تفسير سورة الغاشية

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الغاشية
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» : كلمة من سمعها وفي قلبه عرفانه تلألأت أنوار قلبه، وتفرّقت أنواع كربه، وتضاعفت في جماله طوارق حبّه، وتحيّرت في جلاله شوارق لبّه.
كلمة من عرفها- وفي قلبه إيمانه- أحبّها من داخل الفؤاد، وهجر- فى طلبها- الرّقاد، وترك- لأجلها- كلّ همّ ومراد.
قوله جل ذكره:
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢)
«الْغاشِيَةِ» المجلّلة، يريد بها القيامة تغشى الخلق، تغشى وجوه الكفّار.
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً» وجوه- إذا جاءت القيامة- خاشعة أي ذليلة. عاملة ناصبة: النّصب التعب.
جاء في التفسير: أنهم يجرّون على وجوههم.
«تَصْلى ناراً حامِيَةً» تلزم نارا شديدة الحرّ.
ويقال: «عامِلَةٌ» فى الدنيا بالمعاصي، «ناصِبَةٌ» فى الآخرة بالعذاب.
ويقال: «ناصِبَةٌ» فى الدنيا «عامِلَةٌ» لكن من غير إخلاص كعمل الرهبان «١»، وفي معناه عمل أهل النفاق.
(١) روى الضحاك عن ابن عباس قوله: «هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عز وجل، وعلى الكفر، مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله- جل ثناؤه- منهم إلا ما كان خالصا».
720
«تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» تناهى حرّها.
َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»
نبت ينمو بالحجاز له شوك، وهو سمّ لا تأكله الدواب، فإذا أكلوا ذلك في النار يغصّون، فيسقون الزقّوم.
وإن اتصاف الأبدان- اليوم- بصورة الطاعات مع فقد الأرواح وجدان المكاشفات (وفقد) «١» الأسرار أنوار المشاهدات، (وفقد) القلب الإخلاص والصدق في الاعتقادات لا يجدى خيرا، ولا ينفع شيئا- وإنما هي كما قال: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» قوله جل ذكره: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» أي: متنعّمة، ذات نعمة ونضارة.
«لِسَعْيِها راضِيَةٌ» حين وجدت الثواب على سعيها، والقبول لها.
«فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» عالية في درجتها ومنزلتها وشرفها. هم بأبدانهم في درجاتهم، ولكن بأرواحهم مع الله فى عزيز مناجاتهم.
«لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» لأنهم يسمعون بالله فليس فيها كلمة لغو.
قوم يسمعون بالله، وقوم يسمعون لله، وقوم يسمعون من الله، وفي الخبر: «كنت له سمعا وبصرا فبى يسمع وبى يبصر «٢».
(١) ما بين القوسين إضافة من جانبنا كى يكون السياق أكثر وضوحا. [.....]
(٢) «ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت عينه التي يبعسر بها، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها» أورده السراج في لمعه ص ٨٨. وهو حديث قدسى رواه البخاري عن أبى هريرة وأحمد عن عائشة، والطبراني في الكبير عن أبى أمامة، وابن السنى عن ميمون.
721
«فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» أراد عيونا لأن العين اسم جنس، والعيون الجارية هنالك كثيرة ومختلفة.
ويقال: تلك العيون الجارية غدا لمن له- اليوم- عيون جارية بالبكاء «١»، وغدا لهم عيون ناظرة بحكم اللقاء.
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٧ الى ١٥]
النمارق المصفوفة في التفسير: الطنافس المبسوطة.
الزرابي المبثوثة في التفسير: البسط المتفرقة.
وإنما خاطبهم على مقادير فهو مهم «٢».
قوله جل ذكره: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ؟» لمّا ذكر وصف تلك السّرر المرفوعة المشيّدة قالوا: كيف يصعدها المؤمن؟ فقال:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ كيف إذا أرادوا الحمل عليها أو ركوبها تنزل؟
فكذلك تلك السّرر تتطامن حتى يركبها الوليّ.
وإنما أنزلت هذه الآيات على وجه التنبيه، والاستدلال بالمخلوقات على كمال قدرته سبحانه.
فالقوم كانوا أصحاب البوادي لا يرون شيئا إلا السماء والأرض والجبال والجمال...
فأمرهم بالنظر في هذه الأشياء.
(١) منذ عهد مبكر ظهرت طائفة البكّائين في صفوف الزهاد، وإن كان بعض الصوفية لا يتحمس البكاء إمّا لأن الدموع علامة شكوى، وهم لا يحبون أن يشكوا، وإمّا لأنها تنم عن ضعف الحال، وهم يتمنون أن يكونوا راسخين كالجبال.
(٢) يتبع هذا فكرة القشيري الأساسية عن وصف الآخرة: الأسماء أسماء، والأعيان بخلاف ذلك.
وفي الإبل خصائص تدل على كمال قدرته وإنعامه جل شأنه منها: ما في إمكانهم من الانتفاع بظهورها للحمل والركوب، ثم بنسلها، ثم بلحمها ولبنها ووبرها... ثم من سهولة تسخيرها لهم، حتى ليستطيع الصبيّ أن يأخذ بزمامها، فتنجرّ وراءه. والإبل تصبر على مقاساة العطش في الأسفار الطويلة، وهي تقوى على أن تحمل فوق ظهورها الكثير من الحمولات..
ثم حرانها إذا حقدت، واسترواحها إلى صوت من يحدوها عند الإعياء والتعب، ثم ما يعلّل المرء بما يناط بها من برّها «١».
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ٢٦ الى ٢١]
«٢» لست عليهم بمسلّط فذكّر- يا محمد- بما أمرناك به، فبذلك أمرناك «٣».
«إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» إلا من تولّى عن الإيمان وكفر فيعذبه الله بالخلود في النار.
«إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» إن إلينا رجوعهم، ثم نجازيهم على الخير والشرّ.
(١) إشارة القشيري الخاصة بالإبل استوفت المراد، فمن المعلوم أن ضروب الحيوان المختلفة لا تخرج عن أربعة:
حدوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. وقد استطاع القشيري أن يقنع أن الإبل جمعت كل هذه المنافع.
(٢) بمصيطر ومسيطر، أي بالصاد والسين (الصحاح).
(٣) لم يقع القشيري فيما وقع فيه بعض المفسرين حين قالوا: «إن في الآية نسخا بآيات القتال والجهاد»...
فالعذاب الأكبر في الآخرة لا ينفى تعذيب الكفار بشتى ألوان التعذيب في الدنيا، ومنها القتل والأسر.
Icon