تفسير سورة سورة الشورى من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
عسق} (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿كَذَلِكَ﴾ أي مثل ما أوحينا إلى كثير ممن سبقك من الأنبياء
﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أي يتشققن من ظلم العباد، وادعائهم أنلله شريكاً وولداً ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ﴾ من عصاة المؤمنين؛ أما الكافرين فلا شفاعة لهم، ولا استغفار يقبل بشأنهم ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾
﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره تعالى ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ يعبدونهم ويوالونهم ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي حافظ لما يقولون، وما يعملون؛ فمحاسبهم عليه
﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ مكة؛ لأنها أشرف البقاع، ومنها انتشر الدين ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ يشمل سائر الأرض، وجميع الناس ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ أي تنذر بيوم الجمع؛ وهو يوم القيامة؛ لأن الخلائق تجمع فيه للحساب والجزاء ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك في حدوثه ومجيئه؛ ويومئذٍ يكون الناس ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ﴾ وهم المؤمنون ﴿وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ وهم الكافرون
﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين واحد؛ وهو الإسلام ﴿وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ في جنته ونعمته؛ لإيمانه بربه، واستجابته لرسله ﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الكافرون ﴿مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ﴾ ينفعهم ﴿وَلاَ نَصِيرٍ﴾ ينصرهم من الله ويدفع عنهم عذابه
﴿أَمِ اتَّخَذُواْ﴾ أي بل اتخذوا ﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ وهم الأصنام ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ الحق؛ الذي يهدي من يتولاه في دنياه، وينجيه في أخراه
﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي إلى ما أنزل الله في كتابه؛ من الشرائع والأحكام ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في سائر أموري (انظر آية ٨١ من سورة النساء) ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أرجع في أموري كلها
﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ خالقها من غير مثال سبق ﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ لتسكنوا إليها جعل ﴿أَزْواجاً﴾ ذكراناً وإناثاً؛ لحفظ نسلها، وتمام نفعها لكم ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ يخلقكم ويكثركم؛ بواسطة التزاوج
﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي ملكهما. والمقاليد: المفاتيح، أو الأبواب، أو الخزائن ﴿وَيَقْدِرُ﴾ ويضيق
﴿شَرَعَ﴾ بيَّن وأظهر ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً﴾ ما شرعه لنوح عليه السلام؛ وهو أول الأنبياء شريعة
-[٥٩٢]- ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ﴾ لله وحده ﴿وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ﴾ لا تختلفوا ﴿كَبُرَ﴾ عظم، وشق ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي﴾ يختار ﴿إِلَيْهِ﴾ إلى معرفته، وإلى دينه، وإلى توحيده ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ من يرجع إليه، ويقبل على طاعته، ويستمع إلى كلامه
﴿وَمَا تَفَرَّقُواْ﴾ أي ما تفرق الناس في الدين؛ فآمن بعضهم، وكفر البعض الآخر ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ﴾ جميعاً ﴿الْعِلْمُ﴾ بالله تعالى، وبحقيقة توحيده، وصحة دينه، وصدق رسله. وهو علم مسقط للمعذرة، موجب للتكليف؛ وإنما كان كفر الكافرين ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ ظلماً واستعلاء، وطلباً للرئاسة. أو المراد بـ «العلم» الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ (انظر آية ٨٩ من سورة البقرة) ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ بتأخير العذاب ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ وقت معلوم؛ وهو يوم القيامة ﴿لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ﴾ بتعذيب المكذبين، وإهلاكهم في والدنيا ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ﴾ أي نزل إليهم، وورثوا علمه؛ وهم اليهود والنصارى ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ من محمد
﴿فَلِذَلِكَ﴾ الدين القيم والإله الواحد ﴿فَادْعُ﴾ الناس ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ لا تعر مزاعمهم التفاتاً ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ﴾ عليّ، وعلى الرسل السابقين ﴿وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ في الحكم - إذا تخاصمتم - وفي قسمة الغنائم، وفي كل ما تحتكمون إليَّ فيه ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي نحن نؤاخذ بأعمالنا، وأنتم تؤاخذون بأعمالكم؛ لا يؤاخذ أحدنا بعمل الآخر ﴿لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ أي لا حجة قائمة تحتجون بها علينا؛ وإنما هو عناد ومكابرة ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ وبينكم يوم القيامة ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ فيثيب الطائع، ويأخذ العاصي
﴿وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ﴾ يخاصمون ﴿مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ﴾ له أي بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا في دين الله تعالى أفواجاً. أو من بعد ما قامت الحجج الظاهرة، والبراهين القاطعة؛ على وجوده تعالى ووحدانيته وبذلك وجبت الاستجابة له؛ والإيمان به ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ باطلة ساقطة
﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق، وأنزل ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ أقام العدل، وأمر به؛ لأن الميزان: آلة الإنصاف والعدل. وربما أريد بالميزان: العقل؛ لأن به توزن الأمور، ويفرق بين الخير والشر، والحق والباطل
﴿مُشْفِقُونَ﴾ خائفون ﴿يُمَارُونَ﴾ يجادلون
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ بالعاصي منهم والطائع، والكافر والمؤمن؛ يرزق كلا النوعين، ويمتع كلا الصنفين: لطف بأوليائه حتى عرفوه؛ ولو لطف بأعدائه لما جحدوه وإنما كان لطفه بهم من ناحية الرزق والحفظ ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ﴾ على مراده ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب الذي لا يغلب
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ أي ثوابها. لما كان العامل في هذه الدنيا كالزارع الذي خدم الأرض وسقاها: جعل جزاؤه وثوابه على عمله في الآخرة كالحرث
﴿أَمْ لَهُمْ﴾ أي للمشركين ﴿شُرَكَاءُ﴾ آلهة ﴿شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ كالشرك، ونسبة الولد إليه تعالى ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ليوم القيامة ﴿لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ﴾ بالعقوبة التي يستحقونها ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين
﴿مُشْفِقِينَ﴾ خائفين ﴿مِمَّا كَسَبُواْ﴾ من جزاء ما عملوا من المعاصي ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أي نازل بهم العذاب، الذي هو جزاء ما كسبوا
﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أي لا أسألكم على التبليغ أجراً؛ إلا أن تودوا قراباتكم، وتصلوا أرحامكم. وقيل: المراد بالقرابة: قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهو مردود؛ لأن مودة قرابة الرسول - ولو أنها فرض على كل مؤمن - فإنها تعتبر أجراً على التبليغ، وسياق القرآن الكريم ينافي ذلك في سائر مواضعه. وقيل:
﴿إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أي إلا أن تودوني وتكفوا عن إذايتي؛ لقرابتي منكم ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ﴾ يكتسب ﴿حَسَنَةً﴾ طاعة ﴿نَّزِدْ لَهُ فِيهَا﴾ في أجرها ﴿حُسْناً﴾ أي نضاعفها له
﴿فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ أي يربط عليه بالصبر على أذاهم، وتكذيبهم لك ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بمكنونات القلوب
﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ توبة العبد: هو أن يندم على ما ارتكبه من الذنوب، ويعيد ما فاته من الفرائض، ويرد ما اكتسبه من المظالم
﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أي يجيبهم الله تعالى إلى ما يسألونه. واستجاب، وأجاب بمعنى ﴿وَيَزِيدُهُم﴾ فوق مطلوبهم
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ﴾ أي لو أغناهم: لاستكبروا وظلموا ﴿وَلَكِن يُنَزِّلُ﴾ الرزق ﴿بِقَدَرٍ﴾ بتقدير ﴿مَّا يَشَآءُ﴾ فيبسطه لأناس: يستحقون البسط، أو لا يستحقونه؛ جديرون بالإكرام، أو غير جديرين به. ويقبضه عن أناس: يستوجبون القبض، أو لا يستوجبونه؛ جديرون بالامتهان، أو غير جديرين به. وفي كلا الحالين: هو الحكيم العليم؛ الذي يعلم ما يصلح عباده، وما لا يصلحهم. جاء في الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته لفسد حاله، ومنهم من إذا أفقرته لفسد حاله» ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ﴾ بما يصلحهم ﴿بَصِيرٌ﴾ بحاجاتهم؛ أكثر من إبصارهم لها
﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ المطر ﴿مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾ أي من بعد يأسهم وقنوطهم من نزوله. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الفقر والجوع. ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ يبسط رزقه بالإنبات؛ الذي هو نتيجة للمطر ﴿وَهُوَ الْوَلِيُّ﴾
الذي ينصر أولياءه، ويواليهم ﴿الْحَمِيدُ﴾ المحمود على أي حال: في السراء والضراء، والنعماء والبأساء
﴿وَمَا بَثَّ﴾ فرق، ونشر ﴿فِيهِمَا﴾ أي في السموات والأرض ﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض: من إنسان، وحيوان، وطائر، ونحو ذلك. وقد يقال: هذا بالنسبة لما يدب على وجه الأرض؛ فما الذي يدب في السموات؟ والجواب على ذلك: إن كل ما علاك؛ فهو سماء: فالكواكب، والأنجم، والأفلاك: سموات؛ والذي يدب فيها: هو ما يدب على أرض تلك السموات من سكان وأملاك، لا يعلمها سوى بارئها سبحانه وتعالى
﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ﴾ بلية، وشدة؛ في المال، أو في الأهل، أو في الجسم ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ من المعاصي ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ ولولا عفوه تعالى؛ لأحاط بكم البلاء من كل جانب، ولحلت بكم الأرزاء من كل صوب
﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين، أو بغالبين ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدالة على قدرته ﴿الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ﴾ السفن التي تجري في البحر كالجبال
﴿إِن يَشَأْ﴾ تعالى ﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ التي تدفع السفن، أو يمنع خاصية الماء في حملها؛ فيتخلى عما على ظهره ﴿فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ﴾ ثوابت لا تجري ﴿عَلَى ظَهْرِهِ﴾ أو غرقى في قعره وهو أمر مشاهد محسوس؛ فقد تكون سفينة من أضخم البواخر؛ وأقوى المواخر: فيدركها أمر الجبار القهار؛ فتنهار في قعر البحار: بغير سبب ظاهر سوى إرادته، ولا علة غير مشيئته وكيف تقوى على السير؛ وقد تخلى عن حفظها القدير الحكيم؟ وقد تكون سفينة أخرى من أخس المراكب، وأحقر القوارب: تسير في خضم الأمواج، وسط العجاج؛ كالسهم المارق، وكالسيل الدافق؛ وما ذاك إلا بحفظ الحفيظ العليم، الرحمن الرحيم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ﴾ دلالات على قدرته تعالى ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾
كثير الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى البلاء الذي يقدره الله تعالى ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشكر على ما يوليه المولى من فضله وأنعمه
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ﴾ يهلكهن بالإغراق ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ بما عملوا من الذنوب
﴿مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ من مهرب
﴿فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ نعمة في هذه الحياة ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الزائل الفاني ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ﴾ من نعيم الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ من متاع الحياة الدنيا ﴿وَأَبْقَى﴾ لأنه دائم؛ لا انقطاع له أبداً
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ﴾ كبائر الذنوب ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ الذنوب الفاحشة: كالزنا، والقتل. أو هي كل موجبات الحدود ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ أي إذا أغضبهم أحد: عفوا عنه، وتجاوزوا عن ذنبه
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ وصف تعالى المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم؛ ليدل على أن أرقى النظم وأسماها: هي النظم الديمقراطية، وأن الاستبداد، في الحكومات ليس من نظام الدين، ولا من شأن المؤمنين وأن الدول التي تسير بالنظم البرلمانية: هي أولى الحكومات بالتقدير والإكبار؛ ولله در القائل:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
فالحق لا يخفى على إثنينللمرء مرآة تريه وجهه
ويرى قفاه بجمع مرآتين
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ يتصدقون، وينفقون ابتغاء وجهه تعالى
﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾ وقع عليهم الظلم ﴿هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ ينتقمون ممن ظلمهم: غير متجاوزين الحد، ولا مسرفين في الانتقام ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ لما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ وكانت الآية مطلقة: آمرة بالغفران من غير قيد ولا شرط؛ وربما تغالى الآخذ بها؛ فصار ذليلاً، مهاناً، جباناً: ينال منه عدوه؛ فلا يحرك ساكناً؛ فتهون نفسه عليه. وقديماً قال الشاعر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هواناً بها؛ كانت على الناس أهونا
لذا ألحقها تعالى بهذه الآية:
﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ من غير بغي، ولا إسراف ﴿فَمَنْ عَفَا﴾ عمن ظلمه: خشية استفحال الضرر، وكبحاً لجماح الشر، ورجاء أن يعود الباغي عن بغيه، والظالم عن ظلمه ﴿وَأَصْلَحَ﴾ قلبه ومعاملته؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴿فَأَجْرُهُ﴾ فجزاء عفوه وحلمه ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ يكافئه عليه في الدنيا والآخرة
﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي إن من أخذ حقه ممن ظلمه، وعاقب بمثل ما عوقب به: ليس لأحد عليه من سبيل لمعاقبته، أو معاتبته وبعد ذلك غلب الحليم الغفار: العفو، والحلم، والصبر، والمغفرة؛ قال تعالى:
﴿وَلَمَن صَبَرَ﴾ على أذى الغير؛ فلم ينتصر لنفسه، ولم يوسع دائرة الشر، ويذكي نيران العداوة والبغضاء ﴿وَغَفَرَ﴾ تجاوز عن ذنب من أذنب في حقه؛ واستبدل عداوته حباً، وبعده قرباً ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الصبر، والحلم، والغفران ﴿لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ أي من الأمور المستحبة، المؤدية إلى الخير دائماً
﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ﴾ يوم القيامة ﴿لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ﴾ المعد لهم ﴿يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ﴾ رجوع إلى الدنيا ﴿مِّن سَبِيلٍ﴾ يطلبون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾
﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ أي على النار ﴿خَاشِعِينَ﴾ خاضعين ذليلين؛ من شدة الهول والرعب ﴿يَنظُرُونَ﴾ إلى النار ﴿مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ ذليل؛ كما ينظر المحكوم عليه إلى سيف
-[٥٩٧]- الجلاد ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾ حقاً هم ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بوقوعها في الجحيم، والعذاب الأليم خسروا
﴿أَهْلِيهِمْ﴾ وذلك لأن أهلهم إذا كانوا صلحاء: فهم في الجنة، وإذا كانوا غير صلحاء: فهم في النار؛ فلا انتفاع بهم في كلا الحالتين. أو خسروا أهليهم من الحور العين
﴿اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ﴾ أجيبوه لما دعاكم إليه ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾ من إنكار؛ أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه؛ إذ أن سمعكم، وأبصاركم، وأيديكم، وأرجلكم وجلودكم؛ ستشهد عليكم بما كسبتم
﴿فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ تحفظ أعمالهم، وتلزمهم بما لا يريدون ﴿رَحْمَةً﴾ نعمة، وغنى وصحة ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ بلاء، وفقر، ومرض ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي بسبب معاصيهم ﴿فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ﴾ يئوس قنوط: يعدد مصائبه، وينسى أنعم الله تعالى عليه ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما فيهما؛ خلقاً، وملكاً، وعبيداً ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ هو؛ لا ما يشاؤه الناس ﴿يَهَبُ﴾ بفضله ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ أن يهب له ﴿إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ﴾ حسب حاجة الكون والبشرية؛ لا وفق هوى الوالدين؛ وذلك بالقدر الذي يكفل عمار الدنيا، وحفظ النوع الإنساني
﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾ أو يهب لمن يشاء الصنفين: ذكراناً وإناثاً ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾ لا نسل له ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما يجب أن يكون ﴿قَدِيرٌ﴾ على كل شيء يريده
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ أي وما صح لأحد من البشر ﴿أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً﴾ إلهاماً، أو رؤيا في المنام؛ لأنها وحي. قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾... ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن﴾ كتكليم موسى عليه السلام: سماع بدون رؤية. والمقصود بالحجاب: حجب السامع، لا المتكلم. تعالى الله عن أن يحجبه حاجب، أو يستره ساتر ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ﴾ الرسول: هو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رسول الله تعالى إلى أنبيائه (انظر آية ٢٢ من سورة الروم)
-[٥٩٨]- ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ﴾ عظيم، متعالٍ عن صفات المخلوقين ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه: لا يعمل إلا ما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحاجة
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً﴾ هو القرآن الكريم؛ إذ فيه حياة القلوب من موت الجهل؛ بل هو روح الأرواح أو المراد بالروح: جبريل عليه الصلاة والسلام ﴿مِّنْ أَمْرِنَا﴾ أي بأمرنا الذي نوحيه إليك؛ و ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي﴾ من قبل أن نوحي إليك ﴿مَا﴾ هو ﴿الْكِتَابُ وَلاَ﴾ ما هو ﴿الإِيمَانُ﴾ والمقصود بالإيمان الذي لم يكن يدريه محمدبن عبد الله؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه - وقد اختاره الله تعالى لهداية العالمين؛ وهو في أصلاب آبائه وأجداده - إنما أريد به شرائع الإيمان، وأحكامه، ومعالمه. وقد تعاضدت الأخبار والآثار على تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن النقائص منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد منذ درجوا، وإحاطتهم بأنواع المنن واللطائف، وإشراق أنوار المعارف وليس محمد بأقل شأناً من يحيى - وقد أوتي الحكم صبياً - ومن عيسى - وقد أوتي الكتاب وجعل نبياً في مهده - ولا من إبراهيم - وقد أوتي رشده من قبل - صلوات الله تعالى وسلامه على سائر أنبيائه ورسله أو المعنى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ﴾ لولا الرسالة ﴿وَلاَ الإِيمَانُ﴾ لولا الهداية ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ﴾ أي القرآن ﴿نُوراً﴾ ينير القلوب والنفوس، ويجلو الأبصار والبصائر، ويشرح الصدور؛ فهو نور النور ﴿نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ الذين انقادوا لأمرنا، واستمعوا لكلامنا:
رب إن الهدى هداك وآيا
تك نور تهدي بها من تشاء
﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي﴾ بما به هديت، وترشد إلى ما به رشدت ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾ طريق ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾ واضح، بين الاستقامة
﴿صِرَاطِ اللَّهِ﴾ دينه القويم
﴿أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ ترجع: فيقضي فيها بما يشاء، ويحكم فيها بما يريد
﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾.
598
سورة الزخرف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
598