تفسير سورة القمر

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة القمر من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة القمر
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : كلمة بها نور القلوب والأبصار، وبعرفانها يحصل سرور الأرواح والأسرار.
كلمة تدلّ على جلاله- الذي هو استحقاقه لأوصافه. كلمة تدل على نعته الذي هو غاية أفضاله وألطافه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)
أجمع أهل التفسير على أنّ القمر قد انشقّ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود «٢» :«رأيت حراء بين فلقتى القمر» ولم يوجد لابن مسعود مخالف في ذلك فقد روى أيضا عن أنس وابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم.. كلهم رووا هذا الخبر.
وفيه إعجاز من وجهين: أحدهما رؤية من رأى ذلك، والثاني خفاء مثل ذلك على من لم يره لأنه لا ينكتم مثله في العادة فإذا خفى كان نقض العادة.
وأهل مكة رأوا ذلك، وقالوا: إنّ محمدا قد سحر القمر.
ومعنى «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» : أي ما بقي من الزمان إلى القيامة إلا قليل بالإضافة إلى ما مضى.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢ الى ٣]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣)
(١) يسميها البخاري: سورة «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ».
(٢) عن يحيى بن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبى معمر عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله (ص) : اشهدوا.
وعن قتادة عن أنس قال: انشق القمر فرقتين.
وعن مجاهد عن أبى معمر عن عبد الله قال: انشق القمر ونحن مع النبي (ص) فصار فرقتين. فقال لنا: اشهدوا اشهدوا. (البخاري ح ٣ ص ١٣٠).
وقد جاء في النسفي: قال ابن مسعود رضى الله عنه «رأيت حراء بين فلقتى القمر» (النسفي ص ٢٠١).
يعنى أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها، ولو نظروا لحصل لهم العلم واجبا.
«سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» : أي دائم قويّ شديد.. (ويقال إنهم قالوا: هذا ذاهب لا تبقى مدته) «١» فاستمر: أي ذهب.
«وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» : التكذيب واتباع الهوى قريبان فإذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله يلبّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر «٢» الرشد.
أما اتباع الرضا فمقرون بالتصديق لأنّ الله ببركات اتباع الحقّ يفتح عين البصيرة فيحصل التصديق.
وكلّ امرئ جرت له القسمة والتقدير فلا محالة يستقر له حصول ما قسم وقدّر له.
«وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» : يستقر عمل المؤمن فتوجب له الجنة، ويستقر عمل الكافر فيجازى.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥)
جاءهم من أخبار الأنبياء والأمم الذين من قبلهم والأزمنة الماضية ما يجب أن يحصل به الارتداع، ولكنّ الحقّ- سبحانه- أسبل على بصائرهم سجوف الجهل فعموا عن مواضع الرشد.
«حِكْمَةٌ بالِغَةٌ..» : بدل من (ما) فيما سبق: (ما فيه مزدجر).
والحكمة البالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها.
«فَما تُغْنِ النُّذُرُ» : وأي شىء يغنى إنذار النذير وقد سبق التقدير لهم بالشقاء؟
(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(٢) هكذا في ص. وهي في م (لا يستبشر)، والأصوب ما أثبتنا.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٦ الى ٧]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧)
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» : هاهنا تمام الكلام- أي فأعرض عنهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
ثم استأنف الكلام: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ... » والجواب: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» - أراد به يوم القيامة.
ومعنى «نُكُرٍ» : أي شىء ينكرونه (بهوله وفظاعته) «١» وهو يوم البعث والحشر.
وقوله: «خُشَّعاً» منصوب على الحال، أي يخرجون من الأجداث- وهي القبور- خاشعى الأبصار.
[سورة القمر (٥٤) : آية ٨]
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
كأنهم كالجراد لكثرتهم وتفرقهم، «مُهْطِعِينَ» : أي مديمى النظر إلى الداعي- وهو إسرافيل.
«يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» : لتوالى الشدائد التي فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١١]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١)
كذب قوم نوح نبيّهم، وقالوا: إنه مجنون، وزجروه وشتموه.
وقيل: «ازْدُجِرَ» : أي استطار عقله، أي قوم نوح قالوا له ذلك.
فدعا ربّه فقال: إنى مغلوب أي بتسلّط قومى عليّ فلم يكن مغلوبا بالحجّة لأنّ الحجّة كانت عليهم، فقال نوح لله: اللهمّ فانتصر منهم أي انتقم.
(١) ما بين القوسين توضيح من جانبنا غير موجود في النص. [.....]
ففتحنا أبواب السماء بماء منصبّ، وشققنا عيونا بالماء، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدّر في اللوح المحفوظ، وقدر عليه بإهلاكهم! وفي التفاسير: أن الماء الذي نبع من الأرض نضب. والماء الذي نزل من السماء هو البخار اليوم.
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٣]
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
وحملنا نوحا على «ذاتِ أَلْواحٍ» أي سفينة، «وَدُسُرٍ» يعنى المسامير وهي جمع دسار أي مسمار.
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٤]
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)
«بِأَعْيُنِنا» : أي بمرأى منّا. وقيل: تجرى بأوليائنا.
ويقال: بأعين ملائكتنا الذين وكلناهم لحفظهم.
ويقال: بأعين الماء الذي أنبعناه من أوجه الأرض.
«جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ» : أي الذين كفروا بنوح «١».
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٥]
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥)
جعلنا أمر السفينة علامة بيّنة لمن يعتبر بها.
«فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» : فهل منكم من يعتبر؟. أمرهم بالاعتبار بها «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٦]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦)
قالها على جهة التعظيم لأمره.
وقد ذكر قصة نوح هنا على أفصح بيان وأقصر كلام وأتمّ معنى «٣».
(١) يرى بعض المفسرين أن (الذي كفر) هو نوح عليه السلام لأنه مكفور به، فكل نبى رحمة لأمته، فكان نوح رحمة مكفورة.
(٢) أي أن الاستفهام- بلغة البلاغيين- قد خرج عن معناه الأصلى إلى الأمر.
(٣) كأن القشيري يريد أن يوضح تعليلا (لتكرار) قصة نوح. ونحن نعلم أن القشيري لا يستريج تماما لفكرة القول بالتكرار في القرآن.
وكان نوح- عليه السلام- أطول الأنبياء عمرا، وأشدّهم للبلاء مقاساة ثم إن الله- سبحانه- لما نجّى نوحا متّعه بعد هلاك قومه ومتع أولاده، فكلّ من على وجه الأرض من أولاد نوح عليه السلام. وفي هذا قوة لرجاء أهل الدين، إذا لقوا في دين الله محنة فإنّ الله يهلك- عن قريب- عدوّهم، ويمكّنهم من ديارهم وبلادهم، ويورثهم ما كان إليهم.
وكذلك كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وسنة الله في جميع أهل الضلال أن يعزّ أولياءه بعد أن يزهق أعداءه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ١٧]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
يسّرنا قراءته على ألسنة الناس، ويسّرنا علمه على قلوب قوم، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم، وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته.
ويقال: كاشف الأرواح من قوم- بالقرآن- قبل إدخالها في الأجساد.
«فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» لهذا العهد الذي جرى لنا معه.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠)
كذّبوا هودا، فأرسلنا عليهم «رِيحاً صَرْصَراً» أي: باردة شديدة الهبوب، يسمع لها صوت.
«فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» أي: فى يوم شؤم استمرّ فيه العذاب بهم، ودام ذلك فيهم ثمانية أيام وسبع ليال. وقيل: دائم الشؤم تنزع رياحه الناس عن حفرهم التي حفروها م (٣٢) لطائف الإشارات- ج ٣-
حتى صاروا كأنهم أسافل نخل منقطع. وقيل: كانت الريح تقتلع رءوسهم عن مناكبهم ثم تلقى بهم كأنهم أصول نخل قطعت رءوسها.
[سورة القمر (٥٤) : آية ٢٢]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
هوّنا قراءته وحفظه فليس كتاب من كتب الله تعالى يقرأ ظاهرا إلّا القرآن.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤)
هم قوم صالح. وقد مضى القول فيه، وما كان من عقرهم للناقة.. إلى أن أرسل الله عليهم صيحة واحدة أوجبت هذا الهلاك، فصيّرهم كالهشيم، وهو اليابس من النبات، «الْمُحْتَظِرِ» : أي: المجعول في الحظيرة، أو الحاصل في الخطيرة «١»..
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
فأرسلنا عليهم «حاصِباً» : أي: حجارة رموا بها.
«كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ» : أي: جعلنا إنجاءهم في إهلاك أعدائهم.
وهكذا نجزى من شكر فمثل هذا نعامل به من شكر نعمتنا.
والشّكر على نعم الدفع أتمّ من الشكر على نعم النفع- ولا يعرف ذلك إلا كلّ موفّق كيّس.
«فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ»
(١) يقصد القشيري أنها قد تقرأ بفتح الظاء وبكسرها.
جاء جبريل ومسح بجناحه على وجوههم فعموا، ولم يهتدوا «١» للخروج- وكذلك أجرى سنّته في أوليائه أن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ثم يخلّصهم من كيدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٤٥]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)
أخبر أنه يفعل هذا بأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقّق ذلك يوم بدر، فصار ذلك من معجزاته صلوات الله عليه وسلامه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٤٨]
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨)
سحبهم على الوجوه أمارة لإذلالهم، ولو كان ذلك مرة واحدة لكانت عظيمة- فكيف وهو التأبيد والتخليد؟!.
وكما أنّ أمارة الذّلّ تظهر على وجوههم فعلامة إعزاز المؤمنين وإكرامهم تظهر على وجوههم، قال تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» «٣». وقال: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «٤» ».
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٤٩]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)
أي بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ.
ويقال: خلقناه بقدر ما علمنا وأردنا وأخبرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٥٠]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)
أي إذا أردنا خلق شىء لا يتعسّر ولا يتعذّر علينا، نقول له: كن- فيكون
(١) هكذا في م وهي في ص (لم يتمكنوا).
(٢) عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم- فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربّك فخرج وهو يقول:
سيهزم الجمع ويولون الدبر (البخاري ج ٣ ص ١٣١).
(٣) آية ٢٢ سورة القيامة.
(٤) آية ٢٤ سورة المطففين.
بقدرتنا. ولا يقتضى هذا استئناف «١» قول في ذلك الوقت ولكن استحقاق أن يقال لقوله القديم أن يكون أمرا لذلك المكون إنما يحصل في ذلك الوقت.
«كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» : أي كما أن هذا القدر عندكم (أي قدر ما يلمح أحدكم ببصره) لا تلحقكم به مشقة- كذلك عندنا: إذا أردنا نخلق شيئا- قل أو كثر، صغر أو كبر- لا تلحقنا فيه مشقة.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : آية ٥١]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١)
أي أهلكنا القرون التي كانت قبلكم فكلّهم أمثالكم من بنى آدم...
[سورة القمر (٥٤) : آية ٥٢]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
فى اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يعمله «٢». وفي صحيفة الملائكة مكتوب. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها..
[سورة القمر (٥٤) : آية ٥٣]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)
كلّ صغير من الخلق، وكلّ كبير من الخلق- تخترمه المنيّة.
ويقال: كلّ صغير من الأعمال وكبير مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي ديوان الملائكة.
وتعريف الناس عما يكتبه الملائكة هو على جهة التخويف لئلا يتجاسر العبد على الزّلّة إذا عرف المحاسبة عليها والمطالبة بها.
قوله جل ذكره:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥).
(١) هكذا في م- وهى- فى ص (استيفاء) وكلاهما يمكن أن يتقبله السياق. على معنى أن قوله القديم «كُنْ» لا (يستأنف) عند خلق الحدث. وعلى معنى أنّه لا يشترط أن يستوفى خلق الحدث الأمر بكن اكتفاء بقوله القديم- والله أعلم.
(٢) هكذا في وهى ص أصوب في السياق من (يعلمه) التي جاءت في م لأن ما (فعلوه) التي في الآية تؤدى إلى ذلك.
500
لهم بساتين وأنهار، والجمع إذا قوبل بالجمع فالآحاد تقابل بالآحاد.
فظاهر هذا الخطاب يقتضى أن يكون لكل واحد من المتقين جنة ونهر.
«فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» : أي في مجلس صدق.
«عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» : أراد به عنديّة القربة والزلفة.
ويقال: مقعد الصدق أي مكان الصدق، والصادق في عبادته من لا يتعبّد على ملاحظة الأطماع ومطالعة الأعواض.
ويقال: من طلب الأعواض هتكته الأطماع، ومن صدق في العبوديّة تحرّر عن المقاصد الدّنيّة.
ويقال: من اشتغل بالدنيا حجبته الدنيا عن الآخرة، ومن أسره نعيم الجنة حجب عن القيام بالحقيقة، ومن قام بالحقيقة شغل عن الكون بجملته «١».
(١) أرباب الحقيقة لا تشغلهم فكرة الثواب والعقاب على النحو المألوف عند العابدين بنفوسهم. فجنّتهم الكبرى هي رؤيهم لمحبوبهم، ولهم في ذلك أقوال كثيرة شعر أو نثرا.. من ذلك:
قول أبى على الروذبارى:
من لم يكن بك فانيا عن حبه وعن الهوى والأنس بالأحباب
أو تيمة صبابة جمعت له ما كان مفترقا من الأسباب
فكأنه بين المراتب واقف لمنال حظّ أو لحسن مآب
ويقول الجنيد: كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة. ويقول يحيى بن معاذ:
إن ذا الحب لمن يفنى له لا لدار ذات لهو وطرف
لا ولا الفردوس- لا يألفها- لا ولا الحوراء من فوق غرف
ويقول أحدهم:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون الجنان حظّا جزيلا
ليس لى في الجنان النار رأى أنا لا أبتغى بحبي بديلا
(انظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» ط المعارف ص ١٩٥، ص ١٩٦).
501
Icon