ﰡ
وقولهُ تعالى ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ يعني مُحَمَّداً ﷺ نَسَبهُ مثلُ نَسَبهم وجنسهُ مثل جنسهم، ﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ ؛ يعني القرآنَ، ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ ؛ أي يُطهِّرُهم من الدَّنسِ والكفرِ، فيجعلهم أزْكِيَاءَ بما يأْمُرهم به من التوحيدِ ويدعوهم إليه من طاعةِ، ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ ؛ أي القرآنَ والعلمَ، ﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ أي وقد كانوا قبلَ مجيئهِ إليهم بالقرآنِ لفِي ظلالٍ مبين، يعبُدون الأصنامَ ويَسْتَقْسِمُونَ بالأَزْلاَمِ.
وقوله تعالى ﴿ مِنْهُمْ ﴾ لأنَّهم إذا أسلَمُوا صاروا منهم، والمسلمون كلُّهم يدٌ واحدة وأُمَّةٌ واحدةٌ وإن اختلفَ أجناسُهم. وقوله تعالى :﴿ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ في الفَضْلِ والسَّابقةِ ؛ لأن التَّابعين لا يُدركون شأنَ الصحابةِ.
والأَسْفَارُ : جمعُ سِفْرٍ، وهو الكتابُ الكبير، شَبَّةَ اليهودَ إذ لم ينتفِعُوا بما في التَّوراةِ وهي دالَّةٌ على الإيمانِ بالحمار يحملُ كُتُبَ العلمِ، ولا يدري ما فيه، وليس حَمْلُ التوراةِ من الحملِ على الظَّهرِ، وإنما هو من الْحَمَالَةِ وهو الضَّمانُ والكفالةُ والقبول كما في قوله تعالى﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾[الأحزاب : ٧٢] أي يَقْبَلْنَهَا. فاليهودُ ضَمِنُوا العملَ بها ثم لم يفعَلُوا بما ضَمِنُوا وجَحَدُوا بعضَ ما حَمَلوا، فلذلك قِيْلَ :﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ يعني اليهودَ كذبُوا بالقرآنِ وبالتَّوراة حين لم يُؤمِنوا بمُحَمَّدٍ ﷺ، ﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بتكذيبهم الأنبياءَ.
كما رُوي في الحديثِ :" أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ لَهُمُ النَّبيُّ ﷺ :" قُولُوا : اللَّهُمَّ أمِتْنَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيْسَ أحَدٌ مِنْكُمْ يَقُولُ ذلِكَ إلاَّ غَصَّ بريقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ " فَكَرِهُوا ذلِكَ وَأبَوا أنْ يَقُولُوا "، وَعَرَفُوا أنَّهُ سَيَكُونُ ذلِكَ إنْ قَالُوا. فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ ﴾ ؛ أي لا يتَمنَّون ذلك بما قدَّمُوا من التكذيب بمُحَمَّدٍ ﷺ، والتحريفِ لصِفَتِه في التَّوراةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ ؛ إخبارٌ عن معلومِ الله فيهم، حذرَهم اللهُ بقولهِ :﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ﴾ ؛ أي قل يا مُحَمَّدُ لليهودِ : إنَّ الموتَ الذي تفِرُّون منه لأَنْ تَلْقَوْهُ فإنه نازلٌ بكم لا محالةَ عند انقضاءِ آجالكم، ﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ من خيرٍ أو شرٍّ.
والنداءُ المشروع لهذهِ الصَّلاة الأذانُ الثانِي يقولهُ المؤذِّنُ عند صعودِ الإمام المنبرَ، كما رُوي عن السَّائب بن يزيدٍ أنه قال (مَا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ إلاَّ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ يُؤَذِّنُ إذا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ يُقِيمُ إذا نَزَلَ، ثُمَّ أبُو بَكْرٍ كَذِلكَ، ثُمَّ عُمَرَ كَذلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي أيَّامِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ نِدَاءً غَيْرَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ يعني الذهابَ والمشيَ إلى الصَّلاةِ، والسَّعيُ : هو إجابةُ النِّداءِ في هذه الآيةِ، والمبادرةُ إلى الجمعةِ، وفي قراءةِ ابن مسعودٍ رضي لله عنه (فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللهِ) وكان يقولُ :(لَوْ أُمِرْتُ بالسَّعْيِ لَسَعَيْتُ حَتَّى سَقَطَ ردَائِي). وَقِيْلَ : السَّعيُ هنا هو العملُ إذا نُودِيَ للصَّلاة فاعمَلُوا على المعنَى إلى ذكرِ الله من التفرُّغِ له والاشتغالِ بالطَّهارة والغُسلِ والتوجُّه إليه بالقصدِ والنيَّة.
واختلفَ مشائخُنا : هل يجبُ على الإنسانِ الإسراعُ والعَدْوُ إذا خافَ فوتَ الجمُعة أم لاَ ؟ قال بعضُهم : يلزمهُ ذلك بظاهرِ النصِّ، بخلاف السَّعيِ إلى سائرِ الجماعات لا يؤمرُ به وإنْ خافَ الفوتَ. وقال بعضُهم : لا يلزمهُ ذلك، وليس السَّعيُ إلاّ العملُ كما قال تعالى﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ﴾[النجم : ٣٩]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :" إذا أتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَمَا أدْرَكْتُمْ فصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا "، وهذا عامٌّ في جميعِ الصَّلوات.
قال بعضُهم : فاسعَوا إلى ذكرِ اللهِ، يعني الصَّلاةَ مع الإمامِ، وذلك هو المرادُ بذكرِ الله. وقال بعضُهم : هي الخطبةُ لأنَّها تلِي النداءَ، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، فَإذا رَاحَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ أُجِيزَ بعَمَلِ مِائَتَي سَنَةٍ ".
وعن أبي ذرٍّ قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ، وَلَبسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيب بَيْتِهِ أوْ دُهْنِهُ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَزيَادَةَ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ بَعْدَهَا ".
وعن أنسٍ رضي الله عنه :" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ :" يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إنَّ هَذا يَوْماً جَعَلَهُ اللهُ عِيْداً لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا فِيْهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بالسِّوَاكِ " ".
وعن ابنِ عبَّاس قال :(لَمْ تُؤْمَرُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ بِطَلَب شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ وَحُضُورُ جَنَازَةٍ وَزيَارَةُ أخٍ فِي اللهِ تَعَالَى). وقال الحسنُ :( ﴿ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ يَعْنِي طَلَبَ الْعِلْمِ). والقولُ الأوَّلُ أظهرُ.
واختلفَ العلماءُ في موضعِ وجُوب الْجُمعةِ، وعلى مَن تجبُ، وكم يشتَرطُ له الجماعةُ ؟ فقال أبو حنيفةَ :(لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام :" لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ " وَلاَ تَصِحُّ فِي الْقُرَى، وَلاَ تُجِبُ عَلَى السَّوَادِ وَلَوْ قَرُبَتْ مِنَ الْمِصْرِ، إلاَّ إذا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بهِ).
وقال الشافعيُّ :(تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أهْلِ السَّوَادِ إذا سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنَ الْمِصْرِ، وَوَقْتُ اعْتِبَار سَمَاعِ الأَذانِ أنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صَيِّتاً، وَالأَصْوَاتُ هَادِئَةً وَالريِّحُ سَاكِنَةً).
وقال ابنُ عمرٍو وأبو هريرة وأنس :(تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى عَشْرَةِ أمْيَالٍ مِنَ الْمِصْرِ). وقال سعيدُ بن المسيَّب :(تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ دُونَ الْمَبيتِ). وقال الزهريُّ :(عَلَى سِتَّةِ أمْيَالٍ)، وقال ربيعةُ :(أرْبَعَةُ أمْيَالٍ)، وقال مالكُ :(ثَلاَثَةُ أمْيَالٍ).
وعندَ الشافعيِّ :(تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا أرْبَعُونَ رَجُلاً أحْرَاراً بَالِغِينَ، لاَ يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلاَ صَيْفاً إلاَّ ظَعْنَ حَاجَةٍ، فَإذا كَانَ كَذلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ. وَإنْ كَانَ أقَلَّ مِنْ ذلِكَ، وَكَانَ بقُرْبهَا مَوْضِعٌ تُقَامُ فِيْهِ الْجُمُعَةُ، فَعَلَيْهِمُ الْحُضُورُ فِيْهِ لِلْجُمُعَةِ إذا كَانُوا بحَيْثُ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ). وقال مالكُ :(إذا كَانَتِ الْقَرْيَةُ فِيهَا سُوقٌ وَمَسْجِدٌ وَجَبَ عَلَيهِمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ).
وأما أهلُ الوجوب، فتجبُ الجمُعة على كلِّ مسلمٍ إلاَّ على أربعة : عبدٌ ؛ أو مريض ؛ أو مسافرٌ ؛ أو امرأةٌ، فمَنِ استغنَى عنها بلهوٍ أو تجارةٍ استغنَى اللهُ عنه، واللهُ غنيٌّ حميد.
وأما العددُ الذين تنعقد بهم الجمعةُ، فقال الحسنُ :(تَنْعَقِدُ باثْنَيْنِ)، وقال أبو يوسف والليثُ بن سعد :(بثَلاَثَةٍ)، وقال أبو حنيفةََ ومحمَّد وسفيان :(بأَرْبَعَةٍ)، وقال ربيعةُ :(باثْنَي عَشَرَ)، وقال الشافعيُّ :(لاَ تَنْعَقِدُ إلاَّ بأَرْبَعِينَ).
فَقَدِمَ ذاتَ يَوْمِ جُمُعَةٍ - وَكَانَ قَبْلَ إسْلاَمِهِ - وَرَسُولُ اللهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَضَرَبَ الطَّبْلَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ ثَبَتُوا مَعَ النَّبيِّ ﷺ - وَقِيْلَ : بَقِيَ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً وَامْرَأةٌ - فَقَالَ ﷺ :" لَوْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أوَّلَهُمْ لاَلْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
وقولهُ تعالى ﴿ انفَضُّواْ إِلَيْهَا ﴾ أي تفَرَّقوا بالخروجِ إليها ﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ على المنبرِ تخطبُ. وفي هذا دليلٌ على وجوب استماعِ الْخُطبَةِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عاتبَهم على تركِ الاستماعِ، ولو لم يكن فَرضاً لم يُعاتَبوا على ذلك.
ويستدلُّ من هذه الآيةِ على أنَّ من السُّنة أن يَخطُبَ الإمامُ قَائماً. والكنايةُ في قولهِ تعالى :﴿ إِلَيْهَا ﴾ راجعةٌ إلى التِّجارةِ دونَ اللَّهوِ، وإنما خُصَّت التجارةُ برَدِّ الضميرِ إليها ؛ لأنَّها كانت أهمَّ إليهم لأنَّ السَّنة كانت سَنَةَ مجاعةٍ وغلاء سعرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾ ؛ معناهُ : ما عندَ اللهِ من ثواب الصَّلاة والثباتِ مع النبيِّ ﷺ خيرٌ من اللَّهوِ ومن التجارةِ، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ ؛ أي ليس يَفوتُهم من أرزاقِهم لتخلُّفهم عن الْمِيرَةِ شيءٌ، ولا بتَركِهم البيعَ في وقتِ الصَّلاة.