ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (١) عسق (٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (حم) وهو اسم من أسماء اللَّه تعالى.
وقيل: هو اسم من أسماء القرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حم) أي: قضى ما هو كائن. وقد ضعف هذا القول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
والصحيح من الأقوال: أن " حم " خبر مبتدأ محذوف، و " تنزيل الكتاب " خبره (مِنَ اللَّهِ) صفة الكتاب، والتقدير: هذا حم تنزيل الكتاب من اللَّه العزيز الحكيم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في (حم. عسق): عين عبارة عن عذابه، والسين عن المسخ، والقاف كناية عن القذف، يقول صاحب هذا القول: يخرج عين من الأرض فيها عذاب، ويمسخ رجل من هذه الأمة بالبادية فيقذفه الناس بالحجارة، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ - وهو قول ابن عَبَّاسٍ -: (حم سق) على إسقاط حرف العين، ثم يقول: السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون.
وذُكِرَ: كان يعلم علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - حساب العين، وكذلك ذكر في ابن مسعود وأبي - رضي اللَّه عنهما - و (حم سق) على طرح العين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العين عبارة عن العذاب، والسين عبارة عن سيكون، والقاف عبارة عن الوقوع، أي: قضى ما سيكون ذلك، واللَّه أعلم. وذكر عن جعفر بن مُحَمَّد بن علي - رضي اللَّه عنهم - قال: العين عبارة عن العذاب، والسين عبارة عن سيكون، ولم يفسر القاف وقال: عجب أو كلام نحوه، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العين عبارة عن علمه، والسين السلام، والقاف عبارة عن القدرة، وكذا محتمل.
ثم اختلف في قوله :﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك ﴾ قال بعضهم : أي كما أوحينا إليك بسورة ﴿ حم ﴾ ﴿ عسق ﴾ بعينها فقد أوحينا بعين هذه الحروف إلى الذين من قبلك، وهي ﴿ حم ﴾ ﴿ عسق ﴾ وقال بعضهم كما أوحينا إليك ﴿ حم ﴾ ﴿ عسق ﴾ أوحينا إلى الذين من قبلك من الرسل بمعنى ذلك.
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ليس نبي إلا وقد أوحي إليه ب ﴿ حم ﴾ ﴿ عسق ﴾ كما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) أي: كما أوحى إليك فقد أوحى إلى الذين من قبلك مثله.
ثم اختلف في قوله: (كَذَلِكَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كما أوحينا إليك بسورة (حم. عسق) أوحينا بها إلى الذين من قبلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كما أوحينا إليك بهذه الحروف، يعني: (حم. عسق) بعينها فقد أوحينا بعين هذه الحروف إلى الذين من قبلك، وهي (حم. عسق).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما أوحينا إليك (حم. عسق) أوحينا إلى الذين من قبلك من الرسل بمعنى ذلك.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس نبي إلا وقد أوحي إليه بـ (حم. عسق) كما أوحي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو على ما ذكرنا.
وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
يخرج ذكر هذا في هذا الموضع على وجوه:
أي: له ما في السماوات وما في الأرض شهود على ألوهيته ووحدانيته.
والثاني: أن ما في السماوات والأرض وما فيها له دلالات وحدانيته وربوبيته.
والثالث: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أي: كلهم عبيده وملكه؛ فلا يحتمل أن يتخذ من ملكه وعبيده ما ذكروا من: الولد، والشريك، والصاحبة، وما قالوا؛ إذ لا أحد يتخذ من عبيده ومن ملكه ما ذكروا: من الولد، والشريك، والصاحبة؛ فعلى ذلك يتعالى اللَّه عن أن يكون له في ملكه ما ذكر، واللَّه أعلم.
العلوّ والعظمة -في الشاهد- يكون من وجوه ثلاثة:
أحدها: العلو عبارة عن القهر والغلبة؛ يقال: فلان عالٍ؛ أي: غالب وقاهر.
والعظمة عبارة عن القدر، والمنزلة، ونفاذ الأمر.
والثاني: يكون العلو عبارة عن الكبرياء، والسؤدد، وكذلك العظمة.
والثالث: العلو يكون عبارة عن الارتفاع في المكان، والعظمة: عظمة في البدن والنفس، وهذا مما لا يكون فيه كثرة منقبة وقدر، ولا شيء من ذلك، ولا يزيد ذلك في صاحبه رفعة ولا مرتبة، واللَّه يتعالى عن الوصف بهذا، فإنما رجع الوصف له بالعلوّ والعظمة إلى الوجهين الأوّلين، والسلطان، والقدرة، ونفاذ الأمر والمشيئة والكبرياء، والغلبة. فأمَّا ما رجع إلى الارتفاع في الأمكنة، والعظمة في البدن - فهو صفة المخلوق، وهم الموصوفون بذلك، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ... (٥)
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: تكاد يتفطرن لذنوب أهل الأرض، وفسادهم، وعظيم ما قالت الملاحدة في اللَّه من الولد، والشريك، والصاحبة، كادت تنشق لذلك وتتساقط، كقوله في آية أخرى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا). بين في هذه الآية أنها كادت تنفطر وتنشق لماذا؛ وهو دعواهم للرحمن ولدا؛ فلذلك يحتمل - هاهنا - هذا المعنى، واللَّه أعلم.
والثاني: كادت تنشق لبكاء أهلها عليها، وإشفاقًا ورحمة على أهل الأرض.
ويحتمل: تكاد تنشق لعظمة الربّ، وجلاله، وعظم سلطانه؛ كقوله - تعالى -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
أخبر أنه لو جعل في الجبال والأرض والسماء من المعنى والتمييز ما جعل في البشر، لكانت هذه الأشياء بالوصف الذي ذكر من الخضوع لربّها، وهو كما ذكر في آية أخرى: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، يخبر عن شدّة خضوع هذه الأشياء وخشوعها لربها وتذللها له، وعناد الكفرة واستكبارهم، وقلة خضوعهم لربهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)؛ لكثرة أهلها وازدحامهم فيها، وعبادتهم لربهم، على ما ذكر في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أطت السماء
وقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
هذا يدل على أن ما ذكر من تفطر السماء؛ لعظم ما يقوله الملاحدة فيه من الشريك، والولد، والصاحبة، حيث قال على إثره: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: الملائكة ينزهونه ويبرئونه عما يقولون فيه، ويثنون عليه بالثناء الذي يليق به، ويصفونه بما هو أهله، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) امتحنهم - جل وعلا - بالتسبيح، والثناء له، والاستغفار لأهل الأرض، على ما ذكر.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: إن قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) منسوخ بقوله - تعالى -: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا)؛ لأن الأول عام لجميع أهل الأرض، والثاني خاص، لكن هذا بعيد، ومحال أن يستغفر الملائكة، ويطلبون التجاوز من ربهم لمن يقول له بالشريك والولد والصاحبة، وإذا كان كذلك كان استغفارهم يرجع إلى المؤمنين خاصة؛ على ما ذكر في آية أخرى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، وبقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)؛ فكان المراد من العام: هو الخاص؛ لأنّ المراد منه العموم، ثم صار منسوخًا بورود الخاص متراخيًا، واللَّه أعلم.
ثم إن كان استغفارهم لجملة أهل الأرض -على ما يقولون- فهو عبارة عن طلب السبب الذي به تقع لهم المغفرة؛ وهو التوبة عن الشرك والتوحيد؛ فيكون هذا سؤال التوحيد والهداية لهم؛ لتقع المغفرة لهم بذلك والتجاوز؛ ويصيروا لذلك، وعلى ذلك يخرج استغفار إبراهيم - عليه السلام - لأبيه أنه سؤال وطلب السبب الذي به تقع المغفرة له، وأن يجعله أهلا لذلك، وكذلك أمر الرسل - عليهم السلام - قومهم بالاستغفار لهم، وهو ما قال هود - عليه السلام - و (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، وقول نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، لا يحتمل أن يقولوا لهم: قولوا: نستغفر اللَّه، ولكن يقولون لهم: اطلبوا، واسألوا ربكم السبب الذي به تقع المغفرة لكم؛ وهو التوبة عما هم فيه، واختيار الهداية والرشد لأنفسهم؛ ليكونوا لذلك أهلا، فعلى ذلك يخرج استغفار الملائكة إن كان لجملة أهل الأرض، على ما يقول بعض أهل التأويل،
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ).
يحتمل قوله: (أَوْلِيَاءَ): الأصنام التي عبدوها دون اللَّه؛ كقوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، وقوله - تعالى - (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ).
يخبر أنه لا عن غفلة وجهل منه يعملون ما يعملون، ولكنه حفيظ عليهم وعلى أعمالهم، لكنه يؤخر ذلك عنهم لحكمة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).
يحتمل وجهين:
أحدهما: وما كنت عليهم بوكيل، أي: لا تؤاخذ أنت بمكانهم؛ كقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ).
والثاني: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)، أي: بمسلط عليهم ولا حفيظ، إنما أنت رسول فعليك البلاغ، كقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا... (٧)؛ ليكون أقرب إلى الفهم، وأولى أن يكون حجة عليهم وأبلغ في الحجاج؛ لأنه ذكر فيه الأنباء السالفة والأخبار المتقدمة باللسان العربي، غير لسان تلك الأنبياء، ومن غير أن يختلف إلى أحد من أهل ذلك اللسان؛
وقوله تعالى :﴿ لتُنذر أمّ القرى ومن حولها ﴾ أي لينذر أهل أم القرى وأهل من حولها من القرى. ثم تحتمل تسمية مكة أمّ القرى وجوها ثلاثة :
أحدها : سمّاها أمّ القرى لما منها دُحيت سائر الأرضين والقرى.
والثاني : سمّاها أمّ القرى لأنها أول بيت وضع للناس، وأول بناء بني في الأرض، فسمّها لذلك أمّ القرى، والله أعلم.
والثالث : سمّاها أمّ القرى لما على الناس أن يؤمّوها، ويقصدوها بالزيارة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بُعث رسولا [ بُعث ]٤ فيها، فإليها يُؤمّ، ويقصد، بالدعوة أول ما٥ يُؤمّ، ويُقصد. ثم من بعد ذلك يُؤمّ إلى سائر القُرى والبلدان، ويقصد، والأم القصد، ومنه أُخذ التيمم. ولذلك سمّاها أمّ القرى، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وتُنذر يوم الجمع ﴾ أي وتنذر بيوم الجمع. ويحتمل أن يكون قوله :﴿ وتُنذر يوم الجمع ﴾ أي تنذر بالقرآن ﴿ يوم الجمع لا ريب فيه ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ قد بيّن الله تعالى السبيلين جميعا على الإبلاغ، وبيّن عاقبة كل سبيل إلى ما يُفضي من سلكها، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: بلسان..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: مما..
أي: لينذر أهل أم القرى وأهل من حولها من القرى.
ثم يحتمل تسمية مكة: أم القرى وجوهًا ثلاثة:
أحدها: سماها: أم القرى؛ لما منها دحيت سائر الأرضين والقرى.
والثاني: سماها: أم القرى؛ لأنها أول بيت وضع للناس، وأول بناء بني في الأرض، فسماها لذلك: أمّ القرى، واللَّه أعلم.
والثالث: سماها: أم القرى؛ لما على الناس أن يؤموها ويقصدوها بالزيارة، ولأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أول ما بعث رسولا فيها، فإليها يؤم ويقصد بالدعوة أول ما يؤم ويقصد، ثم من بعد ذلك يؤم إلى سائر القرى والبلدان، ويقصد، والأَمُّ: القصد، ومنه أخذ التيمم؛ ولذلك سمّاها: أمّ القرى، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: وينذر بيوم الجمع.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: ينذر بالقرآن يوم الجمع لا ريب فيه.
وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) قد بين اللَّه - تعالى - السبيلين جميعًا على الإبلاغ، وبين عاقبة كل سبيل إلى ماذا يفضي من سلكها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) يخبر أن عنده من اللطائف والقدرة، ما لو شاء لجعلهم جميعًا أمة واحدة وعلى دين واحد، وهو ما قال: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ...) الآية، فلو جعل ذلك لأهل التوحيد والإيمان، لكانوا جميعًا على دين الإسلام؛ على ما أخبر أنه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعًا أهل كفر.
ثم قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) لا يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة لوجوه:
أحدها: لما لا يكون الإيمان في حال الجبر والقهر؛ لأنه لا صنع لهم في ذلك، ولا اختيار لهم.
والثاني: أنّ كل أحد بشهادة الخلقة مؤمن موحد لله - تعالى - ثم لم يصيروا بذلك مؤمنين؛ فعلى ذلك بالجبر والقهر؛ إذ في الحالين يكون فعل المؤمن إنما هو فعل غيره؛ فدل أنه أراد أن يشاء منهم ما يكون مختارين في الإيمان لا مجبورين.
وعندنا: أراد به مشيئة الاختيار، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعًا عن اختيار، لكنه لم يعطهم ذلك ولم يشأ؛ لما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه، ولا يختارون ذلك، ولكن إنّما يختارون ضد ذلك ونقيضه؛ لذلك لم يشأ لهم، وإنَّمَا يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا.
وقوله: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) يخبر أن من أعطى ذلك إنما يعطيه رحمة منه وفضلا، لا أنهم يستوجبون ذلك منه، ويستحقونه عليه، واللَّه الموفق.
ثم إن اللَّه تعالى سمى الإيمان مرة: رحمة بقوله: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ)، ومرة سماه: منة بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، وبقوله: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ...) الآية، فلو كان الإيمان يقوم بالذي يكون الكفر من القدرة ولم يكن من اللَّه - تعالى - إلى المؤمنين إلا وقد كان مثله إلى الكافر، على ما يقوله المعتزلة: إن الإيمان إنما يكون بالذي يكون الكفر، لم يكن لتسمية هذا نعمة ومنَّة ورحمة، وتسمية الكفر ضده - معنى، واللَّه أعلم.
وبعد: فإنه لو كان على ما يقوله المعتزلة لكان ما ذكر من النعمة والمنَّة والرحمة إنما يكون بالخلق منهم، لا باللَّه - تعالى - ومنه دل أن عنده لطائف، من أعطى تلك اللطائف آمن واهتدى، ومن لم يعطه إيَّاها لم يؤمن، وقد أعطى المؤمن تلك، ولم يعط الكافر؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه الموفق.
ثم في تخصيص أم القرى ومن حولها بالنذارة وجوه، لأنه ذكر في آية أخرى أنه نذير للعالمين جميعًا بقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، فإذا كان مبعوثًا إلى جميع العالم، لا إلى بعض دون بعض، كما كان بعض الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد أن يكون لتخصيص أم القرى ومن حولها معنى وحكمة:
أحدها: لما يحتمل أن يكون لأهل مكة طمع في شفاعته وإن لم يتبعوه: إما بحق القرابة والاتصال، وإما بحق الأيادي، ومن حولهم بحق الجوار؛ فذكر تخصيصهم بالإنذار بيوم الجمع حتى يزول طمعهم بدون الاتباع، والنزوع عن الشرك؛ إذ ذلك لا يزول بمطلق الإنذار؛ لما عندهم -في زعمهم- أن المراد بذلك غيرهم؛ لما لهم من
والثاني: أن ينذر هَؤُلَاءِ ومن ذكر شفاهًا، ولمن بعد منهم خبرًا.
أو خصّ هَؤُلَاءِ بحق البداية ثم بالأقرب فالأقرب، وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، على الوجوه التي ذكرنا.
وقوله - سبحانه وتعالى -: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، أي: ما لهم من وليّ يشفع، ولا من نصير ينصرهم، ويمنعهم من عذاب اللَّه.
وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ... (٩) أي: أربابًا، (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ)، أي: هو الربّ، (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى) وقد عرفوا أنَّ الإحياء إنما يكون باللَّه - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوها، وإن كانوا ينكرون البعث والإحياء بعد الموت، فلو عرفوا أنه لو كان إنما يكون باللَّه - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوا دونه، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر، قد تقدم ذكره.
وقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) يحتمل قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ) وجوهًا:
أحدها: في القرآن.
والثاني: في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رسول أو ليس برسول، فقد أقام من الدلائل والبراهين ما يدل على رسالته ونبوته: سمعيات وعقليات، ما لا يتعرض لردّها إلا من كابر عقله وعاند لبّه، وكذلك لو كان اختلافهم في الدِّين فقد أقام ما يعلم كل ذي عقل ولب: أنه هو الصواب، وأن غيره من الأديان ليس بحق.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي: إلى كتاب اللَّه، كقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: إلى كتاب اللَّه.
لكن هذا لا يصح، فإن قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، إنما هو في المؤمنين إذا وقع بينهم الاختلاف في شيء من الأحكام يردّ ذلك إلى كتاب اللَّه، وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وأمّا قوله - تعالى -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) إنما هو في محاجة الكفرة، فهو في غير ذلك المعنى؛ إذ هم لا يعتقدون كونه حجة، وإنما يرجع إلى دليل آخر عقلي.
وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي)، أي: ذلك الذي يفعل هذا هو ربي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، في كل أمري، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) بالطاعة.
أحدها : في القرآن.
والثاني : في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث : في الدين.
فإن كان اختلافهم في القرآن فقوله :﴿ فحكمه إلى الله ﴾ في ما أقام من الحُجج والبراهين أنه من الله، ومن عنده جاء حين١ عجِزوا عن إتيان مثله أو مقابلة شيء يوازيه.
وإن كان اختلافهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه رسول ]٢ أو ليس برسول، فقد أقام من الدلائل والبراهين ما يدل على رسالته ونبوّته سمعيات وعقليات ما لا يتعرّض لردّها إلا من كابر عقله، وعاند لبّه.
وكذلك لو كان اختلافهم في الدين فقد أقام ما يعلم كل ذي عقل ولبٍّ أنه هو الصواب، وأن غيره من الأديان ليس بحق.
وقال بعض أهل التأويل في قوله :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ أي إلى كتاب الله كقوله :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ] أي إلى كتاب الله.
لكن هذا لا يصح لأن قوله :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول ﴾ إنما هو في المؤمنين إذا وقع بينهم الاختلاف في شيء من الأحكام يرد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله تعالى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ إنما هو مُحاجّة الكفرة، فهو من غير ذلك المعنى، إذ هم لا يعتقدون كونه حجة، وإنما يُرجع إلى دليل آخر عقلي.
وقوله تعالى :﴿ ذلكم الله ربي ﴾ أي ذلك الذي يفعل هذا هو ربي ﴿ عليه توكّلت ﴾ في كل أمري ﴿ وإليه أُنيب ﴾ بالطاعة.
ويحتمل أن يكون اختلافهم الذي ذكر، هو اختلافهم في الله تعالى كقوله :﴿ والذين يُحاجّون في الله ﴾ [ الشورى : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ ذلكم الله ربي ﴾ أي ذلكم الذي اختلفتم فيه هو ربي ﴿ عليه توكّلت ﴾ أي عليه اعتمدت ﴿ وإليه أنيب ﴾ أي إليه أرجع.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي)، أي: ذلكم الذي اختلفتم فيه هو ربي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي: عليه اعتمدت، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: إليه أرجع.
ثم نعته فقال: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١١) وقال هو في موضع آخر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وفي موضع آخر: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، وقال في موضع آخر: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
قال بعض الباطنية: المبدع: هو الذي ينشئ الأشياء لا من شيء، والخالق: هو الذي ينشئ الشيء من شيء ولا من شيء، والفاطر: هو الذي ينشئ من شيء أو نحوه من الكلام.
وعندنا أن هذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها وافترق اشتقاقها ومأخذها، فهي في المعاني واحدة، الإبداع هو الإنشاء بلا احتذاء سبق، والخلق هو الإنشاء والتقدير، لكن غيره لا يجوز أن يسمى: خالقًا؛ لأنه لا يقدر على تقدير شيء إلا على مشاهدة: عاينه ورآه، والفاطر كأنه مأخوذ من الشق، يشق الشيء ويخرج منه أشياء، كله خلق، وفاعله خالق على الحقيقة، وهو اللَّه تعالى، وباللَّه القوة والتوفيق.
وقوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: جعل من نفس آدم وحواء - عليهما السلام - أزواجًا نسبنا جميعًا إليهما؛ لأنهما الأصل، وإنا جميعًا إنما كنا من ذلك الأصل، وهو كنسبته إيانا إلى التراب بقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وإنما خلق أصلنا من التراب، لكنه نسبنا إليه؛ لما منه كنا جميعًا؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: من نفس آدم وحوّاء، ونسبنا إليهما؛ لما منهما كنا جميعًا، واللَّه أعلم.
والثاني: يقول: جعل بعضكم من بعض أزواجًا أي: حلائل، أي: خلق الإناث من الرجال، والرجال من الإناث، وهو ما ذكر في آية أخرى: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا...) الآية.
والثالث: أي: جعل لكم من مثل خلقكم أزواجا؛ أي: أصنافًا وأشكالا، جعل الخلائق كلها ذات أشكال وأمثال، وذات أزواج، وكذلك يخرج قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا) على وجهين:
أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: إنه جعل الأنعام - أيضًا - ذات أزواج وأشكال.
وقوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) اختلف في تأويل قوله: (يَذْرَؤُكُمْ)، والمراد بقوله: (فِيهِ): أن الهاء كناية عن ماذا؟
قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَذْرَؤُكُمْ) أي: يكثركم.
وقيل: يعيشكم فيه.
وقيل: يرزقكم فيه، ويعمركم.
وقيل: يخلقكم.
وأما قوله: (فِيهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يجيء قوله: (فِيهِ)، أي: فيها، كناية عن الأنعام، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهَا) أي: في الأنعام؛ لما جعل للبشر فيها من أنواع المنافع.
وأما من قرأه (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) بغير ألف فهو يجعله كناية عن العالم؛ كأنه يقول: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي: يخلقكم في العالم ويكثركم فيه ويعيشكم ويعمركم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَذْرَؤُكُمْ) أي: يكثركم في هذا التزويج الذي جعل بينكم؛ أي: يكثركم بسبب هذا التزويج لم يكثر الناس.
وجائز أن يكون قوله: (فِيهِ) كناية عن التدبير؛ يقول: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ): يخلقكم فيه نسلا بعد نسل؛ كقوله - تعالى - (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...) الآية.
يستدل بعض أهل التشبيه بأن له مثلا بقوله - تعالى - (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يقولون: لو لم يكن مثل لم يذكركاف التشبيه؛ حيث قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، لكن نفى مثلية الأشياء عن مثله؛ فيكون فيه إثبات مثل له لا يشبه سائر الأشياء سواه؛ أو كلام نحو هذا.
وعندنا: قوله - تعالى - (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: ليس مثله شيء، والكاف قد تزاد في الكلام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس كهو شيء، والعرب قد تقيم المثل مقام النفس.
والأصل في ذلك: أن الخلق وإن كانوا ذا أمثال وأشكال وأشباه، فليس يشبه بعضهم بعضًا من جميع الوجوه وكل الجهات، ولكن إنما يشبه بعضهم بعضا لا من جميع الوجوه، أو بوجه أو بصفة، أو بجهة أو بنفس، ثم صار بعضهم أمثالا لبعض وأشباهًا بتلك الجهة وبذلك الوصف؛ فدل أن اللَّه - تعالى - ليس يشبه الخلق، ولا له مثال منهم بوجه من الوجوه، ولا له شبه منهم، لا ما يرجع إلى النفس، وهو يتعالى عن جميع معاني الخلق وصفاتهم، ودل قوله - تعالى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): أنه شيء؛ لأنه نفى عن نفسه المثلية ولم ينف الشيئية، لكن يقال: شيء لا كالأشياء ينفى عنه شبه الأشياء، والشيء إثبات، وفي الإثبات توحيد، ولو لم يكن شيئًا لكان يقول: ليس هو شيئًا؛ دل أنه ما ذكر.
وقوله - سبحانه -: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ذكر في غير موضع، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٢) وقال في آية أخرى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، وقوله: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر المفاتيح والمقاليد والخزائن التي أضافها إلى نفسه، ثم لم يفهم الخلق من المفاتيح المضافة والمقاليد والخزائن ما يفهم لو أضيف إلى الخلق؛ بل فهموا من المفاتيح المضافة إلى الخلق والمقاليد المنسوبة إليهم معنى لم يفهموا ذلك المعنى من المفاتيح والمقاليد المضافة إلى اللَّه - تعالى - فما ينبغي أن يفهموه من قوله: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقوله - تعالى - (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وقوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ)، ونحو ذلك ما يفهموه من اليد المضافة إلى الخلق، لكنه ذكر المفاتيح والمقاليد وأضافها إلى نفسه، لأن كل محجوب ومستور عن الخلق فيما بينهم إنما توصلهم إلى ذلك المحجوب والمستور عنهم بالمفاتيح والمقاليد التي ذكر؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من اليد وغيرها؛ لما باليد يبسط في الشاهد، وبها يمنع، وبها يكتسب ويفعل ما يفعل؛ فأضاف إلى نفسه ما به يكون في الشاهد من الفعل والبسط والمنع كناية عن هذه الأفعال، واللَّه الموفق.
وقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن الرزق المذكور يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما ذكر في قوله - تعالى -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)،
والثاني: الأملاك التي يكتسبون.
والثالث: المنافع التي جعل لهم.
ثم الإشكال أن الأملاك التي تكون لهم، والمنافع التي ينتفعون بها وجعلت لهم إنما تكون بأسباب واكتساب منهم، ثم أضاف ذلك إلى نفسه في البسط والتقتير؛ حيث قال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)؛ دل أن لله - تعالى - في ذلك صنعًا وتدبيرًا، وهو أَنْ خلق أكسابهم وأسبابهم التي بها يوصل إليهم الرزق.
وقوله: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تقدم.
* * *
قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦)
وقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) الدِّين يذكر، ويراد به الجزاء، وهو قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، أي: يوم الجزاء، أو يذكر ويراد به الحكم؛ كقوله - تعالى - خبرًا عن يوسف - عليه السلام -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)، أي: في حكم الملك، ويذكر ويراد به المذهب والمعتقد؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، فكأن المعنى من قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا): هو المذهب وما يعتقد، وقد ذكر الدِّين معرفًا بالألف واللام وأنه للجنس، فيكون كأنه قال: شرع لكم من الأديان جملة الدِّين الذي وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء، وهو التوحيد لله - تعالى - والعبادة له، والأنبياء والرسل جميعًا إنما بعثوا للدعاء إلى توحيد اللَّه، وجعل العبادة له، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم، وذلك قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى تخصيص نوح ومن ذكر من الأنبياء هنا، والكل بعثوا للدعاء إلى هذا الدِّين، وقد وصى الكل بهذا الدِّين.
فنقول: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خص نوحًا ومن ذكر بهذا؛ لأن التحليل والتحريم لم يكن قبل زمن نوح عليه السلام، وإنما جاء ذلك في زمن نوح؛ لذلك خصَّ نوحًا بما ذكر.
ويحتمل أن يكون ذكر هَؤُلَاءِ لا على تخصيصهم بذلك من بين غيرهم من الأنبياء، ولكن ذكر بعضًا هاهنا، وترك ذكر البعض، ليس أنه شرع له ما وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء ولم يشرع له ما وصى به غيرهم؛ بل شرع له ما وصى به هَؤُلَاءِ وغيرهم من الدِّين، كقوله - تعالى -: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، ذكر بعض هَؤُلَاءِ وغيرهم، ثم أمره أن يقتدي بما هم عليه؛ دل أن ذكر البعض في موضع ليس للتخصيص، لما ذكر البعض في موضع آخر، والكل في موضع آخر، واللَّه أعلم.
ويحتمل تخصيص هَؤُلَاءِ بالذكر لمعنى لم يطلعنا اللَّه على ذلك المعنى، كما خص إبراهيم بالصلاة عليه على ما أمرنا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " كما صليت على إبراهيم " لمعنى لم يطلعنا على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، أي: في عبادة اللَّه - تعالى - أي: اعبدوه جميعًا.
والثاني: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: في الدِّين الذي ذكر، وهو التوحيد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: عظم عليهم دعاؤكم إلى التوحيد وعبادة اللَّه وحده.
وقوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) هذا ينقض على المعتزلة: إنه - تعالى - أخبر أنه يجتبي إليه من يشاء، ولو كان على ما يقوله المعتزلة أنه قد أعطى الكافر جميع ما أعطى المؤمن، فالمؤمن حيث صار مجتبى مصطفى مختارًا إنما كان منه بفعله لا من اللَّه - تعالى - وقد أخبر أنه هو يجتبي من يشاء، وهو يهديه؛ فبطل قولهم.
وقوله: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: هو يهدي من يطلب منه ما به يكون الهدى، وهو التوفيق؛ أي: ما لم يطلب منه ذلك ولم يسأل فإنه لا يهدي به ولا يوفقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) هذا يخرج على وجوه:
أحدها: أي: أنهم تفرقوا في رسول اللَّه مُحَمَّد - عليه أفضل الصلاة - بعدما جاءهم العلم في كتبهم أنه رسول؛ لما كانوا يجحدون نعته وصفته في كتبهم، لكنهم اختلفوا وتفرقوا؛ فآمن بعضهم به على ما وجدوه في كتبهم، وكفر بعضهم، وحرفوا ما في كتبهم من نعته وصفته، واللَّه أعلم.
والثاني: أي: (وَمَا تَفَرَّقُوا) فيما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدِّين (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)؛ إذ الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء عليهم السلام.
ويحتمل أي: (وَمَا تَفَرَّقُوا) في الإيمان بالرسل والكفر بهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أنهم على الحق، وأنهم رسل اللَّه مبعوثون إليهم، فتفرقوا، فآمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض بغيًا بينهم.
ويحتمل: أي: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ): أن الفرقة ضلالة وهلاك، وعن علم بالفرقة أنها ضلال وهلاك تفرقوا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يحتمل: حسدًا بينهم؛ لما قيل: إنهم كانوا مؤمنين به قبل أن يبعث؛ لما وجدوا نعته وصفته في كتبهم ظنًا منهم أنه يبعث منهم، فلما بعث من غيرهم حسدوه وكفروا به واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي: عدوانًا وظلمًا يكون فيما بينهم ذلك التفرق.
وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: لولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عنهم إلى وقت وإلا كانت الكلمة منه في تعجيل العذاب بهم،
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: إن الذين أعطوا الكتاب من بعد الرسل الذين ذكر (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، أخبر أنهم كانوا في شك مما جاء به الرسل، لكنهم لم يعذروا في شكهم؛ لما تركوا النظر والتفكر في ذلك، ولو نظروا في ذلك وتفكروا فيه، لوقع ذلك لهم وبانَ الحق؛ فلم يعذروا في ذلك؛ لأنه منهم كان ذلك الشك والريب، ولو تفكروا ونظروا لتجلى لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) اختلف في قوله - تعالى - (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ):
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أي: فبهذا القرآن الذي أنزل إليك فادع.
وكذا قال قتادة: فبهذا القرآن فادعُ.
وقيل: فلذلك وعد أن ينزل عليك فادع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وإلى ذلك الكتاب فادعُ.
وقيل: فإلى التوحيد الذي بعث الرسل إلى الدعاء إليه فادع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلِذَلِكَ)، أي: فلأجل الذي بعث الرسل فادع؛ أي: ادع إلى التوحيد الذي لأجله بعث الرسل، واللَّه أعلم.
ثم إن قوله: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ دليل على أنه كان قد سبق له الأمر بالاستقامة.
ثم يحتمل ما ذكر من الاستقامة التي أمر بها هو تبليغ الرسالة إليهم.
ويحتمل: العبادة له والطاعة.
ويحتمل: الاستقامة في التوحيد له ودعاء الخلق إليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَن تَابَ مَعَكَ)، على هذين الوجهين الآخرين يخرج الأمر بالاستقامة لمن تاب معه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) أي: في ترك الدعاء إلى التوحيد؛ إذ هو هوى الكفرة أن يترك هو الدعاء إلى التوحيد.
ويحتمل أنه نهى عن إجابته إياهم فيما دعَوْا هم؛ إذ هوى الكفرة أن يجيبهم فيما دعَوْا هم إليه من الشرك، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) أمره بأن يخبر بأنه مؤمن بجميع الكتب
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ويحتمل وجوهًا:
أحدها: أي: أمرت لأعدل بينكم يحتمل: في الحكم؛ أي: أحكم فيما بينكم بالعدل؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا).
ويحتمل قوله: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في الدعاء إلى توحيد اللَّه ودينه، والعدل في الدعاء، دعاؤهم إلى دينه الذي أمر أن يدعوهم إليه.
وجائز أن يكون قوله: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي: أمرت أن أكون عدلا فيما بينكم؛ أي: يسوي بينهم.
ثم نعت الذي كان يدعوهم إلى توحيده، وهو قوله: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).
وقوله: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على المنابذة؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وإنَّمَا يقال هذا بعدما انتهت الحجج غايتها، والحجاج نهايته، فلم ينجع ذلك فيهم وأيسوا منهم.
والثاني: يقول: إنا لا نؤاخذ بأعمالكم، ولا أنتم تؤاخذون بأعمالنا، (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، ونحوه.
وقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) ويحتمل قوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي: لا حجة بقيت فيما ادعيت ودعوتكم إليه إلا وقد أقمتها عليكم؛ أي: لم يبق حجة في ذلك وقد أقمتها.
ويحتمل أن يقول: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا أي: لا حجة ولا خصومة بيننا بعدما بلغ الأمر ما بلغ.
ثم قال: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) في الآخرة وإليه المصير.
وقوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن أهل الكفر قالوا للمؤمنين: إن دينكم الإسلام إنما كان ما دام مُحَمَّد بين أظهركم وما دام حيَّا، فإذا مات فتصيرون أنتم ومن تبع الإسلام إلى ديننا أو كلام نحوه؛ فنزل لقولهم ذا قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن اليهود قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا للمؤمنين: إن ديننا أفضل؛ فنزلت الآية فيهم بقولهم هذا: إن ديننا أفضل - لأنه دين الأنبياء - عليهم السلام - فقال: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أي: هكذا إذا كانوا على دين الأنبياء، وهو الإسلام؛
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن قريشًا قالوا: كيف نعبد من لم نره؟ ولم نعاينه إنه مم هو؟ وكيف هو؟ أو كلام نحوه فنزلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) عند ربهم؛ لأن التوحيد ومعرفة اللَّه تعالى إنما يكون بالدلائل والآيات في الدنيا عن غيب، ليس بالمعاينة والمشاهدة؛ فيزول الامتحان.
ثم احتمل أن يكون نزول الآية لقول كان من أُولَئِكَ على ما ذكر أهل التأويل.
ويحتمل أن يكون على غير ذلك، ومعناه: والذين يحاجون في اللَّه في دفع آيات الله وردها.
ويحتمل: أي: في دفع توحيد اللَّه وألوهيته (مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) أي: من بعد ما استجيب له بحق الخلقة: أنه واحد، وأنه رب كل شيء.
ويحتمل قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) بما في كتبهم من الإيمان بها وبما فيها من نعوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفاته.
ثم أخبر أن (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هذا يخرج على هذين.
يحتمل: أي: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) يوم القيامة؛ أي: باطلة غير مقبولة.
ويحتمل: أي: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) في الدنيا بما أقام اللَّه - تعالى - من حجج التوحيد؛ فأبطل حججهم.
وقوله: (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) بيان الجزاء لهم في الآخرة.
* * *
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
وقوله: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ): الذي لله عليهم، أو (بِالْحَقِّ) الذي لبعضهم على بعض، و (وَالْمِيزَانَ): بالعدل فيما بينهم؛ أي:
وجائز أن يكون قوله: (بِالْحَقِّ) أي: بالصدق بما فيه من الأنباء والأخبار (وَالْمِيزَانَ) أي: بالعدل في الأحكام؛ جعل الميزان كناية عن العدل؛ أي: هو طريق العدل وسببه، وهو كقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، وقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، وقوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا)، وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) أي: صدقا فيما فيه من النبأ والخبر، وعدلا في الحكم فيما بينهم، واللَّه أعلم.
ثم قوله - تعالى - (وَالْمِيزَانَ) يحتمل أن يكون على الكتاب، وهو الظاهر، والمراد منه العدل؛ فيصير تقدير الآية - واللَّه أعلم -: اللَّه الذي أنزل الكتاب بالحق، وأنزل العدل فيما بين الخلق، أو أنزل العدل في الأحكام.
ويحتمل أن يكون عطفًا على الحق؛ فيصير تقديره: أنزل الكتاب بالحق وبالعدل في الأحكام فيما بينهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)]، لم يطلع اللَّه - جل وعلا - أحدًا على العلم بوقت الساعة؛ على ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا... (١٨) كان استعجالهم بها استهزاء منهم وتكذيبًا لها أنها كائنة؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يوعدهم بها، ويخبر أنها كائنة، فكانوا يستعجلون استعجال تكذيب لها.
وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ)؛ لأن لأهل الإيمان والتوحيد زلات ومساوئ لم يتبين لهم التجاوز عنها والعفو منها؛ فيكونوا أبدًا خائفين مشفقين لتلك الزلات والمساوئ وما يكون فيها من الأهوال والأفزاع، فأمَّا أهل الكفر فهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون أنها كائنة؛ فلا يخافونها وما فيها من الأهوال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): قوله: (يُمَارُونَ) يحتمل يجادلون ويخاصمون فيها أنها ليست بكائنة.
ويحتمل: (يُمَارُونَ) من المرية، وهو الريب والشك؛ أي: يشكون فيها.
ودل قوله: (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): أنهم لا يؤمنون أبدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) من الناس من قال: إن الآية وإن جاءت مجيئًا عامًّا فهي خاصة للمؤمنين، هو لطيف؛ أي: بار للمؤمنين بها.
ومنهم من يقول: إن الآية للفريقين جميعًا: للكافر والمؤمن، بار بهما، لطيف بهما بما يرزقهم جميعًا: الكافر والمؤمن، فأما في الآخرة فهو رحيم بار بالمؤمنين خاصة.
فأما في الآخرة فهو رحيم بار بالمؤمنين خاصة.
ويحتمل أن يكون [ رحيما بارًّا ]١ بالفريقين. أما في حق المؤمنين فلا٢ شك أنه بار رحيم بهم، وأما الكفرة [ فهو ]٣ بار في حقهم حين٤ أخّر عنهم العذاب في الدنيا.
ثم في حق المحنة يجوز أن يوصف بالرحمة في الفريقين جميعا [ على ]٥ ما ذكرنا.
فإن قيل إنه وصف [ نفسه ]٦ بالحلم والرحمة، وقد أخبر أنه يعذّبهم في الآخرة. قيل : إنه وإن عذّبهم فإن ذلك لا يُخرجه عن الحلم والرحمة، لأنه لو ترك تعذيبهم يكون سفيها لأنهم قد استحقوا بالكفر التعذيب أبدا، وليس في التعذيب خروج عن الرحمة والحلم، بل في ترك التعذيب سفه وخروج عن الحكمة. لذلك كان ما ذكرنا، والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ يرزق من يشاء ﴾ قد ذكرنا في قوله تعالى :﴿ يبسط الرزق لمن يشاء ﴾ [ الرعد : ٢٦ والعنكبوت : ٦٢ ] تأويله ومعناه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وهو القوي العزيز ﴾ هذا يخرَّج على وجهين :
أحدهما : أنه لا يقوى بشيء مما أمرهم به، وامتحنهم، ولا يعز بذلك، لأنه قوي بذاته عزيز بنفسه.
والثاني :﴿ القوي ﴾ في الانتقام والانتصار من أعدائه لأوليائه ﴿ العزيز ﴾ الذي لا يُعجزه شيء، ولا يلحقه الذل في ترك الطاعة والائتمار.
٢ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: حين..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ ساقطة من الأصل وم..
ثم في حق المحنة يجوز أن يوصف بالرحمة في الفريقين جميعًا على ما ذكرنا.
فَإِنْ قِيلَ: إنه وصف بالحلم والرحمة، وقد أخبر أنه يعذبهم في الآخرة.
قيل: إنه وإن عذبهم فإن ذلك لا يخرجه عن الحلم والرحمة؛ لأنه لو ترك تعذيبهم يكون سفيهًا؛ لأنهم قد استحقوا بالكفر التعذيب أبدًا، وليس في التعذيب خروج عن الرحمة والحلم؛ بل في ترك التعذيب سفه وخروج عن الحكمة؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) قد ذكرنا في قوله - تعالى -: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ)، تأويله ومعناه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه لا يقوى بشيء مما أمرهم به وامتحنهم، ولا يعز بذلك؛ لأنه قوي بذاته، عزيز بنفسه.
والثاني: (الْقَوِيُّ) في الانتقام والانتصار من أعدائه لأوليائه، (الْعَزِيزُ): الذي لا يعجزه شيء، ولا يلحقه الذل في ترك الطاعة له والائتمار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) جعل اللَّه - تعالى - الدنيا مزارع لأهلها ما زرعوا فيها حصدوا ذلك في الآخرة، إن زرعوا خيرًا حسنًا حصدوا خيرًا ونعيمًا في الآخرة، وإن زرعوا شرًّا وسوءًا، حصدوا في الآخرة شرًّا وعذابًا دائمًا.
وكذلك صيّرها متجرًا يتجّرون فيها، فإن اتجروا خيرًا وحسنًا ربحوا في الآخرة، وإن اتجروا شرًّا وسوءًا خسروا في الآخرة.
وكذلك صيرها مسلكًا إلى الآخرة، والآخرة غاية لها، فإن سلكوا سبيل الخير وما أمروا به أفضى بهم ذلك إلى الخير والنعيم الدائم والسرور، وإن سلكوا سبيل الشر وما نهوا عنه أفضى بهم إلى العذاب الدائم والحزن الدائم.
وما ذكر في غير آي من القرآن من قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ...) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ...) الآية، وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى...) الآية، وقوله: (اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)، وقوله -
ثم قوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: من كان يريد حرث الآخرة، نزد له في حرثه، أي: من كان يريد بمحاسنه في الدنيا وخيراته ثواب الآخرة وخيراتها نزد له في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا هو التوفيق على الطاعات، والزيادة له والنماء، وأما في الآخرة فالنعيم الدائم والسرور الدائم.
والثاني: أي: من كان عَمِل للآخرة وسعي لها نزد له ما ذكر من المحاسن، وتكون الإرادة هاهنا صفة لكل فاعل، كقوله: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وهي لا تكون بدون الفعل، فكان ذكرها ذكرًا للفعل ضرورة؛ فكان المراد منها الإرادة مع الفعل، فكذلك يخرج قوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) على وجهين:
أحدهما: من كان يريد محاسن الدنيا وسعتها، نؤته منها، ونوسع عليه.
والثاني: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ) أي: من عمل للدنيا وسعى لها، نؤته منها وما عمل لها وما له في الآخرة من نصيب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) قال بعض أهل التأويل: أم لهم آلهة دوني (شَرَعُوا لَهُم) أي: سنوا لهم (مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، يعني بالشركاء: الأصنام التي عبدوها، لكن علموا أن الأصنام لم يشرعوا لهم من الدِّين شيئًا، إلا أن يقال بأنه أضاف ذلك إلى الأصنام؛ لما هم شرعوا لأنفسهم عبادتها فأضيف إليها لذلك، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، وأنهن لم يضللن أحدًا، لكنه أضاف إليهن الإضلال؛ لما بهن ضلوا، فأضاف إليهن على التسبب؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ذلك.
ويشبه أن يكون غيره أولى بذلك، وهو أن القادة والرؤساء هم الذين سنوا للأتباع و (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)؛ أي: ما لم يأمر به اللَّه، وهم كذلك كانوا يفعلون، يشرعون للأتباع دينا من ذات أنفسهم بلا حجة ولا برهان، فيتبعون به، والرسل - عليهم السلام - قد أتوهم بالدِّين بالحجج والبراهين من اللَّه - تعالى - فلم يتبعوهم، فيقولون: إنهم بشر، ثم يتبعون بشرًا بلا حجة ولا برهان؛ يذكر سفههم فيما ذكر، فكان
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي: عمل الآخرة، يقال: فلان يحرث للدنيا؛ أي: يعمل لها، ويجمع المال، ومنه قول ابن عمر - رضي اللَّه عنه -: " احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا "، ومنه سمي الرجل: حارثًا. (شَرَعُوا لَهُم) أي: ابتدعوا وسنوا، وكذلك في قوله: (شَرَعَ لَكُم)، أي: ابتدع وسن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يحتمل وجهين:
أحدهما: الحكم؛ كأنه يقول: لولا أن اللَّه - تعالى - حكم في هذه الآية بتأخير العذاب إلى يوم القيامة، وهو ما ذكر أنه بعث رسوله - يختَ رحمة لهم بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
والثاني: (الْفَصْلِ): البيان تأويله: لولا ما وعد في الدنيا أنه يفصل بينهم في الآخرة فيما ذكر: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)، ونحوه، وقيل: (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي: القضاء السابق: أن الجزاء يوم القيامة - لقضي بينهم في الدِّين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذكر إشفاق الكفرة والظلمة وخوفهم في الآخرة، وإشفاق المؤمنين وخوفهم في الدنيا، فمن خاف عقوبته في الدنيا آمنه اللَّه - تعالى - عن خوف الآخرة، ومن استهزأ بعذاب اللَّه في الدنيا خوفه اللَّه في الآخرة، وعلى ذلك يخرج قوله - عليه السلام -: " لا يجمع اللَّه على أحد خوفين: خوف الدنيا وخوف الآخرة: من خافه في الدنيا أمن في الآخرة، ومن لم يخف في الدنيا خاف في الآخرة ".
ثم أخبر ما للمؤمنين في الآخرة، وهو قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، ذكر ما لكل فريق بما كسبوا في الدنيا والآخرة.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: الروضة: البستان.
وقال الكسائي: الروضة: العشب حول القَرِيِّ.
وقوله: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
قوله: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّه) أي: الذي ذكر من الفضل الكبير، ووعد أنه يعطيهم، يبشر اللَّه - تعالى - به من ذكر: (عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال بعض أهل التأويل: قالت الأنصار: إنا فعلنا، وفعلنا كذا؛ فكأنهم افتخروا، وقالوا: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأتاهم فقال: " يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم اللَّه تعالى؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " ألم تكونوا فقراء فأغناكم اللَّه تعالى؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " أفلا تجيبونني؟ " قالوا: ما نقول يا رسول اللَّه؟ قال: " ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذبوك فصدقناك؟ أولم يخذلوك فنصرناك؟ " قال: فما زال يقول حتى جثوا للركب بين يديه، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لرسول اللَّه، والفضل لرسوله؛ فنزل قوله - تعالى -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) لكن ذكر في الخبر ما لا يليق ذلك بالأنصار أن يظنوا ذلك برسول اللَّه، وكذلك ما ذكر من فخرهم وقولهم: " لنا الفضل عليكم " هذا لا يحتمل منهم؛ فدل أن الحديث غير صحيح، أو الزيادة التي لا تحتمل، واللَّه أعلم.
وفي بعض الأخبار: أن الأنصار - رضي اللَّه عنهم - قالوا: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تنوبه النوائب من القرابة وغيرهم، فتعالوا حتى نجمع له شيئًا من أموالنا، فيستعين على من ينوبه من الحقوق، ففعلوا، ثم أتوا به، فقالوا: إنك قد تنوبك نوائب وحقوق، وليس عندك لها سعة، فأتيناك بشيء تستعين به على ما ينوبك من النفقة في أهلك والنازلين بك، فنزل قوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وهو يخرج، على وجوه:
أحدها: يقول: لا أسألكم على ما أبلغكم من الرسالة، وأدعوكم إلى الإيمان باللَّه - تعالى - وبي أجرا إلا صلة أرحامكم وقرابتكم؛ أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة إليكم وما أدعوكم إليه أجرًا، إلا أن تصلوا قراباتكم وأرحامكم؛ فتدل الآية على وجوب صلة الأرحام.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا ردًّا لقول أُولَئِكَ الكفرة؛ حيث قالوا: إن محمدًا جاء يقطع
ويحتمل أن يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرًا، ولا أقبله منكم إن أعطيتموني، إلا أن تصلوني بحق القرابة والرحم التي بيني وبينكم فأقبله منكم، وقد كان بينه وبينهم قرابات ورحم.
ويحتمل ما قال الحسن فقال: واللَّه ما كان نبي اللَّه - تعالى - يسأل على هذا القرآن أجرًا، ولكنه أمر أن يتقربوا إلى اللَّه تعالى بطاعته وحبّ كتابه، فكان معنى الآية: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، أي: إلا التقرب إلى اللَّه - تعالى - والتودد بالعمل الصالح.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن تودوني لأجل قرابتي كما تودون لقرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الذي جئت به يقطع ذلك عني، ولست أبتغي على الذي جئت به أجرًا آخذه منكم على ذلك.
وقال قتادة: إن اللَّه - تعالى - أمر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألا يسأل على هذا القرآن والتبليغ أجرًا: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة، وكل بطون قريش بينه وبينهم قرابة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا أن تودّوا قرابتي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن لم تتبعوني إلى ما أدعوكم إليه وآمركم به فاحفظوني في قرابتي " وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) هو كقوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الاقتراف: الاكتساب، والمقارفة: المعاشرة، وقرف فلان فهو مقروف؛ أي: اتهم بشيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)، قوله (غَفُورٌ) أي: يغفر لهم وإن لم
وقوله: (شَكُورٌ) أي: يشكر ويقبل منهم الشكر وإن لم يحققوا له الشكر، ولم يستحقوا قبوله، فضلا منه ونعمة، واللَّه أعلم.
وقال أهل التأويل: (غَفُورٌ) للذنوب، (شَكُورٌ) للحسنات يضاعفها، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: بل يقولون: افترى مُحَمَّد على اللَّه كذبا.
وقوله: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) بالصبر حتى لا تجد مشقة استهزائهم بك، ولا غصة تكذيبهم إياك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فإن يشأ اللَّه أن ينسيك القرآن فلا تبلغه إليهم فلا يستهزئوا بك، ولا يكذبوك، أو كلام نحوه.
وعندنا أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا بدءًا (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) بالصبر حتى لا تجد مشقة الاستهزاء ولا غصة التكذيب.
والثاني: يحتمل: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) كما ختم قلوب أُولَئِكَ الكفرة حتى لا تفهم ولا تعقل الحق من الباطل، كما فعل بأُولَئِكَ، يذكره إحسانه إليه وفضله بما أكرمه بأنواع الكرامات التي أكرمه بها؛ ليشكر ربه على ذلك، ويرحم على أُولَئِكَ بما ختم على قلوبهم، وما ينزل بهم من أنواع العذاب وعلى ذلك بلغ أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المرحمة والشفقة عليهم ما ذكر (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ...) الآية، وقوله - تعالى -: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، كادت نفسه تهلك إشفاقًا عليهم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: يظهر ويظفر أهل الحق على أهل الباطل وينصرهم حتى يصير أهل الحق ظاهرين قاهرين على أهل الباطل؛ فذلك محق الباطل وإحقاق الحق.
والثاني: يحق الحق بالحجج والبراهين حتى يعرف كل أحد الحق من الباطل بالحجج التي أقامها إذا تأمّل فيها حق التأمّل، وهو كقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (بِكَلِمَاتِهِ) أي: بحججه وبراهينه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) قال أهل التأويل: أي: عليم بما في الصدور، ولكن قوله: (بِذَاتِ الصُّدُورِ) عبارة عمن له الصدور عن الرأي والتدبير، وهم البشر واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) قد ذكرنا أنه لا أحد يحقق التوبة؛ لأن تحقق التوبة هو أن يهرب وينفر عما استوجب به النار كهربه من النار لو كان فيها، وفراره منها لو وجد مهربًا، ولا أحد يهرب من الذنب ويفر منه كهربه وفراره من النار لو كان فيها، لكن اللَّه بفضله وكرمه يقبل ذلك منه وإن لم يكن التوبة منه على الحد الذي ذكرنا.
ثم قوله - تعالى -: (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أي: يقبل حسناتهم وخيراتهم (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) أي: يكفر عن سيئاتهم؛ كقوله - تعالى -: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) هذا وعيد، يخبر رسوله أنه يعلم ما تفعلون سرًّا وعلانية، وأنه عن علم بما يكون منهم امتحنهم وأمرهم ونهاهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦) أي: يجيب الذين آمنوا بما يدعون ويسألون ربهم، وهو كقوله - تعالى - (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، أي: يجيبهم على الذي ذكر في الآية، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يزيدهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب امرئ مسلم، وهي الجنة؛ وذلك زيادة من فضله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ أي يزيدهم من فضله [ وهو قوله صلى الله عليه وسلم :]١ ( ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر٢ ) [ البخاري ٣٢٤٤ ومسلم ٢٨٢٤ ]، وهي الجنة، وذلك زيادة من فضله، والله أعلم.
وقال في حق الكفرة :﴿ والكافرون لهم عذاب شديد ﴾.
٢ في الأصل وم: امرئ مسلم..
* * *
قوله تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) قال أهل التأويل: إن الآية نزلت في أهل الصفة، تمنوا أن يكون لهم الدنيا، فإن كانت فيهم فكأنه كتب عليهم الضيق والقتر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي: يتقلبون من لباس إلى لباس، ومن مركب إلى مركب، ولكن ليس في ذلك كثير بغي؛ فلا يصح صرف التأويل إليه.
ثم عندنا يخرج (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) مخرج الامتنان والإفضال، وله أن يبسط عليهم وإن علم منهم البغي؛ ألا ترى أنه لو لم يوسع على فرعون لا يدعي الألوهية، لكنه مَنَّ على بعض المؤمنين فضيق عليهم حتى لا يبغوا، فيلزمهم بذلك القيام بشكر ما منَّ عليهم وأنعم بالتضييق حتى لا يبغوا، وكذلك يخرج ما: روي " مَنْعُ الله عطاء "، وفيما ذكرنا جواب عمّن تعلق بظاهر الآية على أن الأصلح واجب؛ حيث قال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) بيَّن أن الأصلح لهم ألا يبسط؛ لأنا نقول: قد بسط كثيرًا من الفراعنة والكفرة فبغوا، لكن ذكر هذا؛ لبيان المنة والإنعام بالتقتير والتضييق في حق البعض حتى لا يبغوا، واللَّه أعلم.
ثم البغي: هو التعدي عن حد اللَّه الذي حدّ لهم، والمجاوزة عنه.
ولكن لا نفسر ما الحد الذي يسمى التعدي عنه: بغيًا؛ لما لا يعلم ما هو؟
ويحتمل أن يكون معنى قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أنه لو بسط
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) قد تقدم تأويله.
ثم حاصل تأويلها يرجع إلى وجوه ثلاثة:
أحدها: إلى أهل الكفر: أنه لو وسع عليهم وبسط، لبغوا في الأرض، أي: صاروا كلهم أهل كفر وضلال، كقوله - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ...) الآية.
والثاني: يتوجه إلى خاص من المؤمنين؛ لما علم منهم: أنه لو بسط عليهم ووسع لبغوا في الأرض؛ فضيق عليهم وقتر؛ امتنانًا منه وفضلا؛ لئلا يبغوا، وهو كما ذكرنا في أحد تأويل قوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ): أنه إن كان على حقيقة خلقهم، فهو في الذين علم منهم أنهم يعبدونه لا محالة؛ ليعبدوه على ما ذكر، فأما الذين يعلم أنهم لا يعبدونه لا يحتمل أن يخلقهم للعبادة، ولكن يخلقهم لما علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم.
فعلى ذلك قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) يرجع إلى قوم خاص يعلم اللَّه - تعالى - منهم: أنه لو بسط عليهم ووسع، لبغوا في الأرض؛ فضيق عليهم؛ فضلا منه ومنة؛ فيلزمهم القيام بشكر ذلك له، واللَّه أعلم.
أو أن يرجع ذلك إلى جملة الخلق من مؤمن وكافر: أنه لو وسع وبسط على الكل لصاروا جميعًا ملوكًا ومن عادة الملوك وطباعهم البغي والغلبة على من نازعهم في ملكهم ومملكتهم، وفي ذلك التفاني والفساد؛ فوسع على بعضهم وبسط، وضيق على بعض؛ لئلا يبغي بعض على بعض، إذ في ذلك تفانٍ وتفاسد، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) يحتمل قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) أي: من رحمته.
أو (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) من الأصنام التي عبدوها؛ رجاء الغوث والشفاعة لهم والزلفى عند اللَّه، قنطوا ما رجوا منها، كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
ثم سمى المطر: رحمة وغيثًا، أي: الغوث؛ ليعلم أن له أن يمسك عنهم، ويمسكهم على الحال الأولى في القحط والضيق؛ إذ لو كان عليه إرساله ولم يكن له إمساكه لم
وقوله: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) يحتمل (الْوَلِيُّ) أي: هو الرب، (الْحَمِيدُ) هو المستحق للحمد.
أو الولي: هو الحافظ لهم، وولي كل نعمة أعطاهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
قوله - تعالى -: (وَمِنْ آيَاتِهِ) يحتمل: من آيات ربوبيته وتوحيده خلق السماوات والأرض وما ذكر.
أو من آيات حكمته وعلمه وتدبيره خلق ما ذكر.
أو من آيات قدرته وسلطانه ما ذكر.
أو من آيات إحسانه ونعمه وأياديه ما ذكر، وقد بينا وجه كل ذلك ودلالته على قدر فهمنا منه فيما تقدم.
ثم اختلفوا في قوله: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا) أي: في الأرض خاصّة؛ ألا ترى أنه قال: (مِنْ دَابَّةٍ) وهي اسم لما يدب، وأهل السماء ملائكة، ولهم الطيران دون الدبيب، وهو كقوله - تعالى -: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، وإنما يخرج من أحدهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيهِمَا) أي: في السماء الملائكة، وفي الأرض الدواب، لكنه سمى أهل السماء باسم ما في الأرض من الدواب، وذلك جائز في اللغة ذكر شيئين باسم أحدهما؛ كقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)، والكناية ترجع إلى الصلاة لفظًا، والمراد ما سبق من الصبر والصلاة، وكذا قوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا)، كنى عن التجارة وأراد كليهما، ونحو ذلك؛ فعلى ذلك هذا.
ثم قوله: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا) قالوا: أي: نشر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) يحتمل ما ذكر من جمعهم:
بعثهم وإحياؤهم قدير على ذلك، كما هو قدير على ما ذكر من خلق السماوات والأرض
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) يحتمل ما ذكر من المصيبة التي تصيبهم: المصيبة التي تعم الخلق جميعًا ممن كان منهم الزلة، وما ذكر من كسب اليد، وممن لم يكن منهم كسب اليد من الزلة والمعصية؛ من نحو الجدب، والقحط، وغلبة الأعداء، وغير ذلك من الأشياء التي تعم الخلائق ممن كان منه الجناية وممن لم يكن: من الصغار، والدواب، والأبرار، والأخيار، ويكون ما أصاب ممن كان ذلك منه واستوجب؛ تنبيهًا لهم وموعظة، أو كفارة لما كان منهم من كسب اليد، وما أصاب ذلك ممن لم يكن منهم ذلك من الصغار والأخيار فذلك في الحكمة، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: يصيب ذلك لهم ابتلاء بشيء سبق منهم؛ ليعلم أن ما يعطيهم من السلامة والصحة والحسنات والخيرات كان فضلا منه، وهم عبيده وإماؤه وملكه، إن شاء أهلكهم، وإن شاء أبقاهم.
أو أن يفعل بهم ما ذكر وإن لم يسبق منهم ما ذكر من كسب اليد والزلة؛ لعوض يعوّض في الآخرة. وكيفما كان، فهو غير خارج عن الحكمة، والإيلام للتعويض جائز ممكن، لكن ليس بواجب لا محالة التعويض؛ خلافًا للمعتزلة؛ فإنه عندهم واجب، وبالله العصمة.
وجائز أن يكون ما ذكر من المصيبة التي تصيبهم بكسب اليد أن يريد ألما في نفسه يصيبه بما سبق منه من شيء ارتكبه واكتسبه، فالسبيل فيه أن ينظر كل في نفسه: ما الذي سبق منه حتى أصابه ما أصاب؟ فيراجع نفسه عن ذلك، ويتوب إلى اللَّه - تعالى - ثم يخرج ذلك لهم إما تنبيهًا وزجرًا عن المعاودة إلى مثله، وإما تكفيرًا وتمحيصًا لما كان منهم، ولزمهم الشكر على ذلك.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو اللَّه كثير ".
وعلى قول المعتزلة ليس اللَّه - تعالى - في إعطائهم الخيرات والحسنات والسعة محسنًا مفضلا منعمًا؛ لأن من أخذ شيئًا بعوض لا يوصف بالإفضال والإنعام، وقد سمى نفسه بذلك: محسنًا منعمًا؛ فيكون ما قالوا حلاف ذلك.
وأصله ما ذكرنا: أن الخلق كلهم عبيده وإماؤه، ولكل ذي ملك أن يفعل في ملكه ما شاء، لا لائمة عليه؛ إذ كان له حقيقة الملك؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - إذ له حقيقة ملك الأشياء؛ فله أن يفعل ما يشاء بلا عوض ولا بدل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ليس أحد يصيبه شيء من الشدة والبلاء إلا ويكون في ذلك عفو منه - جل جلاله - لأنه ما من ألم إلا ويتوهم زيادة الألم في ذلك، فيكون منع تلك الزيادة عنه عفوًا عنه وفضلا، وكذلك هذا في هلاك كل شيء من حقوقه ما يقل ويكثر.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي: لا بكل زلة منهم تكون يؤاخذ بها، بل يؤاخذ ببعض، ويتجاوز عنهم في بعض، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ... (٣١) يقول: لا تقدرون الهرب مما يريد أن يصيبكم بزلاتكم وما يريد أن يفعل بكم، ولا لكم ملجأ (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ينصركم ويمنعكم من عذاب اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) يحتمل (آيَاتِهِ) ما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات قدرته وسلطانه، وآيات علمه وتدبيره وحكمته، وآيات نعمه وإحسانه، وهو ما جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في سرية الخشب في السفن معنى لو اجتمع حكماء البشر؛ ليعرفوا ذلك المعنى واللطف الذي جعل في الخشب - ما قدروا على إدراكه، وذلك المعنى واللطف المجعول فيها وما جعل من طبعها السكون على وجه الماء والقرار عليه مع ثقلها وغلظها، وإن كان بدون ذلك الثقل والعظم بكثير من غير جوهر الخشب مما يتسرب في الأرض وينحدر، وكذلك ما يحمل في السفن من الأحمال العظيمة الثقيلة مما طبع كل من ذلك الحمل أن يتسرب وينحدر في الماء لو لم تكن السفن وما ذكر من الخشب، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (كَالْأَعْلَامِ) قال عامة أهل التأويل: أي: كالجبال في البحار.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: الأعلام: الجبال، واحدها علم.
وقوله تعالى :﴿ كالأعلام ﴾ قال عامة أهل التأويل : كالجبال في البحار.
وقال القتبيّ وأبو عوسجة : الأعلام الجبال، واحدها علم. ومعنى هذا الكلام هو ما ذكر من ميد الأرض بأهلها والتسرّب في الماء، ثم أرساها وأثبتها بالجبال، وطبع الجبال التسرّب والانحدار في الماء، فيجيء أن يزيد في التسرّب والانحدار في الماء، لا أن يُثبتها، ويقرّها على وجه الماء. لكن بلطفه ومنّه أقرّ بها الأرض، وأثبتها٢، ومنع بها٣ التسرّب والانحدار والميد بأهلها.
فعلى ذلك السفن في البحار تستقر على الماء، ولا تنحدر، كالجبال مع الأرض [ في ]٤ القرار على الماء، والله أعلم.
ويحتمل قوله :﴿ كالأعلام ﴾ معنى آخر، وهو الأعلام نفسها، وهو أن جعل السفن سببا وطريقا للوصول إلى منافع بعُدت منه، وصعُبت عليهم. فإذا حُمل فيها الأحمال من بلد إلى آخر ومن مكان إلى مكان يُسَرّ أهل المحمول إليهم بتلك الأحمال والسفن إذا رأوها في البحار تحمل إليهم [ سِلعا يتجُرون ]٥ بها ومنافع تصل لهم.
وكذلك يسرّ أهل المحمول عنهم إذا رأوها راجعة إليهم سالمة لما يحصل لهم من المنافع٦ والأعراض بها، فتكون السفن أعلاما وأدلّة لهم على الأعراض والمنافع، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: ولا يثبتها..
٣ أدرج بعدها في الأصل وم: عن..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ في الأصل وم: لسعة يرجون..
٦ في الأصل وم: الأيمان..
ويحتمل قوله: (كَالْأَعْلَامِ) معنى آخر وهو الأعلام أنفسها، وهو أن جعل السفن سببا وطريقًا للوصول إلى منافع بعدت منهم، وصعبت عليهم، فإذا حمل فيها الأحمال من بلد إلى بلد آخر ومن مكان إلى مكان يسر أهل المحمول إليهم بتلك الأحمال والسفن إذا رأوها في البحار تحمل إليهم؛ لسعة يرجون بها ومنافع تصل لهم، وكذلك يسر أهل البلد المحمول إذا رأوها راجعة إليهم سالمة؛ لما يحصل لهم من الأثمان والأغراض بها، فتكون السفن أعلامًا وأدلة لهم على الوصول إلى الأغراض والمنافع، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) يذكر فضله ومنته بما أجرى هذه السفن في البحار التي ذكر، فأخبر أنه لو شاء لأمسكها ومنعها على الجريان ثم صير الريح نوعين:
أحدهما: طيبة بها تجري السفن.
والأخرى: عاصفة شديدة تهلك بها السفن، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ...) الآية.
ثم في ذلك خلال ثلاث تدل على أن الريح ليست تجري السفن وتهب بطبعها وبنفسها، ولكن باللَّه تعالى -:
أحدها: أخبر أنه جعل نوعًا منها طيبة تجري السفن، والأخرى عاصفة، تهلك السفن، وتهيج الأمواج.
والثاني: ما ذكر في هذه الآية: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) أخبر أنه لو شاء لأسكن الريح فبقين رواكد على ظهر الماء؛ فدل أنه هو المجري لها حيث كان هو المسكن.
والثالث: أن فعل الطبيعي على سنن واحد كالحرارة في النار، والبرودة في الثلج وأمثال ذلك، ولو كان جريان الريح وهبوبها بنفسها وطبعها، لكانت لا تسكن في حال، ولا تكون مرة طيبة سالمة، ومرة شديدة عاصفة مهلكة؛ دل أن ذلك كان باللَّه - تعالى - لا بالطبع، واللَّه الموفق.
أحدهما: سمى المؤمن: صبورًا شكورًا.
والثاني: سمى من صبر على ما أصاب من الشدائد والمصائب التي ذكر: صبورًا، ومن شكر ما ذكر من النعم في السفن وغيرها: شكورًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أي: وقوف، وصرفه: ركد يركد ركدا وركودًا.
وقوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) جائز أن يكون هذا صلة ما ذكر من السفن الجواري في البحر؛ حيث قال: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) ويقول: إن شاء أسكن الريح التي بها تجري السفن في البحار فبقين رواكد في الماء، وإن شاء أرسل ريحًا عاصفة شديدة فيهلكن -يعني: السفن- وأراد: أهل السفن؛ بما كان منهم؛ يخبر أن له أن يفعل ما ذكر من الإهلاك في البحر أو الإبقاء فيه، لكنه بفضله ينجي من أنجى وأخرج سالمًا، واللَّه أعلم.
وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ (يُوبِقْهُنَّ) أي: يهلك أهل السفن.
ويحتمل أن يكون ذلك صلة ما تقدم من قوله - تعالى -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فيكون ما يصيبهم من المصيبة ما بلغت النفس أو مما لم تبلغ النفس؛ فيكون كل ذلك لهم من كسب أيديهم على ما ذكر، ثم أخبر أنه يعفو عن كثير مما كسبت أيديهم مما يستوجبون الإهلاك ويتجاوز عنهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) المجادلة في آياته تخرج على وجهين:
أحدهما: أن يجادلوه في تقدير أحكام اللَّه - تعالى - وفهم ما ضمن فيها، وذلك ممدوح محمود، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، فهذه المجادلة، والمراء المذكور في هذا محمود.
والمجادلة الثانية: هي المجادلة في دفع أحكام آيات اللَّه - تعالى - عن فهم ما ضمن أفيها، وهي مذمومة، وما ذكر هاهنا من قوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا) هي المجادلة في دفع أحكام آياته، ثم أخبر أنه لا محيص لهم ولا ملجأ من عذاب الله بمجادلتهم في دفع آياته والمنع عن فهم ما فيها.
أحدهما : أن يجادلوه في تقدير أحكام الله تعالى وفهم ما ضُمّن فيها ؛ وذلك ممدوح محمود، وهو كقوله تعالى :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ] وقوله تعالى :﴿ فلا تُمار فيهم إلا مراءً ظاهرا ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] فهذه المجادلة والمِراء المذكور في هذا محمود.
والمجادلة الثانية هي المجادلة في دفع أحكام آيات الله عن فهم ما ضُمّن [ فيها ]١ وهي مذمومة. وما ذُكر ههنا في دفع آيات الله والمنع عن فهم ما فيها.
وقوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أن اللَّه - تعالى - أعطى من أعطى هذه النعم واللذات في هذه الدنيا؛ ليكتسبوا بها نعمة دائمة ولذة باقية، وكذلك ما أعطاهم من السمع، والبصر، وغير ذلك من الحواس؛ ليكتسبوا بها ما يدوم ويبقى، فمن استعمل ما أعطاه من الأموال واللذات مما ذكرنا في غير ما أمر به وجعل سمي: خاسرًا عابثًا، وكذلك من استعمل ما أعطاه من الحواس في غير ما جعلت وأمر باستعمالها يسمّى: أصم أبكم أعمى، وكذلك النفس؛ إذ المرء لم يكتسب بها حياة دائمة سمي: ميتًا، واللَّه أعلم.
أو أن يقال: إنهم ما أعطوا في هذه الدنيا من اللذات والمتعة إلا ترغيبًا فيما أبقى عنده ووعدهم في الآخرة، وكذلك ما امتحنوا من الشدائد والمصائب إلا تحذيرًا وترهيبًا عما أوعدهم وخوفهم في الآخرة.
ثم قوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: تتمتعون به فيفنى ويزول عن سريع وما أبقى، ولم يؤتكم هو الباقي الدائم، ثم بين أن ما أبقى عنده لمن؟ بقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) آمنوا بأن له الدنيا والآخرة، وأن له الخلق والأمر، وأنه بريء عن جميع معاني الخلق (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، أي: يكلون أمورهم إلى ربهم، هو مفزعهم ومعتمدهم، لا يفزعون إلى أحد سواه، ولا يعتمدون غيره في جميع أحوالهم.
ثم نعتهم - أيضًا - بما ذكر من الاجتناب عن الكبائر والفواحش فقال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) جائز أن يكون ما ذكر من كبائر الإثم هي الفواحش، والفواحش هي كبائر الإثم، كل واحد منهما في معنى الآخر، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كبائر الإثم: أنواع ما بها يصير المرء مشركًا، وهي كبائر الشرك، والفواحش هي التي توجب الحدود في الدنيا.
وقيل: الكبيرة: ما يكبر ويعظم عن الذنب، والفاحشة: ما يفحش من العمل، وقد
وقال بعضهم :﴿ كبائر الإثم ﴾ أنواع : ما بها يصير المرء مُشركا، وهي كبائر الشرك ﴿ والفواحش ﴾ هي التي توجب الحدود في الدنيا.
وقيل : الكبيرة ما يكبُر، ويعظم من الذنب، والفاحشة ما يفحش من العمل، وقد ذكرنا وجوها في ذلك في ما تقدم في سورة النساء، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ أي إذا غضبوا هم مما يرجع إلى الأموال والأنفس وأمر الدنيا يغفرون، ويتجاوزون عن ذلك.
فأما ما يُرجع ذلك الغضب إلى أمر الدين فإنه لا يسع المغفرة عن ذلك [ ولكن ]١ يجب الرجوع والتوبة إلى الله، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي: إذا ما غضبوا هم مما يرجع إلى الأموال والأنفس وأمر الدنيا - يغفرون، ويتجاوزون عن ذلك، فأما ما يرجع ذلك الغضب إلى أمر الدِّين فإنه لا يسع المغفرة عن ذلك، ولكن يجب الرجوع والتوبة إلى اللَّه، واللَّه - تعالى - أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) أي: أجابوا لربهم إلى ما دعاهم ربهم، وقد دعاهم إلى دار السلام بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، لكن جعل لإجابتهم شرائط وأعلامًا فمن وفي بها استوجب الموعود، وهو كقوله - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ...) الآية، (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ...)، إلى آخر ما ذكر؛ فعلى ذلك علم إجابتهم لربهم وشرطها ما ذكر من قوله - تعالى -: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ...) إلى آخر ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ذكر بعضهم أن الأنصار كانوا يتشاورون فيما بينهم ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عنهم غائب، فنزل هذا مدحًا لهم على فعلهم.
وذكر عن الحسن أنه تلا هذه الآية: قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) قال: واللَّه ما شاور قوم قط إلا هداهم اللَّه - تعالى - لأفضل ما بحضرتهم.
وأصله: أن اللَّه - تعالى جل وعلا - أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور صحابته حيث قال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).
وقال الحسن: ما شاور قوم في أمر قط إلا هداهم اللَّه - تعالى - لأفضل ما بحضرتهم؛ لأن المشاورة اجتماع العقول والأذهان، وإذا اجتمعت كانت إلى استدراك الحق والصواب أسرع وأبلغ مما لو انفرد كل عقل بنفسه، واللَّه أعلم.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي: يتشاورون فيه.
وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ): ظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) صير المنتصر من الباغي، والغافر لمظلمة من ظلمه جميعًا في الذين استجابوا لربهم إلى ما دعاهم إليه، والمنتصر مستوفي حقٍّ جعل له، والغافر تارك الحق، لكن إذا جعل له الاستيفاء دخل فيما ذكر من المستجيبين لله تعالى، لكن تارك الحق أفضل من مستوفي الحق، وعلى ذلك حث اللَّه - تعالى - رسوله بالعفو عن المظلمة وترك الانتصار والمكافأة، وأخبر أنه من عزم الأمور؛
وعلى ذلك حثّ الله تعالى رسوله [ على العفو ]١ عن المظلمة وترك الانتصار والمكافأة. وأخبر أنه من عزم الأمور حين٢ قال :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾ [ الشورى : ٤٣ ].
ويحتمل أن يكون قوله تعالى :﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ [ الشورى : ٣٧ ] راجعا٣ إلى الأذى باللسان من نحو الشتيمة والسّبّ والذي لا يترك٤ في النفس /٤٩٣-أ/ أثرا حثّهم على المغفرة والعفو، ومدحهم على ذلك.
وقوله تعالى :﴿ والذين إذا أصابهم البغيُ هم ينصرون ﴾ راجع إلى ما يؤثّر في النفس والأبدان تأثيرا من الجِراحات وغيرها٥، جثّهم على العفو في ما يرجع إلى الأذى باللسان وألاّ يكافئوهم على ذلك.
وفي ما رجع إلى الأنفس والأبدان جعل لهم الاستيفاء والانتصار، وإن كان ترك الاستيفاء والعفو عن الكل أفضل على ما قال :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ].
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: راجع..
٤ في الأصل وم: يؤثر..
٥ في الأصل وم: وغيرهم..
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) راجع إلى الأذى باللسان؛ من نحو الشتيمة، والسب، والذي لا يؤثر في النفس أثرا، حثهم على المغفرة والعفو، ومدحهم على ذلك.
وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) راجع إلى ما يؤثر في الأنفس والأبدان تأثيرًا من الجراحات وغيرها، حثهم على العفو فيما يرجع إلى الأذى باللسان، وألا يكافئوهم على ذلك، وفيما رجع إلى الأنفس والأبدان جعل لهم الاستيفاء والانتصار، وإن كان ترك الاستيفاء والعفو عن الكل أفضل؛ على ما قال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) سمى الثانية: سيئة وإن لم تكن في الحقيقة سيئة؛ لأنها جزاء السيئة؛ فسمّاها باسم الأولى.
أو سماها: سيئة؛ لأنه لو لم تكن الأولى كانت سيئة ثانية - أيضًا - فسماها على ما هو في نفسها من باب الإضرار والضرر - سيئة في نفسه، وإن كان حسنًا لغيره، واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون سماها بما ذكر؛ لاختلاف الأحوال: هي عند الذي يقتص منه ويُجَازَى بها سيئة، وتلك الحال عنده سيئة، وهو كقوله - تعالى -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، سمى حالة الضيق والشدة: سيئة؛ لأنها عندهم سيئة، وحال السعة والرخاء: حسنة؛ لأنها عندهم حسنة، وإن لم تكن تلك الحال في الحقيقة سيئة، لكنه سماها: سيئة على ما عندهم؛ فعلى ذلك جائز أنه سمى الثانية: سيئة؛ لما هي عند المفعول به سيئة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ) هو ما ذكرنا أنه وإن جعل لهم حق الاستيفاء والانتصار، فالعفو عن ذلك أفضل.
ثم فيه دلالة ألا يجمع بين العفو وأخذ البدل إذا لم يكن من الآخر الرضا بذلك؛ لأنه قال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ) أخبر أنه إذا عفا عنه يكون أجره على اللَّه فليس له أن يأخذ من المعفو عنه شيئًا، واللَّه أعلم.
فهو ينقض على من يقول بأنه يأخذ البدل من الجاني شاء أو أبى، وأن يعفو عنه ويأخذ البدل، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لأنه لا يحب الظلم، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن أخذ ما ليس له أَخْذُه فهو ظالم.
وقوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) إنما الحجة والتبعة على الذين يظلمون الناس ابتداء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: يأخذون من الناس ما ليس لهم أن يأخذوا؛ فالتبعة والحجة عليهم، فأما من يأخذ حقًّا وجب له واستوفاه فلا تبعة عليه ولا حجة.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض).
وقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) أي: من صبر على الأذى والمظلمة وعفا عنها وتجاوز فإن ذلك من عزم الأمور؛ أي: ذلك من تحقيق الأمور وإحكامها.
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: من أضله اللَّه لما آثر ولاية الشيطان، لا وفي له سواه بعده يرشده، أو لا ولي ينفعه من بعده، وهو كما قال: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، أخبر أن سلطان الشيطان على من يتولاه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) قال أهل التأويل: أي: هل إلى رجوع الدنيا من سبيل، يقولون: يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا.
والأشبه أن يكون سؤالهم الرجوع إلى المحنة التي امتحنوا في الدنيا قبل موتهم؛ أي:
وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ ويفسدون في الأرض.
وقوله عز وجل :﴿ وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مردّ من سبيل ﴾ قال أهل التأويل : أي هل إلى رجوع الدنيا من سبيل ؛ يقولون : يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا.
والأشبه أن يكون سؤالهم الرجوع إلى المِحنة التي امتُحنوا في الدنيا قبل موتهم، أي سألوا أن يكلّفهم، ويمتحنهم في الآخرة ليُظهروا الطاعة لله تعالى في أوامره ونواهيه، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: ما..
وقوله: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥) قال أهل التأويل: يعرضون على النار قبل أن يدخلوها؛ كقوله - تعالى -: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)، وكقوله - تعالى -: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ)؛ لأن اللَّه - تعالى - أذلهم في الآخرة بما اختاروا في الدنيا من سوء صنيعهم، وأعطوا أنفسهم شهواتهم ومناهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) يحتمل ما ذكر من نظرهم من طرف خفي ما ذكر في آية أخرى: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)؛ هو لشدة هولهم وفزعهم في ذلك اليوم لا يرفعون رءوسهم، ولا ينظرون إلى موضع.
ويحتمل أن يكون قوله: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي: لا ينظرون إلى الناس، ولا يقبلون بوجوههم إليهم إلا نظر التلصص والتغفل؛ حياء منهم؛ لسوء فعالهم، وهكذا المعروف في الناس؛ لأن من صنع إلى آخر سوءًا لا يتهيأ له رفع الطرف إليه ونظره إليه متصلا إلا على التلصص منه والتغفل؛ فعلى ذلك أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
وقال بعض أهل التأويل: إنهم يحشرون عميًا؛ فلا يرون بأعينهم، إنما يرون بقلوبهم، وهو الطرف الخفي.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)، أي: قد غضوا أبصارهم من الذل.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ينظرون نظرًا مستقيمًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...)، الآية.
يخرج ما ذكر من خسران أنفسهم وأهليهم على وجوه:
أحدها: ما ذكر بقوله - تعالى -: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، أمروا بأن يقوا أنفسهم وأهليهم النار، فهم حيث لم يقوا ما ذكر من الأنفس والأهل خسروا، والله أعلم.
والثالث: يحتمل أن يكون خسرانهم أنفسهم وأهليهم ما قالوا: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، وقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، خسر ما كان رجاه وطمع أن له عند ربه في الآخرة للحسنى.
على هذه الوجوه الثلاثة يخرج تأويل الآية.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس من أحد من كافر ومسلم إلا وله أهل ومنزل في الجنة، فإن أطاع اللَّه - تعالى - أتى منزله وأهله، وإن عصاه خسر نفسه وأهله، ومنزله في الجنة وورثه المؤمنون عنه.
لكن لا يحتمل أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مع علمه أنه يموت كافرًا أن يجعل له الأهل والمنزل في الجنة، اللهم إلا أن يفعل ذلك ليكون لهم حسرة على ذلك وغيظًا.
وقوله: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ... (٤٦) يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: ما كان للأصنام التي عبدوها دون اللَّه تعالى ولاية النصر لهم وقدرة دفع العذاب عنهم؛ لأنهم كانوا يعبدونها في الدنيا رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وأن تزلفهم، فأخبر اللَّه - تعالى - أن ليس لها ولاية النصر لهم؛ على ما رجوا وطمعوا من عبادتها الشفاعة لهم والدفع عنهم، واللَّه أعلم.
والثاني: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: ما كان للرؤساء الذين اتخذوهم في الدنيا أربابًا ولايةُ النصر لهم؛ لأنهم لا يملكون دفع ذلك عن أنفسهم، فكيف يملكون دفع ما نزل بأتباعهم؛ يخبر أن ليس لهم ولاية دفع العذاب عنهم، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) يحتمل قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: من حجة، أي: من أضله اللَّه، فلا حجة له أن يقول: إنك أضللتني؛ لأنه إنما يضله لما يختاره ويؤثره.
والأصل: لا أحد يفعل ما يفعل من المعاصي وقت فعله لأن اللَّه تعالى قضى له ذلك أو أراده، أو قدره وقضاه؛ إنما يفعله لغرض له وهواه؛ فلم يكن له الاحتجاج عليه بذلك، وباللَّه العصمة.
ويحتمل قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: من أضله اللَّه - تعالى - فما له إلى الهدى من سبيل أي: ليس له سبيل، ولكن عليه السبيل؛ أي: لا يملك أحد إرشاده.
ويحتمل: أي: من أضله اللَّه فما له من سبيل؛ أي: ليس له سبيل، ولكن عليه السبيل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) أي: أجيبوا له، وقد ذكرناه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ...) الآية.
هذا يخرج من وجهين:
أحدهما: أي: أجيبوا له من قبل أن يأتي يوم لا يملك أحد ردّ ذلك اليوم إذا أتاهم؛ لأنه هو اليوم الذي يجزي فيه الخلائق، وفيه أهوال وأفزاع؛ يقول: لا أحد يملك ردّ ذلك اليوم؛ واللَّه أعلم.
والثاني: أي: أجيبوا من قبل أن يأتي يوم لا مرد لما ينزل فيه بهم من العذاب والعقاب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) هذا - أيضًا - يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا؛ لتكون لهم شفعاء، وملجأ يلتجئون إليها؛ يقول: ما لكم من أُولَئِكَ الأصنام ملجأ تلتجئون إليها بل تكونون كما ذكر في آية أخرى: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وقوله - تعالى -: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ...) الآية، واللَّه أعلم.
والثاني: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي: ما لهم من حيل يحتالون بها دفع ما نزل بهم من العذاب، على ما يكون في الدنيا من حيل يحتالون بها دفع ما نزل بهم من البلاء والشدائد، وباللَّه النجاة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).
هذا - أيضًا - يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: لا يملكون أن ينكروا على اللَّه - تعالى - ما يفعل بهم؛ لأنه إنما يفعل بهم ذلك بما كسبت أيديهم؛ فلا يقدرون على إنكار ذلك على اللَّه تعالى.
والثاني: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: ما لكم من تغيير؛ أي: ما يملكون دفع ذلك
وقيل: لا يملكون أن يمنعوا اللَّه - تعالى - عما يريد أن يفعل بهم، وهو ما ذكرنا.
وقوله - تعالى -: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨) أي: إن تولوا عن إجابتك إلى ما تدعوهم إليه (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يحتمل: أي: فما أرسلناك لأنْ تحفظ عليهم أفعالهم وأعمالهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) أي: ما عليك إلا التبليغ، إنما حفظ أعمالهم وأفعالهم على الملائكة الذين جعلوا حفاظًا عليهم، وهم الكرام الكاتبون.
والثاني: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) يحتمل: فما أرسلناك لأنْ تمنعهم عما يفعلون حسًّا، إنما عليك البلاغ فحسب وبيان الحق، وأنت غير مؤاخذ بما يفعلون، وهو كقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، ونحو ذلك.
وقوله: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) إن كان هذا في المسلم فيكون قوله: (فَرِحَ بِهَا) أي: رضي بها، وسُر بها، وإن كان في الكافر فيكون له فرح بها؛ أي: بطر بها وأشر.
وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ) وهذا - أيضًا - إن كان في المسلم فإنه إذا أصابه شدّة أو بلاء ينسى ما كان إليه من اللَّه - تعالى - من النعمى، فجعل يشكو مما أصابه، فهو كفور للنعم التي كانت له من قبل ذلك.
وإن كان في الكافر فهو ظاهر أنه كفور لنعمه وإحسانه أجمع، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
وقوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يخبر أنه بما يأمرهم وينهاهم، وبما يمتحنهم بأنواع المحن بأمر ونهي، ولا يمتحن بحاجة نفسه في جرّ منفعة، واستفادة خير، أو دفع مضرة أو بلاء؛ إذ له ملك السماوات والأرض، ولكن إنما يأمرهم وينهاهم ويمتحنهم؛ لحاجة أنفسهم في إصلاحها وفكاكها ونجاتها عن المهالك، وهو كقوله: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، يخبر بما ذكر أنه غني، لا
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ لله ملك السماوات والأرض ﴾ كقوله :﴿ قل اللهم مالك الملك ﴾ الآية [ آل عمران : ٢٦ ] ويحتمل أن يقول :﴿ لله ملك السماوات والأرض ﴾ أي هو يُؤتي الملك من [ يشاء ]٣ له الملك في الدنيا، وهو ينزع ممن يشاء على ما ذكر في آية أخرى ﴿ تُؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء ﴾ الآية [ آل عمران : ٢٦ ]. وفيه نقض [ قول ]٤ المعتزلة في خلق أفعال منهم وإنكارهم أن يكون فعل الله تعالى مخافة وقوع الشرك في ذلك بينهم وبين الله تعالى، فيكون ذلك فعل الله تعالى وفعل العبد ؛ إذ هو تفسير الشركة في الشاهد، فيقال لهم : إن الله تعالى قال :﴿ لله ملك السماوات والأرض ﴾ وقال في آية أخرى ﴿ ولم يكن له شريك في الملك ﴾ [ الإسراء : ١١١ ] أخبر أن ليس له شريك في الملك. وقد رأينا الملوك في الدنيا.
ثم لم يوجب مُلك الشّركة في ملكه لاختلاف المعنى والجهات ؛ إذ حقيقة المُلك له، ولغيره ليست حقيقة٥، إنما له ملك الانتفاع لا على الإطلاق.
فعلى ذلك أفعال العباد [ تكون خلق الله تعالى وكسبا لهم، ولا يوجب ذلك شركا فيه على ما لم يوجب ذكرنا من المُلك لهم شركا بينهم وبين الله تعالى، والله الموفّق.
وقوله تعالى :﴿ يخلق ما يشاء ﴾ هو أيضا على المعتزلة لأنه أخبر أنه يخلق ما يشاء، وهم يقولون بأن جميع الخيرات مما شاء الله، ثم لا يجعلون ما فعل العباد ]٦ من الخيرات خلقا لله تعالى. فيكون على قولهم غير خالق لأكثر الأشياء مما شاء. وهذا لأن قوله :﴿ يخلق ما يشاء ﴾ إما أن يخرّج على الوصف بالرّبوبية لله تعالى والألوهية [ وإما ]٧ على وجه الوعد والخبر٨ بأنه يخلُق ما يشاء.
فإن كان على الوصف له بالربوبية ؛ فلا يكون ذلك وصف الرّبوبية ؛ إذ لا يكون خالقا لجزء من عشرة آلاف من الأشياء التي شاء أن يخلُقها.
وإن كان على الوعد والخبر فيخرج الخبر كذبا على قولهم. فنعوذ بالله تعالى من السّرف في القول، والله الموفّق.
وقوله تعالى :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ يُخبر تعالى أن الأولاد جميعا من الذكور والإناث مواهب الله تعالى وهداياه، يجب أن يقبلوها منه قبول الهدايا والهبات على الشكر له والمِنّة. ثم بدأ بذكر الإناث ثم بالذكور لأن من الناس من إذا وُلد له الإناث يعد ذلك٩ مصيبة، ويثقُل عليه. وعلى ذلك ما أخبر من الكفرة أنهم إذا بُشّروا بالأنثى ظلّت وجوههم مسودّة كقوله١٠ تعالى :﴿ وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم ﴾ [ النحل : ٥٨ ] يخبر عن ثقل ذلك عليهم وغيظهم على ذلك. فبدأ بذكر ذلك لئلا يعدّ أهل الإسلام الأولاد١١ الإناث مصيبة وبلاء على ما عدّها الكفرة، والله أعلم.
٢ من م، في الأصل: ونكاحها..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ أدرج بعدها في الأصل وم: الملك..
٦ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: أو..
٨ من م، في الأصل: هو الخبر..
٩ أدرجت في الأصل وم بعد: ويثقل..
١٠ في الأصل وم: بقوله..
١١ في الأصل وم: أولاد..
ويحتمل أن يكون قوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كقوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ...) الآية.
ويحتمل أن يقول: له ملك السماوات والأرض؛ أي: هو يؤتي الملك من له الملك في الدنيا، وهو ينزع عمّن يشاء؛ على ما ذكر في آية أخرى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ...) الآية.
وفيه نقض قول المعتزلة في خلق أفعال العباد منهم، وإنكارهم أن يكون فعل اللَّه - تعالى - مخافة وقوع الشرك في ذلك بينهم وبين اللَّه - تعالى - فيكون ذلك فعل اللَّه - تعالى - وفعل العبد؛ إذ هو تفسير الشركة في الشاهد.
فيقال لهم: إن اللَّه - تعالى - قال: له ملك السماوات والأرض، وقال في آية أخرى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، وقد رأينا الملوك في الدنيا، ثم لم يوجب ذلك الشركة في ملكه؛ لاختلاف المعنى والجهات؛ إذ حقيقة الملك له، ولغيره ليست حقيقة الملك، إنما له ملك الانتفاع، لا على الإطلاق؛ فعلى ذلك أفعال العباد من الخيرات خلقًا لله تعالى، فيكون على قولهم غير خالق لأكثر الأشياء مما شاء؛ وهذا لأن قوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) إما أن خرج على الوصف بالربوبية لله تعالى والألوهية، أو على وجه الوعد والخبر بأنه يخلق ما يشاء.
فإن كان على الوصف له بالربوبية؛ فلا يكون ذلك وصف الربوبية؛ إذ لا يكون خالقًا لجزء من عشرة آلاف من الأشياء التي شاء أن يخلقها، وإن كان على الوعد والخبر فيخرج كذبًا على قولهم، فنعوذ باللَّه تعالى من السرف في القول، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) يخبر - تعالى - أن الأولاد جميعًا من الذكور والإناث مواهب اللَّه - تعالى - وهداياه، فيجب أن يقبلوها منه قبول الهدايا والهبات على الشكر له والمنة، ثم بدأ بذكر الإناث ثم بالذكور؛ لأن من الناس من إذا ولد له الإناث يعدها مصيبة، ويثقل ذلك عليه، وعلى ذلك ما أخبر عن الكفرة أنهم إذا بشروا بالأنثى ظلت وجوههم مسودة بقوله - تعالى -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)، يخبر عن ثقل ذلك عليهم، وغيظهم على ذلك فبدأ بذكر ذلك؛ لئلا يعد أهل الإسلام الأولاد الإناث مصيبة وبلاء على ما عدها الكفرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) التزويج: هو الجمع بين الشكلين
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا)، أي: يجعل بعضهم بنين وبعضهم بنات، تقول العرب: زوجت أهلي: إذا قرنت بعضها ببعض، وزوجت الكبار بالصغار إذا قرنت كبيرًا بصغير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) والعقيم من النساء: التي لا تلد، وهي لا توصف بالبركة، ويقال: إنها ليست مباركة، لا يرغب فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (عَلِيمٌ): بإنشاء الأولاد والإناث في الرحم، (قَدِيرٌ) على ذلك.
أو (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق، (قَدِيرٌ): لا يعجزه شيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) كأن هذا إنما ذكر وأخبر عن نازلة أو سؤال كان عن كيفية الرسالة، وهل الرسل - عليهم السلام - يرون ربهم ويشاهدونه ويشافهونه؟ فأخبر أنه ليس من البشر من يكلمه إلا بالطرق الثلاثة التي ذكرها، والسؤال وقع عن الرؤية في الدنيا، فيكون الجواب بناء على السؤال، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (إِلَّا وَحْيًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا وَحْيًا): ما يرى في المنام، ورؤيا الأنبياء - عليهم السلام - حقيقة.
وقوله: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) نحو ما كلم موسى - عليه السلام - ألقى في مسامعه صوتًا مخلوقًا على ما شاء وكيف أشاء، من غير أنْ كان ثَمَّ ثالثٌ.
وقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) أي: يرسل ملكا يخبره عن اللَّه - تعالى - وطرق الرسول إلى معرفة ذلك في الدنيا الوجوه التي ذكرنا: إما الإلهام، وإما الإلقاء في المسامع، وإما رسول يرسل فيخبر عن أمره وكلامه، فأما أن يحتمل وسع أحد رؤيته أو يشافهه أو يعاينه في الدنيا فلا، واللَّه الموفق.
ثم اختلف في قوله: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: الحجب أنفسها هي حقيقة الحجب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحجاب: هو عجزهم عن احتمال رؤيته؛ لأن اللَّه - تعالى - أنشأهم على بنية وخلقة لا تقوم أنفسهم القيام لذلك على ما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - حيث قال
وفي الآية: أن اللَّه - تعالى - يكون مكلمًا للبشر بالرسول، وإن لم يشافهه المرسل، وكأن ذلك تسمية بطريق المجاز؛ إذ لم يكن في الحقيقة كلام الرسول كلام المرسل، وكذلك في قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، لا يكون ما يسمع من الرسول - عليه السلام - كلام اللَّه حقيقة، وكذا ما يقال: سمعت من فلانة قول فلان، أو حديث فلان كله، على المجاز، ليس على التحقيق، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون سبب نزول قوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا...) والآية - قول أُولَئِكَ الكفرة؛ حيث أخبر اللَّه - تعالى - بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ...) الآية، وقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، سألوا أن يروا ربهم جهارًا، فقد حجبوا عن رؤية اللَّه - تعالى - في الدنيا والآخرة، حيث قال: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)، وسألوا أن يكلمهم شفاها، فأخبر أنه لا يكلم أحدًا شفاهًا، ولكن يكلم بما ذكر من الأوجه الثلاثة؛ حيث قال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) ردًّا عليهم، فأخبر اللَّه - تعالى -: أن طريق تكليمه الخلق في الدنيا هذه الوجوه التي ذكرنا، وقد كلم البشر من هذه السبيل والطريق التي ذكر؛ حيث قال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، أخبر أنه أنزل إليهم ما ذكر، كما أنزل على الرسول، وحيث قال: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ...) الآية، وغير ذلك من الآيات مما يكون كأنه قد كلمهم بما ذكر، كما كلم الرسل من الوجوه التي ذكر.
وقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) كأنه يقول: هكذا أوحينا إلى الرسل الذين من قبلك بالوجوه والطرق التي ذكرنا كما أوحينا إلى الذين من قبلك.
وقوله: (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (رُوحًا) جبريل بأمرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أوحينا إليك أمرًا من أمرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) أي: الكتاب الذي أنزله عليه وأوجبه إليه، سماه:
وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) أمَّا الكتاب فإنه لا شك أنه كان لا يدريه ولا يعلمه حتى أدراه وأعلمه، وأمَّا الإيمان حيث أخبر أنه لا يدريه فهو يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما كنت تدري ما الإيمان؟ في حق اللسان.
أو ما كنت تدري ما الإيمان؟ في حق الإيمان.
أو ما كنت تدري ما الإيمان؟ في حق قدره ومحله ومنزلته عند اللَّه تعالى.
فإن كان المراد في حق اللسان، فهو ظاهر أنه كان لا يدري في حق ابتداء الأمر أن الإيمان هو التصديق أو التوحيد، أو ما هو؟ وهو معروف أنه كان لا يدريه في حق اللسان حتى أدراه وأعلمه أنه ماذا؟ وكذلك جميع أهل اللسان، لا علم لهم بذلك حتى علمهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنزل جبريل، وسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ على صورة أعرابي حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن هذا كان جبريل نزل ليعلمكم معالم دينكم "، والله أعلم.
وإن كان في حق فعل الإيمان ومباشرة ركنه، فهو إذن كان غير قادر على فعله وإتيانه على هذه وكان لا يدري، لكنه لا يدريه فإنه لا يوصف بالجهل به؛ ألا ترى أن الصغار لا يدرون، ولا يقال: إنهم جهلة، وإنَّمَا يوصف بالجهل من ملك الفكرة والنظر وأسباب العلم ثم ترك ذلك، فعند ذلك يوصف بالجهل، فأما من لم يملك ذلك ولم يبلغ هذا المبلغ فإنه لا يوصف بالجهل؛ ألا ترى أنه يقال للأعراض والأشياء: إنها لا تدري ولا توصف بالجهل؛ فعلى ذلك يجوز أن يوصف ويقال: إنه كان لا يدري، ولا يوصف ولا يقال: إنه كان جاهلا به، واللَّه أعلم.
ألا ترى أن الولد في البطن لا يوصف بأن له سمعًا وبصرًا ونحوه؛ لأنه ليس بمحل للسماع والبصر، فإذا أخرج منه عند ذلك يجعل له لما مكن من السماع والبصر، وهو ما ذكر بقوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ)، عندما مكن لهم ذلك.
وإن كان المراد: أنه لا يدري في حق المحل والمنزلة والقدر، فهو هكذا كان لا يدري
وقوله: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) فإن كان المراد هو الإيمان فهو نور بالحجج والبرهان، وهو كما ذكر: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ).
وإن كان المراد هو الكتاب، فهو نور لما يرفع جميع حُجب القلوب وسواترها عمن اتبعه ونظر إليه بعين التعظيم.
وقوله: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) من علم أنه يختاره شاء أن يهديه.
ثم قوله: (نَهْدِي بِهِ) يحتمل: القرآن.
ويحتمل الإيمان نفسه؛ أي: يجعله بالإيمان مهتديًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
قوله: (لَتَهْدِي) يحتمل: لتدعو، أو لتبين لهم الصراط المستقيم، ثم فسره بقوله - تعالى -: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (٥٣) لم يفهم من صراط اللَّه ما يفهم من صراط الخلق، أو صراط فلان، فكيف يفهم من مجيئه أو إتيانه ما يفهم من مجيء الخلق أو إتيانه، فهذا يدل أن لا كل ما أضيف إلى اللَّه - تعالى - يفهم منه ما يفهم مما يكون من الخلق، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
يحتمل: ألا إلى اللَّه يرجع تدبير الأمور.
ويحتمل: ألا إلى اللَّه تصير الأمور في الآخرة، وهو البعث، واللَّه أعلم بالصواب.
* * *