تفسير سورة القيامة

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٤٠.

تفسير سورة القيامة
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
قوله عز وجل: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ/ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير «١» :«لأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ وَلأُقْسِمُ» فقيل: على قراءة الجمهور «لا» زائدة، وقال الفَرَّاءُ: «لا» نفيٌ لكلام الكفار، وزجر لهم، ورَدٌّ عليهم، وجمهور المتأوِّلين على أَنَّ اللَّه تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، أقسم سبحانه بيوم القيامة تنبيهاً منه على عِظَمِهِ وهوله قال الحسن: النفس اللَّوَّامَةُ: هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك «٢»، فهي على هذا ممدوحة ولذلك أقسم اللَّه بها، وقال ابن عباس وقتادة: اللوامة:
هي الفاجرة، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا «٣» وأعراضها، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها، والنفس في الآية اسم جنس.
قال ع «٤» : وكل نفس متوسطة ليست بالمُطْمَئِنَّةِ ولا بالأَمَّارَةِ بالسوء فإنَّها لوَّامة في الطرفين، مرةً تلوم على ترك الطاعة، ومرةً تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنَّتْ خلصت وصفت، قال الثعلبيُّ: وجواب القسم محذوف تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، دَلَّ عليه قوله:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أي: للإحياء والبعث، والإنسان هنا الكافر المكذّب
(١) ينظر: «السبعة» (٦٦١)، و «الحجة» (٦/ ٣٤٣)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤١٤)، و «حجة القراءات» (٧٣٥)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٠٥)، و «العنوان» (٢٠٠)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٣).
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٤٢١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٢). [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٠٢).
519
بالبعث، انتهى، والبنان: الأصابع، ونُسَوِّيَ بَنانَهُ معناه: نتقنها سَوِيَّةً قاله القتبي، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى: بل نحن قادرون أنْ نسوي بنانه، أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كَخُفِّ البعير أو كحافر الحمار، لا يمكنه أنْ يعمل بها شيئاً، ففي هذا تَوَعُّدٌ ما، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام «١».
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ معناه: أنَّ الإنسان إنَّما يريد شهواتِهِ ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً راكباً رأسه، ومطيعاً أمله، ومُسَوِّفاً توبته قال البخاريُّ: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول: سوف أتوب، سوف أعمل «٢»، انتهى.
قال الفخر «٣» : قوله: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان:
الأَوَّل: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه فَعَنِ ابن جُبَيْرٍ:
يقدم الذنب، ويُؤَخِّرُ التوبة «٤»، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله.
القول الثاني: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي: يُكَذِّبُ بما أمامه من البعث والحساب لأَنَّ من كذب حَقًّا كان مفاجراً، والدليل على هذا القول قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي:
متى يكون ذلك تكذيباً له، انتهى.
وسؤال الكفار أَيَّانَ هو على معنى التكذيب والهزء، وأَيَّانَ بمعنى: متى، وقرأ نافع وعاصم بخلافٍ: «بَرَقَ الْبَصَرُ» - بفتح الراء «٥» - بمعنى: لَمَعَ وصار له بريق، وحار عند الموت، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شَخَصَ، والمعنى متقارب، قال
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٣٢٨)، رقم: (٣٥٥٤٠- ٣٥٥٤١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٢)، وابن كثير (٤/ ٤٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٤)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «فتح الباري» (٨/ ٥٤٧)، كتاب «التفسير».
(٣) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ١٩٢).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣٠)، رقم: (٣٥٥٥٥)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢١)، وابن عطية (٥/ ٤٠٢)، وابن كثير (٤/ ٤٤٨).
(٥) وعاصم قرأها هكذا من رواية أبان.
ينظر: «السبعة» (٦٦١)، و «الحجة» (٦/ ٣٤٥)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٠٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤١٤)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٨١)، و «العنوان» (٢٠٠)، و «حجة القراءات» (٧٣٦)، و «شرح شعلة» (٦١٣)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٤).
520
مجاهد: هذا عند الموت «١»، وقال الحسن: هذا في يوم القيامة «٢»، قال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين: الخسوف والكسوف بمعنى واحد «٣»، وقال ابن أبي أُوَيْسٍ: الكسوف: ذهابُ بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وروى عروة وسفيان أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ تَقُولُوا كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ قُولُوا: خَسَفَتْ» «٤» وقرأ ابن مسعود: «وَجُمِعَ «٥» بَيْنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ» واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء: يجمعان فيقذفان في النار «٦»، وقيل:
في البحر فيصيرا نارَ اللَّه العُظْمَى، وقيل: يُجْمَعُ الضَّوْءانِ فيذهب بهما قال الثعلبيُّ: وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب «٧»، انتهى.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي: أين الفرار كَلَّا لاَ وَزَرَ أي: لا ملجأ، والْمُسْتَقَرُّ
موضع الاستقرار.
وقوله تعالى: يُنَبَّؤُا/ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[أي] : يعلم بكل ما فعل، ويجده مُحَصَّلاً، وقال ابن عباس وابن مسعود: بما قَدَّم في حياته، وما أخّر من سنة بعد مماته «٨».
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٤ الى ١٩]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣١)، رقم: (٣٥٥٦٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٥)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٣).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٣).
(٤) أخرجه مسلم (٢/ ٦٢٥)، كتاب «الكسوف» باب: ما عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (١٣/ ٩٠٥).
(٥) هكذا في القرطبي (١٩/ ٦٣). وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٠٣) أنها قراءة ابن أبي عبلة.
(٦) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣٢)، رقم: (٣٥٥٦٩)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٢)، وابن عطية (٥/ ٤٠٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٥)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٧) ذكره القرطبي (١٩/ ٦٣)، وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٨/ ٣٧٧).
(٨) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣٥)، رقم: (٣٥٥٩١)، (٣٥٥٩٢)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٢)، وابن عطية (٥/ ٤٠٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٦)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود، وعزاه أيضا لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. [.....]
521
وقوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
قال ابن عباس وغيره: أي: للإنسان على نفسه من نفسه بصيرةُ رقباءَ يشهدون عليه، وهم جوارحه وَحَفَظَتُه «١»، ويحتمل أنْ يكون المعنى: بل الإنسان على نفسه شاهد ودليله قوله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: ١٤] قال الثعلبيّ: قال أبان بن ثعلب: البصيرةُ والبَيِّنَةُ والشاهد بمعنى واحد انتهى، ونحوه للهرويِّ قال ع «٢» : والمعنى على هذا التأويل الثاني: أَنَّ في الإنسان وفي عقله وفطرته حُجَّةً وشاهداً مُبْصِراً على نفسه.
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي: ولو اعتذر عن قبيح أفعاله، فهو يعلمها، قال الجمهور:
والمعاذير هنا جمع مَعْذِرَةٌ، وقال الضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ: هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر: المعذار «٣».
وقوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
الآية، قال كثير من المفسرين، وهو في «صحيح البخاريِّ» عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ مُخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ مَا يُوحَى إلَيْهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى أنّه يجمعه له في صدره «٤».
وقوله: وَقُرْآنَهُ
يحتمل أنْ يريد وقراءته، أي: تقرأه أنت يا محمد.
وقوله: فَإِذا قَرَأْناهُ
أي: قرأه الملك الرسول عنّا فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
، قال البخاريُّ:
قال ابن عباس: فَاتَّبِعْ
، أي: اعمل به، وقال البخاريُّ أيضاً/ قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
أي: تأليف بعضه إلى بعض فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي: ما جمع فيه، فاعمل بما أمرك، وانته عَمَّا نهاك عنه انتهى.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال قتادة وجماعة: معناه: أنْ نُبَيِّنَهُ لك «٥»، وقال البخاريُّ: أنْ نبينه على لسانك.
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣٦)، رقم: (٣٥٦٠١)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٣)، وابن كثير (٤/ ٤٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٠٤).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣٨)، رقم: (٣٥٦١٢) عن السدي، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٣)، وابن عطية (٥/ ٤٠٤)، والسيوطي (٦/ ٤٦٧)، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك بنحوه.
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ٥٤٧- ٥٤٨)، كتاب «التفسير» باب: سورة القيامة (٤٩٢٧)، (٨/ ٥٤٩)، باب:
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (٤٩٢٨).
(٥) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٥)، وابن كثير (٤/ ٤٤٩) بنحوه.
522

[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]

كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي: الدنيا وشهواتِها قال الغزاليُّ في «الإحياء» : اعلم أَنَّ رأس الخطايا المهلكة هو حُبُّ الدنيا، ورأسَ أسبابِ النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور، وقال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّهُ لا وصولَ إلى سعادة لقاء اللَّه سبحانه في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأُنْسِ به في الدنيا، ولا تحصلُ المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفةُ إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأُنْسُ إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلاَّ بانقلاع حُبِّ الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلاَّ بترك لَذَّاتِ الدنيا وشهواتها، ولا يمكن تركُ المشتهيات إلاَّ بقمع الشهوات، ولا تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيء كما تنقمعُ بنار الخوف المُحْرِقَة لِلشهوات، انتهى.
وقرأ ابن كثير «١» وغيره: «يُحِبُّونَ» و «يَذَرُونَ» بالياء على ذكر الغائب، ولما ذكر سبحانه الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: ناعمة، والنُّضْرَةُ: النعمة وجمال البشرة قال الحسن: وحُقَّ لها أن تُنَضَّر وهي تنظر إلى خالقها «٢».
وقوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ حمل جميع أهل السُّنَّةِ هذه الآية على أَنَّها متضمنة رؤية المؤمنين لله عز وجل بلا تكييف ولا تحديد/ كما هو معلوم موجود، لا يشبه الموجودات، كذلك هو سبحانه مَرْئِيٌّ لا يشبه المَرْئِيَّاتِ في شيء فإِنَّه ليس كمثله شيء لا إله إلاَّ هو، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة، وما في ذلك من صحيح الأحاديث، والباسرة: العابسة المغمومة النفوس، والبسور: أشد العُبُوسِ، وإنَّما ذكر تعالى الوجوه لأَنَّهُ فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غَمٍّ، والمراد أصحاب الوجوه، والفاقرة: المصيبة التي تكسر فَقَارِ الظهر وقال أبو عبيدة: هي من فَقَرْتُ [البعير] إذا وسمت أنفه بالنار «٣».
(١) وقرأ بها أبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب.
ينظر: «إعراب القراءات» (٢/ ٤١٦)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٠٦)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٨١)، و «العنوان» (٢٠٠)، و «حجة القراءات» (٧٣٦)، و «شرح شعلة» (٦١٤)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٤).
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٤٣) رقم (٣٥٦٥٤)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٤)، وابن عطية (٥/ ٤٠٥)، وابن كثير (٤/ ٤٥٠).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٥).

[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]

كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
وقوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ... زجر وتذكير أيضاً بموطن من مواطن الهول، وهي حالة الموت الذي لا محيد عنه، وبَلَغَتِ يريد: النفس والتَّراقِيَ جمع تَرْقُوَةٍ، وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد تَرْقُوَتَانِ، لكن جُمِعَ من حيثُ أَنَّ النفس المرادةَ اسمُ جنس، والتراقي هي موارية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحَشْرَجَةِ ونزع الموت- يَسَّرَهُ اللَّه علينا بِمَنِّهِ، وجعله لنا راحةً من كل شَرٍّ- واخْتُلِفَ في معنى قوله تعالى: وَقِيلَ مَنْ راقٍ
فقال ابن عباس وجماعة: معناه: مَنْ يُرْقِي، ويَطُبُّ، ويَشْفِي «١»، ونحو هذا مِمَّا يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضاً، وسليمانُ التَّيْمِيُّ، ومقاتل: هذا القول للملائكة، والمعنى: مَنْ يرقى بروحه، أي: يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب «٢».
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي: أيقن، وهذا يقين فيما لم يَقَعْ بعد ولذلك اسْتُعْمِلَتْ فيه لَفْظَةُ الظن.
وقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قال ابن المُسَيِّبِ، والحسن: هي حقيقة، والمراد: ساقا المَيِّتِ عند تكفينه، أي: لَفَّهُمَا الكَفَنُ «٣»، وقيل: هو التفافهما من شدة المرض، وقيل غير هذا.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣)
وقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى الآية: قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها إنَّما نزلت في أبي جهل قال- عليه السلام «٤» : ثم كادت هذه الآية أَنْ تُصَرِّحَ به في قوله:
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٧٧)، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس بنحوه.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٤٦)، رقم: (٣٥٦٨٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٦)، وابن كثير (٤/ ٤٥١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٧٧)، وعزاه لابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٤٨)، رقم: (٣٥٧٠٦- ٣٥٧٠٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٥)، وابن عطية (٥/ ٤٠٦)، وابن كثير (٤/ ٤٥١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٧٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٠٦).
يَتَمَطَّى فإنَّها كانت مشيته، وقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى تقديره: فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ ف «لا» في الآية: نفي لا عاطفة.
- ص-: فَلا صَدَّقَ فيه دليل على أَنَّ «لا» تدخل على الماضي فتنفيه كقول الراجز: [من الرجز]
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِر جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا «١»
انتهى.
وصَدَّقَ معناه: برسالة اللَّه ودينه، وذهب قوم إلى أنّه من الصدقة، والأول أصوب ويَتَمَطَّى معناه: يمشي المَطيطاء، وهي مشية بتبختر، وهي مؤخوذة من المَطا وهو الظهر لأَنَّهُ يتثنى فيها، زاد- ص-: وقيل: أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيه ومدّ منكبيه، انتهى.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
وقوله: أَوْلى لَكَ: وعيد.
فَأَوْلى وعيد ثانٍ، وكرَّر ذلك تأكيداً، ومعنى أَوْلى لَكَ الازدجار والانتهار، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجراً ومنه فأولى لهم طاعة، ويروى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَبَّبَ أَبَا جَهْلٍ يَوْماً في البَطْحَاءِ وَقَالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» فنزل القرآن على نحوها «٢» وفي شعر الخنساء: [المتقارب]
(١) لأبي خراش في «الأزهية» ص: (١٥٨)، و «خزانة الأدب» (٧/ ١٩٠)، و «شرح أشعار الهذليين» (٣/ ١٣٤٦)، و «شرح شواهد المغني» ص: (٦٢٥)، و «لسان العرب» (١٢/ ١٠٤) (جمم)، و «المقاصد النحويّة» (٤/ ٢١٦)، ولأمية بن أبي الصلت في «الأغاني» (٤/ ١٣١، ١٣٥)، و «خزانة الأدب» (٤/ ٤)، و «لسان العرب» (١٢/ ٥٥٣) (لمم)، ولأمية أو لأبي خراش في «خزانة الأدب» (٢/ ٢٩٥)، و «لسان العرب» (١٢/ ٥٤٩) (لمم)، وبلا نسبة في «الإنصاف» ص: (٧٦)، و «جمهرة اللغة» ص: (٩٢)، و «الجنى الداني» ص: (٢٩٨)، و «لسان العرب» (١٥/ ٤٦٧) (لا) و «مغني اللبيب» (١/ ٢٤٤).
(٢) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦/ ٥٠٤)، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (١١٦٣٨/ ٢)، والحاكم (٢/ ٥١٠)، وابن جرير في «تفسيره» (١٢/ ٣٥١) (٣٥٧٣٤) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٧٩)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. [.....]
525
هَمَمْتُ بِنَفْسِيَ كُلَّ الْهُمُومِ فأولى لِنَفْسِيَ أولى لها «١»
وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ: توبيخ وسُدىً: معناه: مُهْمَلاً لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهَى، ثم قَرَّر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تأمّلت لَم/ يُنْكِرْ معها جوازَ البعث من القبور عاقلٌ، والعَلَقَةُ القطعة من الدم.
فَخَلَقَ فَسَوَّى أي: فخلق اللَّه منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا، والزَّوْجَيْنِ: النوعين، ثم وقف تعالى توقيفَ توبيخ بقوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى روي: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بَلَى، ورُوِيَ أَنَّه كَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، بلى» «٢» انظر «سنن أبي داود».
(١) ينظر: البيت في «الديوان» (٨٢)، و «الدر المصون» (٦/ ٤٣٣).
(٢) تقدم تخريجه في أول التفسير.
526
Icon