ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ قال أهل المعاني: إنما أعيد ذكر التسبيح في هذه السورة لاستفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبح له كما يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم، وإذا جل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به. والفائدة فيه تعظيم ما ينبغي أن يستفتح به على جهة التعظيم لله والتيمن بذكره. ومضى تفسير القدوس في آخر سورة الحشر.٢ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يعني العرب، قال المفسرون: كانت العرب أمة لا كتاب لهم، ولا يقرأون كتابًا ولا يكتبون (١).
قال ابن عباس: يريد الذين ليس لهم كتاب ولا بعث فيهم نبي (٢).
قال أبو إسحاق: الأميون الذين هم على ما خلقت عليه الأمة قبل تعلم الكتاب (٣)، وهذا مما سبق تفسيره (٤).
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٣.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٦٩.
(٤) عند تفسيره الآية (٧٨) من سورة البقرة. وانظر. "تهذيب اللغة" ١٥/ ٦٦٣ (أم)، و"اللسان" ١/ ١٠١ (أمم).
قال أهل المعاني: وكان هو -صلى الله عليه وسلم- أميًا مثل أولئك الأمة الذين بعث فيهم، وكانت البشارة به قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، وكانت حاله مشاكلة لحال الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه (٢).
قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ مفسر في سورة البقرة (٣).
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: ما كانوا من قبل بعثه فيهم إلا في ضلال بيِّن، وهو الشرك، كانوا يعبدون الأوثان من الحجارة.
٣ - قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ نسق على قوله: ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ المعنى: وبعث في آخرين منهم ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ قال المفسرون: يعني الأعاجم، وكل من دخل في الإسلام وصدق النبي من العجم. هذا قول ابن عباس، ومجاهد (٤).
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٣/ ٣٠.
(٣) عند تفسيره الآية (١٢٩) من سورة البقرة.
(٤) أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وغيرهم عن مجاهد. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٢، و"الدر" ٦/ ٢١٥، وفي "صحيح البخاري" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه سورة الجمعة =
وقول المفسرين: هم الأعاجم، يعنون بالأعاجم من ليس من العرب، والعرب تسمي من لا يتكلم بلغتهم عجميًا، من أي جنس كان، ومنه قول الشاعر:
سَلُّومُ لو أصبحتِ وسط الأعجمِ | بالروم أو بالترك أو بالديلم (٢) |
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من الأميين، وجعلهم منهم؛ لأنهم إذا أسلموا ودانوا بدينهم صاروا منهم، فالمسلمون كلهم يد واحدة وأمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم، قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٤ ب، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٤.
(٢) ورد غير منسوب في اللسان (عجم)، وعجزه:
في الروم أو فارس أو في الديلم
وذكر أبو إسحاق وجهًا آخر في إعراب ﴿وَآخَرِينَ﴾ وهو النصب بالعطف على الضمير في ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ على معنى: ويعلم (١) آخرين منهم (٢). وهذا كالسعيد (٣)؛ لأن الذين لم يلحقوا من شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يدركوه، إلا أن يحمل على أنهم إذا تعلموا ما أتى به فهو علمهم وإن لم يشاهدوه، وكل ما نعلمه من الدين فهو مما علمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-. (٤)
٤ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ قال ابن عباس: يريد حيث ألحق العجم وأبناءهم بقريش والعرب (٥). يعني أنهم إذا آمنوا ألحقوا
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٠، وانظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٥. و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤١٧.
(٣) كذا في (ك)، ولعل صوابها: (وهذا بعيد).
(٤) ذكر العلماء هذا الوجه للدلالة على جوازه مع تقديمهم لغيره وتعليلهم للجواز بنحو ما ذكر المؤلف. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب عطفًا على المنصوب في ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ أي: يعلمهم ويعلم آخرين، أن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندًا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه). "الكشاف" ٤/ ٩٦.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤.
وقال مقاتل: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ يعني الإسلام (٢) ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.
وقال مقاتل بن حيان (٣): يعني النبوة فضل الله يؤتيه من يشاء. فاختص بها محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (٤).
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ ذو المن العظيم على جميع خلقه.
ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة والإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا.
٥ - فقال قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ قال المفسرون: حملوا العمل بما فيها وكلفوا القيام بها (٥).
وقال صاحب النظم: ليس هو من العمل على الظهور، وإنما من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان، ومنه قيل للكفيل الحميل. والمعنى: ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها (٦). قال الأصمعي: الحميل الكفيل، وقال الكسائي: حملت به حمالة: كلفت به (٧).
قوله: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ جمع سفر، وهو الكتاب
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٤ ب.
(٣) في (ك): (وقال مقاتل).
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٤ ب، و"جامع البيان" ٢٨/ ٦٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٤.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣/ ٥.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٥/ ٩٢، و"اللسان" ١/ ٧٢٤ (حمل).
قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل.
وقال أهل المعاني: وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن: اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم. ثم تلا هذه الآية (٢).
﴿لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ﴾ لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما فسرنا فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون (٣) بها بالحمار يحمل كتبًا وليس له من ذلك إلا نقل الحمل من غير انتفاع بمعاني ما حمل، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم. ثم ذم هذا المثل والمراد به ذمهم فقال قوله تعالي: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ أي: بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا كما قال: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: ١٧٧] أي: مثل القوم الذين، فيكون المضاف محذوفًا، ويكون موضع ﴿الَّذِينَ﴾ رفعًا، ويجوز أن يكون موضع ﴿الَّذِينَ﴾ جرًا والمقصود بالذم محذوف (٤) كما كان محذوفًا من قوله تعالى: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤] ولم يذكر أيوب لتقدم ذكره،
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥.
(٣) في (ك): (يعلمون).
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٢٨، و"الكشاف" ٤/ ٩٦، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٦٧.
والمراد بآيات الله هاهنا قال ابن عباس، ومقاتل: بمحمد وما أتى به من القرآن (٢)، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات التوراة؛ لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (٣) وهذا القول أشبه هنا (٤).
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ قال عطاء: يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء (٥).
قال أبو إسحاق: معناه لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالمًا (٦).
٦ - قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾ الآية. والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة عند قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ الآيتان (٧).
٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ قال أبو إسحاق: دخلت الفاء في خبر إن، ولا يجوز إن زيدًا فمنطلق، لأن ﴿الَّذِي﴾ فيه معنى الشرط والجزاء (٨).
وقال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل من والذي وإلقاؤها جائز وهي في قراءة عبد الله (تفرون منه ملاقيكم)
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" ٦/ ٩٦، و"تفسير مقاتل" ١٥٤ ب، ولفظه: (يعني القرآن).
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥.
(٤) (ك): (هاهنا).
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧١.
(٧) عند تفسيره الآية (٩٤، ٩٥) من سورة البقرة.
(٨) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧١.
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه | ولو رام أسباب السماء بسلم (٤) |
(٢) عند تفسيره الآية (٢٧٤) من سورة البقرة.
(٣) انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٦٧، والبيت لزهير بن أبي سلمى، وهو في "ديوانه" بشرح ثعلب ص ٣٠، و"شرح القصائد العشر" ص ١٩٤، و"الخصائص" ٣/ ٣٢٤.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ، وهو قول مجاهد، والضحاك، والسائب بن يزيد.
انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩١، و"جامع البيان" ٢٨/ ٦٦، و"زاد المسير" ٨/ ٢٦١.
(٥) روى البخاري في كتاب: الجمعة، باب: المؤذن الواحد يوم الجمعة ٢/ ١٠، =
وروي عن سلمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سميت الجمعة لأن آدم عليه السلام جمع خلقه" (٣).
وقال بعضهم: سميت بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات (٤).
قال الفراء: وفيها ثلاث لغات (٥)، التخفيف، وهي قراءة الأعمش،
(١) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٧٠٨.
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٩٨.
(٣) أخرجه سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن سلمان. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتدري ما يوم الجمعة؟ قال الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات. ثم قال في الثالثة: هو اليوم الذي جُمع فيه أبوكم آدم.. الحديث. ولم يحلل تسميتها الجمعة بهذه العلة التي ذكرها المؤلف. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٢/ ١٧٤، رواه الطبراني في "الكبير"، وإسناده حسن، قال: وروى النسائي بعضه.
(٤) قال ابن كثير: إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمل جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من السنة التي خلق الله فيها السموات والأرض وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة. "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٥، وانظر: "اللسان" ١/ ٥٠٠ (جمع).
(٥) (لغات) ساقطة من (ك).
قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: فامضوا (٥).
وقال مقاتل: فامشوا (٦). وعلى هذا معنى السعي والذهاب في معنى واحد، لأنك تقول: فلان يسعى في الأرض يبتغي الرزق وليس هذا باشتداد، ويدل على هذا قراءة عمر، وابن مسعود (فامضوا إلى ذكر الله) (٧).
وقال ابن جريج: قلت لعطاء ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ قال: الذهاب والمشي (٨)، يقال: سعى إلى بني فلان وإنما هي مشي.
(٢) بنو عقيل.
(٣) لغة بني عقيل: (الجُمَعة) بفتح الميم. انظر: معاني الفراء ٣/ ١٥٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ١٥٦، و"الكشف" ١٣/ ١١٨ ب، ١١٩ أ.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٦، و"الكشاف" ٤/ ٩٧.
(٥) "تنوير المقباس" ٦/ ٧١.
(٦) لم أجده عن مقاتل، وإنما ذكره المفسرون لبيان المعنى دون نسبة لقائل، والذي في "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ، قال: (يقول فامضوا إلى الصلاة). وانظر: "التفسير الكبير" ٣/ ٨.
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩١، و"جامع البيان" ٢٨/ ٦٥، و"مجمع الزوائد" ٧/ ١٢٤، و"أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤٤٢، قال أبو حيان: وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين (فامضوا) بدل ﴿فَاسْعَوْا﴾ وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، ولا يكون قرآنًا لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون. "البحر المحيط" ٨/ ٢٦٨.
(٨) أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. "الدر" ٦/ ٢١٩.
وحمل قوم السعي هاهنا على العمل، قال محمد بن كعب: السعي العمل (٤) وهو مذهب مالك والشافعي، قال مالك: السعي في كتاب الله العمل والفعل، واحتج بقوله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: ٢٠٥]، وقوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: ٤] قال: فليس السعي الذي ذكر الله في كتابه بالسعي على الأقدام ولا بالاشتداد وإنما ذلك الفعل والعمل.
أخبرنا أحمد بن الحسن الحرشي (٥)، حدثنا محمد بن يعقوب (٦) أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: السعي في هذا الموضع هو العمل، وتلا قوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٩]. ويكون
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٢١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٤١، و"الدر" ٦/ ٢١٩.
(٣) أخرجه عبد بن حميد، والبيهقي في شعب الإيمان. "الدر" ٦/ ٢١٩، وانظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٢١ ب.
(٤) انظر: "الدر" ٦/ ٢١٩، ونسب تخريجه لابن المنذر وابن أبي شيبة. انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة.
(٥) هو أحمد بن الحسن الحرشي. كان رئيسًا محتشمًا. انتهى إليه علم الإسناد، فروى عن أبي الميداني، والأصم وطبقتهما، ولي قضاء نيسابور، وقد صم بآخره، حتى بقي إلا يسمع شيئًا، ووافق شيخه الأصم في الأصول والحديث. توفي سنة (٤٢١ هـ) وله ست وتسعون سنة. انطر: "شذرات الذهب" ٣/ ٢١٧، و"الكامل في التاريح" ٧/ ٣٥٢، و"العبر" ٢/ ٢٤٣.
(٦) هو أبو العباس الأصم.
وروى عمران بن الخياط (٣) أن إبراهيم كان يسعى يوم الجمعة، وهذا كأنه ليس بالوجه لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن آتوها وعليكم السكينة" (٤) فنهى عن السعي في الإتيان إلى الصلاة، فدل أن السعي المأمور به في الآية غير هذا الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-. غير أنه يحتمل أن يقال: صلاة الجمعة مخصوصة بجواز السعي إليها للآية، وغيرها من الصلاة تؤتى بالسكينة (٥)، والوجه الأقوال
(٢) أخرجه البيهقي في "سننه" وفيه: (خرجت إلى المسجد يوم الجمعة فلقيت أبا ذر... فجذبني جذبة فقال: أولسنا في سعي) "الدر" ٦/ ٢١٩، واقتصر المؤلف -رحمه الله- على ما ذكر لبيان من فسر السعي بالسرعة وإن عارضه غيره. والله أعلم.
(٣) هو عمران بن حطان بن ظبيان، يكنى أبا شهاب، تابعي مشهور، وكان من رؤوس الخوارج من الصفرية، ولما طال عمره وضعف عن الحرب اقتصر على التحريض والدعوة بشعره وبيانه، وكان شاعرًا مغلقًا مكثرًا. مات سنة (٨٤ هـ). انظر: "الإصابة" ٣/ ١٧٨، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٢٣٥، و"الأعلام" ٥/ ٧٠.
(٤) الحديث رواه البخاري في الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار ١/ ١٦٤، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة ١/ ٢٣٩ (٦٠٣)، وأحمد ٢/ ٥٣٢.
(٥) انظر: "روح المعاني" ٢٨/ ١٠٢.
وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي: سعى إذا مشى، وسعى إذا غدا، وسعى إذا عمل، وسعى إذا قصد. قال: وقول الله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أي اقصدوا (٢).
ومعنى ﴿ذِكْرِ اللَّهِ﴾ هاهنا الصلاة المفروضة في قول أكثر المفسرين (٣).
قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل البيع والشراء (٤).
قال أصحابنا: إذا جلس الإمام على المنبر يترك البيع لقوله: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ فمن باع في تلك الساعة فقد خالف الأمر وبيعه منعقد، لأن النهي عن البيع تنزيه لقوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فدل ذلك على الترغيب في ترك البيع في ذلك الوقت (٥)، ولا يحتاج إلى ذكر الشراء، لأنه بيع أيضًا، ولأنه
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٩١ (سعى).
(٣) ومراد المؤلف -رحمه الله- أن الذكر يشمل الصلاة والخطبة معًا، إذ خص بعض العلماء الذكر بالصلاة، والأكثرون فسروه بالخطبة فقط فجمع المؤلف بين القولين. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٥، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٢١ ب، و"زاد المسير" ٨/ ٢٦٥، و"المغني" ٣/ ١٧١/ ١٧٥، و"أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤٤٦.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٨، وهذا هو قول مجاهد، والزهري، وأحمد. انظر: "المغني" ٣/ ١٦٣، و"أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤٤٨.
(٥) انظر: "الأم" ١/ ١٧٣، و"زاد المحتاج بشرح المنهاج" ١/ ٣٣٧ - ٣٣٨، و"المجموع" ٤/ ٥٠٠، ويرى مالك أن يفسخ البيع، و"المدونة" ١/ ١٤٣.
١٠ - قوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: إذا صليتم الفريضة (١).
وقال مقاتل: فرغتم من الصلاة يوم الجمعة فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحته للانتشار بعد الأمر بالاجتماع للصلاة بالسعي إليها (٢).
قال ابن عباس: فإن شئت فأخرج وان شئت فصل العصر، وإن شئت فاقعد (٣) يعني إن هذا ليس بأمر حتم، كذلك قوله: ﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ﴾ إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾.
قال مقاتل: أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة فمن شاء خرج إلى تجارته ومن شاء لم يفعل (٤).
وقال مجاهد: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل (٥).
وقال الضحاك: هو إذن من الله إذا فرع إن شاء خرج وإن شاء قعد في المسجد (٦).
والأحسن في الابتغاء من فضل الله أنه طلب الرزق وذكر أوجه من طلب الولد، وطلب العلم، وعيادة المريض وحضور الجنازة، والظاهر هو
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٥، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥/ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٩.
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ١٥٧ عن مجاهد وعطاء. وانظر: "الدر المنثور" ٦/ ٢٢.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٦، و"الدر" ٦/ ٢٢.
وروى أن عراك بن مالك (٢) كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: "اللهم إني (٣) أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين" (٤).
وأجمع المفسرون على أن الأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة: ٢] وليس على كل من حل من إحرامه أن يصطاد، قال أبو إسحاق: هذا مثل قولك في الكلام: إذا حضرتني فلا تنطق (٥)، وإذا غبت عني فتكلم بما شئت، إنما معناه الإباحة (٦).
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال مقاتل: باللسان (٧)، وقال سعيد: واذكروا الله كثيرًا بالطاعة (٨).
وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين كثيرًا حتى يذكره قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا (٩).
(٢) هو عِرَاكُ بن مالك الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل. مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة. انظر: "العبر" ١/ ٩٢، و"التقريب" ٢/ ١٧.
(٣) (إني) ساقطة من (ك).
(٤) أخرج ابن أبي حاتم عنه، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٧.
(٥) في (ك): (تنطلق).
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٢.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ، و"التفسير الكبير" ٣/ ٩.
(٨) انظر: "التفسير الكبير" ٣/ ٩.
(٩) انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٧.
وقال الحسن: أصاب أهل المدينة جوع، وغلا سعرهم، فقدمت عير ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها وخرجوا إليها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم كما هو فقال: "لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب عليهم الوادي نارًا" (٣).
(٢) أخرجه مسلم في رواية هشيم. "فتح الباري" ٢/ ٤٢٤، والإمام أحمد في "المسند"، وروى العقيلي: أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وأناسًا من الأنصار، وعنده بسند متصل أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة، وبلال، وابن مسعود. "فتح الباري" ٢/ ٤٢٤.
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٤٩٤، ونسبه للمفسرين، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩٢، عن الحسن، و"جامع البيان" ٢٨/ ٦٧، عن الحسن. وقوله: (لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب علبهم الوادي نارًا) قال ابن حجر -رحمه الله- (فائدة: ذكر الحميد في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (...)، ولم أر هذه الزيادة في الأطراف لابن مسعود، ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة، وإنما وقعت في مرسلي الحسن وقتادة) "فتح البارى" ٢/ ٤٢٤ - ٤٢٥.
قوله تعالى: ﴿أَوْ لَهْوًا﴾ المفسرون على أنه الطبل الذي كان يضرب لقدوم الغير. وقال جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة قائمًا على المنبر، وكانوا إذا نكحوا الجواري يضربون المزامير والكبر (٢)، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا على المنبر (٣).
قوله تعالى: ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ أي تفرقوا عنك، كقوله: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩] قال المبرد: انفضوا إليها، الضمير للتجارة (٤).
وقال الزجاج، والمبرد: ولو كان انفضوا إليه وإليهما جاز كما جاز انفضوا إليها (٥)، لأن الشيئين إذا عطف أحدهما على الآخر ومعناهما واحد فاردد الخبر إليهما أو إلى أحدهما، أيهما شئت فإن الآخر داخل معه (٦).
(٢) الكّبَر: طبل له وجه واحد. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٢١٣، و"اللسان" ٣/ ٢١٢ (كبر).
(٣) وقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلاً، ووصله أبو عوانه في "صحيحه"، والطبري. وانظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٨، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٣.. قلت: ما صح عن جابر رضي الله عنه في سبب النزول وما ذكره المفسرون في المراد باللهو لا تعارض بينهما إذ تفسير جابر للمراد باللهو بأنه ضرب الطبل في النكاح لم يصرح فيه على ما رواه ابن جرير وغيره بأن ذلك كان في يوم الجمعة فلعله كان أثناء خطبته -صلى الله عليه وسلم- في غير الجمعة فحملت الآية على العموم، وربما تكررت الحادثة كما ذكر قتادة، والله أعلم. "فتح الباري" ٢/ ٤٢٤، وقال: ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معًا وأكثر ٢/ ٤٢٤.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٢.
(٦) انظر: "الكشاف" ٤/ ٩٩.
قوله تعالى: ﴿وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة، وهذا دليل على أن من (٣) أجاز القعود في الخطبة للجمعة.
قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب إلا وهو قائم فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه (٤)، وسئل عبد الله: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ فقرأ (وتركوك قائمًا) (٥)، ولذلك سئل ابن سيرين، وعلقمة، فقرأ هذه الآية (٦).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٧.
(٣) لعل الصواب: (وهذا دليل على من) بدون (أن).
(٤) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، وما فيهما من الجلسة، وأبو داود في باب: الخطبة قائمًا، من كتاب: الصلاة، وأحمد في "المسند" ٥/ ٨٧، والنسائي في باب: السكوت في القعدة بين الخطبتين، كتاب: الجمعة.
(٥) أخرجه ابن مردويه، وابن أبي شيبة، انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، وابن ماجه، والطبراني. "الدر" ٦/ ٢٢١، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٣/ ١٢٧ ب.
(٦) انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، عن ابن سيرين. "الدر" ٦/ ٢٢٢، وذكره البغوي فقال: (وقال علقمة: سئل عبد الله بن عمر..)، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٦.
وقال الشعبي: أول من خطب قاعدًا معاوية (٣).
قوله: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ قال مقاتل: يعني من الطبل والصفق ﴿وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ التي جاء بها دحية (٤).
قوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ المخلوق مرزوق فإذا غضب قطع رزقه، والله عز وجل يسخط ولا يقطع وهو أحكم الحاكمين.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة ٢/ ٥٩٠، وابن أبي شيبة ٢/ ١١٢.
(٣) رواه ابن أبي شيبة ٢/ ١١٢ من طريق الشعبي، أن معاوية إنما خطب قاعدًا لما كثر شحم بطنه ولحمه. وأخرج عن طاووس.. وأول من جلس على المنبر معاوية. وروى سعيد بن منصور عن الحسن:.. وأول من خطب جالسًا معاوية.
وانظر: "فتح الباري" ٢/ ٤٠١، و"الدر" ٦/ ٢٢٢
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ ب.