تفسير سورة القيامة

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

(لا أقسم بيوم القيامة) أي أقسم به. والقسم به: تعظيم لشأنه، وتأكيد لمجيئه
(ولا أقسم بالنفس اللوامة) أي وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على عصيانه، وعلى تقصيره في جنب الله تعالى، وتستغفره بعد ذلك، وتتوب إليه، وتنيب له
(أيحسب الإنسان) أيظن الكافر (ألن نجمع عظامه) بعد تفتتها وتفرقها
(بلى قادرين) على جمعها، و (على أن نسوي بنانه) أي نعيد أصابعه كما كانت في الدنيا. والبنان: أطراف الأصابع أو هي الأصابع نفسها. وقد ذكرها الله تعالى، لما فيها من دقة الصنع، وغرابة الوضع. وذلك لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في باطن أطراف أصابع إنسان: لا تماثلها خطوط أخرى في أصابع إنسان آخر على وجه الأرض، وهي دقة لا يتصورها العقل، ولا يحيط بكنهها اللب، ولذلك يعتمدون على طابع الأصابع في تحقيق الشخصية في سائر أنحاء العالم
(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) أي ليداوم على فجوره فيما بقى أمامه من الزمن؛ لأن الفجر: الانبعاث في المعاصي. أو المعنى (ليفجر أمامه) من التفجير، أي ليبحث وينقب فيما أمامه من المغيبات التي لم يحط علمه بها، ولا ضرورة تلجئه إلى بحثها، ويؤيده ما بعده
(يسأل أيان يوم القيامة) أي يسأل منكرا متعنتا: متى يوم القيامة
(فإذا برق البصر) تحير فزعا ورعبا، وذلك يكون يوم القيامة
(وخسف القمر) ذهب ضوؤه
(وجمع الشمس والقمر) أي طلعا في مكان واحد - وشأنهما ألا يجتمعا - أو جمع بينهما في الخسف وذهاب الضوء
(يقول الإنسان) الكافر (يومئذ أين المفر) من هذا العذاب
(كلا) ردع عن طلب الفرار. أي لا فرار من عذاب الله تعالى، ولا ملجأ منه إلا إليه (لا وزر) لا ملجأ، ولا منجا، ولا حصن
(إلى ربك يومئذ المستقر)
مستقر سائر الخلائق؛ فيحاسبون ويجازون
﴿يُنَبَّأُ الإِنسَانُ﴾ أي يجازى ﴿يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ﴾ في الدنيا من عمل: خير أو شر ما ﴿آخَرَ﴾ من هذه الأعمال بعد موته. ذلك لأنه يستن بمن مات - في الحسنات والسيئات - فيثاب بأجر من عمل بحسناته، ويجازى بعقوبة من تبعه في سيئاته. قال: «من سن سنة حسنة: فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة: فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة» فذلك معنى قوله تعالى: «وأخر» أو «بما قدم» من المعصية «وأخر» من الطاعة. أو يحاسب «بما قدم» من خير أو شر «وما أخر» منهما؛ فيعاقب على ما قدم من شر، وأخر من خير، ويثاب على ما قدم من خير، وأخر من شر
﴿بَلِ الإِنسَانُ﴾ أي أعضاؤه وجوارحه التي تتكون منها نفسه ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ على ذاته ﴿بَصِيرَةٌ﴾ مبصرة لما يعمل ويرتكب في الدنيا؛ فتكون شاهدة عليه يوم القيامة. أو «بصيرة» بمعنى حجة. أي هو بنفسه على نفسه حجة. وقد جاء في القرآن الكريم الحجة بمعنى البصيرة؛ في غير موضع: قال تعالى: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾
﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ أي ولو بسط يوم القيامة أعذاره، وحاول التخلص من ذنوبه، والتبرؤ منها
﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ﴾ أي بالقرآن ﴿لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ أي لتعجل بقراءته. وقد كان الرسول يأخذ في قراءة القرآن قبل فراغ جبريل منه؛ خشية أن يغيب عن ذهنه منه شيء
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ في صدرك ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ وإثبات قراءته على لسانك
﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أي قرأه عليك جبريل بأمرنا
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ أي بيان ما أشكل عليك فهمه
﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ الدنيا؛ لمتاعها الزائل؛ وزخرفها الباطل
﴿وَتَذَرُونَ﴾ تتركون وراء ظهوركم ﴿الآخِرَةَ﴾ فلا تعملون لها
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ هي وجوه المؤمنين؛ تكون يومئذٍ حسنة مضيئة؛ لأنهم كرهوا الدنيا وباعوها، وأنفقوا ما اتفق الأكثرون على حفظه والحرص عليه، وأحبوا الآخرة، وعملوا لها
﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ بلا كيفية، ولا جهة. وقال جار الله الزمخشري: ﴿نَاظِرَةٌ﴾ أي منتظرة ثواب ربها. وهو قول وجيه من حيث تنزيهه تعالى عن رؤية المخلوقين ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ كالحة، شديدة العبوس ﴿فَاقِرَةٌ﴾ داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر
﴿كَلاَّ﴾ ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ أي إذا بلغت الروح التراقي؛ وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر؛ وهو كقوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾
﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ أي تقول الملائكة: أيكم يرقى بروحه؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ أو قال أهله: من يرقيه ليشفيه؟
-[٧٢٣]- أو هل من طبيب ينجيه؟
﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ أي أيقن المحتضر أن هذا هو فراق الدنيا
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ هو مثل لبلوغ الشدة أقصاها، والكربة مداها أي والتقى آخر يوم من الدنيا - وفيه ما فيه من آلام المرض، وسكرات الموت - بأول يوم من الآخرة - وفيه ما فيه من عذاب القبر وأهواله - وهذا مثل للكافر فحسب؛ بدليل قوله تعالى:
﴿فَلاَ صَدَّقَ﴾ بالقرآن ﴿وَلاَ صَلَّى﴾ للرحمن
﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ رغم كفره وتكذيبه ﴿يَتَمَطَّى﴾ يتبختر كبراً وعجباً
﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ أي ويل لك، فويل لك أو هو خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بمعنى: أنت أولى بالتيه والتبختر - إذا جاز ذلك - حيث إنك رأس النبيين، وإمام المتقين
﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ أي لا يبعث، ولا يحاسب
﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾ أي ألم نخلقه ابتداء: من مني خلقناه في صلب أبيه وترائب أمه
﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً﴾ هي واحدة الحيوانات المنوية؛ التي يتخلق منها الإنسان، بصنع الرحمن ﴿فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ أي فخلقه الله تعالى فسواه (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات)
﴿فَجَعَلَ مِنْهُ﴾ أي من الإنسان، أو من العلق، أو من المني ﴿الزَّوْجَيْنِ﴾ الصنفين
﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ أي أليس الفعال لهذه الأشياء، الخالق لها؛ بقادر على إعادتها بعد فنائها، وإحيائها بعد موتها؟
723
سورة الإنسان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

723
Icon