ﰡ
مدنية، إحدى عشرة آية، مائة وثمانون كلمة، سبعمائة وثمانية وأربعون حرفا
يُسَبِّحُ لِلَّهِ أي يذكر الله بالتنزيه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ما في جهة العلو والسفل من الخلق، الْمَلِكِ فكلهم تحت تصرفه وفي قبضة قدرته، الْقُدُّوسِ أي المنزه عما يخطر ببال أوليائه- كما نقل عن الغزالي- وقيل: أي المبارك أو الطاهر بلا ولد ولا شريك، الْعَزِيزِ أي الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به الْحَكِيمِ (١) أي الذي يضع الأشياء مواضعها وقد قرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ أي هو الذي أرسل إلى العرب رسولا من جملتهم، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو من جنسهم.
قال ابن عباس: المراد بالأميين الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ التي تبين رسالته، وتظهر نبوته مع كونه أميا مثلهم، لم يعتد منه قراءة، ولا تعلم، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي، وتكون حاله مشابهة لحال أمته الذين بعث فيهم، وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأقوال والأفعال، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي آيات القرآن، وَالْحِكْمَةَ أي وجه التمسك بها.
وقيل: الكتاب: هو الآيات نصا، والحكمة: ما أودع فيها من المعاني. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) أي والحال أنهم كانوا من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن لفي ضلال ظاهر، لأنهم كانوا عبدة الأصنام. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «وآخرين» معطوف على الأميين، ولما يلحقوا الآخرين، أي وبعثه إلى غير العرب من أي طائفة كانت، لم يلحقوا بالعرب الأول وهم كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المنصوب في «ويعلمهم» أي ويعلم آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم وهم كل من يعلم شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى آخر الزمان، فرسول الله معلمهم بالقوة، أي في المعنى والحكم لأنه أصل الخير والفضل، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الفقر إليه، وجعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته، ذلِكَ أي تفضيل رسول الله على غيره وإلحاق أبناء العجم الذين آمنوا وشاهدوا الرسول بقريش في درجة الفضل، فَضْلُ اللَّهِ وهو ما لم يكن مستحقا
وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن، ولم يعمل به، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس صفة القوم الذين كذبوا بالتوراة حين تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) لأنفسهم بتكذيب الأنبياء. قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي الذين تهودوا وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي إن قلتم أنكم أحباء لله من دون محمد وأصحابه فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم سريعا من دار البلية إلى دار الكرامة التي أعدها الله لأحبابه. وقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ جواب الشرط، والعامة بضم الواو. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها. وقرأ ابن السميقع أيضا بفتحها للتخفيف، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) في زعمكم فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها وطريقها الموت، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي ويأبون التمني للموت بسبب ما عملوا من الكفر وتحريف الآيات الموجب لدخول النار، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) أي بظلم الظالمين من تحريف الآيات وعنادهم لها، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ أي إن الموت الذي تخافون من أن تتمنوه بلسانكم بسبب ما قدمتموه تحريف الآيات وغيره ملاقيكم ألبتة، والفاء في فإنه لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. وقرأ زيد بن علي أنه بدون فاء، وفي قراءة ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» من غير «فإنه»، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فالله تعالى عالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم بما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) إما عيانا مقرونا بلقائكم يوم القيامة، أو بالجزاء إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي إذا نودي لوقت الصلاة من يوم الجمعة، فاذهبوا إلى الخطبة والصلاة، وَذَرُوا الْبَيْعَ أي اتركوا المعاملة، ذلِكُمْ أي الذهاب إلى ذكر الله وترك المعاملة خَيْرٌ لَكُمْ في الآخرة من التكسب في ذلك الوقت، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) أي إن كنتم أهل العلم فأنتم ترون ذلك خيرا فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي إذا أديت الصلاة فاخرجوا من المسجد إن شئتم لإقامة مصالحكم، واطلبوا الرزق إن شئتم، فهذه رخصة بعد النهي بقوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ.
وعن عراك بن مالك: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد قال:
قال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا.
وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتيتم السوق فقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة»
. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) أي كي تفوزوا بخير الدارين، أي لما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته، فجمعت الجماعات له، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة، وهي ما أنعم الله تعالى به عليهم من نعمة الوجود والعقل وغير ذلك مما لا يحصى، ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع،
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً وهو الطبل، أي وإذا سمعوا صوتا يدل على قدوم التجارة انْفَضُّوا إِلَيْها أي تفرقوا إلى التجارة. وقرئ «إليهما» وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر تخطب.
قال مقاتل: إن دحية بن خليفة الكلبي قبل أن يسلم أقبل بتجارة من الشام، وكان معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق، وكان ذلك في يوم الجمعة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر يخطب، فخرج الناس إليه وتركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق إلا اثنا عشر رجلا أو أقل، كثمانية أو أكثر كأربعين، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة» «١». ونزلت هذه الآية
وكان من الذين معه أبو بكر وعمر.
قال قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات. وقال مقاتل بن حبان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين فلما خرج الناس لقدوم دحية بتجارة وظنوا أنه ليس في ترك الخطبة شيء من الإثم أنزل الله تعالى هذه الآية فقدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الخطبة وأخر الصلاة. قُلْ يا أشرف الخلق للمؤمنين زجرا عن العود لمثل ذلك الفعل: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عند الله من ثواب الثبات مع النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١) أي أفضل المعطلين فمنه اطلبوا الرزق.