ﰡ
ويقال لها سورة داود، مكية، ست وثمانون آية، سبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، ثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفا
ص قيل: إنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد كقولنا: صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد. وقيل: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله تعالى، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) أي ذي الشرف، أو ذي البيان ففيه قصص الأولين والآخرين، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء قريش فِي عِزَّةٍ أي استكبار وامتناع من متابعة الغير وَشِقاقٍ (٢) أي إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف.
وقرئ «في غرة»، أي في غفلة عما يجب عليه التنبيه له من دواعي الإيمان. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ أي قريش مِنْ قَرْنٍ أي أمة ماضية، فَنادَوْا بالاستغاثة عند نزول عذاب لينجوا من ذلك، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) أي والحال أنه ليس الحين حين منجى وغوث، وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي وعجب قريش من أن جاءهم رسول من جنسهم، وأنكروه أشد الإنكار فقالوا: إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي؟! وَقالَ الْكافِرُونَ أي المتوغلون في الكفر: هذا أي محمد ساحِرٌ فيما يظهره من الخوارق، كَذَّابٌ (٤) فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد، إِنَّ هذا أي القول بالوحدانية لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)، أي بليغ في التعجب.
روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا، وشق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال، فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ماذا يسألونني؟ قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك» فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتم
قالوا نعم. فقال: «قولوا لا إله إلّا الله» «١». فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد إن هذا الشيء عجاب
. وقرئ «عجاب» بالتشديد. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي انطلق الرؤساء من قريش عتبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب، أَنِ امْشُوا.
وقرأ ابن أبي عبلة بحذف «أن»، أي قال بعضهم لبعض: اذهبوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) أي إن نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة محمد ليستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد، أو إن الصبر على عبادة الآلهة شيء يراد أن لا ننفك عنه، ما سَمِعْنا بِهذا أي التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، أي في ملة عيسى عليه السلام- كما قاله ابن عباس ومحمد بن كعب- أو في ملة قريش- كما قاله مجاهد- أي ما سمعناه عن أسلافنا القول بالتوحيد، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) أي
ما هذا الذي يقوله محمد إلا اختلاق من عند نفسه، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل على محمد القرآن، ونحن رؤساء الناس وأشرافهم، فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية؟! بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أي إنكار كفار مكة للقرآن ليس عن علم بل هم في شك منه، وسببه أنهم لم يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن، وآمنوا به وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) ؟ أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك من النبوة والكتاب فيعطونهما من شاءوا بمقتضى آرائهم. والمعنى: أن النبوة منصب عظيم عطية من الله تعالى، فالقادر على هبتها يجب أن يكون كامل القدرة عظيم الجود، فلم تتوقف هبته لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا، أو فقيرا، ولم يختلف ذلك بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه، فهو تعالى الغالب الذي لا يغلب، وهو الوهاب، فله أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ أي بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتحكموا في التدابير الإلهية التي ينفرد بها رب العزة، فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) أي إن كان لهم ذلك الملك فليصعدوا في طرق السموات التي يتوصل بها إلى العرش حتى يدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يختارون،
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)، و «جند» خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للتحقير، أو صفة له، و «هنالك» ظرف ل «مهزوم» و «مهزوم»، وصفة ثانية ل «جند»، و «من الأحزاب» صفة ثالثة ل «جند»، أي هم جند ضعيفون من المتحزبين على رسول الله سيصيرون منهزمين في
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك يا أكرم الرسل قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)، كان ينصب الخشب في الهواء، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا ويتركه في الهواء إلى أن يموت.
وقال مجاهد: كان يمد المعذب مستليقا بين أربعة أوتاد في الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. قال السدي: ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: إن عساكره كانوا كثيرين، وكانوا كثيري الأهبة، عظيمي النعم. وكانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام، فعرف بها. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الأشجار المجتمعة من قوم شعيب عليه السلام، أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) أي الذين تحزبوا على أنبيائهم عليهم السلام، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أي ما كل حزب منهم إلّا كذب الرسل كما كذبك قومك، فَحَقَّ عِقابِ (١٤) أي فوقع على كل منهم عقابي، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان، وقوم هود بالريح، وفرعون مع قومه بالغرق، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي وما ينتظر كفار مكة إن كذبوك إلا نفخة ثانية، ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) أي من توقف.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الفاء. وَقالُوا رَبَّنا بطريق الاستهزاء عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا من العذاب الذي توعدنا به، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه النفخة الثانية. وقيل: إنهم قالوا ذلك حين ذكر الله في كتابه فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله. فالمعنى: عجل لنا صحيفة أعمالنا قبل يوم الحساب لننظر ما فيها ولنعلمه. وقيل: لما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعد الله تعالى المؤمنين بالجنة فقالوا ذلك على سبيل السخرية. فالمعنى: عجل لنا نصيبنا من الجنة التي تقول في الدنيا، وذلك لأنهم كانوا في غاية الإنكار للقول بالنشر والحشر. ولما بلغوا في السفاهة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أمثال هذه المقالات الباطلة والوقف هنا تام. وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي ذا القوة على أداء الطاعة وعلى الاحتراز عن المعاصي، إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) أي رجاع في أموره كلها إلى طاعتنا، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) أي يقدسن الله تعالى بخلق الله تعالى فيها الكلام، فكان داود يسبح عقب صلاته عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، أي وسخرنا الطير محشورة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه
وقرئ و «الطير محشورة» بالرفع على الابتداء والخبرية. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود رجاع إلى التسبيح، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة، وَشَدَدْنا مُلْكَهُ بالهيبة، وكثرة الجنود.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله.
وعن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه، فقال داود: للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعى عليه، فتأخر داود وقال: هو منام، فأتاه الوحي بعد ذلك في اليقظة، فأحضر المدعى عليه وأعلمه ان الله أمره بقتله. فقال: صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب، فهذه الواقعة شدت ملكه.
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أي النبوة وكمال العلم وإتقان العمل، وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل،
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر خصمي داود، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)، أي إذا أتوا البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه من أعلاه، أي تصعدوا حائطه المرتفع، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ.
روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم، وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عند أقواما يمنعونه منهم، فخافوا، فوضعوا كذبا فقالوا: خصمان أي نحن فريقان إلى آخر القصة، فعلم عليه السلام غرضهم فهمّ بأن ينتقم منهم بَغى بَعْضُنا أي تطاول عَلى بَعْضٍ جئناك لتقضي بيننا، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالأمر الذي يطابق الحق وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر في الحكومة، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) أي دلنا إلى وسط طريق الحق، إِنَّ هذا أَخِي في الدين، أو في الصحبة، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أي أنثى من الضأن، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها، أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) أي غلبني في الكلام، بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده.
وقرئ و «عازني» أي غالبني. قالَ داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي والله لقد ظلمك أخوك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ أي ليعتدي بعضهم عَلى بَعْضٍ، فلم يراع حق الصحبة والشركة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم، فإنهم يتحامون على الظلم وَقَلِيلٌ ما هُمْ، أي وهم قليل، و «ما» مزيدة للتعجب من قلتهم. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ و «ما» كافة زائدة، أي وظن داود
السلام لجلالته، وعلى هذا فمعنى «وعزني في الخطاب»، أي غلبني في خطبة المرأة.
وقيل: كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها إذا أعجبته، وكان داود عليه السلام ما زاد على قوله لأوريا: انزل لي عن امرأتك، وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد، فأحبها ومال قلبه إليها، فسأل زوجها النزول عنها فاستحيا أن يرده عليه السلام، ففعل، فتزوجها، وهي أم سلمان، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين الناس، غير مخل بالمروءة، وعلى هذا فمعنى «أكفلنيها» : انزل لي عن تلك النعجة الواحدة، وأعطينها، فعوتب داود بشيئين:
أحدهما: خطبته على خطبة أخيه المؤمن.
والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وهذا وإن كان جائزا في الشريعة إلّا أنه لا يليق بجنابه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس بسبب أوريا، والمرأة وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه السلام مما نسب إليه من الكبائر، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى والله أعلم. وكان داود استغفر ربه منه وَخَرَّ راكِعاً، أي سقط داود للسجود مصليا فكأنه أحرم بركعتي استغفار، وَأَنابَ (٢٤) أي أقبل إلى الله تعالى بالتوبة.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب منه إلى رأسه، ولا يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى يكاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له- يقال له: ايشا- على ملكه، ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
قال الحسن: وكان داود عليه السلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله، وقام الليل كله.
وقال ثابت: كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسار، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى، أي لقربة في الدرجات بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) أي حسن مرجع في الجنة، يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ
أي نبيا ملكا على بني إسرائيل نافذ الحكم عليهم، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي بالعدل، لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقية الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه، ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي إلى هلاك الملك. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، وهو يوجب سوء العذاب، لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، وهو يمنع الاشتغال في طلب السعادات الروحانية، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الإيمان بالله، وعن طاعة الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) أي بنسيانهم يوم الحساب، أي بتركهم الإيمان بذلك اليوم وتركهم العمل لذلك اليوم، وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي عبثا جزافا بلا أمر ولا نهي. وهذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا للأعمال، لأنها حاصلة بين السماء والأرض، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها. وهذه الآية تدل أيضا على الحشر والنشر والقيامة. وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم، فإما أن يقال: إنه تعالى خلقهم لا للانتفاع ولا للإضرار، فهذا باطل، لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين أو للإضرار، فهذا باطل، لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، أو للانتفاع وذلك إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة فإن كان الانتفاع في حياة الدنيا فهو باطل، لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة، لا يليق بالحكمة، فثبت القول بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيوية، وذلك هو القول بالحشر والقيامة فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض، وما بينهما باطلا وإذا لم بكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر، لازما، وكل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض، وهذا هو المراد من قوله تعالى: ذلِكَ أي خلق ما ذكر لا لأجل الأمر والنهي، ولا لأجل الثواب والعقاب ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بأمر البعث والجزاء فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أي فشدة العذاب للذين كفروا بالبعث بعد الموت بسبب النار المترتبة على ظنهم أن لا بعث ولا حساب، وذلك نفي لحكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض وفي أمره تعالى ونهيه، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث والجزاء لاستواء الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا، بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين، ورد الآخرين إلى أسفل سافلين. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كعلي بن أبي طالب، وحمزة بن المطلب، وعبيدة بن الحرث
وقرئ «مباركا» على الحال اللازمة، لأن البركة لا تفارقه، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتفكروا في معانيها اللطيفة، وفي أسرارها العجيبة، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) أي وليتعظ به ذوو العقول السليمة، فإن من يتدبر ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ من المرأة التي أخذها من أوريا، نِعْمَ الْعَبْدُ أي سليمان إِنَّهُ أي سليمان أَوَّابٌ (٣٠) أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة، مقبل إلى طاعة الله
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ، أي بعد الظهر الصَّافِناتُ، أي الخيل التي تقوم على طرف سنبك يد أو رجل الْجِيادُ (٣١)، أي سراع الجري. وعن إبراهيم التيمي أنها عشرون ألف فرس. فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي إني ألزمت حب الخيل لأجل كتاب ربي وهو التوراة فإن معنى الخير هو المال الكثير. والمراد به هنا الخيل، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) أي استترت الصافنات عن النظر رُدُّوها أي الصافنات عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)، أي فردوها عليه، فأخذ سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها، وذلك أن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل، وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله عن ذكر ربي، ثم إنه عليه السلام أمر بتسييرها حتى غابت عن بصره، وهو معنى قوله: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه شرع يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، ولأنه أراد أن يظهر أنه يتضع حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، وأنه يضبط السياسة والملك، ولأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله فطاف عليهن، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت
. قال العلماء: والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه وهي محنته.
وقيل: إن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك، فأمر السحاب، فحمله، فكان يربيه في
السحاب، فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على الله.
وقيل: إنه أصابه مرض شديد فصار يجلس على كرسيه وهو مريض وفتنته هو مرضه، ولشدة المرض ألقاه الله على كرسيه والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ولما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي، فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم كيف يصعد عليه فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله، فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا، ومات بختنصر، وحمل الكرسي إلى بيت المقدس فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ثُمَّ أَنابَ (٣٤) أي رجع إلى حال الصحة أو تاب من خطئه، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي أي ما صدر عني من الزلة، وهو ترك الأفضل والأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصالحين هضما للنفس وإظهارا للذل والخشوع، وطلبا للترقي في المقامات، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي غيري بحيث لا يقدر أحد على معارضته ليكون معجزة لي، لأن المعجزة أن لا يقدر أحد على معارضتها فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) بالملك والنبوة لمن شئت، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ إياها رُخاءً أي لينة في أثناء سيرها، أما في أوله فهي عاصفة، حَيْثُ أَصابَ (٣٦) إلى أي موضع قصده وأراده وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون له ما شاء من الأبنية وهو بدل من الشياطين، وَغَوَّاصٍ (٣٧) في قعر البحر فيستخرجون اللؤلؤ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) أي مسلسلين في أغلال الحديد، وهم المردة من الشياطين الذين لا يبعثهم إلى عمل إلّا انقلبوا، هذا أي الملك عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) لكثرته. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعط من شئت وامنع من شئت، أي غير محاسب علي منك وإمساكك أي ليس عليك حرج فيما أعطيت، وفيما أمسكت من الأمر الذي أعطيناكه. وقيل: المعنى هذا أي تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فخل سبيلهم من الغل، أو احبس من شئت في الغل من غير أن تحاسب وتأثم بذلك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا في الآخرة لَزُلْفى أي قربى عظيمة وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) - وهو الجنة-
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ بن عيصن بن إسحاق عليه السلام، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ اسمه معيط بِنُصْبٍ أي بلاء وَعَذابٍ (٤١)، أي وسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة.
نعم، عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا، ولا يلتفت إليه. فقال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، فكان الشيطان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا فيقول: الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله تعالى. فقال الشيطان: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده فجاء إليه وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، وأخبره به فلم يلتفت إليه. فقال:
يا رب أيوب لا يبالي بولده فسلطني على جسده فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، فحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء، وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته ليا بنت يعقوب عليه السلام، وقال: إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، وحين كان الألم على الجسد لم يذكر أيوب شيئا، فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين، فتضرع، ومن الوساوس أن الشيطان كان يذكره النعم التي كانت، والآفات التي حصلت ومنها: أنه كان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع، فشق ذلك عليه عليه السلام فتضرع إلى الله تعالى وقال: إني مسني الشيطان بنصب وعذاب فإنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أكثر، فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه بقوله تعالى:
ارْكُضْ أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض، فضربها، فنبعت عين فقيل له: هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أي ماء تغتسل به فيبرأ ظاهرك وَشَرابٌ (٤٢)، أي وتشرب منه فيبرأ باطنك أي إن الله تعالى أظهر من تحت رجل أيوب عينا باردة طيبة، فاغتسل وشرب منها، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ورد عليه أهله وماله كما قال تعالى وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بإحيائهم بعد هلاكهم كما قاله الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل رَحْمَةً مِنَّا أي لأجل رحمة عظيمة عليه على سبيل الفضل منا، لا على سبيل اللزوم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣)، أي ولتذكير أصحاب العقول بحاله عليه السلام ليصبروا على الشدائد كما صبروا، ويلجئوا إلى الله تعالى كما لجأ ليظفروا كما ظفر، وَخُذْ بِيَدِكَ يا أيوب ضِغْثاً أي قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة مختلطة الرطب باليابس فَاضْرِبْ بِهِ، أي امرأتك رحمة بنت يوسف الصديق. لأنه قد حلف ليضربنها مائة ضربة، لأنه لقيها إبليس في صورة طبيب فدعته إلى مداواة أيوب فقال: أداويه على أنه إذا برىء قالت: أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت: نعم، فأشارت على أيوب بذلك، فحلف ليضربنها وقال: ويحك ذلك الشيطان كذا حكاه ابن عباس. وَلا تَحْنَثْ أي لا تأثم في يمينك بترك ضربها، ولقد شرع الله تعالى هذه الرخصة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، فيما أصابه في النفس والأهل والمال، وليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك الصبر، فإنه يسمى جزعا كتمني العافية، وطلب الشفاء على
وقرأ ابن كثير «عبدنا» على التوحيد إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)، أي إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة، وهي استغراقهم في ذكر الدار الآخرة حتى نسوا الدنيا، وقرأ نافع وهشام بإضافة خالصة، أي إنا اختصصناهم بإخلاصهم ذكر الآخرة وتناسيهم عند ذكرها ذكر الدنيا، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) أي لمن المختارين من أبناء جنسهم المستعلين عليهم في الخير، وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ بن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبئ وهو ابن عم إلياس واللام زائدة. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء وَذَا الْكِفْلِ وهو ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب وَكُلٌّ أي كل المتقدمين من داود إلى هنا مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) أي وكلهم من المشهورين بالخيرية وهم أنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى، هذا أي ما تقدم من ذكر محاسنهم ذِكْرٌ أي شرف لهم وثناء جميل في الدنيا، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) أي مرجع في الآخرة جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) منها، ف «جنات» عطف بيان و «مفتحة» حال منها، وقرئتا مرفوعتين هي جنات عدن مفتحة،
مُتَّكِئِينَ فِيها أي جالسين على السرر في الحجال ناعمين في الجنة، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)، أي يسألون في الجنة بألوان الفاكهة وألوان الشراب، وَعِنْدَهُمْ في الجنة قاصِراتُ الطَّرْفِ أي جوار حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أَتْرابٌ (٥٢) أي مستويات في السن والحسن، هذا أي المذكور ما تُوعَدُونَ في الدنيا لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) أي لأجل وقوعه في يوم القيامة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة، إِنَّ هذا أي ما ذكر من ألوان النعم لَرِزْقُنا أعطيناكموه ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)، أي فناء هذا أي الأمر هذا المذكور وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ أي للكافرين لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) أي مرجع في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) أي المفرش هذا أي عذاب جهنم، فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) فالحميم ماء حار يحرقهم بحره والغساق ماء بارد منتن يحرقهم ببرده.
المذوق أجناس.
وقرأ أبو عمرو و «أخر» بضم الهمزة، أي ومذوقات أخر من مثل هذا المذوق في الشدة والفظاعة أنواع مختلفة و «آخر» مبتدأ و «أزواج» خبره قال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم إذا دخلوا النار، هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي هذا جمع كثيف قد دخل معكم النار كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال فقال هؤلاء الرؤساء: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا اتسعت منازلهم في النار إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)، أي داخلون فيها كما دخلنا فيها. قالُوا أي الأتباع عند سماعهم ما قيل في حقهم خطابا بالرؤساء: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا وسع الله عليكم في منازلكم في النار، أي أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي أنتم قدمتم الطغيان الذي هذا العذاب جزاؤه فاقتدينا بكم فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) أي بئس المسكن لنا ولكم جهنم.
قالُوا أي الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله تعالى: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)، أي يا ربنا من شرع لنا هذا الطغيان من الرؤساء فزده عذابا مضاعفا في النار.
قال ابن مسعود: والمراد بالضعف الحيات والأفاعي وَقالُوا أي الطاعون: ما لَنا لا نَرى رِجالًا من فقراء المؤمنين، كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أي يقول أبو جهل: ما لنا لا نرى في النار عمارا وبلالا، وصهيبا وخبابا كنا نعدهم من السفلة أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا.
قرأه نافع بضم السين أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣). وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع، وعاصم وابن عامر «أتخذناهم» بقطع الهمزة على الاستفهام للتوبيخ والتعجب فيوقف على الأشرار وهو كاف والمعنى: الأجل إنا قد اتخذناهم سخريا في الدنيا، فأخطأنا، فلم يدخلوا النار، فلذلك لا نراهم أم لأجل أنه زاغت عنهم أبصارنا ولم نعلم مكانهم وهم فيها.
وقرأ ابن كثير والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي «اتخذناهم» بوصل الهمزة فلا يوقف على الأشرار، لأن اتخذناهم صفة أخرى لرجالا. والمعنى: ما لنا لا نرى في النار رجالا سخرناهم وحقرناهم في الدنيا بل مالت أبصارنا عنهم فلا نعدهم شيئا إِنَّ ذلِكَ أي الذي حكيناه عنهم لَحَقٌّ، أي واجب وقوعه فلا بد وأن يتكلموا به تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)، أي وهو كلام أهل النار في النار بخصومة بعضهم مع بعض.
وقرئ «تخاصم» بالنصب على أنه بدل من ذلك. قُلْ يا أفضل الخلق لكفار مكة:
إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي مخوف بعذاب الله لمن عصى، وَما مِنْ إِلهٍ موجود إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً أي آدم مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي جمعت أجزاء بدنه وصورته بالصورة الإنسانية، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أفضت عليه الروح، وهي عرض صار البدن بوجودها حيا وهي جوهر يسري في البدن سريان الضوء في الفضاء، وسريان النار في الفحم، فَقَعُوا لَهُ أي اسقطوا له ساجِدِينَ (٧٢) تحية له وتكريما، فخلقه إنسانا فسواه فجعل الروح فيه، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) أي فسجد الملائكة كلهم بطريق المعية لآدم بحيث لم يبق منهم أحد إلّا سجد له، ولم يتأخر في ذلك السجود أحد منهم عن أحد، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم عن السجود لآدم، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) أي وصار إبليس من الكافرين بإبائه عن أمر الله بعد أن كان مسلما عابدا فإنه عبد الله ثمانين ألف عام.
قالَ الله له: يا إِبْلِيسُ أي يا خبيث ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي لما خلقته بقدرتي، وإرادتي من غير توسط أب وأم، أَسْتَكْبَرْتَ أي أتكبرت عن السجود لآدم من غير استحقاق، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) أي من المستحقين للتفوق؟ قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) والنار أفضل من الطين، لأن النار تأكل الطين فلذلك لم أسجد له. قالَ الله له: فَاخْرُجْ مِنْها أي من الخلقة التي كنت عليها فإنه كان يفتخر بخلقته، فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) أي مطرود من كل خير وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي أي سخطي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) أي يوم الحساب. قالَ إبليس:
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) من القبور، أي إذا جعلتني رجيما فلا تمتني إلى يوم يبعث آدم وذريته من القبور للجزاء بعد فنائهم، وأراد الخبيث بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم وأن لا يذوق الموت.
قالَ الله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) الذي قدره الله وعينه لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول. قالَ إبليس:
فَبِعِزَّتِكَ أي فاقسم بعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢)، أي لأضلن ذرية آدم عن دينك بتزيين المعاصي لهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) أي المعصومين من الغواية، أو المخلصين قلوبهم وأعمالهم لله. قالَ الله: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤).
وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ، ومن جنسك من الشياطين، وَمِمَّنْ تَبِعَكَ في الغواية مِنْهُمْ أي من ذرية آدم أَجْمَعِينَ (٨٥) تأكيدا للكاف و «ما» عطف عليه. قُلْ يا أشرف الرسل: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على هذه الدعوة مِنْ أَجْرٍ أي دنيوي وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) أي الحاملين للمشقة في الشريعة على الناس، أي إن هذا الذي أدعوكم إليه دين لا يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد العقل بصحته، فإني أدعوكم أولا إلى الإقرار بوجود الله، ثم أدعوكم ثانيا إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به تعالى، ثم أدعوكم ثالثا إلى الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم رابعا إلى الإقرار بكونه تعالى منزها عن الشركاء، ثم أدعوكم خامسا إلى الامتناع عن عبادة الأوثان، ثم أدعوكم سادسا إلى تعظيم الملائكة والأنبياء، ثم أدعوكم سابعا إلى الإقرار بالبعث والقيامة، ثم أدعوكم ثامنا إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
فهذه الأصول الثمانية هي الأصول المعتبرة في دين الله تعالى، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعوا الخلق إليها، بل كل عقل سليم يشهد بصحتها وبعدها عن الفساد. وهو المراد من قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) أي ما هذا القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين كافة، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨) أي إنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البينات التي ذكرناها في القرآن فستعلمون بعد الموت أنكم كنتم مصيبين في إعراضكم عنه أو مخطئين.