ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
اسم عزيز اعترفت المعارف بالقصور عن إدراكه، اسم جليل تقنّعت العلوم خجلا من الطمع في إحاطته، اسم كريم صغرت الحوائج عند ساحات جوده، اسم رحيم تلاشت قطرات زلّات عباده في تلاطم أمواج رحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)الصّاد مفتاح اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع.. أقسم بهذه الأشياء وبالقرآن.
وجواب القسم: «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ».
ويقال: أقسم بصفاء مودة أحبابه والقرآن ذى الذكر أي: ذى الشرف.. وشرفه أنه ليس بمخلوق «١».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)
فى صلابة ظاهرة، وعداوة بيّنة، وإعراض عن البحث للأدلة، والسّرّ للشواهد.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٣]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)
بادوا حين هجم البلاء مستغيثين، وقد فات وقت الإشكاء والإجابة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
عجبوا أن جاءهم منذر منهم، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتات آلهة، وهذه مناقضة ظاهرة. فلمّا تحيّروا في شأن أنبيائهم رموهم بالسحر، وقسّموا فيهم القول.
[سورة ص (٣٨) : آية ٥]
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم، وبعدوا عن ذلك تجويزا، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما، فلا عرفوا الإله ولا معنى الإلهية فإنّ الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، ثم إنّ ذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين، وكلّ أمر جرى ثبوت سقوطه فهو مطروح باطل.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٦]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦)
إذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٧]
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
ركنوا إلى السوء والعادة، وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلالة، واستناموا إلى التقليد والهوادة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٨]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)
أي لو استبصروا في دينهم لما أقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم، ولولا أنّا أدمنا لهم العوافي لما تفرّغوا إلى طغيانهم «١».
[سورة ص (٣٨) : آية ٩]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)أي: هؤلاء الكفار الذين عارضوا أو نازعوا، وكذّبوا واحتجّوا.. أعندهم شىء من هذه الأشياء؟ أم هل هم يقدرون على شىء من هذه الأشياء فيفعلوا ما أرادوا، ويعطوا من شاءوا، أو يرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحى على من أرادوا؟
[سورة ص (٣٨) : آية ١١]
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
بل هم جند من الأحزاب المتحزبين. كلّهم عجزة لا يقدرون على ذلك، مهزومون.
شبّههم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين فإن هؤلاء الكفار ليس معهم حجّة، ولا لهم قوة، ولا لأصنامهم أيضا من النفع والضر مكنة، ولا في الردّ والدفع عن أنفسهم قدرة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣)
الآيات.
ذكر هؤلاء الأقوام في هذا الموضع على الجمع، وفي غير هذا الموضع على الإفراد «١»، وفي كل موضع فائدة زائدة في الفصاحة والإفادة بكل وجه. ثم قال:
[سورة ص (٣٨) : آية ١٤]
إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
أي ما كان منهم أحد إلّا كذّب الرسل فحقّت العقوبة عليه، واستوجب العذاب.
ثم قال:
[سورة ص (٣٨) : آية ١٥]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
أي ليسوا ينتظرون إلا القيامة، وما هي إلا صيحة واحدة، وإذا قامت فإنها لا تسكن.
[سورة ص (٣٨) : آية ١٦]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
اصبر- يا محمد- على ما يقولون، فإنه لن تطول مدّتهم، ولن نمدّ- فى مقاساتك أذاهم- لبثك ومكثك، وعن قريب سينزل الله نصره، ويصدق لك بالتحقيق وعده.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ١٧]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)
«ذَا الْأَيْدِ» أي ذا القوة، ولم تكن قوّته قوة نفس، وإنما كانت قوته قوة فعل كان يصوم يوما ويفطر يوما- وهو أشدّ الصوم، وكان قويا في دين الله بنفسه وقلبه وهمته.
«أَوَّابٌ» رجّاع «١».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
«٢» كان داود يسبّح، والجبال تسبّح، وكان داود يفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيص له بالكرامة والمعجزة.
وكذلك الطير كانت تجتمع له فتسبّح الله، وداود كان يعرف تسبيح الطير وكلّ من تحّقق بحاله ساعده كلّ شىء كان بقربه، ويصير غير جنسه بحكمه، وفي معناه أنشدوا:
ربّ ورقاء هتوف بالضّحى... ذات شجو صرخت في فنن
ذكرت إلفا ودهرا صالحا... وبكت شوقا فهاجت حزنى
فبكائى ربّما أرّقها... وبكاها ربما أرّقنى
ولقد تشكو فما أفهمها... ولقد أشكو فما تفهمنى
غير أنى بالجوى أعرفها... وهي أيضا بالجوى تعرفنى
(٢) يرى ابن عباس أن (الإشراق) معناه صلاة الضحى إذ هي بعد طلوع الشمس.
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٠]
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
أي قوّينا ملكه بأنصاره، وفي التفسير: كان يحفظ ملكه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل.
قوله جل ذكره: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ».
أي شددنا ملكه بنصرنا له «١» ودفعنا البلاء عنه.
ويقال شددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية.
ويقال شددنا ملكه بقبض أيدى الظّلمة.
ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين.
ويقال شددنا ملكه بأن رأى النصرة منّا، وتبرّأ من حوله وقوّته.
ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلّونه على ما فيه صلاح ملكه.
ويقال بتيقّظه وحسن سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلّ أحد.
ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات.
«وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» : أي أعطيناه الرّشد والصواب، والفهم والإصابة.
ويقال العلم بنفسه وكيفية سياسة أمته.
ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإحكام الرأى والتدبّر.
ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار.
وأمّا «فَصْلَ الْخِطابِ» فهو الحكم بالحق، وقيل: البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر. ويقال: القضاء بين الخصوم.
ونحن نعلم أنه ابتلى في عهد طغرل بمحنة كبرى.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)
.. الآيات أرسل الله إلى داود عليه السلام ملكين من السماء على صورة رجلين فتحا كما إليه تنبيها له على ما كان منه من تزوّجه بامرأة أوريا، وكان ترك ذلك أولى- هذا على طريق من رأى تنزيه الأنبياء عليهم السلام من جميع الذنوب.
وأمّا من جوّز عليهم الصغائر فقال: هذا من جملته. وكنّى الخصمان باسم النعجة عن النساء.
وكان داود عليه السلام قال لله سبحانه وتعالى: إنّى لأجد في التوراة أنّك أعطيت الأنبياء الرّتب فأعطنيها، فقال: إنهم صبروا فيما ابتليتهم به، فوعد داود من نفسه الصبر إذا ابتلاه طمعا في نيل الدرجات، فأخبر الله تعالى أنه يبتليه يوم كذا، فجعل داود ذلك اليوم يوم عبادة، واختلى في بيته، وأمر حرّاسه ألا يؤذيه أحد بالدخول عليه، وأغلق على نفسه الباب، وأخذ يصلّى زمانا، ويقرأ التوراة زمانا يتعبّد. أغلق على نفسه الباب ولكن لم يمكنه غلق باب السماء. وأمر حرسه أن يدفعوا عنه الناس وكانوا ثلاثين ألف رجل- ويقال أربعة آلاف- ولكن لم يمكنهم أن يدفعوا عنه حكم القضاء، ولقد قال الحكماء: الهارب مما هو كائن في كفّ الطالب يتقلب.
وكانت في البيت كوّة يدخل منها الضوء، فدخل طير صغير من الذهب، ووقع قريبا منه، وكان لداود ابن صغير فهمّ أن يأخذه ليدفعه إلى ابنه «١»، فتباعد عنه. وجاء في التفاسير:
أنه كان إبليس، قد تصوّر له في صورة طير، فتبعه داود، ولم يزل الطائر يتباعد قليلا قليلا، وداود يتبعه حتى خرج من الكوة، ونظر داود في إثره فوقع بصره على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردة، فعاد إلى قلبه منها شىء، فكان هذا السبب.
ويقال لم يرع الاهتمام بسبب ولده حتى فعل به ما فعل، وفي ذلك لأولى الأبصار عبرة «٢».
(٢) يحاول القشيري في تلمسه لسبب محنة داود أن يوضح المريدين أنه حتى الأكابر قد تحل بهم البلوى نتيجة المساكنة إلى غيره، فيغار الحق عليهم وينزل بهم من الأمر ما يردهم إلى الحق... وذلك فضل الله سبحانه.
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٣]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)
«أَكْفِلْنِيها» أي انزل عنها حتى أكفلها أنا، «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ». أي غلبنى، فقال داود:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٤]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فضحك أحدهما في وجه صاحبه، وصعد إلى السماء بين يديه، فعلم داود عند ذلك أنه تنبيه له وعتاب فيما سلف منه، وظنّ واستيقن أنه جاءته الفتنة الموعودة:
أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه من السجود إلا (للصلاة) «١» المكتوبة عليه، وأخذ يبكى حتى نبت العشب من دموعه، ولم يأكل ولم
فقال: إنى استوهبتك «١» منه، وقال تعالى:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٥]
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
إن له عندنا لقربة وحسن رجوع، وقيل: كان لا يشرب الماء إلا ممزوجا بدموعه.
ويقال لمّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وجد المغفرة والتجاوز.. وهكذا من رجع في أوائل الشدائد إلى الله فالله يكفيه مما ينوبه، وكذلك من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربّك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربّك «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٦]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
«جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» أي بعد من تقدّمك من الأنبياء عليهم السلام. وقيل حاكما من قبلى لتحكم بين عبادى بالحقّ، وأوصاه بألا يتبع في الحكم هواه تنبيها على أنّ أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى.
ولما ذكر الله هذه القصة أعقبها بقوله:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
(١) أي استوهبتك منه بثواب الجنة (القرطبي ج ١٥ ص ١٨٥).
(٢) هكذا يفتح القشيري أبواب الأمل أمام العصاة، ويدفع عنهم القنوط من رحمة الله.
ويقال ما خلقتهما للبطلان بل لأمرهما بالحقّ.
ثم أخبر أنه لا يجعل المفسدين كالمحسنين قط، ثم قال:
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٩]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
«١» «مُبارَكٌ» وهو القرآن، ومبارك أي كبير النّفع، ويقال مبارك أي دائم باق لا ينسخه كتاب من قولهم برك الطير على الماء. ويقال مبارك لمن آمن به وصدّق. ثم إنه بيّن أنّ البركة في تدبّره والتفكّر في معانيه.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٣٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
«نِعْمَ الْعَبْدُ» لأنه كان أوّابا إلى الله، راجعا إليه في جميع الأحوال فى النعمة بالشكر، وفي المحنة بالصبر.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٣١]
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١)
«الصَّافِناتُ» جمع صافنة وهي القائمة، وفي التفاسير هي التي تقوم على ثلاث قوائم إذ ترفع إحدى اليدين على سنبكها «٢». وجاء في التفاسير أن سليمان كان قد غزا أهل
(٢) السنبك طرف الحافر، والصفون في اللغة إدامة القيام، قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوا مقعده من النار» وقال الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه | مما يقوم على الثلاث كسيرا |
وفي بعض التفاسير عرض عليه عشرون ألف فرص فشغلته عن بعض أذكاره لله.
«بِالْعَشِيِّ» : فى آخر النهار، وقيل كان ذلك صلاة العصر «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
قيل أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها بعد أن فرغ من صلاته.
وقيل عرقبها (ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار) «٥»، وقيل وضع عليها الكىّ فسبّلها «٦». وإيش ما كان فكلّ ذلك كان جائزا في شرعه.
قوله جل ذكره: «فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» «٧».
أي لصقت بالأرض لحبّ المال. ويقال لمّا سبّل هذه الأفراس عوّضه «٨» الله- سبحانه- بأن سخّر له الريح، وهذا أبلغ، وكلّ من ترك شيئا لله لم يخسر على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤).
(٢) هذه رواية مقاتل.
(٣) هذه رواية الحسن والضحاك.
(٤) ينقل القرطبي عن أبى نصر القشيري بن عبد الكريم القشيري قوله: ما كان في ذلك الوقت صلاة ظهر ولا صلاة عصر وإنما كانت تلك الصلاة نافلة، وشغل عنها ثم تذكرها.
(٥) ما بين القوسين زيادة أضفناها، اقتبسناها من القرطبي من الموضع نفسه حتى يتضح المعنى الذي يتجه إليه القشيري (ج ١٥ ص ١٩٦).
(٦) سبل الشيء أي أباحه وجعله في سبيل الله.
(٧) اختلف في التي «توارت بالحجاب» فقيل هي الشمس، وقيل هي الخيل وقد استعرضها حتى توارت الجهاد.
(٨) هكذا في م وهي في ص (عرضه) بالراء والصحيح ما أثبتناه عن م.
وقيل كان له ابن، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه، فهمّوا بقتله، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطين، فمات الولد، وألقته الريح على كرسيه ميتا.
فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء، وكان الأولى به التوكل وترك الاستعانة بالريح.
وقيل في التفاسير: إنه تزوج بامرأة «٢» كانت زوجة ملك قهره سليمان، وسباها، فقالت له: إن أذنت لى أن اتّخذ تمثالا على صورة لأبى لأتسلّى بنظري إليه؟ فأذن لها، فكانت (تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يوما)، وكانت تعبده سرّا، فعوقب عليه «٣».
وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت من أحبّ نسائه إليه، وكان إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه ودفعه إليها، وهي على باب الخلاء، فإذا خرج استردّه. وجاء يوما شيطان يقال له «صخر» على صورة سليمان وقال لامرأته: ادفعي إليّ الخاتم فدفعته، ولبسه، وقعد على كرسيه، يمشّى أموره- إلا التصرف في نسائه- فقد منعه الله عن ذلك. فلمّا خرج سليمان طالب المرأة بالخاتم، فقالت: الساعة دفعته إليك. فظنّ أنه فتن، وكان إذا أخبر الناس أنه سليمان لا يصدّقونه، فخرج (هاربا إلى ساحل البحر)، وأصابته شدائد، وحمل سمك الصيادين بأجرة حتى يجد قوتا.
ولما اتهم (بنو إسرائيل) الشيطان (واستنكروا حكمه) نشروا التوراة بين يديه،
(٢) هذه المرأة- كما يقول الزمخشري- هى «جرادة ابنة ملك جزيرة في البحر يقال لها صيدون.
(٣) وكانت عقوبته حرمانه من ملكه أربعين يوما- هى مدة عبادة الصنم في بيته.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٣٥]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)
أي ملكا لا يسلبه أحد منى بعد هذا كما سلب منى في هذه المرة.
وقيل أراد انفراده به ليكون معجزة له على قومه.
وقيل أراد أنه لا ينبغى لأحد من بعدي أن يسأل الملك، بل يجب أن يكل أمره إلى الله فى اختياره له.
ويقال لم يقصد الأنبياء، ولكن قال لا ينبغى من بعدي لأحد من الملوك.
وإنما سأل الملك لسياسة الناس، وإنصاف بعضهم من بعض، والقيام بحقّ الله، ولم يسأله لأجل ميله إلى الدنيا.. وهو كقول يوسف: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» «٢».
ويقال لم يطلب الملك الظاهر، وإنما أراد به أن يملك نفسه، فإن الملك- على الحقيقة- من يملك نفسه، ومن ملك نفسه لم يتّبع هواه.
ويقال أراد به كل حاله في شهود ربّه حتى لا يرى معه غيره.
ويقال سأل القناعة التي لا يبقى معها اختيار.
ويقال علم أن سرّ نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- ألا يلاحظ الدنيا ولا ملكها
(٢) آية ٥٥ سورة يوسف.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٣٦]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦)
شكر الله سعيه، وسخّر له الريح بدلا من الأفراس فلا يحتاج في إمساكها إلى العلف والمؤن.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
كما سخّرنا له الشياطين.
ثم قال: «هذا عَطاؤُنا..» أي فأعط أو أمسك، واحفظ وليس عليك حساب.
والمشي في الهواء للأولياء، وقطع المسافات البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعا في هذه الأمة- وإن لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين. وإظهاره على خدم رسول الله ﷺ لشرفه يدلّ على أن مقامه- صلى الله عليه وسلم- أشرف «١».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤١]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
أي بما كان يوسوس إليه بتذكيره إياه ما كان به من البليّة، وقيل لما كان قال (أي الشيطان) لامرأته: اسجدي لى حتى أردّ عليكم ما سلبتكم.
ويقال إن سبب ابتلائه أنه استعان به مظلوم فلم ينصره.. فابتلى.
ويقال استضاف الناس يوما فلمّا جاءه ابن فقير منعه من الدخول.
ويقال حسده إبليس، فقال: لئن سلّطتنى عليه لم يشكر لك.
ويقال كان له سبع بنات وثلاثة بنين في مكتب واحد، فجرّ الشيطان الاسطوانة فانهدم البيت عليهم.
ويقال لبث أيوب في البلاء ثمانى عشرة سنة، وقيل أربعين سنة، وقيل «١» سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٢]
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)
«٢» لمّا أراد الله كشف البلاء عنه قال له: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ»، فركض، فظهرت عين ماء بارد فاغتسل به، فعاد إليه جماله وكماله. وقيل الأولى كانت عينا حارة والثانية باردة، واغتسل، وردّ الله لحمه وشعره وبشره، وأحيا أولاده وأهله، وقيل بل يردّهم إليه في الجنة فى الآخرة.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٤]
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
الضّغث الحزمة من القضبان، وقيل كانت مائة، وأمر بأن يضرب بها دفعة على امرأته لئلا يحنث في يمينه، فإنه كان قد حلف أن يضربها مائة خشبة إن صحّ (أنها أخطأت). فشكر
(٢) رفض أبو الفرج الجوزي احتجاج بعض المتصوفة بهذه الآية على إباحة الرقص. والواقع أن ذلك يمنح القشيري تقديرا خاصا لأنه لو كان يؤيد ذلك الاحتجاج لقال به، بل لم يشر إليه، كما لم يشر عند الآية التي سبقت في هذه السورة: «ردوها على فطفق... » إلى ما يحتج به بعض المتصوفة من تمزيق الخرقة وتقطيع الثياب، فهذه في رأيه استدلالات فاسدة يلجأ إليها الطغام.
«إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً..» : والصبر ألا تعترض على التقدير.
ويقال الصبر الوقوف تحت الحكم. ويقال التلذّذ بالبلاء، واستعذابه دون استصعابه.
ويقال الصبر الوقوف مع الله بحسن الأدب.
ولم ينف قوله «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» اسم الصبر عنه لأنّ ذلك لم يكن على وجه الشكوى، ولأنه كان مرة واحدة، وقد وقف الكثير من الوقت ولم يقل مسّنى الضّرّ فكان الحكم للغالب.
«نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» لم يشغله البلاء عن المبلى. ونعم العبد لأنه خرج من البلاء على الوجه الذي دخل فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
«أُولِي الْأَيْدِي» : أي القوة «١». «وَالْأَبْصارِ» أي البصائر.
«إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ» : أي بفضيلة خالصة وهي ذكر الجنة والنار، أو بدعاء الناس إلى الجنة والهرب من النار. ويقال بسلامة القلب من ذكر الدارين فلا يكون العمل على ملاحظة جزاء. ويقال تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكرى الدار، «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٨]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
ويقال كان اليسع وذو الكفل أخوين.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٤٩]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
أي هذا القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء والقصص.
ويقال إنّه شرف لك لأنه معجزة تدل على صدقك، وإن للذين يتّقون المعاصي لحسن المنقلب.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
أي إذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالترحاب «١» والتبجيل. متكئين فيها على أرائكهم، يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب على ما يشتهون، وعندهم حور عين قاصرات الطّرف عن غير أزواجهن، «أَتْرابٌ» : لدات مستويات في الحسن والجمال والشكل.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٥٣]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
لشرّ مرجع ومنقلب وهي جهنم يدخلونها فيبقون معذّبين فيها، وبئس المكان ذلك!
[سورة ص (٣٨) : آية ٥٧]
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)
«حَمِيمٌ» : هو الماء الحار، و «غَسَّاقٌ» هو عصارة أهل النار «٢»، ويقال هو زمهرير جهنم «٣».
(٢) هذا قول محمد بن كعب.
(٣) هذا قول ابن عباس. وقال عبد الله بن عمرو: هو قيح غليظ نتن. وقال قتاده: هو ما يسيل من فروج الزناة، ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح. وقال آخرون إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره (القرطبي ح ١٥ ص ٢٢٢).
[سورة ص (٣٨) : آية ٥٨]
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨)أي فنون أخرى من مثل ذلك العذاب.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
هؤلاء قوم يقتحمون النار معكم وهم أتباعكم، ويقول الأتباع للمتبوعين:
لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا بأمركم فوافقناكم، ويقولون: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ فيقال لهم كلّكم فيها، ولن يفتر العذاب عنكم.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣)
؟. يقول الكفار عند ما يدخلون النار: ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم في الدنيا من الأشرار والمستضعفين.. فلسنا نراهم هاهنا؟ أهم ليسوا هنا أم زاغت عنهم أبصارنا؟ يقوله أبو جهل وأصحابه يعنون بلالا والمستضعفين، فيعرّفون بأنهم في الفردوس، فتزداد حسراتهم.
[سورة ص (٣٨) : آية ٦٤]
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
أي إن مخاصمة أهل النار في النار لحقّ.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٦٥]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
قل يا محمد: إنما أنا منذر مخوّف، مبلّغ رسالة ربى، وما من إله إلا الله الواحد الذي لا شريك له.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
وما كان لى من علم بالملأ الأعلى واختصامهم فيه لولا أنّ الله عرّفنى، وإلا ما كنت علمته. والملأ الأعلى قوم من الملائكة في السماء العليا، واختصامهم كان في شأن آدم حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟
وقد ورد في الخبر: «أن جبريل سأل الرسول ﷺ عن هذا الاختصام فقال: لا أدرى. فقال جبريل: فى الكفارات والدرجات فالكفارات إسباغ الوضوء فى السّبرات «١»، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» «٢». وإنما اختلفوا في بيان الأجر وكمية الفضيلة فيها- فيجتهدون ويقولون إن هذا أفضل من هذا، ولكنهم في الأصل لا يجحدون.
.. وهذا إنما يوحى إليّ وأنا منذر مبين.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : آية ٧١]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١)
إخباره الملائكة بذلك إنما يدلّ على تفخيم شأن آدم لأنه خلق ما خلق من الكونين «٣»،
(٢) روى الخبر أبو الأشهب عن الحسن هكذا: «سألنى ربى فقال: يا محمد، فيم اختصم الملأ الأعلى؟
قلت في الكفارات والدرجات، قال: ما الكفارات؟ قلت:
المشي على الأقدام إلى الجماعات....» أخرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس، وقال فيه حديث غريب. وعن معاذ بن جبل أيضا وقال: حديث حسن صحيح.
(٣) هكذا في م وهى في ص (المكذبين) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
روح آدم- وإن كانت مخلوقة- فلها شرف على الأرواح لإفرادها بالذكر، فلمّا سوّى خلق آدم، وركّب فيه الروح جلّله بأنوار التخصيص، فوقعت هيبته على الملائكة، فسجدوا لأمره، وظهرت لإبليس شقاوته، ووقع- بامتناعه- فى اللعنة.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
من هنا وقع في الغلط توهّم أنّ التفضيل من حيث البنية والجوهرية، ولم يعلم أن التفضيل من حيث القسمة دون الخلقة.
ويقال ما أودع الله- سبحانه- عند آدم لم يوجد عند غيره، ففيه ظهرت الخصوصية.
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
قال فاخرج من الجنة، ومن الصورة التي كنت فيها، ومن الحالة التي كنت عليها، «فَإِنَّكَ رَجِيمٌ» مرميّ باللّعن منى، وبالشّهب من السماء، وبالرجوم من قلوب الأولياء إن تعرّضت لهم.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
من كمال شقاوته أنه جرى على لسانه «١»، وتعلّقت إرادته بسؤال إنظاره، فازداد إلى القيامة في سبب عقوبته، فأنظره الله، وأجابه، لأنه بلسانه سأل تمام شقاوته.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
ولو عرف عزّته لما أقسم بها على مخالفته.
ويقال تجاسره في مخاطبة الحقّ- حيث أصرّ على الخلاف وأقسم عليه- أقبح وأولى فى استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)
وختم الله سبحانه السورة بخطابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
وهكذا يغمز القشيري بمن يحاولون نسبة الحرية للإنسان- مع أن الحرية وبال ونكال.
ويذكّرنا هذا الموقف بقولة ابن عربى فى (شجرة الكون) عند شرح «كن فيكون» أن فى «كن» كل شىء فى الكاف كمال الدين والكفر، وفي النون النعمة والنقمة... فالله خالق كل شىء حين خاطب الكون: «كن»
(٢) فى هذه الإشارة لفتة إلى مقصد بعيد: أن الوقوع في الذنب أمر قبيح ولكن الإصرار على الذنب أقبح.
وهذا حث للعصاة على الإقلاع عن المعاصي، وعدم اليأس من رحمة الله. وتطالعنا سماحة القشيري في هذا الخصوص فى مواضع مختلفة من هذا الكتاب، وكذلك أنظر باب «التوبة» فى الرسالة.
«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» يعنى القرآن، عظة لكم.
«وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» وعلم صدقه بعد ما استمرت شريعته، فإن مثل ذلك إذا كان باطلا لا يدوم «٢».
(٢) أي أن دوام الشريعة وخلودها من آيات صحتها وصدقها.