تفسير سورة ص

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة ص : في السورة حكاية لمواقف الكفار ومعارضتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وحمله عليهم. وتذكير لهم بأمثالهم. وفيها سلسلة متعددة الحلقات في قصص الأنبياء دون أقوامهم في معرض التسلية والتذكير والتنويه. وفيها قصة آدم والملائكة وإبليس. وقد تخللها مواعظ وتلقينات بليغة وتقريرات عن مهمة النبي عليه السلام وعموم رسالته.
وفصول السورة وآياتها مترابطة منسجمة ومتوازنة، مما يدل على وحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وفيها قرائن على صحة ترتيب نزولها وبخاصة بعد سورتي القمر وق.

( ١ ) ذي الذكر : الذي فيه التذكير والذكرى أو ذي الشأن والرفعة.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ ص والقرآن ذي الذكر١ ﴾ : قال بعض المفسرين في حرف [ ص ] : إنه بسبيل وصف صدق النبي، وقال بعضهم : من المصادة أو الصد وقال بعضهم : إنه من أسماء الله الحسنى. وقال بعضهم : إنه حرف من نوع الحروف المنفردة التي بدأت بها السور الأخرى للاسترعاء. وهو ما نراه الأوجه، قد أعقبه قسم بالقرآن، وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني في معظم مطالع السور المماثلة. أما جواب القسم فقد تعددت فيه الأقوال. فقيل : إنه الآية الثانية. وقيل : إنه الآية الثالثة. وقيل إنه محذوف تقديره ( إن ما يتلى هو صدق وحق ) وعلى كل حال فالعبارة واضحة بأن القسم في معرض توكيد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وكذب الكفار وقبح موقف الاستكبار الذي يقفونه.
والآيات تحكي موقف زعماء الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وما بدا منهم من استكبار عنها واستغراب للدعوة إلى وحدة الإله بخاصة واختصاص النبي عليه السلام من دونهم بالوحي، ونعتهم إياه بالسحر والكذب والاختلاق وتوصيتهم الناس بالثبات على عقائدهم التي ورثوها عن الآباء، وتندد بهم وتذكرهم بالأقوام السابقين الكثيرين الذين أهلكهم الله فنادوا واستغاثوا فلم يكن لهم مهرب ولا مغيث. وتتحداهم بأسلوب استنكاري ساخر إذا كان عندهم خزائن رحمة الله حتى يكونوا مطمئنين، أو إذا كان لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما حتى يستطيعوا أن ينجو من عذاب الله وتنذرهم بالهزيمة في النهاية.
وهي قوية نافذة في ردها وإنذارها وتنديدها وتحديها، وقد روى المفسرون : أن الآيات نزلت بمناسبة مراجعة رهط من زعماء قريش لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم له : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول : فلو بعثت إليه ؟ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فجلس، فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. وأكثروا عليه القول وتكلم رسول الله فقال : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله فقالوا : كلمة واحدة ؟ نعم وأبيك عشرا. فقالوا : وما هي ؟ قال :( لا إله إلا الله ) فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : أجعل الآلهة إلها واحدا ! إن هذا لشيء عجاب. فنزلت الآيات. وهذه الرواية ونصها ورد في سياق تفسير الآيات في تفسير ابن كثير عزوا إلى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير، والمفسرون الآخرون يشيرون إلى نزولها في هذه المناسبة مع بعض التغاير، وعلى كل حال فإن مضمون الآيات يلهم أنها نزلت في مناسبة مشهد من مشاهد الجدل والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض زعماء الكفار.
ولقد انطوى فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى، منها تقبيح الممارة في الحق اندفاعا وراء الهوى واعتدادا بالنفس وتعمدا للشقاق والمعارضة، ومنها تقبيح التمسك بالتقاليد الموروثة على علاتها، ومنها إيجاب مقابلة كل فكرة أو دعوة جديدة بالتدبر والتروي واتباع ما يكون فيه حق وخير وصلاح مهما كان مغايرا للقديم.
في عزة : في اعتزاز واستكبار. شقاق : خلاف أو مشاقة وعناد ومعارضة.
قرن : بمعنى قوم أو جيل من الناس.
لات حين مناص : لا مهرب حينئذ ولا مخلص.
عجاب : بليغ في العجب، أو في إثارة العجب.
الملأ : الزعماء ووجهاء القوم.
أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد : قيل إن معناها أنه يراد بالدعوة النبوية مصلحة غير مصلحتنا وتحويلنا عن آلهتنا فانصرفوا عنها وتمسكوا بآلهتكم. وقيل : إن معناها أن الصبر على آلهتكم والتمسك بها هو الشيء المطلوب منكم، والمعنى الثاني هو الأوجه المتسق مع العبارة.
الملة الآخرة : أوجه الأقوال فيها أنهم أرادوا الملة التي أدركوا عليها آباءهم.
والمعنى المنطوي في جملة ﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾ تكرر في آيات أخرى بأسلوب آخر ؛ حيث حكت إحدى آيات سورة فاطر أن من المشركين من كان يحلف أنهم إذا ما جاءهم نذير منهم يتبعونه حتى يكونوا أهدى من الأمم الأخرى، ثم استكبروا لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا كما ترى في هذه الآيات :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا٤٢ استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ﴾ [ فاطر : ٤٢-٤٣ ] وحيث حكت آيات في سورة الزخرف قولهم : إن القرآن كان يجب أن ينزل على أحد زعماء مكة أو الطائف واستكبارهم لما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم كما ترى في هذه الآيات :﴿ ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون٣٠ وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ﴾ [ الزخرف : ٣٠-٣٢ ] وحيث يبدو أن اختصاص النبي بالوحي ولم يكن من الزعماء والأغنياء كان من العوامل الهامة في حمل الزعماء، أو بعضهم على الأقل على مناوأته والصد عن دعوته.
الأسباب : هنا بمعنى وسائل، العروج : والصعود إلى السماء. والآية في مقام التحدي للكفار، فإن كان لهم ملك السماوات والأرض فليصعدوا إلى السماء.
جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب : جند هنا بمعنى فريق، وفي الآية توكيد بهزيمة فريق من الأحزاب، والمقصود حزب المكذبين.
ذو الأوتاد : الراجح أن المقصود منها الأهرام التي كانت كالجبل. والقرآن استعمل الكلمة في معنى الجبال، ومن ذلك آية في سورة النبأ :﴿ والجبال أوتادا ﴾.
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ﴾ : الآيات متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتذكير وإنذار كما هو واضح ؛ حيث ذكرت بعض الأقوام الذين أشارت الآيات السابقة إشارة خاطفة إليهم، وكيف أن الله أهلكهم دون أن يجدوا مغيثا ولا مهربا، وقررت أن كل من كذب في السابق استحق عذاب الله، وأن مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم لن يلبثوا حتى تأخذهم الصيحة التي لا فواق لهم بعدها ولا رجوع.
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد١( ١٢ ) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب( ١٣ ) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب( ١٤ ) وما ينظر٢ هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق٣( ١٥ ) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب( ١٦ ) ﴾ [ ١٢-١٦ ].
الآيات متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتذكير وإنذار كما هو واضح ؛ حيث ذكرت بعض الأقوام الذين أشارت الآيات السابقة إشارة خاطفة إليهم، وكيف أن الله أهلكهم دون أن يجدوا مغيثا ولا مهربا، وقررت أن كل من كذب في السابق استحق عذاب الله، وأن مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم لن يلبثوا حتى تأخذهم الصيحة التي لا فواق لهم بعدها ولا رجوع. أما الآية الأخيرة فقد حكت قولا ساخراً من أقوالهم، فيه استخفاف وتحدّ، جوابا على ما ينذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب، فطلبوا من الله أن يعجل بعذابهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه صورة جديدة من مواقفهم تكررت منهم وتكررت حكايتها عنهم في القرآن كما جاء في آية سورة الرعد هذه :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب٦ ﴾ وفي آية سورة الحج هذه ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون٤٧ ﴾.
ومع هذا التأويل للآية الذي قال به غير واحد من المفسرين، فهناك من أولّها : بأنها حكاية لطلبهم جميع حظوظهم وما يبشرون به من الجنة الأخروية في الدنيا وحسب بأسلوب السخرية والتحدي، من حيث إنهم يجحدون الحياة الأخروية١. ولا يخلو هذا التأويل من وجاهة أيضا.
والأقوام المذكورون في الآيات قد ذكروا في السور السابقة ذكرا عابرا حينا وبشيء من البيان حينا، والأسلوب هنا كما هو في السابق أسلوب إنذار وتذكير، وهو الهدف الجوهري في القصص القرآنية على ما قررناه في المناسبات السابقة، التي ذكرنا فيها ما اقتضاه المقام من تعريف وبيان. وليس في ما جاء عنهم هنا ما يتحمل تعليقا جديدا.
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد١( ١٢ ) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب( ١٣ ) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب( ١٤ ) وما ينظر٢ هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق٣( ١٥ ) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب( ١٦ ) ﴾ [ ١٢-١٦ ].
الآيات متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتذكير وإنذار كما هو واضح ؛ حيث ذكرت بعض الأقوام الذين أشارت الآيات السابقة إشارة خاطفة إليهم، وكيف أن الله أهلكهم دون أن يجدوا مغيثا ولا مهربا، وقررت أن كل من كذب في السابق استحق عذاب الله، وأن مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم لن يلبثوا حتى تأخذهم الصيحة التي لا فواق لهم بعدها ولا رجوع. أما الآية الأخيرة فقد حكت قولا ساخراً من أقوالهم، فيه استخفاف وتحدّ، جوابا على ما ينذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب، فطلبوا من الله أن يعجل بعذابهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه صورة جديدة من مواقفهم تكررت منهم وتكررت حكايتها عنهم في القرآن كما جاء في آية سورة الرعد هذه :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب٦ ﴾ وفي آية سورة الحج هذه ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون٤٧ ﴾.
ومع هذا التأويل للآية الذي قال به غير واحد من المفسرين، فهناك من أولّها : بأنها حكاية لطلبهم جميع حظوظهم وما يبشرون به من الجنة الأخروية في الدنيا وحسب بأسلوب السخرية والتحدي، من حيث إنهم يجحدون الحياة الأخروية١. ولا يخلو هذا التأويل من وجاهة أيضا.
والأقوام المذكورون في الآيات قد ذكروا في السور السابقة ذكرا عابرا حينا وبشيء من البيان حينا، والأسلوب هنا كما هو في السابق أسلوب إنذار وتذكير، وهو الهدف الجوهري في القصص القرآنية على ما قررناه في المناسبات السابقة، التي ذكرنا فيها ما اقتضاه المقام من تعريف وبيان. وليس في ما جاء عنهم هنا ما يتحمل تعليقا جديدا.
ينظر : ينتظر.
فواق : رجوع.
ولقد روى الطبري في سياق الآية حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو هريرة أن الصيحة تعني : النفخ بالصور. وقد أوردنا هذا الحديث في سياق تفسير سورة المدثر، وعلّقنا عليه بما فيه الكفاية فنكتفي بهذه الإشارة.
قطنا : قسطنا ونصيبنا.
أما الآية الأخيرة فقد حكت قولا ساخراً من أقوالهم، فيه استخفاف وتحدّ، جوابا على ما ينذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب، فطلبوا من الله أن يعجل بعذابهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه صورة جديدة من مواقفهم تكررت منهم وتكررت حكايتها عنهم في القرآن كما جاء في آية سورة الرعد هذه :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب٦ ﴾ وفي آية سورة الحج هذه ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون٤٧ ﴾.
ومع هذا التأويل للآية الذي قال به غير واحد من المفسرين، فهناك من أولّها : بأنها حكاية لطلبهم جميع حظوظهم وما يبشرون به من الجنة الأخروية في الدنيا وحسب بأسلوب السخرية والتحدي، من حيث إنهم يجحدون الحياة الأخروية. ولا يخلو هذا التأويل من وجاهة أيضا.
والأقوام المذكورون في الآيات قد ذكروا في السور السابقة ذكرا عابرا حينا وبشيء من البيان حينا، والأسلوب هنا كما هو في السابق أسلوب إنذار وتذكير، وهو الهدف الجوهري في القصص القرآنية على ما قررناه في المناسبات السابقة، التي ذكرنا فيها ما اقتضاه المقام من تعريف وبيان. وليس في ما جاء عنهم هنا ما يتحمل تعليقا جديدا.
ذا الأيد : ذا القوة.
وجّه الخطاب في أول هذه الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم تأمره بتحمل ما يقول الكفار والصبر عليه، وبذكر عبد الله داود الذي آتاه الله القوة والملك والحكمة وفصّل الخطاب وسخّر له الجبال والطير يسبّحن معه، وكلٌّ طائع منقاد له وهو مع ذلك أوّاب مطيع لله عز وجل. ثم قصت قصة الخصم الذي دخل على داود من فوق السور ليتقاضوا عنده في قضية فيها امتحان رباني لداود وعقّبت عليها بتعقيبات واضحة العبارة لا تحتاج إلى بيان آخر.
في صدد ما جاء في الآيتين [ ١٨ و ١٩ ] اللتين ذكر فيهما تسخير الجبال وحشر الطير لداود عليه السلام وتسبيحهن معه نقول : إن ذكر ذلك قد تكرر مرة ثانية في سورة سبأ بصيغة تختلف قليلا وهي :﴿ ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوّبي معه والطير وألنا له الحديد١٠ ﴾ وإن أكثر المفسرين اكتفوا بالقول : إن الله قد سخر الجبال وحشر الطير لداود يسبحن معه أو يرجعن تسبيحه.
كل له أوّاب : كل مسبّح معه منقاد ومطيع له.
وأولوا جملة ﴿ أوبي معه ﴾ بمعنى سبحي معه أو رجعي تسبيحه، وبعضهم زاد فقال : إن الله خلق فيها حياة ونطقا ومما قاله الطبري كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير. ومما قاله ابن كثير : إن الله منح داود عليه السلام صوتا عظيما، فكان يسبح به عند شروق الشمس وغروبها فتسبح معه الجبال الراسيات وتقف له الطيور السارحات الغاديات الرائحات وتجاوبه مسبحة معه بأنواع اللغات، ومما قاله القاسمي : إنه كان لصوت داود الحسن دويّ في الجبال وحنين من الطيور إليه وترجيع، ومع ما في كلام المفسرين من وجاهة فإن ظاهر الآيات يدل على أن ذلك امتياز خص الله سبحانه به داود عليه السلام.
ومن الجدير بالذكر أن تسبيح الجبال والطير مع داود وتسخيرهما لم يرد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي روت سيرة داود بشيء من الإسهاب على ما ذكرناه قبل. وهذا لا ينفي أن يكون ذلك واردا في أسفار وقراطيس كان اليهود يتداولونها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم فقدت. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه أهل الكتاب ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. وفي كتب التفسير بيانات مروية عن علماء الصدر الإسلامي الأول تدور في نطاق ما جاء في الآيات ؛ حيث يمكن أن يدل هذا على أن ما جاء في القرآن كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وليس لذلك مصدر إلا الكتابيون وأسفارهم.
ولقد جاء في سيرة داود في سفر الملوك الأول المسمى في النسخة البروتستانتية بصموئيل الأول من الأسفار المتداولة اليوم : أن داود كان يحسن الضرب على الكنارة كما وصف داود في بعض المزامير المنسوبة إليه وهو المزمور بإمام الغناء عبد الرب داود، مما يمكن أن يستأنس به على ذلك.
والمتبادر أن الهدف الذي استهدفه القرآن من ذكر ذلك هو تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما ذكرناه في مطلع الكلام.

فصل الخطاب : بمعنى القول الفصل المصيب أو القضاء العادل المصيب.

الخصم : المتخاصمون أو المتنازعون في قضية.
تسوروا : صعدوا من على السور.
المحراب : مكان الاعتكاف والعبادة. ومما قيل : إن معنى الكلمة المكان الذي يحارب دونه لعزّته أو قداسته.
لا تشطط : لا تبتعد ولا تنحرف عن الحق.
أكفلنيها : ضعها تحت يدي أو تحت كفالتي، والمقصود تخل لي عنها.
عزني : شدد علي وغلبني.
سؤال : هنا بمعنى طلب.
الخلطاء : الشركاء.
ظن : هنا بمعنى أدرك وتيقن.
فتناه : امتحناه.
زلفى : مكانة أو قربى.
حسن مآب : حسن مقام ومرجع.
تعليق على ما احتوته الآية
﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ﴾ إلخ من تلقين وما ورد في صدد ذلك من أحاديث، والخطاب في الآية [ ٢٦ ] وإن كان موجها إلى داود عليه السلام، فإن فيه بطبيعة الحال خطابا عاما لأولي الحكم والأمر في الناس بوجوب الحكم بالحق وعدم الزيغ مع الهوى ؛ لما في الزيغ من مجانبة الحق والعدل، ثم من ضلال عن سبيل الله. ولما في صدور ذلك من هذه الطبقة خاصة من ضرر مضاعف وإثم مشدد وخطر أوكد على مصالح الناس. فهم بمثابة خلفاء الله في أرضه وعباده، وعليهم أن يرعوا حقوق الله وحدوده فيهم.
ولقد ورد في إحدى آيات سورة الممتحنة ما يفيد أن شرط الطاعة لرسول الله أن يكون أمره فيما هو معروف أنه خير وصلاح كما ترى في هذا النص :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] وفي إحدى آيات سورة الأنفال أمر للمؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا ما دعاهم لما يحييهم :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم... ﴾ [ ٢٤ ]. ورسول الله لا يمكن أن يأمر إلا بما هو خير ولا يدعو إلا إلى ما فيه حياة ؛ حيث يبدو في الأوامر القرآنية قصد تعليم وتقرير مبدأ الأمر والطاعة بين أولي الأمر والرعية، وهو واجب الطاعة والاستجابة لأولي الأمر في كل ما فيه معروف وحياة بصورة عامة وحسب، وهو ما عبر عنه بالقاعدة المشهورة [ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ] وما ورد فيه حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ). مع التنبيه على أن المتبادر والمستلهم من الحديث أن يكون ذلك واضحا مشهورا لا غموض فيه بالنسبة للجمهور، أو لأكثر أهل العلم والحل والعقد، وأن لا يكون رهنا باجتهادات فردية.
ولقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منهم مجلسا إمام جائر ). وروى الخمسة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ). وروى الشيخان عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، إلا حرمّ الله عليه الجنة ). وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه ). وروى مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ). وروى الترمذي عن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ). وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ). وروى مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ). حيث يتساوق التلقين النبوي في هذا الأمر الخطير مع التلقين القرآني كما هو الشأن في كل أمر.
﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا.. ﴾ إلخ : وصيغة الاستنكار والتوكيد التي صيغت بها الآية [ ٢٧ ] تتضمن كما هو واضح معنى الاستنكار والتسفيه لظن الكفار بأن الله قد خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا واطمئنانهم به واندفاعهم بتأثيره وراء الفساد والفجور، ثم معنى التوكيد على مصيرهم الرهيب يوم القيامة، ولقد تكرر هذا في سور عديدة أخرى مثل هذه الآيات في سورة الدخان ﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين٣٨ ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون٣٩ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين٤٠ ﴾ وهذه الآية في سورة المؤمنون :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون١١٥ ﴾ وهذه الآيات في سورة الأنبياء :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين١٦ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين١٧ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون١٨ ﴾ مما يدل على أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد ذلك بخاصة للكفار الفجار المطمئنين بالدنيا واللاهين عن الآخرة والمنحرفين عن الله وآياته نتيجة لذلك، وفي هذا ما فيه من تلقين تهذيبي وإيقاظي مستمر.
والآية تضمنت تقريرا قرآنيا محكما بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات : إنما يفعلون ذلك باختيارهم وكسبهم، كما أن المفسدين الفجار إنما يرتكبون جرائمهم ويسيرون في طريق الغواية باختيارهم وكسبهم أيضا حيث تقرر أنه لا يمكن أن يكون الفريقان في مركز واحد، وأن يعاملا معاملة واحدة، أو أن يترك الصالحون المتقون والمفسدون الفجار وشأنهم بدون حساب ولا جزاء إذ أن هذا يكون عبثا وباطلا في حين أن الله سبحانه لم يخلق الكون عبثا وباطلا.
وكلمة ﴿ كتاب ﴾ ترد هنا لأول مرة، والأصل في معناها الشيء المكتوب، وقد أطلقت في القرآن على القرآن وعلى الكتب المنزلة كما أطلقت على أعمال الناس وعلى علم الله أيضا، ومن أمثلة إطلاقها على القرآن الآية التي نحن في صددها، ومن أمثلة إطلاقها على الكتب المنزلة آية سورة المائدة هذه :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.. ﴾ [ ٤٨ ] ومن أمثلة إطلاقها على أعمال الناس آية سورة الانشقاق هذه :﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه٧ فسوف يحاسب حسابا يسيرا٨ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد٤٩ ﴾ ومن أمثلة إطلاقها على علم الله آية سورة الروم هذه :﴿ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون٥٦ ﴾.
وبما أن القرآن لم يكن تاما حينما نزلت هذه الآية التي عنت كلمة الكتاب فيها القرآن فيمكن أن يقال : إن الكلمة تطلق على جميع القرآن كما تطلق على جزء منه، وإن شأنها في هذا شأن كلمة القرآن تماما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل، بما في ذلك دلالتها في الأصل، مثل القرآن على القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة وأسسها الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية. ومن الأدلة على ذلك الآية التي نحن في صددها وآيات سورة العنكبوت هذه :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين٥٠ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون٥١ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ الم١ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين٢ ﴾ ثم صار يطلق على جميع الآيات القرآنية على ما تفيده آية سورة آل عمران هذه :﴿ هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ﴾ [ ٧ ].
ومع أن كلمتي القرآن والكتاب قد وردتا في القرآن مترادفتي المعنى في تسمية كتاب الله المجيد أو التنويه به، فإنهما اجتمعتا في آية واحدة أكثر من مرة أيضا، كما جاء ذلك في آية سورة الحجر هذه :﴿ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين١ ﴾ وفي آية سورة النمل هذه :﴿ طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين١ ﴾. مما يمكن أن يسوغ القول : إنهما لم يردا في الآيتين على معنى الترادف التام. ولعله قصد بإيرادهما معا في آية واحدة الإشارة إلى معناهما الأصليين " المقروء المكتوب " ولما كانت الآيات والفصول القرآنية توحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيا، فيتلوها على الناس شفويا ويأمر بتدوينها في الوقت نفسه، فإن الإشارة إليها بتعبير الكتاب يمكن أن تكون على اعتبار ما سوف يكون من أمرها بعد تبليغها قراءة وشفويا. واستعمال هذا التعبير ينطوي في ما هو المتبادر لنا على قرينة قوية بأن آيات القرآن وفصوله كانت تكتب على أثر وحيها.
تعليق على آية
﴿ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ﴾
وفحوى الآية [ ٢٩ ] التي احتوت كلمة [ كتاب ] جدير بالتنويه. فالله سبحانه وتعالى أنزل كتابه المبارك على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتدبر السامعون آياته وليتذكر به أولو العقول الواعية ويهتدوا. وينطوي في هذا دعوة إلى كل إنسان من كل جنس ولون ودين وطبقة من مسلمين وغير مسلمين، وتقرير بإمكان كل إنسان أن يتدبر آياته، وإيجاب على كل إنسان أيضا أن يفعل ذلك.
وهكذا يؤذن الله عز وجل الناس جميعا أنه إنما أنزل كتابه على نبيه ليتدبروا آياته، مؤكدا أن أولي الألباب الذين يتدبرون آيات هذا الكتاب المبارك المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، تدبر الواعي الراغب في الحق العازف عن المكابرة والعناد، البريء عن الزيغ، المتجنب اتباع المتشابهات ابتغاء الفتنة سوف يتذكرون ويهتدون منه إلى الله عز وجل، فتتحرر نفوسهم، ويجدون فيه أفضل وأكمل نظام إنساني واجتماعي ضامن لسعادة الدارين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها :
وهذه الآيات حلقة من سلسلة طويلة ذكر فيها عدا داود عليه السلام أنبياء الله سليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذو الكفل عليهم السلام دون أقوامهم. وقد ذكر بعضهم باقتضاب وبعضهم بشيء من التفصيل حسب ما اقتضته حكمة التنزيل.
والآية الأولى تصل بين هذه الآيات والآيات السابقة لها سياقا وموضوعا. فصور التكذيب واللجاج التي احتوتها الآيات السابقة من شأنها أن تحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم مرارة وحزنا، فأعقبتها أولا : إشارة خاطفة في معرض الإنذار والتذكير إلى الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم، ثم جاءت هذه السلسلة لتسلي النبي صلى الله عليه وسلم وتخفف عنه ما يجده، فتحثه على الصبر على ما يقول الكفار من جهة، وتخبره مذكرة أنه إذا وقف هؤلاء من دعوته هذا الموقف المرّ المحزن، فإن هناك أناسا أخلصوا لله كل الإخلاص وأنابوا إليه كل الإنابة في حالات سرائهم وضرائهم وقوتهم وضعفهم. ومنهم من وصل إلى ذرى القوة والملك كداود وسليمان فلم تبطرهم القوة، ومنهم من وصل إلى أشد حالات البلاء، كأيوب فلم يزغه البلاء. وقد صبروا على امتحان الله الصبر الجميل وكانوا في كل امتحان يبادرون إليه نادمين منيبين مستغفرين فاستحقوا برّه ورحمته وتكريمه والمزيد من نعمه ومنحه. وهي تدعوه إلى الصبر على ما يلقاه من عناد ومناوأة وتكذيب والتأسي بمن سبقه من أنبياء الله وتبشيره بما سوف يكون له من برّ الله ورحمته وتكريمه والمزيد من نعمه ومنحه مثل ما كان لهم. وقد انتهت الحلقة الأولى بالتنويه بالقرآن الكريم المبارك وكون الله قد أنزله على نبيه ليتدبر السامعون آياته ويتذكر أولوا الألباب منهم فيهتدوا وينيبوا.
وهكذا يتسق هدف القصص القرآنية الذي نبهنا عليه سواء أكان قصص أنبياء مع أقوامهم أم قصص أنبياء لحدتهم، وهو التدعيم والعظة والعبرة والدعوة إلى التأسي. وقد جاءت هذه السلسلة بعد حكاية ما كان من مواقف الكفار والمكذبين وعنادهم. وهو ما جرى عليه النظم القرآني على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
وداود يذكر لأول مرة هنا. وقد تكرر ذكره بعد ذلك، كما أن سيرته واردة بشيء من الإسهاب في بعض أسفار العهد القديم. وهنا سفر خاص منها يعرف بالمزامير، فيه استغفار وتمجيد وتقديس وابتهالات لله يعزى أكثر فصوله إلى داود. والراجح أنها هي الزبور الذي اقترن في القرآن باسم داود، وذكر أن الله آتاه إياه كما جاء في آيات قرآنية عديدة منها آية النساء [ ١٦٣ ] التي فيها هذه الجملة :﴿ وآتينا داود زبورا١٦٣ ﴾.
أما ملخص ما ورد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم من سيرته فهو أن جدته لأبيه مؤابية، وأنه كان بارعا في الضرب على الكنارة، وأنه بارز جالوت قائد الفلسطينيين وقتله، وصار من رجال الملك طالوت، وأن هذا خاف منه على ملكه وصار يطارده ويتربص به ليقتله، فالتجأ إلى الفلسطينيين وكان يحارب معهم. ولما مات طالوت بايعه فريق من بني إسرائيل ملكا في حبرون، ثم صار ملكا على جميع بني إسرائيل واتخذ بيت المقدس التي كانت تسمى أورشليم، وكانت من قبل تسمى [ يبوس ] عاصمة له ونشبت بينه وبين الفلسطينيين الذين كان لهم ممالك عديدة في جنوب فلسطين وبينه وبين العمونيين والمؤابيين في شرق الأردن وبينه وبين الآرميين في سورية حروب انتصر فيها، وصار سلطانه واسعا قويا في الشطر الأول من عهده. وتمرد عليه ابن له كما تمرد عليه متمردون آخرون فأدى ذلك إلى اضطراب حالة ملكه وانكماشه في الشطر الثاني من عهده.
تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها :
وقصة صاحب الغنم الكثيرة الذي طمع في النعجة الوحيدة التي يملكها فقير، والتي وردت الإشارة إليها في الآيات، قد وردت في سفر صموئيل الثاني [ الطبعة البروتستانية ] وخلاصة ما جاء في هذا السفر : أن داود عليه السلام رأى زوجة أحد رجال جيشه واسمه أوريا عارية على سطح بيتها المجاور لبيته، فأعجبته فأحضرها واضطجع معها، وكان زوجها في جبهة حربية، فلما عاد وشعر بذلك امتنع عنها، فأرسله داود إلى الجبهة ثانية، وأوعز للقائد بأن يجعله في وجه الموت حتى يقتل فلما قتل، وأرسل القائد يخبر داود بذلك تزوج بامرأته، وقد ذكر السفر أن الله أرسل نبيا اسمه ناتان إلى داود فحكى له قصة طمع الرجل الغني الكثير البقر والغنم في نعجة الفقير، فقال داود : إن هذا الرجل يستحق الموت فقال له ناتان : أنت هو هذا الرجل ؛ لأنك قتلت أوريا وتزوجت بامرأته وعاتبه عتابا شديدا بلسان الله على خطيئته البشعة برغم ما يسرّه له وأغدقه عليه من نعمه الكثيرة وأنذره بإثارة الشر من بيته ودفع أزواجه إلى غيره فيدخل عليهن جهارا في عين الشمس وعيون بني إسرائيل فقال داود : قد خطئت للرب، فقال له ناتان : إن الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك فلا تموت أنت، ولكن الابن الذي يولد لك يموت.
والآيات وإن كانت خلت من هذه التفاصيل، فإن فيها إشارات خاطفة متسقة معها ؛ حيث ذكرت أن داود قد أدرك أن الله امتحنه بسبب خطيئة له، فاستغفر ربه وخرّ راكعا وأناب فغفر الله له.
والمرجح أن من سامعي القرآن العرب، من كان يعرف قصص داود كليا أو جزئيا ؛ لأن أسفار العهد القديم التي وردت فيها كانت متداولة بين أيدي الكتابين، وبخاصة اليهود الذين كان منهم جالية كبيرة في الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في مناسبات سابقة، ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة عن داود وملكه وخطيئته وتوبته في بعضها تطابق مع ما جاء في الأسفار وفي بعضها مباينة له وفي بعضها إغراب عجيب ومما يؤيد على كل حال ما قلناه من معرفة أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قصص داود، وما كان يضيفه اليهود إليها من حواش. وربما كان عندهم أسفار وقراطيس أخرى فيها تفصيلات وزوائد لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم.
وننبه على أمر هام بالنسبة للأسلوب القرآني في قصص الأنبياء. فإنه جرى بصورة عامة على ذكر الأنبياء السابقين بأسلوب تكريمي وتنويهي وعتابي، ولم يحتو ما احتوته بعض أسفار العهد القديم عن بعض الأنبياء المذكورين فيها مثلا من تهم وقصص فاحشة. وعلى المسلم أن يحتذي هذا الحذو ولا يتجاوز نطاقه ؛ لأن الإيمان بأنبياء الله واحترامهم وتنزيههم ركن من أركان العقيدة الإسلامية على ما جاء في آيات كثيرة. منها آية سورة البقرة هذه :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين.. ﴾ [ ١٧٧ ] وقد وصف الأنبياء المذكورون في القرآن، ومنهم طائفة أخرى ذكروا في سورة [ ص ] التي نحن في صدد تفسيرها بوصف عباد الله والصالحين والصابرين والأخيار وذوي الزلفى عند الله. ويجب على المسلم أن يذكر إلى هذا أن الأسفار المتداولة اليوم قد كتبت بأقلام بشرية وبعد الأحداث المذكورة فيها بمدة ما وأن من المحتمل كثيرا بل من المؤكد أنها اختلطت بالخيال والمبالغة وتعرضت للتحريف والتشويه المقصود وغير المقصود. وعليه أن يلاحظ حقيقة أخرى تبدو من الإمعان في قصص الأنبياء، وهي أ
هذه الآيات حلقة ثانية من السلسلة، وهي متصلة بالسياق كما هو واضح ويتجلى فيها قصد التنويه بإخلاص سليمان وإنابته إلى الله وتوبته وامتحان الله له على عظم ملكه وسلطانه. وما كان من مدّ الله له بالقوة وشموله إياه بالعناية والتكريم بسبب ذلك. وكل هذا متصل بالهدف الذي استهدفته السلسلة على ما نبهنا عليه في مطلعها. وليس في عبارة الآيات غموض يحتاج إلى أداء آخر.
وسليمان يذكر هنا لأول مرة. ثم يتكرر ذكره مرارا. وسيرته مسهبة في سفري الملوك الأول والثاني [ الطبعة البروتستانتية ] أو الثالث والرابع [ الطبعة الكاثوليكية ] وفي سفر أخبار الأيام الثاني من أسفار العهد القديم. وهناك سفران من هذه الأسفار منسوبان إلى سليمان، اسم أولهما الأمثال، وثانيهما نشيد الأناشيد، فيهما أمثال وحكم ومواعظ بليغة.
أما ما جاء في الآيات عنه فقد جاء مقتضبا، وبأسلوب غير أسلوب أسفار العهد القديم، من حيث إنه لم يكن لسيرته ذاتها، وإنما كان للتدعيم والتنويه والعظة والعبرة والتسلية.
وفي سور النمل وسبأ والأنبياء آيات أخرى تضمنت شيئا غير قليل من أخبار سليمان عليه السلام أيضا، فيها بعض ما جاء في هذه الآيات مع زيادة وتفصيل، وجاءت بنفس الأسلوب المستهدف للعظة والعبرة والتنويه والتدعيم كذلك، على ما سوف نشرحه في مناسباته.
وفي أسفار العهد القديم المذكورة آنفا التي تروي سيرة سليمان أشياء كثيرة عنه، تلخص بأنه كان يحكم معظم أرض فلسطين وبعض أنحاء شرق الأردن، وأن السلم كان مخيما على بلاده، وأنه كان ملكا عظيما ذا أموال طائلة ومعادن وسفن وخيل، وأنه منح حكمة فاقت حكمة جميع بني المشرق ومصر، وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وعن الأشجار والبهائم والطير والدبيب والسمك، وأن ملكة سبأ جاءت لزيارته واستماع حكمه وقدمت له هدايا ثمينة من عطور وذهب وحجارة كريمة، وأن ملوكا آخرين منهم ملوك من العرب هادوه بهدايا ثمينة. وأنه أنشأ في أورشليم معبدا فخما زينه بصفائح الذهب وثمين الخشب وضخم الأعمدة، وجعل أوانيه من الذهب، كما أنشأ قصرا لسكناه ومباشرة الحكم والقضاء فيه. وكان موضع وحي الله وتكريمه وتجلياته. وإلى هذا فقد ذكرت الأسفار أنه استكثر من النساء حتى بلغ عدد زوجاته ومحظياته ألفا، وتزوج من بنت فرعون ومن نساء صيدونيات وعمونيات وأدوميات وحثيات فأملن قلبه إلى آلهتهن مخالفا لأوامر الله، وبنى لهذه الآلهة مذابح وقرب لها قرابين وعمل الشر في عين الرب فكان ذلك سببا لنقمة الله عليه ووعيده بتمزيق ملكه وإعطائه لعبيده. وقد خرج عليه ثائران وفر أحدهما إلى مصر، ثم عاد بعد موته وقاد حركة ضد ابنه أدت إلى انقسام مملكته.
وليس في الأسفار ما ورد في آيات هذه السور والسور الثلاث الأخرى من تسخير الجن والريح لسليمان ولا أعمال الجن البنائية والغوصية، ولا تقييده بعضهم بالأصفاد ولا معرفته لغة الطير واحتشاده معه، ولا قصة الهدهد الذي طار إلى سبأ وأتى بخبر ملكتها، ولا قصة الصافنات الجياد ولا قصة الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان.
واتساقا على ما نبهنا عليه في سياق فصل داود عليه السلام السابق نقول : إن من واجب المسلم الوقوف موقف التحفظ إزاء ما ورد في الأسفار عن انحرافات سليمان عليه السلام. وكل ما يمكن أن يقال : إن الآيات تفيد أنه صدر من سليمان خطأ ما استحق أن يبتليه الله ببلاء ما عليه، وأنه أدرك ذلك فأناب إلى ربه فغفر الله له لأنه كان عنده ذا حظوة وقبول. والأسلوب الذي جاءت عليه قصة سليمان وأخباره ليس أسلوب سرد وتسجيل كما هو الشأن في أسفار العهد القديم وإنما هو أسلوب وعظ وعبرة. فهو عبد الله وهو يعترف بهذه العبودية وينيب إلى الله ويستغفره ويلتمس منه المطالب ويكون موضع ابتلائه وفتنته مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية القوية.
وقد يقول المغرضون الأغيار بسبب عدم ورود أخبار تسخير الجن والريح وغير ذلك مما ورد في السور الأخرى في الأسفار المتداولة : إن كل هذا اختراع بقطع النظر عن كون ذلك داخلا في نطاق قدرة الله تعالى فإننا نقول من قبيل المساجلة : إنه ليس هناك ضرورة فنية للاختراع، وإن السياق القرآني يبقى مستقيما بدون الزوائد لو لم تكن مستندة إلى أصل. ونحن نعتقد أنها واردة في أسفار وقراطيس كانت متداولة بأيدي اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضاعت ولم تصل إلينا. وهدف القصة إنما يتحقق بقوة إذا كان السامعون يعرفونها. وما كان يتداوله اليهود كان يتسرب إلى العرب. ولقد جاء في الإصحاح التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني المتداول اليوم هذه الجملة :[ وبقية أخبار سليمان الأولى والأخيرة مكتوبة في أسفار ناتان النبي ونبوة أحيا الشيلوتي وعدو الرائي ] وورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول- وهو سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية- هذه الجملة :[ وبقية أخبار سليمان وجميع ما عمل ووصف حكمته مكتوبة في سفر أخبار سليمان ]. وجميع هذه الأسفار مفقودة لم تصل إلينا. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه أهل الكتاب ومنهم إسرائيليون. وقد سجل القرآن المكي شهادات عديدة للكتابيين بصدق الوحي الرباني بالقرآن وصدق ما احتواه وإيمانهم به على أوردناه في تعليقنا على أهداف القصص في سياق سورة القلم. ولا يمكن أن يكون ذلك إلا أنهم كانوا عرفوا أن ما جاء في القرآن من قصص وغير قصص هو حق ومطابق لما كان عندهم.
ولقد روى المفسرون في سياق قصص سليمان وأخباره في هذه السورة والسور الأخرى المذكورة آنفا بيانات كثيرة عن جن سليمان وجنوده وعلمه وحكمته وسلطانه وبساط ريحه والصافنات والجسد والهدهد وملكة سبأ وعرشها الخ... الخ مروية عن علماء التابعين الذين كان بينهم بعض مسلمي اليهود وأبناؤهم وبعض مسلمي الجاليات الكتابية والأجنبية الأخرى وأبناؤهم مثل كعب الأحبار والقرظي والسدي وأبناء منبه ؛ حيث يفيد هذا أن تلك القصص مما كان متداولا مع زيادات كثيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وليس من مصدر لذلك قبل القرآن إلا الجاليات الكتابية واليهودية بخاصة. ومهما يكن من أمر فمن واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن من أخبار الأنبياء ومعجزاتهم، وأن يؤمن بأن الله قادر على خرق العادة على أيديهم أو اختصاصهم بأمور خارقة. وإلى هذا فإن مما تجب ملاحظته كون الآيات القرآنية وهي تذكر ما كان يعرفه السامعون عن سليمان عليه السلام من ذلك إنما وردت لبيان عناية الله بمن يخلص له ثم بيان ما كان من إدراك سليمان لما بدر منه من خطأ، وما تعرض له من فتنة وبلاء بسببه وإنابته إلى ربه مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية بسبيل العظة والتذكير والمثل والتدعيم كما قلنا آنفا. وهذا ما يجعلنا في الوقت نفسه نتوقف عن إيراد ما جاء في روايات المفسرين من بيانات زائدة عن ما جاء في القرآن، قد لا يخلو كثير منها من غلو وخيال. ولا سيما ليس فيها ما هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المصدر الوحيد الوثيق باستثناء حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قصة من قصص سليمان التي لم تذكر أيضا في الآيات ولا في الأسفار حيث روي عن أبي هريرة أنه قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : قال سليمان بن داود عليه السلام : لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه : قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ).
ولقد روى هذا الحديث المفسر البغوي بطرقه عن أبي هريرة ورواه عنه البخاري أيضا على ما ذكره الذهبي٢ وأورده البغوي والذهبي على اعتبار أن له صلة بالآيات :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب٣٤ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب٣٥ ﴾. ولسنا نرى صلى بين فحوى الحديث والآيات.
ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما رواية طويلة في سياق هذه الآيات أيضا عن وهب بن منبه أحد رواة الأخبار التابعين مختلفة في الصيغ متفقة في المدى خلاصتها : أن سليمان صنع لأحدى زوجاته صنما على شكل أبيها فجازاه الله على ذلك بأن جعل شيطانا اسمه صخر على صورته، وكان سليمان حينما يذهب لحاجته يسلم خاتمه لخادمة له، فجاء الشيطان وأخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان وأخذ يتصرف بالملك كما يشاء ويطيعه الجميع. وعاد سليمان إلى الخادمة فأنكرته وأنكره الناس ولبث منكورا مقهورا حائرا أربعين يوما حتى أدرك خطيئته وكون ما جرى له عقوبة من الله، فندم واستغفر الله وذلت نفسه فتاب الله عليه وجعل الشيطان يلقي بالخاتم في البحر ويطير والتقم الخاتم سمكة صادها صياد واشتراها منه سليمان، ولما فتحها وجد الخاتم فسجد الله شاكرا وعاد إلى ملكه. وهذا تأويل الفتنة التي فتن الله بها سليمان والجسد الذي ألقاه على كرسيه. ونعتقد أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وأن مصدرها اليهود. والله تعالى أعلم.
٢ - انظر كتاب التفسير والمفسرون جـ١ ص ١٨١.
الصافنات الجياد : الجياد هي الخيل الجيدة. والصافنات من الصفون الذي تعددت الأقوال في معناه، والذي هو على ما يتبادر منها صفة مرغوبة في الخيل تدل على قدرتها على الجري السريع وتحفزها له، برفع إحدى يديها لتكون على طرف الحافر، أو بقيامها على ثلاث قوائم وتكون رابعتها على طرف الحافر.
الخير : الكلمة بمعنى متع الحياة ؛ وهي هنا كناية عن حب سليمان للخيل الجياد. على ما هو مستلهم من روح الآيات. وقد ذكر الطبري ذلك عزوا إلى أهل التأويل وقال : إن العرب كانوا يسمون الخيل بالخير أيضا.
توارت بالحجاب : كناية عن غروب الشمس على ما ذكره المفسرون.
( ٤ ) فطفق مسحا بالسوق والأعناق : طفق بمعنى أخذ، ومسحا بمعنى ضربا بالسيف، والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق. ومعنى الآية أنه أخذ يضرب بالسيف أعناق الخيل وسوقها ؛ لأنها شغلته عن ذكر ربه حتى غربت الشمس.
كرسيه : الجمهور على أن الكلمة هنا بمعناها المعتاد وهو السرير الذي يجلس عليه.
( ٦ ) رخاء : لينة طيعة.
( ٧ ) حيث أصاب : هنا بمعنى حيث قصد وأراد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:هذه الآيات حلقة ثانية من السلسلة، وهي متصلة بالسياق كما هو واضح ويتجلى فيها قصد التنويه بإخلاص سليمان وإنابته إلى الله وتوبته وامتحان الله له على عظم ملكه وسلطانه. وما كان من مدّ الله له بالقوة وشموله إياه بالعناية والتكريم بسبب ذلك. وكل هذا متصل بالهدف الذي استهدفته السلسلة على ما نبهنا عليه في مطلعها. وليس في عبارة الآيات غموض يحتاج إلى أداء آخر.
وسليمان يذكر هنا لأول مرة. ثم يتكرر ذكره مرارا. وسيرته مسهبة في سفري الملوك الأول والثاني [ الطبعة البروتستانتية ] أو الثالث والرابع [ الطبعة الكاثوليكية ] وفي سفر أخبار الأيام الثاني من أسفار العهد القديم. وهناك سفران من هذه الأسفار منسوبان إلى سليمان، اسم أولهما الأمثال، وثانيهما نشيد الأناشيد، فيهما أمثال وحكم ومواعظ بليغة.
أما ما جاء في الآيات عنه فقد جاء مقتضبا، وبأسلوب غير أسلوب أسفار العهد القديم، من حيث إنه لم يكن لسيرته ذاتها، وإنما كان للتدعيم والتنويه والعظة والعبرة والتسلية.
وفي سور النمل وسبأ والأنبياء آيات أخرى تضمنت شيئا غير قليل من أخبار سليمان عليه السلام أيضا، فيها بعض ما جاء في هذه الآيات مع زيادة وتفصيل، وجاءت بنفس الأسلوب المستهدف للعظة والعبرة والتنويه والتدعيم كذلك، على ما سوف نشرحه في مناسباته.
وفي أسفار العهد القديم المذكورة آنفا التي تروي سيرة سليمان أشياء كثيرة عنه، تلخص بأنه كان يحكم معظم أرض فلسطين وبعض أنحاء شرق الأردن، وأن السلم كان مخيما على بلاده، وأنه كان ملكا عظيما ذا أموال طائلة ومعادن وسفن وخيل، وأنه منح حكمة فاقت حكمة جميع بني المشرق ومصر، وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وعن الأشجار والبهائم والطير والدبيب والسمك، وأن ملكة سبأ جاءت لزيارته واستماع حكمه وقدمت له هدايا ثمينة من عطور وذهب وحجارة كريمة، وأن ملوكا آخرين منهم ملوك من العرب هادوه بهدايا ثمينة. وأنه أنشأ في أورشليم معبدا فخما زينه بصفائح الذهب وثمين الخشب وضخم الأعمدة، وجعل أوانيه من الذهب، كما أنشأ قصرا لسكناه ومباشرة الحكم والقضاء فيه. وكان موضع وحي الله وتكريمه وتجلياته. وإلى هذا فقد ذكرت الأسفار أنه استكثر من النساء حتى بلغ عدد زوجاته ومحظياته ألفا، وتزوج من بنت فرعون ومن نساء صيدونيات وعمونيات وأدوميات وحثيات فأملن قلبه إلى آلهتهن مخالفا لأوامر الله، وبنى لهذه الآلهة مذابح وقرب لها قرابين وعمل الشر في عين الرب فكان ذلك سببا لنقمة الله عليه ووعيده بتمزيق ملكه وإعطائه لعبيده. وقد خرج عليه ثائران وفر أحدهما إلى مصر، ثم عاد بعد موته وقاد حركة ضد ابنه أدت إلى انقسام مملكته.
وليس في الأسفار ما ورد في آيات هذه السور والسور الثلاث الأخرى من تسخير الجن والريح لسليمان ولا أعمال الجن البنائية والغوصية، ولا تقييده بعضهم بالأصفاد ولا معرفته لغة الطير واحتشاده معه، ولا قصة الهدهد الذي طار إلى سبأ وأتى بخبر ملكتها، ولا قصة الصافنات الجياد ولا قصة الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان.
واتساقا على ما نبهنا عليه في سياق فصل داود عليه السلام السابق نقول : إن من واجب المسلم الوقوف موقف التحفظ إزاء ما ورد في الأسفار عن انحرافات سليمان عليه السلام. وكل ما يمكن أن يقال : إن الآيات تفيد أنه صدر من سليمان خطأ ما استحق أن يبتليه الله ببلاء ما عليه، وأنه أدرك ذلك فأناب إلى ربه فغفر الله له لأنه كان عنده ذا حظوة وقبول. والأسلوب الذي جاءت عليه قصة سليمان وأخباره ليس أسلوب سرد وتسجيل كما هو الشأن في أسفار العهد القديم وإنما هو أسلوب وعظ وعبرة. فهو عبد الله وهو يعترف بهذه العبودية وينيب إلى الله ويستغفره ويلتمس منه المطالب ويكون موضع ابتلائه وفتنته مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية القوية.
وقد يقول المغرضون الأغيار بسبب عدم ورود أخبار تسخير الجن والريح وغير ذلك مما ورد في السور الأخرى في الأسفار المتداولة : إن كل هذا اختراع بقطع النظر عن كون ذلك داخلا في نطاق قدرة الله تعالى فإننا نقول من قبيل المساجلة : إنه ليس هناك ضرورة فنية للاختراع، وإن السياق القرآني يبقى مستقيما بدون الزوائد لو لم تكن مستندة إلى أصل. ونحن نعتقد أنها واردة في أسفار وقراطيس كانت متداولة بأيدي اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضاعت ولم تصل إلينا. وهدف القصة إنما يتحقق بقوة إذا كان السامعون يعرفونها. وما كان يتداوله اليهود كان يتسرب إلى العرب. ولقد جاء في الإصحاح التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني المتداول اليوم هذه الجملة :[ وبقية أخبار سليمان الأولى والأخيرة مكتوبة في أسفار ناتان النبي ونبوة أحيا الشيلوتي وعدو الرائي ] وورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول- وهو سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية- هذه الجملة :[ وبقية أخبار سليمان وجميع ما عمل ووصف حكمته مكتوبة في سفر أخبار سليمان ]. وجميع هذه الأسفار مفقودة لم تصل إلينا. ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه أهل الكتاب ومنهم إسرائيليون. وقد سجل القرآن المكي شهادات عديدة للكتابيين بصدق الوحي الرباني بالقرآن وصدق ما احتواه وإيمانهم به على أوردناه في تعليقنا على أهداف القصص في سياق سورة القلم. ولا يمكن أن يكون ذلك إلا أنهم كانوا عرفوا أن ما جاء في القرآن من قصص وغير قصص هو حق ومطابق لما كان عندهم.
ولقد روى المفسرون في سياق قصص سليمان وأخباره في هذه السورة والسور الأخرى المذكورة آنفا بيانات كثيرة عن جن سليمان وجنوده وعلمه وحكمته وسلطانه وبساط ريحه والصافنات والجسد والهدهد وملكة سبأ وعرشها الخ... الخ مروية عن علماء التابعين الذين كان بينهم بعض مسلمي اليهود وأبناؤهم وبعض مسلمي الجاليات الكتابية والأجنبية الأخرى وأبناؤهم مثل كعب الأحبار والقرظي والسدي وأبناء منبه ؛ حيث يفيد هذا أن تلك القصص مما كان متداولا مع زيادات كثيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. وليس من مصدر لذلك قبل القرآن إلا الجاليات الكتابية واليهودية بخاصة. ومهما يكن من أمر فمن واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن من أخبار الأنبياء ومعجزاتهم، وأن يؤمن بأن الله قادر على خرق العادة على أيديهم أو اختصاصهم بأمور خارقة. وإلى هذا فإن مما تجب ملاحظته كون الآيات القرآنية وهي تذكر ما كان يعرفه السامعون عن سليمان عليه السلام من ذلك إنما وردت لبيان عناية الله بمن يخلص له ثم بيان ما كان من إدراك سليمان لما بدر منه من خطأ، وما تعرض له من فتنة وبلاء بسببه وإنابته إلى ربه مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية بسبيل العظة والتذكير والمثل والتدعيم كما قلنا آنفا. وهذا ما يجعلنا في الوقت نفسه نتوقف عن إيراد ما جاء في روايات المفسرين من بيانات زائدة عن ما جاء في القرآن، قد لا يخلو كثير منها من غلو وخيال. ولا سيما ليس فيها ما هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المصدر الوحيد الوثيق باستثناء حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قصة من قصص سليمان التي لم تذكر أيضا في الآيات ولا في الأسفار حيث روي عن أبي هريرة أنه قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : قال سليمان بن داود عليه السلام : لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه : قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ).
ولقد روى هذا الحديث المفسر البغوي بطرقه عن أبي هريرة ورواه عنه البخاري أيضا على ما ذكره الذهبي٢ وأورده البغوي والذهبي على اعتبار أن له صلة بالآيات :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب٣٤ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب٣٥ ﴾. ولسنا نرى صلى بين فحوى الحديث والآيات.
ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما رواية طويلة في سياق هذه الآيات أيضا عن وهب بن منبه أحد رواة الأخبار التابعين مختلفة في الصيغ متفقة في المدى خلاصتها : أن سليمان صنع لأحدى زوجاته صنما على شكل أبيها فجازاه الله على ذلك بأن جعل شيطانا اسمه صخر على صورته، وكان سليمان حينما يذهب لحاجته يسلم خاتمه لخادمة له، فجاء الشيطان وأخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان وأخذ يتصرف بالملك كما يشاء ويطيعه الجميع. وعاد سليمان إلى الخادمة فأنكرته وأنكره الناس ولبث منكورا مقهورا حائرا أربعين يوما حتى أدرك خطيئته وكون ما جرى له عقوبة من الله، فندم واستغفر الله وذلت نفسه فتاب الله عليه وجعل الشيطان يلقي بالخاتم في البحر ويطير والتقم الخاتم سمكة صادها صياد واشتراها منه سليمان، ولما فتحها وجد الخاتم فسجد الله شاكرا وعاد إلى ملكه. وهذا تأويل الفتنة التي فتن الله بها سليمان والجسد الذي ألقاه على كرسيه. ونعتقد أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وأن مصدرها اليهود. والله تعالى أعلم.
٢ - انظر كتاب التفسير والمفسرون جـ١ ص ١٨١.


جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم عفريتا من الجن ومن رؤيته إبليس أيضا
لقد روى البخاري في فصل التفسير في صحيحه في سياق فصل قصة سليمان عليه السلام عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عفريتا من الجن تفلت البارحة يقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان ﴿ رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ [ ص : ٣٥ ] فرددته خاسئا )١. وقد أورد ابن كثير في سياق ذلك وبعد الحديث الذي أوردناه آنفا حديثا آخر عزوا إلى صحيح مسلم ومرويا عن أبي الدرداء قال :( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول : أعوذ بالله منك، ثم قال : ألعنك بلعنة الله ثلاثا، ثم بسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقول قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال : إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة ). وقد أورد نصا مقاربا لهذا النص أخرجه الإمام أحمد أيضا.
ونقف حائرين أمام هذه الأحاديث. ففي سورة الأعراف هذه الآية عن الشيطان الذي جاء في سياق طويل مرادفا لإبليس :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ ٢٧ ] وإبليس في الوقت نفسه من الجن على ما جاء في آية سورة الكهف هذه :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه... ] [ ٥٠ ] وإلى هذه فالقرآن ذكر في موضعين خبر استماع بعض طوائف الجن للقرآن من لسان النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب يفيد أن النبي لم ير المستمعين ولم يشعر بهم وإنما علم الخبر من القرآن كما ترى في آية سورة الأحقاف هذه :{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين٢٩ ﴾ وآيات سورة الجن هذه :﴿ قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا١ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا٢ ﴾ فإذا صحت الأحاديث فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استثني من آية الأعراف وأنه رأى عفريت الجن وإبليس بالقوة التي اختصه الله بها، والتي كان يرى بها الملائكة أيضا. والله أعلم.

الشياطين : هنا بمعنى شياطين الجن من غير طبقة إبليس.
مقرّنين في الأصفاد : مقيدين بالسلاسل والأغلال.
امنن : أعط وامنح.
أمسك : امنع ولا تعط ولا تمنح.
تعليق على ما روي في سياق قصة سليمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم عفريتا من الجن ومن رؤيته إبليس أيضا
لقد روى البخاري في فصل التفسير في صحيحه في سياق فصل قصة سليمان عليه السلام عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن عفريتا من الجن تفلت البارحة يقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان ﴿ رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ [ ص : ٣٥ ] فرددته خاسئا )١. وقد أورد ابن كثير في سياق ذلك وبعد الحديث الذي أوردناه آنفا حديثا آخر عزوا إلى صحيح مسلم ومرويا عن أبي الدرداء قال :( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول : أعوذ بالله منك، ثم قال : ألعنك بلعنة الله ثلاثا، ثم بسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقول قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال : إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة ). وقد أورد نصا مقاربا لهذا النص أخرجه الإمام أحمد أيضا.
ونقف حائرين أمام هذه الأحاديث. ففي سورة الأعراف هذه الآية عن الشيطان الذي جاء في سياق طويل مرادفا لإبليس :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ ٢٧ ] وإبليس في الوقت نفسه من الجن على ما جاء في آية سورة الكهف هذه :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه... ] [ ٥٠ ] وإلى هذه فالقرآن ذكر في موضعين خبر استماع بعض طوائف الجن للقرآن من لسان النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب يفيد أن النبي لم ير المستمعين ولم يشعر بهم وإنما علم الخبر من القرآن كما ترى في آية سورة الأحقاف هذه :{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين٢٩ ﴾ وآيات سورة الجن هذه :﴿ قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا١ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا٢ ﴾ فإذا صحت الأحاديث فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استثني من آية الأعراف وأنه رأى عفريت الجن وإبليس بالقوة التي اختصه الله بها، والتي كان يرى بها الملائكة أيضا. والله أعلم.
الشيطان : هنا مرادف لإبليس ومفهومه.
نصب : شقاء أو بلاء أو مرض.
﴿ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان ﴾ : وهذه حلقة ثالثة من السلسلة. وهي استمرار للسياق والموضوع والهدف على ما ذكرناه سابقا. والخطاب في الآية موجه للنبي صلى الله عليه وسلم كما وجه إليه في أول السلسلة. وهناك أمر له بالصبر على ما يقول الكفار، وهنا أمر له بالتذكر بما وقع لأيوب وما كان منه. والخطاب يحتمل أن يتضمن أمر ذكر ذلك للمسلمين أو للسامعين وتذكيرهم به بطبيعة الحال. وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
وهذه أول مرة يرد فيها اسم أيوب عليه السلام. وقد تكرر وروده بعد ذلك. ومن أسفار العهد القديم سفر خاص به احتوى قصته مفصلة. وهي متفقة مع الإشارات المقتضبة الواردة عنه في الآيات القرآنية مع الفارق في الأسلوب، من حيث إنها في السفر قصة وسيرة، وفي الآيات لم تقصد لذاتها وإنما قصد منها العظة والعبرة والذكرى.
وملخص القصة في السفر أن أيوب كان نبيا وكان صاحب مال وافر وأنعام وأولاد وأهل، متمتعا برفاه العيش ورغد الحياة. وكان يقوم بواجب الشكر لله على نعمه. وأن حوارا جرى بين الله والشيطان في صدده فقال هذا لله : إن أيوب إنما يشكره على نعمه، وإنه لن يلبث أن يجحده لو سلبها منه، فأخذ الله يمتحنه ببلاء بعد بلاء باقتراح من الشيطان إلى أن هلك أولاده ومواشيه وأمواله بكوارث ساحقة متلاحقة، ثم ابتلي بأمراض في جسمه وقروح في جسده. وحاول الشيطان إغواءه وتغيير قلبه وروحه فأخفق وثبت أيوب في الامتحان وظل متمسكا بالصبر والإنابة والخضوع لله لا يدعو إلا الله للتفريج عنه. وحينئذ شمله الله برحمته ونعمته ثانية فأنبط الله له ماء كان له في شربه والاغتسال به البرء والشفاء، ورد عليه ما فقده من مال ومواش وولد، ومنحه المزيد من نعمته، ولقد كانت امرأته تقوم على خدمته بإخلاص غير أنها كانت أحيانا تظهر التذمر والتألم مما حل بهم من بلاء ومصائب، فاعتبر أيوب عليه السلام ذلك منها تمردا على الله، فأقسم أن يجلدها مائة جلدة إن شفاه الله. فأوحى الله إليه بأن يضربها مرة واحدة بحزمة من القش فيها مئة عود فلا يحنث بيمينه بسبب ما كان منها من إخلاص وحسن وفاء هي الأخرى.
والمرجح أن قصة أيوب عليه السلام مما كان متداولا وغير مجهول من السامعين فاكتفت الآيات بالإشارة إليها باقتضاب متسق معها ؛ لأن الهدف منها فيها هو الموعظة والتذكير والدعوة إلى التأسي والاعتبار.
ولقد أسهب المفسرون في قصته كثيرا. وفيما ذكروه ما هو متطابق مع قصته في السفر، ومنها الزائد الذي يمكن أن يكون مما هو متداول على هامش القصة حسب العادة، ولا يبعد أن يكون مما ورد في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. وقد اكتفينا بتلخيص القصة ؛ لأنها لم ترد في القرآن لذاتها.
اركض برجلك : اضرب برجلك الأرض.
مغتسل بارد وشراب : ماء بارد للشرب والاغتسال.
ضغثا : حزمة من القش.
لا تحنث : لئلا تحنث بيمينك أو قسمك.
التلقينات المنطوية في قصة أيوب عليه السلام :
ولقد احتوت الآيات عظة وعبرة وتلقينات بليغة فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في ظروف الدعوة كما فيها تلقين مستمر المدى في كل ظرف.
فإذا كان أناس من خلق الله كفروا وتكبروا وشاقوا واعتزوا بالمال والولد، فهناك عباد الله مخلصون كل الإخلاص له في حالتي قوتهم وضعفهم وفقرهم وغناهم وصحتهم ومرضهم مثل أيوب الذي كان واسع الثروة متمتعا برغد الحياة فشكر ولم تبطره النعمة، ولما ابتلي بالمحن الشديدة صبر ولم تسخطه النقمة، فاستحق المزيد من منح الله وعنايته وتداركه بالفرج واليسر بعد الضيق والعسر، وإن من واجب المسلمين التمسك بالله والإخلاص له والشكر له في حال اليسر والصبر في حال العسر.
وفي تحلّة اليمين التي أذن الله بها لأيوب حتى لا يحنث أو يضرب زوجته المخلصة دليل على أن الله يسمح لعباده أن يتوسلوا بوسيلة مشروعة تنقذهم مما قد يواجهونه من محرجات ومشاكل ويوقعهم في الإثم والضرر والخطر. وهذه النقطة الأخيرة صارت مبدأ من مبادئ القرآن المقررة المتكررة بأساليب مختلفة كما يفهم من آية البقرة :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم١٧٣ ﴾ وآيات سورة المائدة هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين٨٧ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون٨٨ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون٨٩ ﴾ وآيات سورة التحريم هذه :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم١ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم٢ ﴾ وقد روي أنه رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شاب وجد على أمة يواقعها فقال لهم : اضربوه حده فقالوا : يا رسول الله إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مئة قتلته فقال : فخذوا عثكالا فيه مئة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة وخلوا سبيله.
تعليق على توسّع بعض الفقهاء في تأويل تحلّة اليمين التي يسّرها الله لأيوب
ولقد توسع بعضهم في الحكمة أو الرخصة الواردة في موضوع تحلة يمين أيوب عليه السلام، وحاولوا أن يتخذوها دليلا على ما يسمونه بالحيل الشرعية على الإطلاق، وأخذوا يضعون الحيل الشنيعة البشعة للتحلل من كثير من الواجبات والالتزامات الشرعية من زكاة وربا وطلاق وعتاق وزنا وأيمان موجبة للعقود وأعمال متنوعة أخرى. وهناك فصول في كتب فقهية في ذلك. وسمعنا كثيرا من ذلك ورأيناه بأنفسنا يقع بفتوى بعض المشايخ، حيث كانوا يفتون بوضع مبلغ الزكاة الواجبة في زنبيل قمح أو أرز ويعطونه لفقير ويقولون له هذا وما فيه زكاة مالنا فيأخذه ثم ينبري ابن الغني أو أخوه أو عامله فيشتري الزنبيل بما فيه بما يوازي ثمن القمح أو الأرز. وكثير من الذين يمارسون الربا يعمدون إلى حيلة مماثلة. وأدنى إمعان وتدبر يكفي لإبراز ما في هذا التوسع من وهن سند وضعف منطق وجرأة على الله وقرآنه وحكمته وحدوده فأيوب عليه السلام قد أقسم على ضرب امرأته. وكان قسمه قد وقع منه في حال اضطراب وألم وفي حق شخص مخلص بريء. والأيمان على ارتكاب الإثم والضرر غير جائزة أصلا كما تلهمه روح آيات القرآن مثل آيات سورة البقرة هذه :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم٢٢٥ ﴾، وآية سورة النور هذه :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربة والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم٢٢ ﴾ وعدم تنفيذها واجب محتم. وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على اجتناب زوجاته فعاتبه الله وأمره بالتحلل من يمينه على ما جاء في آيات سورة التحريم التي أوردناها قبل وقد أقسم بعض أصحاب رسول الله على مجانبة اللذائذ المباحة فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالتحلل من يمينهم على ما جاء في آيات سورة المائدة التي أوردناها قبل أيضا. فالقياس لا يمكن أن يطرد إلا في المواقف المماثلة والإطلاق فيه يعني تعطيل شرائع الله وحدوده وحكمته في هذه الشرائع والحدود. وتصوير الله في صورة المتناقض العابث جل عن ذلك وتعالى. هذا عدا ما في ذلك من أضرار لا تقف عند حد في مصالح الناس وصلاتهم فيما بينهم وفي سلب ثقتهم في بعضهم ومن عدوان على حقوقهم وأموالهم وأعراضهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات التي تذكر حيلة بني إسرائيل على شريعة السبت في سورة الأعراف وهي الآيات [ ١٦٣-١٦٦ ] حديثا عن أبي هريرة وصف بأن رجاله ثقاة مشهورون وإسناده جيد قال :( قال رسول صلى الله عليه وسلم : لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ).
وفي الفصل الذي عقده ابن القيم في الجزء الثالث من كتابه " أعلام الموقعين " على التنديد بالتحايل على أحكام الله أحاديث أخرى. منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ).
والشاهد من الحديث هو التبايع بالعينة. وقد روى ابن القيم عن ابن عباس توضيحا لذلك في رواية جاء فيها :( باع رجل من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين، فسأل ابن عباس عن ذلك فقال : دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة، وهذا مما حرم الله ورسوله وإن الله لا يخدع ). ومنها حديث رواه ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع ). وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته جاء فيه :( إنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى، فقالت لها أم ولد زيد : إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة نسيئة واشتريته بستمائة نقدا. فقالت : أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب، بئسما شريت وبئسما اشتريت ). وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولا مانع من صحتها. على أن هناك حديثا رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوها ). وفي هذا تحريم نبوي للحيل في إبطال شرائع الله تعالى.
أولي الأيدي والأبصار : الأقوال متعددة في تأويل الجملة وأوجهها أنها بمعنى أولي القوة في العبادة والطاعة وأولي البصيرة في الدين والشريعة.
﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار..... ﴾ [ ٤٥-٤٨ ] : هاتان حلقتان أخريان من السلسلة. والخطاب فيهما موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالتبعية بذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم إسماعيل واليسع وذي الكفل أنبياء الله الذين اصطفاهم ورفع أقدارهم وخصهم ببره وتكريمه لما كانوا عليه من حسن الطاعة والبصيرة والعمل الصالح، والآيات استمرار في السياق السابق، وهدفها الدعوة إلى التأسي بهم والاعتبار بما نالوه من حسن المآب والكرامة الربانية، وهو هدف السلسلة عامة على ما نبهنا عليه.
( ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) ) : أوجه الأقوال في تأويل الجملة أنها بمعنى : إنا جعلناهم خالصين لها بخصلة خالصة فيهم وهي تذكرهم الدار الآخرة والعمل لها والزهد عن غيرها.
تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات.
وذكر إبراهيم عليه السلام ورد في سور سابقة، أما الأسماء الأخرى فهذه هي المرة الأولى التي ترد، ثم تكررت في سورة تالية، ولقد ذكر إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم السلام مرارا في سفر التكوين المتداول اليوم بشيء من الإسهاب. وقد ذكرنا لمحة عن إبراهيم عليه السلام في سورة الأعلى فنكتفي الآن بذلك لأن ذكره هنا جاء خاطفا. ومما جاء في هذا السفر عن إسحاق ويعقوب وإسماعيل :
١- إن إسماعيل وإسحاق هما من أبناء إبراهيم، وإن يعقوب هو ابن إسحاق.
٢- إن إسماعيل هو البكر وأمه أمة مصرية اسمها هاجر. وإنه لما ولد غارت زوجة إبراهيم سارة وطلبت إبعاده مع أمه. وأمره وحي الله بتلبية طلبها ووعده بأن سيجعل نسل ابنه أمة عظيمة. وأبعده إلى برية فاران، حيث استقر وتزوج وصار له اثني عشر ولدا ونمت ذرياتهم نموا عظيما.
٣- إن إسحاق ولد لإبراهيم وسارة بعد شيخوختهما وببشارة ومعجزة ربانية، وكان موضع عناية الله ووعده بأن يجعل من نسله أمة كبيرة. وشاخ ومات ودفن في أرض كنعان.
٤- إن يعقوب هو ابن إسحاق وتؤام لأخ له اسمه عيسو الذي كان هو الأول في الولادة، وإن يعقوب اشترى بكورية أخيه بأكلة عدس واحتال على أبيهحينما شاخ وعمي فقدم له نفسه باسم عيسو وحصل على بركته ودعائه بأن يجعل ذريته هي السيدة على ذرية أخيه وعلى سائر الأمم، فصار موضع عناية الله وتجلى له مرارا وسماه إسرائيل، وصار له اثني عشر ولدا من أمهات عديدة. ونمت ذريتهم وصارت اثني عشر سبطا وانتسبوا إلى جدهم الأكبر إسرائيل الذي صار اسما ليعقوب. ونكتفي الآن عنهم بهذه اللمحة ؛ لأنهم ذكروا هنا ذكرا خاطفا. وقد ذكروا في القرآن مرارا بتوسع أكثر وسنعود إلى ذكرهم بتوسع أكثر في المناسبات الآتية. وفي كتب التفسير روايات وبيانات مسهبة عنهم معزوة إلى العلماء من أصحاب رسول الله وتابعيهم ؛ حيث يفيد هذا أن ذكرهم كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. وليس من مصدر لذلك إلا الجاليات الكتابية والجاليات اليهودية بنوع خاص. أما اليسع فهو على الأرجح اليشاع أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ورد ذكره مرارا في سفر الملوك الثاني في الطبعة البروتستانتية والرابع في الطبعة الكاثوليكية وذكر خبر نشاطه ومعجزاته المتعددة وتبليغاته لبني إسرائيل. وقد ذكر مرة أخرى في القرآن في سورة الأنعام في سلسلة الأنبياء بوصفه من ذرية إبراهيم مع إسماعيل ذكرا خاطفا كما ذكر هنا. ولم يرو عنه المفسرون فيما اطلعنا عليه شيئا كثيرا، وعلى كل حال فإنه هو الآخر كان معروف الاسم والهوية في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، مثل الذين ذكروا في أسفار العهد القديم على ما هو المتبادر ومن طريق الجاليات اليهودية. وأما ذو الكفل فإن المفسرين رووا في صدده وشخصيته روايات متعددة. منها أنه من أنبياء بني إسرائيل أو من رجالهم الصالحين، أو أنه ملك عادل تكفل لنبي قومه بالعدل فسمي ذا الكفل، أو أنه شاب صالح تكفل لنبي قومه بالصيام والصلاة وعدم الغضب، فوفى بما تكفل به فسمي ذا الكفل أي ذا الحظ من ثواب الله أو ذا الثواب المضاعف ؛ لأن معنى الكفل هو الحظ أو الضعف. ومنها أن اسمه الحقيقي زكريا أو يوشع بن نون أو عدويا. ومنها أنه كان جبارا عاصيا تاب وأناب إلى الله فسمي باسمه. وروى ابن كثير في صدده حديثا وصفه بالغريب رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال :( سمعت من رسول الله أكثر من مرة يقول : كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل أرعدت وبكت فقال لها : ما يبكيك هل أكرهتك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملني عليه الحاجة، قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط، ثم نزل عليها وقال : اذهبي بالدنانير لك، والله لا يعصي الكفل الله أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل ). وعلى كل حال فالذي نرجحه أن اسمه وشخصيته لم يكونا مجهولين عند سامعي القرآن وأهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. ومن المحتمل كثيرا الذي يسوغه صيغة الاسم العربية أنه نبي عربي مثل هود وصالح وشعيب. والله أعلم.
تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
ويلحظ أولا : أن إسماعيل واليسع وذا الكفل قد ذكروا مجردين من تعبير " عبادنا " الذي استعمل في ذكر الأنبياء الآخرين.
وثانيا : أن إسماعيل لم يقرن بإبراهيم وإسحاق ويعقوب مع أنه ابن إبراهيم مثل إسحاق بل ابنه البكر كما قلنا قبل على ما ورد في سفر التكوين وقد تكرر هذا في آيات أخرى مما جعل بعض الأغيار والباحثين يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بنوة إسماعيل لإبراهيم إلا في العهد المدني حينما احتك باليهود، فلم يذكر بنوته له إلا في الآيات المدنية. وهذا خطأ فاحش فأبوة إبراهيم لإسماعيل وأبوة إسماعيل للعدنانيين مما كان متداولا بل راسخا عند العرب قبل البعثة النبوية على ما هو المتواتر وعلى ما تلهمه آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة البقرة هذه :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمام قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين١٢٤ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود١٢٥ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير١٢٦ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم١٢٧ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم١٢٨ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم١٢٩ ﴾ وهذا فضلا عن أن بنوة إسماعيل لإبراهيم قد ذكرت في آية مجمع على مكيتها وهي آية سورة إبراهيم هذه :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء٣٩ ﴾ وقد ذكرت آية أخرى أن إسماعيل من ذرية إبراهيم وهي آية سورة الأنعام هذه :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين٨٤ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين٨٥ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين٨٦ ﴾.
ونقول من قبيل المساجلة : إن بنوة إسماعيل لإبراهيم وبكريته مذكورتان في إصحاحات عديدة من سفر التكوين. وكان في مكة جاليات كتابية تتداول هذا السفر. وهذا يعني أن هذا الأمر لم يكن ليخفى في مكة قبل البعثة. فضلا عن أن اليهود لم يكونوا منقطعين عن مكة ؛ حيث كان منهم المقيم فيها والمتردد عليها ومنهم من آمن فيها برسالة النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرته آية سورة الأحقاف المكية هذه :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين١٠ ﴾ فليس من الضروري أن يكون علم النبي بذلك قد تأخر حتى هاجر إلى المدينة.
ولعل قرن إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مقام واحد هنا وفي المواضع الأخرى قد قصد به الإشارة إلى كونهم هم أصل سلسلة أنبياء بني إسرائيل، في حين لم يكن إسماعيل أصلا لها. ويؤيد هذا أن عيسو لم يذكر مع أنه الابن الأول لإسحاق ؛ لأنه ليس أصلا لهذه السلسلة، وأنه حينما اقتضت حكمة التنزيل وسياقه في مكة ذكر بنوة إسماعيل مع بنوة إسحاق لإبراهيم ذكر ذلك كما جاء في آية سورة إبراهيم المكية الآنفة الذكر، وقدم فيها إسماعيل لأنه البكر. أما مسألة ورود إسماعيل واليسع وذي الكفل بدون عبارة " عبادنا " دون الأنبياء السابقين، فإن حكمة ذلك خافية علينا، مع التنبيه إلى أننا لا نرى في هذا المقام قرينة مؤيدة لقصد دلالة التفضيل، ولعل عطف الآية [ ٤٨ ] على ما سبقها ينطوي فيه معنى العطف على وصف عبادنا أيضا. والله أعلم.
﴿ هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب... ﴾ [ ٤٩-٥٤ ] :
الآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه، حيث احتوت تنبيها إلى ما تقدم ذكره هو للتذكير والاعتبار. ثم احتوت بشرى بما للمتقين في الآخرة من حسن المنزل والنعيم والفواكه والأتربة التي لا تنفد والنساء الخفرات اللائقات بهم الملازمات لهم المساويات في السن لهم في جنات عدن التي يأتي شرح مداها بعد قليل.
ومع ما احتوته الآيات من حقيقة نعيم الآخرة الإيمانية فإنها استهدفت فيما استهدفته على ما تلهمه روحها ومضمونها تطمين الصالحين المتقين وإثارة الرغبات فيما عند الله بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والدعوة إلى التأسي بعباد الله المخلصين الشاكرين الصابرين في كل حالاتهم.
تعليق على ﴿ جنات عدن ﴾ :
وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إنها وردت مرارا في آيات مكية ومدنية. وقد قيل : إن عدن مصدر عدن بمعنى أقام إقامة دائمة. وتكون الجملة حينئذ بمعنى جنات الخلود. وقيل : إنها علم على نوع خاص من الجنات الأخروية. وقيل : إن عدن بمعنى الكرم والبستان في السريانية. وقيل : إنها بمعنى وسط الجنة. وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الأحاديث الصحيحة، وليس هناك مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وقد ذكرت [ عدن ] مرتين في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداول اليوم. حيث جاء ذكرها في هذه العبارة :[ وغرس الرب الإله جنة عدن شرقا وجعل هناك الإنسان الذي جبله ] الإصحاح [ ٢ ]. وفي هذه العبارة من نفس الإصحاح أيضا :[ وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها وأمر الرب الإله الإنسان قائلا من جميع شجر الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشر فإنك لا تأكل منها. إنك يوم تأكل منها تموت موتا ] والعبارة تقتضي أن تكون الكلمة علما على بقعة ما في الكون أو الأرض. ولقد عرف من آثار السبئيين النقشية في اليمن الذين وجدوا وحكموا قبل المسيح بأكثر من ألف سنة وامتد زمنهم إلى الميلاد المسيحي أنه كان في جنوب اليمن منطقة اسمها [ أدنت ] كان فيها نتيجة لنظام الري الذي اهتم له السبئيون وكان من مظاهره خزانات أو سدود كثيرة للماء من جملتها سد مأرب العظيم بساتين وارفة وحقول فيحاء.
ومعلوم أنه يوجد اليوم منطقة ومدينة باسم عدن في أقصى الساحل اليمني الجنوبي الغربي يمتد إلى آماد بعيدة في التاريخ ولا يبعد أن تكون منطقة أدنت هي هذه المنطقة. وأن كلمة عدن الفصحى التي تطلق عليها اليوم متطورة من كلمة أدنت والتقارب اللفظي شديد بينهما. هذا مع التنبيه على أن فحوى الآيات القرآنية التي وردت فيها يفيد أن المقصود من الكلمة جنة أو جنات أخروية. ومن المحتمل كثيرا أن تكون أوصاف جنات منطقة أدنت اليمنية مشهورة متداولة عند العرب قبل البعثة، فاقتضت حكمة الله تعالى تسمية جنات الآخرة أو بعضها باسمها جريا على النظم القرآني في وصف مشاهد الآخرة بالمألوفات الدنيوية على ما ذكرناه قبل وتبشير المؤمنين الصالحين بذلك للترغيب والتطمين. والإيمان واجب على كل حال بما ورد في القرآن وبكونه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته. والله تعالى أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:﴿ هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب... ﴾ [ ٤٩-٥٤ ] :
الآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه، حيث احتوت تنبيها إلى ما تقدم ذكره هو للتذكير والاعتبار. ثم احتوت بشرى بما للمتقين في الآخرة من حسن المنزل والنعيم والفواكه والأتربة التي لا تنفد والنساء الخفرات اللائقات بهم الملازمات لهم المساويات في السن لهم في جنات عدن التي يأتي شرح مداها بعد قليل.
ومع ما احتوته الآيات من حقيقة نعيم الآخرة الإيمانية فإنها استهدفت فيما استهدفته على ما تلهمه روحها ومضمونها تطمين الصالحين المتقين وإثارة الرغبات فيما عند الله بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والدعوة إلى التأسي بعباد الله المخلصين الشاكرين الصابرين في كل حالاتهم.

قاصرات الطرف : الطرف بمعنى العين والبصر. وقد يكون معنى الجملة غاضات الأبصار حياء وخفرا. ومما قيل في تأويلها : إنهن قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجهن.
أتراب : جمع ترب. بمعنى متساو أو رفيق. وقيل : إنها بمعنى متساوين في السن مع سن أزواجهن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:﴿ هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب... ﴾ [ ٤٩-٥٤ ] :
الآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه، حيث احتوت تنبيها إلى ما تقدم ذكره هو للتذكير والاعتبار. ثم احتوت بشرى بما للمتقين في الآخرة من حسن المنزل والنعيم والفواكه والأتربة التي لا تنفد والنساء الخفرات اللائقات بهم الملازمات لهم المساويات في السن لهم في جنات عدن التي يأتي شرح مداها بعد قليل.
ومع ما احتوته الآيات من حقيقة نعيم الآخرة الإيمانية فإنها استهدفت فيما استهدفته على ما تلهمه روحها ومضمونها تطمين الصالحين المتقين وإثارة الرغبات فيما عند الله بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والدعوة إلى التأسي بعباد الله المخلصين الشاكرين الصابرين في كل حالاتهم.

نفاد : انتهاء وجملة ﴿ ما له من نفاد ﴾ بمعنى أنه لا ينقطع ولا ينتهي.
الآيات استطرادية إلى ذكر مآل الطاغين بالمقابلة لمآل المتقين على ما جرى عليه النظم القرآني. وهي بذلك متصلة بالسياق على ما هو المتبادر.
والوصف فيها قوي رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الطغاة الجاحدين ليرعووا والرغبة في قلوب الصالحين المتقين. وهي على هذا مستمرة التلقين كما هو الظاهر. والوصف مستمد من مشاهد الحياة للتقريب والتمثيل والتأثير على ما ذكرناه من المناسبات المماثلة السابقة.
المهاد : ما يفرش تحت الإنسان.
حميم : الماء الشديد الحرارة.
غساق : الصديد النتن، وقيل : إنه الشديد الظلمة، وقيل الشديد البرودة. وقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ) حيث يؤيد هذا المعنى الأول للكلمة.
أزواج : أصناف، والآية ﴿ وآخر من شكله أزواج ﴾ بمعنى أنواع أخرى من مثل أشكال هذا العذاب.
الاقتحام : الاجتياز بقوة، أو الدخول بشدة وقوة.
الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيئ الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى. وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا.
﴿ هذا فوج مقتحم١ معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار( ٥٩ ) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار( ٦٠ ) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار( ٦١ ) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار٢( ٦٢ ) أتخذناهم سخريا٣ أم زاغت عنهم الأبصار٤( ٦٣ ) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار( ٦٤ ) ﴾ [ ٥٩-٦٤ ].
الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيئ الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى١. وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا.
والآيتان [ ٦٢-٦٣ ] احتوتا حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار- وخاصة زعماءهم- وتعاظمهم على المؤمنين ؛ لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء والمستضعفين، وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آية سورة الأنعام هذه :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا٢ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾ وآيات سورة الكهف هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا٢٨ ﴾ ومثل آية سورة البقرة هذه :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون١٣ ﴾ ومثل آيات سورة المطففين هذه :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم فاكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون٣٢ وما أرسلوا عليهم حافظين٣٣ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون٣٤ على الأرائك ينظرون٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون٣٦ ﴾.
ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان.
ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات : إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.
﴿ هذا فوج مقتحم١ معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار( ٥٩ ) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار( ٦٠ ) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار( ٦١ ) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار٢( ٦٢ ) أتخذناهم سخريا٣ أم زاغت عنهم الأبصار٤( ٦٣ ) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار( ٦٤ ) ﴾ [ ٥٩-٦٤ ].
الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيئ الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى١. وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا.
والآيتان [ ٦٢-٦٣ ] احتوتا حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار- وخاصة زعماءهم- وتعاظمهم على المؤمنين ؛ لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء والمستضعفين، وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آية سورة الأنعام هذه :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا٢ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾ وآيات سورة الكهف هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا٢٨ ﴾ ومثل آية سورة البقرة هذه :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون١٣ ﴾ ومثل آيات سورة المطففين هذه :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم فاكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون٣٢ وما أرسلوا عليهم حافظين٣٣ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون٣٤ على الأرائك ينظرون٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون٣٦ ﴾.
ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان.
ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات : إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.
( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ) الآية : تلهم أن معنى الأشرار فيها سقط المتاع أو المستضعفون، أو الضالون، وهو ما كان الكفار ينعتون به المؤمنين بالرسالة النبوية الذين كان كثير منهم في مبادئ الدعوة من الفقراء والمستضعفين
والآية احتوت حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار- وخاصة زعماءهم- وتعاظمهم على المؤمنين ؛ لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء والمستضعفين، وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آية سورة الأنعام هذه :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾ وآيات سورة الكهف هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا٢٨ ﴾ ومثل آية سورة البقرة هذه :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون١٣ ﴾ ومثل آيات سورة المطففين هذه :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم فاكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون٣٢ وما أرسلوا عليهم حافظين٣٣ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون٣٤ على الأرائك ينظرون٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون٣٦ ﴾.
ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان.
ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات : إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.
أتخذناهم سخريا : قرئت أتخذناهم على أنها استفهام من الكفار، وقرئت على أنها إخبار، وقرئت سخريا بكسر السين على معنى السخرية، وبضم السين على معنى التسخير، وكلا المعنيين لكلمة سخريا محتمل ووجيه. أما : اتخذناهم، فإن قراءتها على الإخبار أكثر اتساقا مع السياق، وكلمة سخريا قرينة على ذلك حيث تكون الجملة تتمة لكلام الكفار، ما لنا لا نرى الجماعات الذين كنا نعدهم من الأشرار وكنا نتخذه سخريا أو خدما مسخرين لخدمتنا.
أم زاغت عنهم الأبصار : هل لم نرهم لأن أبصارنا زاغت عنهم ؟
﴿ هذا فوج مقتحم١ معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار( ٥٩ ) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار( ٦٠ ) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار( ٦١ ) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار٢( ٦٢ ) أتخذناهم سخريا٣ أم زاغت عنهم الأبصار٤( ٦٣ ) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار( ٦٤ ) ﴾ [ ٥٩-٦٤ ].
الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيئ الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى١. وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا.
والآيتان [ ٦٢-٦٣ ] احتوتا حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار- وخاصة زعماءهم- وتعاظمهم على المؤمنين ؛ لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء والمستضعفين، وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آية سورة الأنعام هذه :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٥٢ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا٢ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين٥٣ ﴾ وآيات سورة الكهف هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا٢٨ ﴾ ومثل آية سورة البقرة هذه :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون١٣ ﴾ ومثل آيات سورة المطففين هذه :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم فاكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون٣٢ وما أرسلوا عليهم حافظين٣٣ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون٣٤ على الأرائك ينظرون٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون٣٦ ﴾.
ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان.
ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات : إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.
في هذه الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بإيذان الناس بأنه ليس إلا نذير يحذر الناس من شر المصير إذا تمسكوا بالضلال، وينبههم إلى ما فيه خيرهم وهداهم، ويدعوهم إلى الإقرار بأن لا إله إلا الله رب السماوات والأرض وما بينهما القوي القادر القهار الغفار.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:في هذه الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بإيذان الناس بأنه ليس إلا نذير يحذر الناس من شر المصير إذا تمسكوا بالضلال، وينبههم إلى ما فيه خيرهم وهداهم، ويدعوهم إلى الإقرار بأن لا إله إلا الله رب السماوات والأرض وما بينهما القوي القادر القهار الغفار.
وبالهتاف بالناس وتنبيههم إلى خطورة مهمته ودعوته وشدة خطلهم بالإعراض عنها، مقررا بأمر الله بأنه لم يكن له علم بما في الملأ الأعلى وما يكون بين يدي الله من جدل ومحاورات وخصومات، وكل أمره هو أن الله يوحي إليه بذلك لينذر الناس به. فيقوم بتبليغ ما يوحي الله به إليه.
ولقد قال بعض المفسرين : إن الآية [ ٦٩ ] هي في صدد ما كان من أمر تكليف الله الملائكة بالسجود لآدم وتمرد إبليس مما هو مذكور في الآيات التالية لها. ومع أن هذا ليس بعيد الاحتمال وتكون الآية المذكورة وما بعدها حينئذ تمهيدا لذكر تلك القصة فإننا لا نراه يقلل من وجاهة التأويل الذي ذهبنا إليه، ولا سيما قد استعملت كلمة من مصدرها قبل وهي [ تخاصم ] أهل النار.
الملأ الأعلى : كناية عن الله وملائكته على ما يلهمه سياق الآيات التالية لها.
يختصمون : يتجادلون ويتحاورون.
استطراد إلى حديث نبوي مروي في سياق الآية :﴿ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ﴾ :
لقد روى الترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :( احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نترايا عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته قال لنا : على مصافّكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا فقال : أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة. إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال : يا محمد قلت : لبيك رب قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري قالها ثلاثا فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد. قلت : لبيك رب قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات قال : ما هن ؟ قلت : مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال فبم ؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام. قال : سل، قل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون. أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها حق فادرسوها ثم تعلموها ). وقد أوردنا بعض هذا الحديث الذي وصف ابن كثير بأنه حديث المنام المشهور في سياق تفسير آيات سورة النجم الأولى. وقد رأينا إيراده بجميع نصه هنا ؛ لأن المفسرين أوردوه في سياق الآيات التي نحن في صددها. ولأن فيه صورة رائعة لاستغراق النبي في عبادة ربه حتى يراه ويتحاور معه. وصورة رائعة كذلك لحياته مع أصحابه ومسارعته إلى إبلاغهم كل ما يقع له ولو كان رؤيا منام على اعتبارها حقا يجب إبلاغها إليهم. وما في المحاور والوعاء من التلقينات والفوائد.
تعليق على ما في آيات ﴿ قل إنما أنا منذر.. ﴾ وما بعدها من دلالة ومدى :
الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة، وهي والحال هذه متصلة بالسياق، حيث جاءت على أثر بيان مصائر المتقين والطاغين داعية منذرة، مبينة لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم وخطورتها العظيمة. وفيها صورة قوية للمقصد الرباني في إرسال الرسل. وفيها تنديد قوي لأولئك الذين يعرضون عما يدعون إليه من توحيد الله سبحانه والخضوع له ونبذ كل شريك معه. وفيها توكيد لما تكرر في القرآن من أن مهمة النبي هي الإنذار والدعوة وتبليغ ما يوحى إليه.
احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف
تعبير ﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ في الآيات في صدد خلق آدم قد تكرر في القرآن فاستعمل في سياق خلق الإنسان الأول مطلقا في غير قصة آدم وإبليس كما جاء في آيات سورة السجدة :﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين٧ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين٨ ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون٩ ﴾ واستعمل في سياق ذكر خلق عيسى كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه :﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين٩١ ﴾. وروح التعبير في مختلف المواضع تلهم قصد التدليل على قدرة الله وتقرير دبيب نسمة الحياة في الإنسان الأول وفي رحم أم المسيح بأمر الله وقدرته وإرادته. فالواجب الوقوف عند هذا الحد مع ملاحظة أن استنتاج وتقرير أي صلة حقيقية بين الله والإنسان عن طريق الروح بمفهومها الحرفي لا معنى له، وليس مما تقتضيه أو تتحمله العبارات والتقريرات القرآنية المتنوعة، وخاصة ضوابط الكنه الرباني في القرآن التي من أهمها جملة ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ حيث يشمل هذا كل ما يتصل به وصفاته وكينونته مما لا سبيل لإدراكه بعقلنا الإنساني، ومما لا تصح فيه أي مماثلة.
أما خلود الروح الإنسانية وبعث البشر بعد الموت وخلودهم في النعيم أو العذاب بعد البعث والحساب مما هو مبثوث تقريره في آيات القرآن التي مرت أمثلة منها، فلا يصح أن يجعل بينه وبين وهم كون الإنسان من روح الله تبعا للوهم الذي تثيره الجملة التي نحن في صددها أي صلة. ولا سيما إنه يرد على ذلك كون نسمة الحياة قد مشترك ومتشابه بين أنواع الحيوان من إنسان وغير إنسان. وكل ما في الأمر أن حكمة الله تعالى قد جعلت الإنسان يمتاز على سائر الأحياء بالعقل المتكامل الذي يكون به مسؤولا عن كسبه ورتب على ذلك حكمة بعثه وحسابه وتخليده في النعيم والعذاب دون سائر الأحياء. والله تعالى أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

هذا التوجيه يؤدي إلى التساؤل عما إذا كان العرب يعرفون ما يرمز إليه تعبير إبليس، وعما إذا كانوا يعرفون كذلك قصة آدم والملائكة وإبليس ؛ لأن استحكام الحجة عليهم والتأثر بالعظة والعبرة منوطان بذلك على ما قررناه في المناسبات السابقة.
وللإجابة على النقطة الأولى ينبغي أن نبحث في كلمة إبليس. فهناك من يقول إنها معربة من كلمة ديابوليس اليونانية التي كانت ترمز إلى الشيطان الموسوس. وهناك من يقول : إنها عربية الجذر والاشتقاق والصيغة وإنها من جذر [ أبلس ] بمعنى يئس وعلى صيغة إفعيل مثل إزميل. وفي القرآن ورد اشتقاق من هذا الجذر بهذا المعنى في آيات سورة الروم هذه :﴿ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون١٢ ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين١٣ ﴾ وفي آيات سورة الزخرف هذه :﴿ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون٧٤ لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون٧٥ ﴾ وقد أنكر الزمخشري عروبة الكلمة وقال : إنها أعجمية معربة واستدل على ذلك بامتناعها عن الصرف. غير أن ابن منظور صاحب لسان العرب ومفسرين آخرين رجحوا عروبتها. ونحن نرجح ذلك ما دام هناك جذري عربي فصيح وقرآني يمكن أن ترجع إليه الكلمة. ومما لا ريب فيه أن الكلمة كانت متداولة على لسان العرب قبل الإسلام. وتبعا لترجيح عروبتها الفصحى يمكن أن يقال : إنها نعت لا اسم وأنها نعت ذم وأن العرب كانوا يفهمون هذه الدلالة. ولقد ذكرنا في التعليق على كلمة الشيطان في سياق سورة التكوير أن كلمة ﴿ الشيطان ﴾ التي هي أيضا نعت ذم وتشنيع وردت في القرآن مرادفة لكلمة إبليس وأنها كانت مفهومة الدلالة عند العرب من حيث إنها كانت تطلق فيما تطلق عليه على العنصر الخفي الشرير الذي يوسوس للناس ويغويهم. وهذا يعني أن العرب كانوا يرادفون بين الشيطان وإبليس ويعرفون أن إبليس هو اسم آخر للشيطان الذي يوسوس للناس ويغويهم. ولقد قلنا في التعليق السابق الذكر إنهم يمكن أن يكونوا عرفوا دور الشيطان من أهل الكتاب. وهذا ينسحب على كلمة إبليس التي كان الكتابيون يرادفون بدورهم بينها وبين الشيطان.
وأما بالنسبة للنقطة الثانية فنقول : إن سفر التكوين من أسفار العهد القديم المتداول في أيدي الكتابين قد ذكر القصة، وملخص ما جاء فيه أن الله خلق آدم من تراب وسواه ونفخ فيه نسمة الحياة، ثم خلق حواء من ضلعه وأسكنهما في جنة أنشأها لهما في عدن شرقا، وأباح لهما الأكل من كل شجرة إلا شجرة معرفة الخير والشر فنهاهما عن أكل ثمرها. ولكن الحية التي كانت أحيل جميع الحيوانات أغوت حواء وأغرتها بالأكل من هذه الشجرة قائلة لها : لن تموتا إذا أكلتما منها كما قال لكما الله، وإن الله عالم أنكما في يوم تأكلان منها تتفتح أعينكما وتصيران كالآلهة وتعرفان الخير والشر. فأكلت حواء وأعطت بعلها فأكل. فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان فخاطا من ورق التين مآزر. وسمعا صوت الرب وهو يتمشى في الجنة فاختبآ من وجهه، فنادى الرب آدم أين أنت ؟ قال : إني سمعت صوتك فخشيت لأني عريان فاختبأت. قال فمن أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : إن المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت. فسأل الرب المرأة فقالت : أغوتني الحية، فغضب عليهما ربهما وأخرجهما من الجنة ليكدا ويتعبا في الأرض ويعرقا في سبيل أكل خبزهما بعد أن صنع لهما أقمصة من جلد، ولعن الحية وآذنها بعداوة دائمة ضاربة بينها وبين ذرية آدم وحواء، وأنذر حواء بمشقة الحمل والولادة وآلامهما إلخ... ].
وهذا الملخص يتسق مع ما جاء عن القصة في سورة الأعراف بشيء من التباين حيث ذكر في الآيات إبليس بدلا من الحية وذكر فيها أمر الله للملائكة بالسجود لأدم وتمرد إبليس والحوار بينه وبين الله وبينه وبين آدم وحواء وهو ما لم يرد في سفر التكوين كما ترى في هذه الآيات :﴿ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين١١ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين١٢ قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين١٣ قال أنظرني إلى يوم يبعثون١٤ قال إنك من المنظرين١٥ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم١٦ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين١٧ قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين١٨ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين١٩ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا من الخالدين٢٠ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين٢١ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ونادهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين٢٢ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين٢٣ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين٢٤ قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون٢٥ يا بني أدام قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون٢٦ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون٢٧ ﴾.
ومع المباينة التي بين الآيات وسفر التكوين فإن التوافق الكبير بينهما يجعلنا نميل إلى القول : إن القصة كما وردت في هذه السورة وغيرهما من السور لم تكن غريبة عن السامعين ؛ لأن أسلوبها تذكيري يلهم أنه بسبيل التذكير بشيء غير غريب ؛ لأن العبرة القرآنية إنما تتحقق بذلك. ونعتقد أن الكتابيين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يتداولون أسفارا وقراطيس لم تصل إلينا فيها شروح وحواش متسقة مع ما ورد في القرآن من القصة.
وأن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره عرفوها عن طريقهم بحيث يمكن أن يقال : إن المخاطبين بالقرآن لأول مرة كانوا يعرفون قصة آدم وإبليس وتمرد إبليس على الله وطرده من رحمته ودوره في إغواء الناس، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتلى عليهم لأول مرة في هذه السورة، ثم تتكرر بأساليب متنوعة لما انطوى فيها من تلقينات ومواعظ وعبر وأهداف على النحو الذي شرحناه. وهكذا يصدق ما قلناه في تعليقنا على القصص القرآنية في سورة القلم من أن سامعي هذه القصص من العرب كانوا يعرفونها على هذه القصة أيضا.
وفي كتب التفسير روايات كثيرة عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول من ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وسعيد بن جبير وابن زيد وغيرهم في سياق هذه الآيات وآيات السور الأخرى التي وردت فيها القصة. كما أن في هذه الكتب أقوالا كثيرة للمفسرين أنفسهم في كيفية خلقه أدم والطينة التي جبل منها ونفخ الله من روحه فيه وخلق زوجته منه، والجنة التي أسكنهما فيها، والشجرة الممنوعة الخ معظمها تخمينية واجتهادية فيها السمين والغث والمتسق مع ما ورد في القصة في القرآن وسفر التكوين وغير المتسق. وفي بعضها كثير من الإغراب أيضا. ومثل هذا يقال في ما رووه وقالوه في صدد إبليس وماهيته وذريته وأسمائهم وأشكالهم وتفريخهم وأدوارهم. ولم نر طائلا في إيرادها لأنها ليست من أهداف القصة ولكنها تدل كما قلنا على أن القصة كانت مما يتداوله أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته وليس لذلك مصدر إلا الكتابيون فيهما. ولقد انجرّ بعضهم إلى بحوث علمية بسبيل التوفيق. ومنهم من رأى في القصة رموزا ومعاني تمثيلية. ومنهم من حاول أن يرى صلة بين خلود روح الإنسان بخاصة وبين تعبير نفخ الله من روحه في الإنسان الأول الذي خلقه من طين وصار أبا البشر. ومنهم من حاول أن يوفق بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى الواردة في صدد نشأة الكون والخلق ثم بينها وبين النظريات العلمية القائمة على ناموس التطور والاصطفاء والنشوء والبقاء أو نشوء جميع الأحياء من نبات وحيوان على مختلف المستويات من التراب والماء مما لا نرى طائلا ولا محلا له كذلك في مجال القصة وأهدافها.
ومن غريب ما عزي إلى ابن عباس وبعض التابعين مثل قتادة والضحاك أن إبليس كان من الملائكة بل كان من أشرافهم، وكان خازنا للسماء وللجنة. وأنه لو لم يكن من الملائكة لما أمر بالسجود ؛ لأن الله أمر الملائكة بالسجود فسجدوا وتمرد إبليس. أي أمر معهم بالسجود ؛ لأنه منهم وعزي إليهم إزاء آية الكهف التي تصف إبليس بأنه من الجن وهي :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه... ﴾ [ ٥٠ ] أن الجن الذين منهم إبليس هم قبيلة من الملائكة مع أن في سورة سبأ آية جمعت بين الجن والملائكة كخلقين مختلفين بل متعاكسين وهي :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ ومع أن القرآن جمع إبليس مع الجن في أصل الخلقة ؛ حيث قرر في الآيات التي نحن في صددها وأمثالها أن إبليس خلق من نار وقرر في آيات عديدة أن الجن خلقوا من النار أيضا مثل آية سورة الرحمان هذه :﴿ وخلق الجان من مارج من نار١٥ ﴾ وآية سورة الحجر هذه ﴿ والجان خلقناه من قبل من نار السموم٢٧ ﴾ في حين أن هناك حديثا رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة ذكر فيه أن الله خلق الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار.
ونلاحظ أولا : أن القرآن في صدد ماهية إبليس قد قرر بعض التقريرات التي منها أنه كان من الجن كما جاء في آية سورة الكهف التي أوردناها آنفا. مع تقرير أن الجن خلقوا من النار كما جاء في آيات سورتي الحجر والرحمان التي أوردناها وغيرها. وحكى قول إبليس أنه هو نفسه خلق من نار كما جاء في آيات قصته التي نحن في صددها وفي السور الأخرى. وقد ذكره بمفرده كما في آيات القصة وأحيانا هو وذريته كما في آية سورة الكهف المذكورة آنفا وأحيانا هو وجنوده كما في آية سورة الشعراء هذه :﴿ وجنود إبليس أجمعون٩٥ ﴾ وذكر الشيطان مرادفا له بصيغة المفرد كما في آية سورة الأعراف [ ١١ ] التي أوردناها آنفا، وبصيغة الجمع كما في نفس الآية، وذكره هو وقبيله كما في نفس الآية، وعزا على إبليس والشيطان وفروعهما إغواء الناس وإضلالهم وتزيينهم لهم الفساد والكفر والإثم كما ورد في الآيات التي أوردناها وكثير غيرها وحكى ما جرى من حوار في صدد ذلك بين الله تعالى وإبليس وبين إبليس وآدم، ووقف عند هذا الحد.
وثانيا : أن القرآن في صدد ماهية آدم وخلقه كرر ما قرره في الآية التي نحن في صددها بشيء من الخلاف الأسلوبي، وذكر مع ذلك في بعض الآيات خلق الإنسان من طين بدون ذكر آدم وسجود الملائكة كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين١٢ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين١٣ ﴾ ووقف عند هذا الحد.
وثالثا : أن القرآن أورد كل ما أورده في صدد آدم وإبليس بأسلوب التذكير والعظة لا بأسلوب تقرير واقعة لذاتها. وتكرار القصة من تنوع صيغتها وسياقها في كل مرة وردت فيها مما يدل على ذلك فضلا عن الأسلوب. ف
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

رجيم : مرجوم بالحجارة، والمقصد مطرود بقوة.
أنظرني : أخرني وأمهلني.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

المخلصين : الذين أخلصوا من الغواية واهتدوا إلى الله والتزموا حدوده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:احتوت الآيات حكاية قصة خلق آدم وسجود الملائكة له بأمر الله تعالى وتمرد إبليس على هذا الأمر، وما كان من حوار بينه وبين الله. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.
والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب وعظة وتذكير. وحرف " إذ " الذي بدئت به قرينة على ذلك. ولعل الاتصال قائم بنوع خاص فيما ذكرته الآيات السابقة من ذكر الطغاة واستكبارهم على دعوة الله وتعاظمهم على المؤمنين، فجاءت هذه الآيات تحكي موقف إبليس المماثل لموقفهم.
ونستدرك هنا أن الآيات لم تذكر اسم آدم بصراحة، وقد ذكرناه بصراحة ؛ لأن القصة في سور أخرى قد احتوت اسمه، حيث جاء في سورة البقرة هذه الآية من سلسلة القصة ذاتها. ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين٣٤ ﴾.
تعليق على قصة آدم وسجود الملائكة له وتمرد إبليس وتلقيناتها.
وقصة آدم وإبليس قد وردت في القرآن سبع مرات. ست منها في السور المكية وهي هذه السورة وسور الأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وواحدة في سورة البقرة المدنية. ومحتوياتها متقاربة مع بعض الفروق من حيث البيان والحوار والتلقين والتوجيه، وبينها وبين قصص الأنبياء وأممهم مماثلة من ناحية التكرار ومن ناحية الأسلوب والسياق ففي كل مرة تأتي في سياق التنديد بالكفار ومواقفهم وتمردهم وتربط ذلك بما كان من موقف إبليس واستحقاقه من أجل ذلك غضب الله، وبما كان من خضوع الملائكة لأمر الله ومسارعتهم إلى تنفيذه. وأسلوبها وعظي وليس سردا قصصيا وهذا هو شأن قصص الأنبياء وأقوامهم. وهذا كله يسوغ القول : إن هذه القصة لم تورد في القرآن لذاتها وفي معرض تقرير بدء خلق البشر، وإنما أوردت بقصد العظة والاعتبار وضرب المثل. والإشارة إلى ما في عصيان الله والتمرد على أوامره من جريمة منكرة، وإلى أن الذين يتمردون على الله ودعوته إنما هم تبع لإبليس، ثم إلى ما في مسارعة الملائكة إلى تنفيذ أمر الله والخضوع له من المثل الحسن الذي يتضمن تقرير كون الله يستجيبون إلى الله ودعوته هم سائرون في الطريق القويم الذي سار فيه الملائكة.
ويتبادر لنا بالإضافة إلى هذا أن القصة استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فالذين لا يستجيبون إلى الدعوة هم ذوو النيات الخبيثة والقلوب المريضة المتكبرون المتعالون الذين يجد فيهم إبليس مجالا للوسوسة والإغواء. ومصيرهم جميعا إلى النار. وأن طريق إبليس مسدود بالنسبة لذوي النيات الحسنة والقلوب السليمة والرغبة الصادقة في الحق والهدى، الذين يستجيبون إلى دعوة الله ويلتفون حول نبيه. وفي جملة ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ من حكاية كلام إبليس تأييد لذلك.
وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث التبكيت بالمنحرفين وقرنهم بإبليس والتنويه بالصالحين وقرنهم بالملائكة.
ولعل مما يندمج في أهداف القصة وأسلوبها أمرين مهمين بالنسبة إلى عقائد العرب في الملائكة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر. أولهما : توجيه العرب الذين للملائكة في أذهانهم صورة فخمة إلى الاحتذاء بهم في طاعة أمر الله واستجابة دعوته.
وثانيهما : تفهيم العرب أن الملائكة الذين يشركونهم مع الله ليسوا إلا عبيدا له يسجدون لمن خلقه من طين استغراقا في الخضوع له. وأن من كان هذا شأنه لا يجوز اتخاذه ربا أو شريكا لله واعتقاد القدرة فيه على النفع والضر والمنح والمنع. وفي القرآن آيات عديدة فيها حكاية تنصل الملائكة وتقرير بخضوعهم لله وعبوديتهم له مثل آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون٤١ ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويتكبر فسيحشرهم إليه جميعا١٧٢ ﴾ وآيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين٢٩ ﴾.
من كرامة بني آدم في هذه القصة.
هذا، وفيما احتوته قصة آدم وإبليس في القرآن من التنويه بخلق الله تعالى آدم بيده ومن نفخه فيه من روحه ومن أمره الملائكة بالسجود له تكريما تسجيل لما اختصه الله من كرامة عظمى كما هو المتبادر. وهذه الكرامة تشمل بني آدم بطبيعة الحال. وفي قصة خلق آدم في سورة البقرة تدعيم لذلك حيث جاء في بعض آياتها :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون٣٠ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين٣١ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم٣٢ قال يا آدم أأنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون٣٣ ﴾ وهذا التدعيم منطو كذلك في آية الإسراء هذه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا٧٠ ﴾ ولعل من هذا التكريم أو من مظاهره تفوق بني آدم على سائر الحيوانات بمواهبهم العقلية والنطقية وقابليتهم للتكليف واختيار الكسب والتصرف، وجعلهم بذلك أهلا للتكليف والجزاء الأخروي مع مماثلتهم لهم في معظم مظاهر الحياة حتى مع ملاحظة ما يقوله علماء الحياة من أن تميز الإنسان عن سائر الحيوان هو نتيجة تطور طبيعي حتى يمكن أن يقال : إن هذا التطور الذي تمثل في الإنسان هو مظهر من مظاهر حكمة الله وإرادته وتكريمه. وأعظم بتسجيل كتاب الله المجيد لكرامة بني آدم وخلافته في الأرض فخرا وشرفا يوجبان عليهم التسامي عن العجماوات في تصرفهم وسلوكهم وأخلاقهم في الحياة وقيامهم بواجباتهم قياما تاما نحو الله وخلقه.
هذا، ولقد ألقى صادق العظم أحد أساتذة الجامعة الأميركية البيروتية في أحد أندية بيروت في أواسط سنة ١٣٨٥ هجرية وأواخر سنة ١٩٦٥ ميلادية محاضرة بعنوان [ مأساة إبليس ] فيها كثير من التمحل والسفسطة والأخطاء والتناقض رغم كونه ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها مما يفيد أنه مؤمن بالقرآن. ومن جملة ما جاء في المحاضرة : أن إبليس الذي كان كبير الملائكة وجد نفسه أمام أمر وواجب. فالله يأمره بالسجود لآدم، وهو يعرف أنه لا يجوز السجود لغير الله، فتمرد على أمر الله مفضلا التمسك بواجب حصر السجود له وحده فكانت مأساته وكان ضحية لتناقض الله عز وجل، وقد ناقش المحاضر بعض المفسرين والباحثين قبله الذين قالوا : إن السجود الذي أمر به سجود تكريم وليس سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة، ولكنه أصر على القول : إنه ليس له في القرآن إلا معنى واحد وهو سجود عبادة. رغم ما في القرآن من آيات طويلة لأولئك القائلين والتي تلزم المحاضر إلزاما لا فكاك له منه ؛ لأنه كما قلنا ينطلق من العبارات القرآنية للقصة وغيرها. فقد جاء في صيغة من صيغ القصة في سورة الإسراء عن لسان إبليس :﴿ قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا٦٢ ﴾ وقد حكى القرآن سجود أبوي يوسف وإخوته له في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا آبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.. ﴾ [ ١٠٠ ] ولا يمكن لأي كان أن يزعم أن سجودهم ليوسف كان سجود عبادة من دون الله ويتصف بإشراكه مع الله فيه... وتغافل المحاضر عن صراحة حكم الله في موقف إبليس الذي حكاه القرآن، وهو أنه كان به كافرا متكبرا وإنه استحق على هذا الموقف اللعنة المؤبدة والعار. كما جاء في الآيات [ ٧٦-٨٥ ] من هذه السورة وغيرها. وهو ملزم بهذا الحكم إلزاما لا فكاك له منه لأنه ينطلق من العبارة القرآنية. ولقد تغافل المحاضر تغافلا عجيبا عن أن القرآن يدور جملة وتفصيلا على الدعوة إلى عبادة الله وحده ومحاربة كل نوع من أنواع الشرك به وعبادة غيره والسجود لغيره بأي صورة وتأويل وعمل، وأن الله يتنزه والحالة هذه عن أن يأمر الملائكة وإبليس أن يسجدوا سجود عبادة وشرك لغيره. وعن كون إطاعة الملائكة لأمره بالسجود لآدم سجود عبادة تجعلهم مشركين وهم الذين ينزههم القرآن عن الشرك ويقرر كونهم دائمي العبادة والتسبيح والتقديس له، وعن أنه بدعواه يقف موقفا فيه كل السخف ؛ إذ يجعل إبليس أشد حرصا على التمسك بواجب توحيد الله من الله نفسه ! ويجعله مؤمنا موحدا ضحى بنفسه في سبيل عقيدته ! رغما عن نصوص القرآن ! وتغافل كذلك عن ما انطوى في القصة من هدف تذكير سامعي القرآن الذين كانوا يعرفونها بما فيها من عبرة وعظة بسبيل حملهم على عدم الاندفاع بالسير في طريق إبليس المتمرد على أمر الله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا٥٠ ﴾ [ الكهف ] وعلى السير في طريق الملائكة عباد الله المخلصين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ولقد رددنا عليه ردا قلنا فيما قلناه :( إنه ليس هناك ما يصح أن يكون محل نقاش في هذه القصة، فالقصة بالصيغة التي ورد بها في القرآن فريدة لم ترد في غيره، وهي عند المسلمين من المغيبات التي يجب عليهم الإيمان بها ؛ لأنها وردت في القرآن مع أخذها على أنها ليست من المحكمات التي هي أم الكتاب، وإنما هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. وأن ورودها في القرآن بالأسلوب الذي وردت فيه وتكررها سبع مرات قد استهدف الموعظة والتذكير لأناس يعرفون مركز كل من الملائكة وإبليس من الله تعالى ويعترفون بالله كالخالق المدبر للأكوان المحيط بكل شيء علما وقدرة. وإن المحاضر أمام سؤال يجب أن يجيب عليه وهو : هل هو مؤمن بالقرآن وبالقصة الغيبية التي وردت فيه ؟ فإن كان جوابه إيجابا فإنه يستتبع أن يؤمن بما أخبر الله به من حكمه في هذه القصة، وهو أن إبليس امتنع عن تنفيذ أمر الله واستحق بذلك لعنته في الدنيا وعذابه في الآخرة كما يستتبع تنزيه الله بأن يأمر بالسجود لغيره سجود عبادة وتنزيه الملائكة عن ذلك. وفي هذه الحالة يكون النقاش في مدى امتناع إبليس عن السجود وتبريره وتخريجه والقول : إن ما سجل عليه من لعنة وكفر وطرد في غير محله إلا أن يكون من باب الجدل مع الله وتوجيه اللوم عليه سبحانه على حكمه، واعتبار هذا الحكم جائرا وهذا لا يكون من مؤمن فضلا عن ما في رأيه في ذلك من مفارقة وعدم انطباق مع مدى العبارات والأهداف القرآنية، وإن كان الجواب سلبا فيصبح النقاش من المحاضر في قصة غيبية لم ترد في غير القرآن وليس هو مؤمنا بها أصلا غير ذي موضوع ؛ لأنه لا يكون لهذه القصة في ذهنه حقيقة أو أصل إلا أن يكون من باب ما يعمد إليه بعض سخفاء المبشرين من المماحكات الكلامية التي لا تثبت على نقد ورد وتفنيد، ويكون في ذلك ف

المتكلف : الفضولي الذي يحمل نفسه مهمة لم يحملها. وقال الزمخشري : معنى الجملة : ولست من المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله، ويدعون ما ليس عندهم. وقال ابن كثير : لا أبلغ إلا ما أمرت به بدون زيادة ولا نقص. وقال الطبري : لست ممن يتكلف تخرصه وافتراءه.
﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ﴾ : الآيات متصلة بالسياق والموقف. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بتوجيه الكلام للسامعين وبخاصة للكفار الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بتوجيه الكلام إليهم. وقد جاءت ختاما قويا للسورة، واستهدفت توكيد الإنذار للكفار وتوكيد صدق الرسالة النبوية وإيذانا بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو منتدب لأداء مهمة، وليس مندفعا فيها بالفضول ولا متصنعا ولا زائدا ولا منقصا وليس متوخيا منها أجرا ولا منفعة، وإن هذا الذي يبلغه عن الله هو ذكر للعالمين أجمع ولسوف يتحققون مصداقه ومداه. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت فيما استهدفته تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته في الوقت نفسه.
التلقين المنطوي في جملة ﴿ وما أنا من المتكلفين ﴾ وما روي في سياقها
وفي الأمر الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالإعلان بأنه ليس من المتكلفين تلقين تأديبي رفيع للمسلمين بأن لا يتصفوا بما ليس لهم علم وبأن لا يكونوا فضوليين فيما ليس فيه مصلحة وفائدة. ولقد روى الزمخشري في سياق الجملة حديثا مرفوعا رواه البيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف المتكلف ونصه :( للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم ) وروى البخاري والترمذي في سياقها كذلك حديثا عن عبد الله بن مسعود جاء فيه :( يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم. قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ﴾. وهذا يتساوق مع ذلك التلقين التأديبي الرفيع الذي انطوى في الجملة القرآنية.
جملة ﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾ تأتي هنا للمرة الثانية ؛ حيث جاءت لأول مرة في سورة القلم بصيغة ﴿ وما هو إلا ذكر للعالمين٥٢ ﴾ وقد علقنا على ما ينطوي في الجملة من مغزى خطير في صدد عموم الدعوة النبوية في سياق سورة القلم فنكتفي بهذه الإشارة.
تعليق على جملة :﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ﴾ :
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري والبغوي وغيرهما من أهل التأويل في تأويل هذه الجملة حيث قيل : إنها تعني يوم القيامة. أو عند الموت أو عند ما يغلبون في بدر وغيرها أو حين يظهر أمر الإسلام ويعلو. ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أنه انطوى فيها تحد للجاحدين وإنذار لهم وبشرى ربانية بحسن مصير الدعوة الإسلامية إلى العاقبة المحمودة والنجاح التام الذي سوف يعلمون نبأه ويشهدون حقيقته. وهذه البشرى على هذا الوجه معجزة من معجزات القرآن التي تحققت بكل قوة وسطوع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من السامعين، ثم ظلت تتحقق إلى الآن وإلى ما شاء الله بمن انضوى إليها وما يزال ينضوي من المجموعات البشرية العظيمة المنتشرة في كل أطراف الدنيا على اختلاف الألوان والأجناس واللغات والمستويات والنحل والأديان.
Icon