ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قيل: معناه: قد أتاك حديث الغاشية؛ فإما أن يكون الإتيان سابقا أو أتاه حديث الغاشية بنفس هذه السورة.
ثم في هذه الآيات ترغيب فيما تحمد عاقبته، وتحذير عما يذم في العاقبة، وتبيين أن العاقبة المحمودة متصلة باكتسابه وكدحه، وكذلك العاقبة المذمومة ينالها بعمله ونصبه.
ثم اختلف في تأويل (الْغَاشِيَةِ):
فقيل: (الْغَاشِيَةِ): النار تغشاهم، كما قال تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، وقال في آية أخرى: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).
ومنهم من يقول: (الْغَاشِيَةِ): هي الساعة؛ سميت: غاشية؛ لأنها تغشى الصغير والكبير، والمحمود والمذموم، والشقي والسعيد؛ فتعمهم جميعا؛ وهذا التأويل أقرب؛ لأنه ذكر الغاشية أولا ثم ذكر الجزاء بعد ذلك بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ).
ثم قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) أي: ذليلة، وإنَّمَا خص الوجه بالذكر؛ لأن الحزن والسرور إذا استحكما في القلب أثرا في الوجه؛ فيكون في ذكر الوجه وصف للغاية التي هم عليها من الذل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: إلى عباده الكفرة، وهو أنهم
[ قال بعضهم :]٢ جائز أن يكون نصبها وعملها في النار، وهو أنها لم تعمل في الدنيا، بل تكبرت عن طاعة الله، فأعملها، وأنصبها في الآخرة بمعالجة الأغلال والسلاسل في النار الحامية، أو عملت في الدنيا بالمعاصي، ونصبت في الآخرة، فيكون فيه تبيين العمل والجزاء.
٢ في الأصل وم: و..
وجائز أن يكون نصبها وعملها في النار، وهو أنها لم تعمل في الدنيا؛ بل تكبرت عن طاعة اللَّه - تعالى - فأعملها وأنصبها في الآخرة بمعالجة الأغلال والسلاسل في النار الحامية.
أو عملت في الدنيا بالمعاصي ونصبت في الآخرة؛ فيكون فيه تبيين العمل والجزاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤) أي: حارة، قد أحماها اللَّه - تعالى - من يوم خلقت إلى الوقت الذي يسقى منها.
وقوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) قيل: الآني: الذي قد انتهى في الحر غايته حتى لا حر أحر منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) اختلف في الضريع:
منهم من يقول: سمي: ضريعا؛ لأنهم يتضرعون عنه، ويجزعون إذا طعموا.
ومنهم من جعل الضريع لونا من ألوان العذاب لم يبينه اللَّه - تعالى - للحلق.
ومنهم من قال: الضريع: اسم لنبت قد عرفته العرب فيما بينهم تأكله الإبل والدواب ما دام رطبا؛ فإذا هاج ويبس تركت الدواب أكله، وعافته لخبثه وكثرة ما عليه من الشوك، ويسمونه: شبرقا في الربيع، وإذا هاج وجف، يسمونه ضريعا، فذلك النبت في الدنيا يعمل في إسمان الدابة ويغنيها من الجوع، فنفي اللَّه - تعالى - وجه الإسمان والإغناء، وحصل أمره على الخبث بقوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧)، وهو كقوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ)، فالسدر اسم شجرة ذات شوك في الدنيا، فأنشئت في الآخرة بلا شوك، ووصف خمر الجنة فقال: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ)، والخمر في الدنيا تعمل في التصديع، وهي تنزف؛ فنفى عنها هذه الآفات، وجعلها شرابا سائغا لذة للشاربين، فكذلك الضريع نفى به ما يقع به الإسمان والإغناء، وحصل أمره على الخبث، واللَّه أعلم.
ووصف خمر الجنة، فقال :﴿ لا يصدعون عنها ولا ينزفون ﴾ [ الواقعة : ١٩ ] والخمر في الدنيا تعمل في التصديع، وهي تنزف، فنفى هذه الآفات، وجعلها للشاربين، فكذلك الضريع نفى عنه ما يقع به الإسمان والإغناء، وحصّل أمره على الخبث، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩)، أي: ناعمة بما عاينت من عاقبة عملها الصالح في الدنيا، ورضيت بما أوتيت جزاء عن سعيها في الدنيا، جعل الله تعالى في وجوه الخلق يوم القيامة آثار صنائعهم في الدنيا: فمن أطاعه جعل علم طاعته في وجهه يوم القيامة، ومن عصاه جعل أثره في وجهه يعرف به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قد علا قدرها، وعظم شأنها؛ فتكون (عَالِيَةٍ) نعتا للجنة، فوصفها بالعلو من هذا الوجه.
والثاني: يحتمل العلو من حيث الدرجات والمكان، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١) ما يحق أن يلقى من الشتم ومن كل ما يؤثم صاحبه؛ بل هم كما وصفهم اللَّه تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
ثم الذي يحمل المرء على شتم المرء إما ضغن أضمره في صدره، أو خصومة حدثت بينهما، أو آفة تدخل في عقله بسكر أو ما أشبهه، واللَّه - تعالى - نفى عن الشراب الآفات بقوله: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ)، ونزع الغل عن صدورهم؛ فارتفعت دواعي السفه كلها؛ فلا يسمع فيها ما يحق أن يلغى به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) أي: عيونها جارية تأخذها العين، وتجري على وجهها، ليست كمياه الدنيا في أن بعضها يجري على وجه الأرض، وبعضها تحتها، نحو ماء القناة وماء البئر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: مرفوعة بعضها فوق بعض، ترتفع ما شاء اللَّه، فإذا جاء ولي اللَّه - تعالى - ليجلس عليها، تطامنت له، فإذا استوى عليها ارتفعت حيث شاء اللَّه تعالى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى (مَرْفُوعَةٌ) هاهنا: أنها أنشئت مرفوعة القدر عند أهلها، فوعدوا
أحدهما : أن يكون قد علا قدرها، وعظم شأنها، فيكون ﴿ عالية ﴾ نعتا للجنة، فوصفها بالعلو من هذا الوجه.
والثاني : يحتمل العلو من حيث الدرجات والمكان، والله أعلم.
ثم الذي يحمل المرء على شتم المرء إما ضمر أضمره في صدره [ وإما ]١ خصومة حدثت بينهما [ وإما ]٢ آفة تدخل في عقله بسكر وما أشبهه، والله تعالى نفى عن الشراب الآفات٣ بقوله :﴿ لا يصدّعون عنها ولا ينزفون ﴾ [ الواقعة : ١٩ ] ونزع الغل عن صدورهم، فارتفعت دواعي السفه كلها، فلا يسمع فيها ما يحق أن يلغى به.
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: والآفات..
وقال في موضع: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)، ورفعها يكون من الوجهين اللذين ذكرناهما في السرر؛ فوعدوا بها - أيضا - في الآخرة؛ ليرغبهم بها في الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) الأكواب هي الكيزان التي لا عرا لها؛ فإما أن يكون وصفا لكبر تلك الأكواب في أنفسها حيث لا عرا لها كالحباب في الدنيا.
أو يكون لهم خدم وولدان يتولون نقلها إلى أين أحبوا، وليست لها عرا يمدون أيديهم إليها فيرفعونها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) قيل: هي الوسائد وضعت على البسط، وكذلك تبسط الوسائد في الدنيا؛ فرغبوا كذلك في الآخرة.
* * *
قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...) إلى قوله: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ): خص الإبل بالذكر من بين جملة الدواب، وخص السماء والجبال والأرض بالذكر، وتخصيصها يكون لأحد وجهين:
أحدهما: أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة، عليها كانوا يسافرون، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه، وهي أيضا -أعني: مكة- منشأة بين الجبال، فكانت لا تفارقهم الجبال، وكانت السماء من فوقهم والأرض من تحتهم؛ فخصت هذه الأشياء با لذكر؛ ليعتبروا بها، ويتدبروا.
ويحتمل وجها آخر: وهو أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل؛ لأن منافع الدواب أن ينتفع بطهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها، فكل ذلك يوجد في
ثم بالجبال قوام الأرض، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها؛ فخصت هذه الأشياء بالذكر؛ لما ذكرنا.
ثم قوله: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) يحتمل وجهين:
أحدهما: على الأمر؛ أي: فلينظروا.
والثاني: أن يكون على سؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم؛ فنزلت هذه الآية: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...) إلى آخر الآيات؛ أي: لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها ينزع عنهم الإشكال، ويوضح لهم ما اشتبه عليهم.
وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: لما ذكر اللَّه - تعالى - ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش، وقالت: يا مُحَمَّد، ائتنا بآية أن ما تقوله حق؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).
ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها بغير عمد ترونها والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض، وهو البسط - مما يوجب القول بالبعث، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى، وإلى القول بإثبات الرسالة، وذلك أن الذي كان يحملهم على إنكار البعث هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم؛ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم، فلو نظروا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض، لعلموا أن قوة اللَّه غير مقدرة بقوى الخلق، وذلك أن السماوات خلقت ورفعت في الهواء بغير عمد، وأقرت كذلك، لا تنحدر عن موضعها، ولا تتصعد، ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط ولا تتصعد لم يقدر عليه؛ فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية ليست بمستفادة، وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها
أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ؛ عليها كانوا يسافرون، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه٢، وهي أيضا، أعني مكة، منشؤهم بين الجبال، فكانت لا تفارقهم الجبال، وكانت السماء من فوقهم، والأرض من تحتهم، فخصت هذه الأشياء بالذكر ليعتبروا بها، ويتدبروا.
[ الثاني :]٣ أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل لأن منافع الدواب أن ينتفع بظهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها، فكل ذلك في الإبل، فصارت في الإبل كالأنعام للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها، وكذلك عظم المنافع والبركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم، فيها عين الشمس التي بها صالح الأغذية، ونراها مزينة بزينة الكواكب ؛ فهي أيضا كالأمر في المنافع.
وكذلك الأرض كالأم في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق، قدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس.
ثم بالجبال قوام الأرض، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها. فخصت هذه الأشياء بالذكر لما ذكرنا.
ثم قوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر، أي فلينظروا.
والثاني : أن يكون على السؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم، فنزلت هذه الآية :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ إلى آخر الآيات٤، أي لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها نزع عنهم الإشكال، ووضح لهم ما اشتبه عليهم.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لما ذكر الله تعالى ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش، وقالوا٥ : يا محمد ائتنا بآية أن ما تقول حق، أنزل الله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ ؟
ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها ﴿ بغير عمد ترونها ﴾ [ الرعد : ٢ ] والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض، وهو البسط، مما يوجب القول بالبعث، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى وإلى القول بإثبات الرسالة.
وذلك أن الذي كان يحمل على إنكار البعث، هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم/٦٣٩ – أ/ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم.
فلو نظروا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ؛ وذلك أن السماوات خلقت، ورفعت في الهواء بغير عمد، وأقرت، كذلك لا تنحدر عن موضعها، ولا تصعد. ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط، ولا تتصعد، لم يقدر عليه. فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية، ليست بمستفادة.
وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه، لو تفكر فيه الخلائق، فاستفرغوا مجهودهم ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء، وكيف ينبع، وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار، لم يصلوا إلى معرفته، فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به، فيكون في ذكر [ هذه الأنباء ]٦ أنه لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، بل العالم كله تحت تدبيره، يفعل بهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، وأن الذي قدر على خلق هذا قادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء، وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية لأن الله تعالى جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض غير المنهشمة، فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم.
فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض لكان منع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض. فلو تفكروا فيها لكان يزول عنهم الإشكال، فلا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقولون :﴿ أجعل الإلهة إلاها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾ ؟ [ ص : ٥ ].
وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ؛ وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لابد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه، ثم يكون، فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.
فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا [ إلى ]٧ آخر الأبد ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟
فجواب أنهم لو أدركوا٨ ذلك الوجه، وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال، إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي تهتدي إليها. فارتفاع الإدراك٩ وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه، إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم وأنه خلافهم من جميع الوجوه، والله الموفق.
٢ في الأصل وم: إليها..
٣ في الأصل وم: ويحتمل وجها آخر وهو..
٤ في الأصل وم: الآية..
٥ في الأصل وم: وقال..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: نبإ..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل وم: تداركوا..
٩ في الأصل وم: التدارك..
أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ؛ عليها كانوا يسافرون، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه٢، وهي أيضا، أعني مكة، منشؤهم بين الجبال، فكانت لا تفارقهم الجبال، وكانت السماء من فوقهم، والأرض من تحتهم، فخصت هذه الأشياء بالذكر ليعتبروا بها، ويتدبروا.
[ الثاني :]٣ أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل لأن منافع الدواب أن ينتفع بظهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها، فكل ذلك في الإبل، فصارت في الإبل كالأنعام للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها، وكذلك عظم المنافع والبركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم، فيها عين الشمس التي بها صالح الأغذية، ونراها مزينة بزينة الكواكب ؛ فهي أيضا كالأمر في المنافع.
وكذلك الأرض كالأم في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق، قدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس.
ثم بالجبال قوام الأرض، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها. فخصت هذه الأشياء بالذكر لما ذكرنا.
ثم قوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر، أي فلينظروا.
والثاني : أن يكون على السؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم، فنزلت هذه الآية :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ إلى آخر الآيات٤، أي لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها نزع عنهم الإشكال، ووضح لهم ما اشتبه عليهم.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لما ذكر الله تعالى ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش، وقالوا٥ : يا محمد ائتنا بآية أن ما تقول حق، أنزل الله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ ؟
ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها ﴿ بغير عمد ترونها ﴾ [ الرعد : ٢ ] والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض، وهو البسط، مما يوجب القول بالبعث، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى وإلى القول بإثبات الرسالة.
وذلك أن الذي كان يحمل على إنكار البعث، هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم/٦٣٩ – أ/ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم.
فلو نظروا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ؛ وذلك أن السماوات خلقت، ورفعت في الهواء بغير عمد، وأقرت، كذلك لا تنحدر عن موضعها، ولا تصعد. ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط، ولا تتصعد، لم يقدر عليه. فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية، ليست بمستفادة.
وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه، لو تفكر فيه الخلائق، فاستفرغوا مجهودهم ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء، وكيف ينبع، وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار، لم يصلوا إلى معرفته، فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به، فيكون في ذكر [ هذه الأنباء ]٦ أنه لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، بل العالم كله تحت تدبيره، يفعل بهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، وأن الذي قدر على خلق هذا قادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء، وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية لأن الله تعالى جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض غير المنهشمة، فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم.
فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض لكان منع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض. فلو تفكروا فيها لكان يزول عنهم الإشكال، فلا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقولون :﴿ أجعل الإلهة إلاها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾ ؟ [ ص : ٥ ].
وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ؛ وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لابد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه، ثم يكون، فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.
فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا [ إلى ]٧ آخر الأبد ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟
فجواب أنهم لو أدركوا٨ ذلك الوجه، وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال، إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي تهتدي إليها. فارتفاع الإدراك٩ وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه، إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم وأنه خلافهم من جميع الوجوه، والله الموفق.
٢ في الأصل وم: إليها..
٣ في الأصل وم: ويحتمل وجها آخر وهو..
٤ في الأصل وم: الآية..
٥ في الأصل وم: وقال..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: نبإ..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل وم: تداركوا..
٩ في الأصل وم: التدارك..
أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ؛ عليها كانوا يسافرون، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه٢، وهي أيضا، أعني مكة، منشؤهم بين الجبال، فكانت لا تفارقهم الجبال، وكانت السماء من فوقهم، والأرض من تحتهم، فخصت هذه الأشياء بالذكر ليعتبروا بها، ويتدبروا.
[ الثاني :]٣ أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل لأن منافع الدواب أن ينتفع بظهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها، فكل ذلك في الإبل، فصارت في الإبل كالأنعام للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها، وكذلك عظم المنافع والبركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم، فيها عين الشمس التي بها صالح الأغذية، ونراها مزينة بزينة الكواكب ؛ فهي أيضا كالأمر في المنافع.
وكذلك الأرض كالأم في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق، قدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس.
ثم بالجبال قوام الأرض، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها. فخصت هذه الأشياء بالذكر لما ذكرنا.
ثم قوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر، أي فلينظروا.
والثاني : أن يكون على السؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم، فنزلت هذه الآية :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ إلى آخر الآيات٤، أي لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها نزع عنهم الإشكال، ووضح لهم ما اشتبه عليهم.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لما ذكر الله تعالى ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش، وقالوا٥ : يا محمد ائتنا بآية أن ما تقول حق، أنزل الله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ ؟
ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها ﴿ بغير عمد ترونها ﴾ [ الرعد : ٢ ] والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض، وهو البسط، مما يوجب القول بالبعث، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى وإلى القول بإثبات الرسالة.
وذلك أن الذي كان يحمل على إنكار البعث، هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم/٦٣٩ – أ/ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم.
فلو نظروا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ؛ وذلك أن السماوات خلقت، ورفعت في الهواء بغير عمد، وأقرت، كذلك لا تنحدر عن موضعها، ولا تصعد. ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط، ولا تتصعد، لم يقدر عليه. فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية، ليست بمستفادة.
وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه، لو تفكر فيه الخلائق، فاستفرغوا مجهودهم ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء، وكيف ينبع، وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار، لم يصلوا إلى معرفته، فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به، فيكون في ذكر [ هذه الأنباء ]٦ أنه لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، بل العالم كله تحت تدبيره، يفعل بهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، وأن الذي قدر على خلق هذا قادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء، وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية لأن الله تعالى جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض غير المنهشمة، فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم.
فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض لكان منع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض. فلو تفكروا فيها لكان يزول عنهم الإشكال، فلا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقولون :﴿ أجعل الإلهة إلاها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾ ؟ [ ص : ٥ ].
وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ؛ وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لابد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه، ثم يكون، فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.
فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا [ إلى ]٧ آخر الأبد ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟
فجواب أنهم لو أدركوا٨ ذلك الوجه، وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال، إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي تهتدي إليها. فارتفاع الإدراك٩ وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه، إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم وأنه خلافهم من جميع الوجوه، والله الموفق.
٢ في الأصل وم: إليها..
٣ في الأصل وم: ويحتمل وجها آخر وهو..
٤ في الأصل وم: الآية..
٥ في الأصل وم: وقال..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: نبإ..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل وم: تداركوا..
٩ في الأصل وم: التدارك..
أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ؛ عليها كانوا يسافرون، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه٢، وهي أيضا، أعني مكة، منشؤهم بين الجبال، فكانت لا تفارقهم الجبال، وكانت السماء من فوقهم، والأرض من تحتهم، فخصت هذه الأشياء بالذكر ليعتبروا بها، ويتدبروا.
[ الثاني :]٣ أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل لأن منافع الدواب أن ينتفع بظهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها، فكل ذلك في الإبل، فصارت في الإبل كالأنعام للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها، وكذلك عظم المنافع والبركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم، فيها عين الشمس التي بها صالح الأغذية، ونراها مزينة بزينة الكواكب ؛ فهي أيضا كالأمر في المنافع.
وكذلك الأرض كالأم في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق، قدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس.
ثم بالجبال قوام الأرض، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها. فخصت هذه الأشياء بالذكر لما ذكرنا.
ثم قوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر، أي فلينظروا.
والثاني : أن يكون على السؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم، فنزلت هذه الآية :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ إلى آخر الآيات٤، أي لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها نزع عنهم الإشكال، ووضح لهم ما اشتبه عليهم.
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لما ذكر الله تعالى ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش، وقالوا٥ : يا محمد ائتنا بآية أن ما تقول حق، أنزل الله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ ؟
ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها ﴿ بغير عمد ترونها ﴾ [ الرعد : ٢ ] والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض، وهو البسط، مما يوجب القول بالبعث، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى وإلى القول بإثبات الرسالة.
وذلك أن الذي كان يحمل على إنكار البعث، هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم/٦٣٩ – أ/ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم.
فلو نظروا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ؛ وذلك أن السماوات خلقت، ورفعت في الهواء بغير عمد، وأقرت، كذلك لا تنحدر عن موضعها، ولا تصعد. ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط، ولا تتصعد، لم يقدر عليه. فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية، ليست بمستفادة.
وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه، لو تفكر فيه الخلائق، فاستفرغوا مجهودهم ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء، وكيف ينبع، وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار، لم يصلوا إلى معرفته، فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به، فيكون في ذكر [ هذه الأنباء ]٦ أنه لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، بل العالم كله تحت تدبيره، يفعل بهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، وأن الذي قدر على خلق هذا قادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء، وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية لأن الله تعالى جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض غير المنهشمة، فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم.
فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض لكان منع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض. فلو تفكروا فيها لكان يزول عنهم الإشكال، فلا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقولون :﴿ أجعل الإلهة إلاها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾ ؟ [ ص : ٥ ].
وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ؛ وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لابد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه، ثم يكون، فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.
فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا [ إلى ]٧ آخر الأبد ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟
فجواب أنهم لو أدركوا٨ ذلك الوجه، وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال، إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي تهتدي إليها. فارتفاع الإدراك٩ وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه، إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم وأنه خلافهم من جميع الوجوه، والله الموفق.
٢ في الأصل وم: إليها..
٣ في الأصل وم: ويحتمل وجها آخر وهو..
٤ في الأصل وم: الآية..
٥ في الأصل وم: وقال..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: نبإ..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل وم: تداركوا..
٩ في الأصل وم: التدارك..
وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض الغبراء المتهشمة؛ فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم، فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض، لكان يمنع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض، فلو تفكروا فيها، لكان يزول عنهم الإشكال؛ فلا يدعون مع اللَّه إلها آخر، ولا يقولون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا).
وقولنا: إن فيه إثبات الرسالة، وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لا بد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه بم يكون؟ فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.
فَإِنْ قِيلَ: كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا آخر الأبد؛ ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء، لم يهتدوا إلى ذلك الوجه؟
فجوابه: أنهم لو تداركوا ذلك الوجه وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال؛ إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي يهتدي إليها؛ فارتفاع التدارك، وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه؛ إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم، وأنه خلافهم من جميع الوجوه، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) في هذه الآية - واللَّه أعلم - أمر من اللَّه تعالى لرسوله عليه السلام ألا يجازيهم بصنيعهم إذا استقبلوه بما يكره من أذى يوجد منهم واستخفاف يجيء منهم؛ فيقول: ذكرهم باللَّه تعالى، وذكرهم عظيم نعمه وذكرهم كيف هلك مكذبو الرسل، وكيف نجا من صدقهم وعظم أمرهم ولا تقهرهم، ولا تجازهم بصنيعهم، وكل ذلك إلى اللَّه تعالى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لست بجبار.
فإن أريد به الوجه الأول فهو مما يحتمله، ويجوز أن يسلط عليهم في أن يؤذن بقتالهم، وأسرهم وقهرهم ببذل الجزية؛ ولهذا قيل: إن هذا كان قبل نزول سورة براءة.
وإن كان تأويله: لست بجبار عليهم؛ على ما روي عن مجاهد؛ فهذا الوجه مما لا يرد عليه النسخ، ولا يجوز أن يصير جبارا عليهم، ولا يكون قوله: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) استثناء، ويكون معناه: لكن من تولى وكفر فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر، أي: من أعرض عن طاعة اللَّه تعالى وكفر بوحدانية اللَّه تعالى وبكتبه ورسله، فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر.
وعلى التأويل الذي قيل: إن المسيطر هو المسلط بالسيف والأسر والقهر بالجزية التي هي صغار عليهم - يكون قوله تعالى: (تَوَلَّى وَكَفَرَ) على الاستثناء، أي: من أعرض عن طاعة اللَّه تعالى، وكفر بوحدانيه اللَّه فسيسلط عليهم بالسيف، والأسر، وأخذ الجزية.
وقيل: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ)، أي: أعرض، ولزم الإعراض؛ فيكون مسيطرا عليهم.
أو تولى وقت التذكير فسينتصر عليه، وباللَّه النجاة.
وفي هذه الآية بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالظفر على الذين تولوا عن طاعة اللَّه تعالى وكفروا به.
وفيه آية رسالته؛ لأنه قال هذا في وقت ضعفه، وقلة أنصاره، وكان الأمر كما قال؛ إذ نصره اللَّه - تعالى - بالرعب مسيرة شهرين، وفتحت له الفتوح؛ ليعلم أنه باللَّه - تعالى - علم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) أي: مرجعهم.
وقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦) أي: من الحكمة أن نحاسبهم، وإذا كانت الحكمة توجب حسابهم وتعذيبهم، كان عليه أن يحاسبهم لما في تركه ترك الحكمة، وفي تركها سفه، تعالى اللَّه عن ذلك، وباللَّه النجاة، ومنه التوفيق.
* * *
وفي هذه الآيات٣ بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالظفر على الذين تولوا عن طاعة الله تعالى، وكفروا به.
وفيها٤ آية رسالته لأنه قال هذا في وقت ضعفه وقلة أنصاره. وكان الأمر كما قال [ عليه السلام :( ( نصرت )٥ بالرعب مسيرة شهرين ) ] [ الطبراني في الكبير ١١٠٥٦ ] وفتحت له الفتوح ليعلم أنه بالله تعالى علم.
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: الآية..
٤ في الأصل وم: وفيه..
٥ في الأصل وم: أن نصره الله تعالى..
وفي هذه الآيات٣ بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالظفر على الذين تولوا عن طاعة الله تعالى، وكفروا به.
وفيها٤ آية رسالته لأنه قال هذا في وقت ضعفه وقلة أنصاره. وكان الأمر كما قال [ عليه السلام :( ( نصرت )٥ بالرعب مسيرة شهرين ) ] [ الطبراني في الكبير ١١٠٥٦ ] وفتحت له الفتوح ليعلم أنه بالله تعالى علم.
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: الآية..
٤ في الأصل وم: وفيه..
٥ في الأصل وم: أن نصره الله تعالى..
٢ ساقطة من م..