجَ فِي سَبْعِيْنَ ألْفاً عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ). وهذا معنَى الْحَسَنِ في ثِيَابٍ صُفْرٍ. قال الزجَّاجُ :(الأُرْجُوَانُ فِي اللُّغَةِ صَبْغٌ أحْمَرُ، فرُوي أنه كان عليهم وعلى خُيولِهم الدِّيباجُ الأحمرُ)، قال :(وكَانَ ذلِكَ أوَّلَ يَوْمٍ رُؤيَتِ الْمُعَصْفَرَاتُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي قال مُؤمِنُوا أهلِ ذلك الزَّمانِ لَمَّا رأوا تلكَ الزينةَ والجمالَ، ﴿ يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ ﴾ ؛ من المالِ، ﴿ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ ؛ أي ذُو نَصِيبٍ وافرٍ من الدُّنيا، وكان الذين تَمَنَّوا هذه الأُمْنِيَةَ القومُ الذين يرغَبُون في الدُّنيا ويتمَنَّونَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ ؛ أي قال العلماءُ العاملونَ الرَّاغبون في الآخرةِ للَّذينَ تَمَنَّوا ما أُوتِيَ قارونُ :(وَيْلَكُمْ! ثَوَابُ الله خَيْرٌ) أي ارْتَدِعُوا عن مقالَتِكم ؛ فإنَّ ثوابَ اللهِ في الآخرة خيرٌ لِمن آمَنَ وعَمِلَ صالحاً، وقامَ بالفرائضِ خيرٌ مما أُعِطَي قارونُ في الدُّنيا، وخيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ ﴾ ؛ أي لاَ يؤتَى الأعمالَ الصالحة، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾[الفرقان : ٧١]، وقال الكلبيُّ :(وَلاَ يُعْطَاهَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ الصَّابرونَ عَلَى أمْرِ اللهِ) أي الْجَنَّةَ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثَوَابُ اللَّهِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ ﴾ ؛ أي فخَسَفْنَا بقارونَ وقَصْرِهِ الذي بَنَاهُ عقوبةً له على كُفرهِ، وذلك أنَّهُ لَمَّا أضافَ النِّعَمَ التي أعطاهُ اللهُ إياها إلى فعلِ نفسه وعملهِ، ولَم يَنْسِبْهَا بتَسهِيل اللهِ ذلكَ عليهِ ؛ صارَ كافراً بنِعَمِ اللهِ.
وَقِيْلَ في سَبَب خسفهِ : أنه لَمَّا حَسَدَ موسى وهارونَ دعَا امرأةً ذاتَ جمالِ معروفةً بالفُجُور، وجعلَ لَها ألفَ دِرهَم - وَقِيْلَ : ألْفَ مِثْقَالٍ - وقالَ لَها : إنِّي أخلِطُكِ بنسائي على أن تَقذِفِي موسَى بنفسكِ غداً إذا حَضَرَ بنُو إسرائيلَ، وتذْكُري أنه راوَدَكِ عن نفسكِ! فأجابَتْ قارونَ إلى ذلك، فلمَّا كان مِن الغَدِ، جَمَعَ قارونُ بني إسرائيلَ، ثُم أتَى مُوسَى فقال لهُ : إنَّ بني إسرائيلَ قد اجتمَعُوا ينظرونَ خُروجَهم لتَأْمُرَهم وتَنْهَاهُمْ.
فخرجَ مُوسَى فقامَ فيهم يَعِظُهُمْ ويأمُرُهُمْ بالمعروفِ ويناهم عن الْمُنْكَرِ، قالَ : يَا بَنِي إسْرَائِيْلَ ؛ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَاهُ، وَمَنِ افْتَرَى جَلَدْنَاهُ ثَمَانِيْنَ، وَمَنْ زَنَى وَلَيْسَتْ لَهُ امْرَأةٌ جَلَدْنَاهُ مِائَةً، وَمَنْ زَنَى وَلَهُ امْرَأةٌ رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ. قال قارونُ : وإنْ كُنْتَ أنْتَ؟! قالَ : وإنْ كُنْتُ أنَا. قال : فإنَّ بني إسرائيلَ يَزعُمُونَ أنَّكَ فَجَرْتَ بفُلانَةٍ! فقال مُوسَى : ادْعُوهَا، فَدَعَوْهَا وقد ألْهَمَها اللهُ التوبةَ والتوفيقَ، فقالت في نفسِها : لإنْ أُحْدِثَ الْيَوْمَ تَوْبَةً خَيْرٌ مِنْ أنْ يُؤْذى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فجَاءوا بها وقد عَقَدوا مَجلِساً استَحْضَرَ فيه قارونُ الخاصَّ والعامَّ، فقال قارونُ للمرأةِ : ما تَقُولِيْنَ ؟ قالت : يَا وَيْلاَهُ! قَدْ عَمِلْتُ كُلَّ فَاحِشَةٍ، وما بَقِيَ إلاَّ أنْ أفْتَرِي على نَبيِّ اللهِ ﷺ، وأنَا أبْرَأُ إلى اللهِ مِن ذلكَ.
ثُم أخْرَجَتْ خَريطَتين مَملُوءَتين دَرَاهِمَ وعليهما خاتَمُ قارونَ، فقالَتْ : يا أيُّها الْمَلأُ ؛ إنَّ قارونَ أعطانِي هَاتَين الخريطتَين على أنْ آتِي جماعتَكم فأَزْعُمَ أنَّ موسى رَاودَنِي عن نفسِي، ومَعَاذ اللهِ أنْ افْتَرِيَ على نبيِّ الله، وأنا أبْرَأُ إلى اللهِ مِن ذلك وهذهِ دراهِمهُ وعليها خاتَمهُ.
فعَرَفَ بنُو إسرائيلَ خاتَم قارونَ، فَافْتُضِحَ قارونُ بين أولئِكَ القومِ، وغَضِبَ مُوسَى عليه السلام فَخَرَّ ساجداً يَبْكِي وهو يقولُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ رسُولَكَ فَاغْضَبْ لِي.
فأوحَى اللهُ إليه أنِّي قد أمَرْتُ الأرضَ تُطِيعُكَ فَمُرْهَا بما شِئْتَ، فقال مُوسَى عليه السلام : يا أرضُ خُذِيْهِ، فأخذتْهُ إلى كَعْبهِ، ثُم قَالَ : يا أرضُ خُذِيهِ، فأخذتهُ إلى رُكبَتيهِ، فَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ، فقالَ : يا أرضُ خُذِيهِ، فأخذتْهُ حتى غَيَّبَتْ حِقْوَتَهُ، فتضرَّعَ إلى مُوسَى وناشدَهُ الرَّحِمَ، فلَمْ يسمَعْ تَضرُّعَهُ، فقالَ : يا أرضُ خُذِيهِ، فأخذْتْهُ حتى غَيَّبَتْهُ.
فرُوي أنهُ استغاثَ بموسَى وناشدَهُ سبعينَ مرَّة، فلَمْ يلتفِتْ موسَى إلى ذلكَ، فأوحَى اللهُ إلى موسى : ما أفَظَّكَ وأغلَظَ قلبَكَ! استغاثَ بكَ قارونُ سبعين مرَّةً فلم ترحَمْهُ ولَم تُغِثْهُ، وعِزَّتِي وجَلالِي لوِ استغاثَ بي لأغثتهُ، ولو دعانِي لوجدَنِي قريباً مُجيباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ ؛ أي أصبحَ الذين تَمَنَّوا منْزِلتَهُ ومالَهُ بالأمسِ حين رأوهُ في زينتهِ يندَمُون على ذلك التَّمَنِّي، يقول بعضُهم لبعضٍ بعد ما خُسِفَ به (وَيْ) هذه كلمةُ تَنْبيْهٍ ومعناها : أمَا تَرَوْنَ؟.
قال مجاهدُ :(وَسَبيْلُهَا سَبيْلُ : أمَا تَعْلَمُ) وَيُحْكَى أنَّ امْرَأةً مِنَ الْعَرَب قَالَ لَهَا زَوْجُهَا : أيْنَ أبُوكِ، قَالَتْ : لَهُ وَيْكَأَنَّهُ وَرَاءَ هَذا الْبَيْتِ، يعني أما ترَى أنه رواءَ هذا البيتِ.
وذهبَ بعض النَّحوِيِّين إلى أنَّ قولَ الرجُل : وَيْكَأَنَّهُ، بمنْزِلة : وَيْلَكَ إعْلَمْ. وقال الخليلُ ويونسُُ :(وَيْ مَفْصَُولَةٌ مِنْ كَأنَّ، وَ(وَيْ) كلمةُ تَنَدُّمٍ وَتَنْبيْهٍ، وَ(كَأنَّ) فِي هَذا الْمَوْضِعِ بمَعْنَى الظَّنِّ وَالْعِلْمِ) كأنَّهُم لَمَّا رأوا الخسفَ تكلَّمُوا على قدر عِلمِهم، وقالوا : كأنَّ اللهُ يبسطُ الرِّزقَ لِمن يشاءُ لا لكرامتهِ عليه، ويضيِّقُ على مَن يشاءُ لا لِهوانهِ عليه.
وقولهُ تعالى :﴿ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ ؛ أي لَولاَ أن مَنَّ اللهُ علينا بالعافيةِ والرَّحمةِ والإيْمانِ لَخُسِفَ بنا. وقرأ يعقوبُ وحفص :(لَخَسَفَ) بفتح الخاءِ والسِّين ؛ أي لَخَسَفَ اللهُ بنا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ ؛ أي أمَا ترَى أنه لاَ يُسْعَدُ من كَفَرَ باللهِ.
قًَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً ﴾ ؛ المرادُ بالدَّار الْجَنَّةُ، ﴿ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً ﴾ على خَلْقِي ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ ولَم يتكَبَّروا كما تَكَبَّرَ قارونُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ فَسَاداً ﴾ أي ولا دُعاءً إلى عبادةِ غيرِ الله. وَقِيْلَ : ولا فَسَاداً ولا عمَلاً بالمعاصِي. وَقِيْلَ : هو أخذُ المالِ بغيرِ الحقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي العاقبةُ الحميدة لِمَنِ اتَّقَى عقابَ اللهِ بأداء فرائضهِ واجتناب معاصيهِ. وَقِيْلَ : الذين يَتَّقُونَ الكفرَ والعُلُوَّ والفسادَ.
وعن كعبٍ رضي الله عنه أنه قال :" " يُحْشَرُ الْمُتَكَبرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالذرِّ فِي صُوَر الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يَسْلُكُونَ فِي النَّار وَيُسْقَوْنَ مِنْ طِيْنَةِ الْخَبَالِ " قِيْلَ : وَمَا طِيْنَةُ الْخَبَالِ ؟ قًَالَ :" عُصَارَةُ أهْلِ النَّارِ " والمرادُ بالتَّكَبُّرِ : أنْ يكون التكبُّرُ لأمرٍ يرجعُ إلى الدُّنيا، فإمَّا يكون مِن ذلك لإزالةِ المنكَرِ وإقامةِ حَقٍّ من حقوقِ الله، فلا يكونُ ذلكَ من التَّكَبُّرِ في شيءٍ، وإنَّما هو تَمَسُّكٌ بالدِّينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ، ﴿ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي ومَن جاءَ بالسَّيئَةِ فلا يُزاد في عقوبتهِ أكثرَ مِما يستحقُّهُ. والمعنى : أنَّ الذين أشْرَكُوا يُجْزَوْنَ بما كانوا يعملونَ من الشِّركِ وجزاؤُهم النارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ الذي فَرَضَ عليك العملَ بالقُرْآنِ لرَادُّكَ إلى بَلَدِكَ يعني مكَّة، فإنَّ مَعَادَ الرجُلِ بَلَدُهُ. وَقِيْلَ : معناهُ :(إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنْزَلَ عليكَ القُرْآنَ. وقال الزجَّاجُ :(فَرَضَ عَلَيْكَ الْعَمَلَ بمَا يُوجِبُهُ الْقُرْآنُ). تقديرُ الكلامِ : فَرَضَ عليكَ أحكَامَ القُرْآنِ أو فرائضَ القُرْآنِ ﴿ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ يعني مكَّة.
قال مقاتلُ :" خَرَجَ النَّبيُّ ﷺ إلَى الْغَار لَيْلاً، ثُمَّ هَاجَرَ مِنْ وَجْهِهِ ذلِكَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، فَسَافَرَ فِي غَيْرِ طَرِيْقٍ مَخَافَةَ الطَّلَب، فَلَمَّا أمِنَ رَجَعَ إلَى الطَّرِيْقِ، فَنَزَلَ بالْجُحْفَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِيْنَةَ، وَعَرَفَ الطَّرِيْقَ إلَى مَكَّةَ فَاشْتَاقَ إلَيْهَا، وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَمَوْلِدَ آبَائِهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيْلُ فَقَالَ لَهُ : أتَشْتَاقُ إلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ ؟ قَالَ :" نَعَمْ " قَالَ جِبْرِيْلُ : فََإنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ يَعْنِي إلَى مَكَّةَ ظَاهِراً عَلَيْهَا "، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بالْجُحْفَةِ، فَلَيْسَتْ بمَكِّيَّةٍ وَلاَ مَدَنِيَّةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ هذا جوابُ كُفار مكَّة لَمَّا قالوا للنبيِّ ﷺ : إنَّكَ في ضلالٍ مُبين! يعني المشركينَ. والمعنى : إنَّ الله قد عَلِمَ أنِّي جئتُ بالْهُدَى وإنَّكم لَفِي ضلالٍ مُبين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ معناهُ : ما كنتَ يا مُحَمَّدُ تَرْجُو أنْ يُوحَى إليكَ القُرْآنُ وأنك تكونُ نَبيّاً تتلُو على أهلِ مكَّة قَصَصَ الأوَّلين، إلاَّ أنَّ ربَّكَ رحِمَكَ وأرادَ بك الخيرَ، فأوحَى إليك الكتابَ وأكرمَكَ بالنبوَّة نعمةً منهُ عليكَ، ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً ﴾ ؛ أي عَوْناً ﴿ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ ؛ على دِينهم، وذلك حين دَعَوْهُ إلى دِين آبائهِ فذكَّرَهُ اللهُ النعمةَ. ونَهاهُ عن مُظاهرَتِهم على ما كانوا عليه وأمَرَهُ بالتَّحذُر منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ﴾ ؛ أي لا يَصْرِفَنَّكَ عن العملِ بآيات الله بعدَ إذْ أُنْزِلَتْ إليكَ، ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ؛ أي إلى طاعتهِ، ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(الْخِطَابُ لِلنَّبيِّ ﷺ وَالْمُرَادُ بهِ أهْلُ دِيْنِهِ) أي لا تُظاهِرُوا الكفَّارَ ولا توافِقُوهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ ﴾ ؛ أي لا تَعْبُدُ أحَداً سِوَى اللهِ ولا تَدْعُ الْخَلْقَ إلى أحدٍ دون اللهِ، وقولهُ تعالى :﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ ؛ لا معبودَ سِوَاهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ ؛ أي إلاَّ هو. وانتصبَ قولهُ (وَجْهَهُ) على الاستثناءِ كأنه قالَ : إلاّ إيَّاهُ، وقال عطاءُ :(مَعْنَاهُ : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ مَا أُريْدَ بهِ وَجْهَهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ لِغَيْرِهِ فَهُوَ هَالِكٌ إلاَّ مَا كَانَ لَهُ).
وقولهُ تعالى :﴿ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ ؛ أي الْفَصْلُ بين الخلائقِ دونَ غيرهِ، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ في الآخرةِ فيجزِيَكم بأعمالِكم، واللهُ أعلَمُ بالصَّواب وإليه المرجِعُ والْمَآبُ.
Icon