تفسير سورة القيامة

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة القيامة
( ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لتجعل به ولما قال سبحانه وتعالى في آخر المدثر كلا بل لا يخافون الآخرة بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لأنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم.

سورة القيمة
ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: ١٦] ولما قال سبحانه وتعالى في آخر ال مدثر كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [المدثر: ٥٣] بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقول غوية بن سلمى يرثي:
ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي
وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال الكلام كقوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء: ٦٥] فهي صلة تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: ٢٩] لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في وسط
150
الكلام ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية، والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم به أولا ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا يستحق جوابا، وأن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به مدفوع، ووراء ذلك أقوال فقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر. وقال الفراء: لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وقدح الإمام فيه بإعادة حرف النفي بعد وقيل إنها ليس لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألف والأصل «لأقسم» كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام الابتداء عند بعض والأصل «لأنا أقسم» وحذف المبتدأ للعلم به ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [النحل: ١٢٤] والأصل إني لأقسم عند بعض، ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإنما هو أغلبي على ما حكي عن سيبويه مع الاعتماد على المعنى عند آخرين. وقال الجمهور: إنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من الاختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين أول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض لأن كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النوفي من اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في ذلك فتذكر والكلام في قوله تعالى وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ على ذلك النمط بيد أنه قبل على قراءة لأقسم فيما قبل أن المراد هنا النفي على معنى «أني لأقسم بيوم القيامة» لشرفه وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لخستها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في البحر عن الحسن وقال قتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول. وقال مجاهد: هي التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد «بالنفس اللوامة» جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما
روي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس برة ولا فاجرة إلّا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد منه، وإن عملت شرا قالت ليتني قصرت»
. وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها وبعثها فيه، وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للإعظام بالإقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذ بقطع النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من عظيم أمر الله عز وجل، وفيه أنه لا يظهر لذكر الوصف حينئذ فائدة والإمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه، وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وتمني إن لم يكن ما وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الأمارة وتحت المطمئنة، وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، وقالوا هي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة.
وعرفوا اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم
151
جبلّتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها. وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة ومنهم من قال في اللَّوَّامَةِ هي المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي فوق المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو ليبعثن وقيل هو أَيَحْسَبُ إلخ وقيل بَلى قادِرِينَ وكلاهما ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الاحتياج إلى جواب لأن المراد نفي الأقسام والمراد بالإنسان الجنس والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه و (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه، وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الإمارة المنافي لحق اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحسب ذلك بل لعله الأكثرون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالإنسان عدي ابن أبي ربيعة وختن الأخنس بن شريق وهما اللذان
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول فيهما: «اللهم اكفني جاريّ السوء»
فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره؟
فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أو يجمع الله تعالى هذه العظام فنزلت
. وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول: أيزعم محمد أن يجمع الله تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت وليس كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعنيه وذكر العظام وأن المعنى على إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب الخلق. وقرأ قتادة «تجمع بالتاء الفوقية مبينا للمفعول «عظامه» بالرفع على النيابة بَلى أي نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا قادِرِينَ فقادرين حال من فاعل الفعل المقدر بعد بَلى وهو قول سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أي بلى كنا قادرين في البدء أفلا نقدر في الإعادة وهو كما ترى. وقيل انتصب لأنه وقع في موضع نقدر إذ التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه مكي وقال إنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت برجل قائم لأنه في موضع يقوم فتأمل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع «قادرون» أي نحن قادرون عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ هي اسم جنس جمعي واحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبين بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين والرجلين وفي القاموس البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه، أو على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت بكيف بكبار العظام وما ليس في الأطراف منها؟ وفي الحال المذكورة أعني قادِرِينَ عَلى إلخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من الأفعال التي لا بد فيه من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا تفاوت بين الإعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي كان بها قوام البدن أو كماله، والثاني يدل على تحقيق الجمع التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف الأبعد عادة عن الإعادة فعلى جمع غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام. ويعلم منهما نكتة تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينها فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل
152
بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على إعادته على وجه يتضمن تبديل بعض الأجزاء فعلى الاحتذاء بالمثال الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا المعنى عن الجمهور لكن قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال: إن في الكلام عليه توعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل. ولا يخفى أن في الإتيان بلا أولا وحذف جواب القسم والإتيان بقوله سبحانه أَيَحْسَبُ ورعاية أسلوب:
وثناياك إنها إغريض في القسم بيوم البعث والمبعوث فيه ثم إيثار لفظ الحسبان والإتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتهجين المعرض عن الاستعداد له ما تبهر عجائبه ثم الحسن كل الحسن في ضمن حرف الإضراب في قوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ وهو عطف على أَيَحْسَبُ جي للإضراب عن إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه فإنه أشط من ذلك وأنّى يرتدع وهو يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه، أو هو عطف على يَحْسَبُ منسجما عليه الاستفهام أو على أَيَحْسَبُ مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة إنكار في إرادته هذه وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان بمجرده إرادة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتملكوا فيه لم تقل هذه إلّا وأنت مترق في الإنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك وعدم العبء بمكان الأمير، وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على ما قرر في الكشف والوجه الأول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول إضراب عن الإنكار وإيهام أن الأمر أطم من ذلك وأطم، وفيهما إيماء إلى أن ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغاب واعتبر الدوام في لِيَفْجُرَ لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أن حسبانه وإرادته هما عين الفجور، وقيل لأن أَمامَهُ ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الاستمرار وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه وأن الإنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أَمامَهُ على هذا المظهر هو الأظهر. وعن ابن عباس ما يقتضي عوده على يوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي في الآية إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الإضراب، وفيه إشارة إلى أن مفعول يُرِيدُ محذوف دل عليه لِيَفْجُرَ وقال بعضهم وهو منزل منزلة اللام ومصدره مقدر بلام الاستغراق أي يوقع جميع إرادته لِيَفْجُرَ وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما في مثله أن الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة الإنسان كائنة ليفجر يَسْئَلُ سؤال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي متى يكون، والجملة قيل حال وقيل تفسير لِيَفْجُرَ وقيل بدل منه.
واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لإرادة الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به، وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد الفجور وطرف من قوله تعالى هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما
153
تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
[المؤمنون: ٣٦] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ومنه قول ذي الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق
ونظيره قمر الرجل إذا نظر إلى القمر فدهش بصره، وكذلك ذهب وبقر للدهش من النظر إلى الذهب والبقر فهو استعارة أو مجاز مرسل لاستعماله في لازمه أو في المطلق. وقرأ نافع وزيد بن ثابت وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو وخلق آخرون «برق» بفتح الراء فقيل هي لغة في «برق» بالكسر وقيل هو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال «بلق» باللام عوض الراء أي انفتح وانفرج يقال بلق الباب أبلقته وبلقته فتحته هذا قول أهل اللغة إلّا الفراء فإنه يقول بلقه وأبلقه إذا أغلقه وخطأه ثعلب وزعم بعضهم أنه من الأضداد والظاهر أن اللام فيه أصلية وجوز أن تكون بدلا من الراء فهما يتعاقبان في بعض الكلم نحو نتر ونتل ووجر ووجل وَخَسَفَ الْقَمَرُ ذهب ضوءه وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي ويزيد بن قطيب «خسف القمر» على البناء للمفعول وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ حيث يطلعهما الله تعالى من المغرب على ما روي عن ابن مسعود ولا ينافيه الخسوف إذ ليس المراد به مصطلح أهل الهيئة وهو ذهاب نور القمر لتقابل النيرين وحيلولة الأرض بينهما بل ذهاب نوره لتجلّ خاص في ذلك اليوم أو لاجتماعه مع الشمس وهو المحاق، وجوز أن يكون الخسوف بالمعنى الاصطلاحي ويعتبر في وسط الشهر مثلا ويعتبر الجمع في آخره إذ لا دلالة على اتحاد وقتيهما في النظم الجليل، وأنت تعلم أن هذا خسوف يزري بحال أهل الهيئة ولا يكاد يخطر لهم ببال كالجمع المذكور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن يسار قال: يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى وتوسعة البحر أو تصغيرهما مما لا يعجز الله عز وجل وأحوال يوم القيامة على خلاف النمط الطبيعي وحوادثه أمور وراء الطبيعة فلا يقال أين البحر من جرم القمر فضلا عن جرم الشمس الذي هو بالنسبة إليها كالبعوضة بالنسبة إلى الفيل ولا كيف يجمعان ويقذفان، وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس يجمعان ويجعلان في نور الحجب وقيل يجمعان ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر وقيل جمعا في ذهاب الضوء وروي عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج فالجمع مجاز عن التساوي صفة وفيه بعد إذ كان الظاهر عند إرادة ذلك أن يقال من أول الأمر وخسف الشمس والقمر ولا غبار في نسبة الخسوف إليهما لغة وكذا الكسوف ولم يلحق الفعل علامة التأنيث لتقدمه وكون الشمس مؤنثا مجازيا وفي مثله يجوز الأمران وكان اختيار ترك الإلحاق لرعاية حال القمر المعطوف. وقال الكسائي: إن التذكير حمل على المعنى والتقدير جمع النوران أو الضياءان وليس بذاك يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ يوم إذ تقع هذه الأمور أَيْنَ الْمَفَرُّ أي الفرار يأسا منه وجوز إبقاؤه على حقيقة الاستفهام لدهشته وتحيره وقرأ الحسن ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحسن بن زيد وابن عباس ومجاهد وعكرمة وجماعة كثيرة «المفرّ» بفتح الميم وكسر الفاء اسم مكان قياسي من يفر بالكسر أي أين موضع الفرار وجوز أن يكون مصدرا أيضا كالمرجع. وقرأ الحسن البصري بكسر الميم وفتح الفاء ونسبها ابن عطية للزهري أي الجيد الفرار وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ومنه قوله:
154
واختلف في هذا اليوم فالأكثرون على أنه يوم القيامة وهو المنصور، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: فإذا برق البصر عند الموت والاحتضار وخسف القمر وجمع الشمس والقمر أي كور يوم القيامة وجوز أن يكون الأخيران عند الموت أيضا ويفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر منه وجمع الشمس والقمر باستتباع الروح حاسة البصر في الذهاب والتعبير بالشمس عن الروح وبالقمر عن حاسة البصر على نهج الاستعارة فإن نور البصر بسبب الروح كما أن نور القمر بسبب الشمس أو يفسر الخسوف بما سمعت، وجمع الشمس والقمر بوصول الروح الإنسانية إلى من كانت تقتبس منه نور العقل وهم الأرواح القدسية المنزهة عن النقائص فالقمر مستعار للروح والشمس لسكان حظيرة القدس والملأ الأعلى لأن الروح تقتبس منهم الأنوار اقتباس القمر من الشمس. ووجه الاتصال بما قبل على جعل الكل عند الموت أنه إذ ذاك ينكشف الأمر للإنسان فيعلم على أتم وجه حقيقة ما أخبر به وأنت تعلم أن هذا على علاته أقرب إلى باب الإشارة على منزع الصوفية وإذا فتح هذا الباب فلا حصر فيما ذكر من الاحتمال عند ذوي الألباب كَلَّا ردع عن طلب المفر وتمنيه لا وَزَرَ لا ملجأ وأصله الجبل المنيع وقد كان مفرا في الغالب لفرار العرب واشتقاقه من الوزر وهو الثقل ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غير ذلك ومنه قوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
لعمرك ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي إليه جل وعلا وحده استقرار العباد أي لا ملجأ ولا منجى لهم غيره عز وجل أو إلى حكمه تعالى استقرار أمرهم لا يحكم فيه غير سبحانه أو إلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أو نار فمن شاء سبحانه أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار. فتقديم الخير لإفادة الاختصاص وإن اختلف وجهه حسب اختلاف المراد بمستقر وكَلَّا لا وَزَرَ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى يقال للقائل أين المفر يوم يقوله أو هو مقول اليوم على معنى ليرتدع عن طلب الفرار وتمنيه ذلك اليوم ويحتمل أن يكون من تمام قول الإنسان كأنه بعد أن يقول أَيْنَ الْمَفَرُّ يعود على نفسه فيستدرك ويقول كَلَّا لا وَزَرَ وأيّا ما كان فالظاهر أن قوله تعالى إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
استئناف كالتعليل للجملة قبله أو تحقيق وكشف لحقيقة الحال والخطاب فيه لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولا يحسن أن يكون من جملة ما يخاطب به القائل ذلك اليوم، ولا مما يقوله لنفسه فيه لمكان يَوْمَئِذٍ
وفي البحر الظاهر أن قوله تعالى كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ من تمام قول الإنسان وقيل هو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الإنسان انتهى وفيه بحث وجوز أن تكون كَلَّا بمعنى ألا الاستفتاحية أو بمعنى حقا فتأمل ولا تغفل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
أي يخبر يَوْمَئِذٍ
وذلك على ما عليه الأكثر عند وزن الأعمال بِما قَدَّمَ
أي بما عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب على الثاني وَأَخَّرَ
أي ترك ولم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني، أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر ما سنه من حسنة أو سيئة يعمل بها بعده، أخرج ذلك ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن ابن مسعود وهو رواية عن ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: بما قدم من ماله لنفسه فتصدق به في حياته وبما أخر منه للوارث وزيد أو وقفه أو أوصى به. وقال مجاهد والنخعي بأول عمله وآخره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس بما قم من المعصية وأخر من الطاعة وأخرج نحوه عن قتادة وعبد بن حميد نحوه أيضا عن عكرمة وعليه فالظاهر أنه عنى بالإنسان الفاجر وفصل هذه الجملة عما قبلها لاستقلال كل منها ومن قوله تعالى يَقُولُ إلخ في الكشف عن شدة الأمر أو عن سوء حال الإنسان بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
155
بَصِيرَةٌ
أي حجة بينة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال السيئة كما يؤذن به كلمة عَلى
والجملة الحالية بعد ف الْإِنْسانُ
مبتدأ وعَلى نَفْسِهِ
متعلق ب بَصِيرَةٌ
بتقدير أعمال أو المعنى عليه من غير تقدير وبَصِيرَةٌ
بصير خيبر وهي مجاز عن الحجة البينة الواضحة أو بمعنى بينة وهي صفة لحجة مقدرة هي الخبر، وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها بصير بها فالإسناد مجازي أو هي بمعنى دالة مجازا وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية والتأنيث للمبالغة أو لتأنيث الموصوف أعني حجة وقيل ذلك لإرادة الجوارح أي جوارحه على نفسه بصيرة أي شاهدة ونسب إلى القتبي، وجوز أن يكون التقدير عين بصيرة وإليه ذهب الفراء وأنشد:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمجلسه أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم من الخوف لا يخفى عليهم سرائره
وعليه قيل الْإِنْسانُ
مبتدأ أول وبَصِيرَةٌ
بتقدير عين بصيرة مبتدأ ثان وعَلى نَفْسِهِ
خبر المبتدأ والثاني والجملة خبر المبتدأ الأول واختار أبو حيان أن تكون بَصِيرَةٌ
فاعلا بالجار والمجرور وهو الخبر عن الإنسان وعمل بالفاعل لاعتماده على ذلك وأمر التأنيث ظاهر وبَلِ
للترقي على الوجهين إرادة حجة بصيرة وإرادة عين بصيرة، والمعنى عليهما يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
بأعماله بل فيه ما يجزي عن الإنباء لأنه عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه بما عملت لأن جوارحه تنطق بذلك يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: ٢٤] وفي كلا الوجهين كما قيل شائبة التجريد وهي في الثاني أظهر وقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من المستكن في بَصِيرَةٌ
أو من مرفوع يُنَبَّؤُا
أي هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو أتى بكل عذر في الذب عنها ففيه تنبيه على أن الذب لا رواج له أو ينبأ بأعماله ويجازى ويعاقب لا محالة ولو أتى بكل عذر فهو تأكيد لما يفهم من مجموع قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
إلخ والمعاذير جمع معذرة بمعنى العذر على خلاف القياس والقياس معاذر بغير ياء وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع كعادته في إطلاق ذلك على الجموع المخالفة للقياس وإلّا فهو ليس من أبنية اسم الجمع. وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال الأصل فيه معاذر فحصلت الياء من إشباع الكسرة وهو كما ترى أو جمع معذار على القياس وهو بمعنى العذر، وتعقب بأنه بهذا المعنى لم يسمع من الثقات نعم قال السدي والضحاك: المعاذير الستور بلغة اليمن واحدها معذار وحكي ذلك عن الزجاج أي ولو أرخى ستوره، والمعنى أن احتجابه في الدنيا واستتاره لا يغني عنه شيئا لأن عليه من نفسه بصيرة وفيه تلويح إلى معنى قوله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ [فصلت: ٢٢] الآية وقيل البصيرة عليه الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر، فالمعنى بل الإنسان عليه كاتبان يكتبان أعماله ولو تستر بالستور ولا يكون في الكلام على هذا شائبة تجريد كما تقدم، والإلقاء على إرادة الستور ظاهر وأما على إرادة الأعذار فقيل شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به فيكون فيه تشبيه ما يراد بذلك بالماء المروي للعطش ويشير إلى هذا قول السدي في ذلك ولو أدلى بحجة وعذر وقيل المعنى ولو رمى بأعذاره وطرحها واستسلم وقيل ولو أحال بعضهم على بعض كما يقول بعضهم لبعض لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:
٣١] ولَوْ
على جميع هذه الأقوال إما أن يكون معنى الشرطية منسلخا عنها كما قيل فلا جواب لها، وإما أن يكون باقيا فيها فالجواب محذوف يدل عليه ما قبل. واستظهر الخفاجي الأول وفي الآية على بعض
156
وجوهها دليل كما قال ابن العربي على قبول إقرار المرء على نفسه وعدم قبول الرجوع عنه والله تعالى أعلم.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل وجماعة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق وفي لفظ استمع فإذا ذهب قرأه كما وعد الله عز وجل
فالخطاب في قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والضمير للقرآن لدلالة سياق الآية نحو إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: ١] أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي من قبل أن يقضي إليك وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ
أي لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك على ما يقتضيه كلام الحبر. وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أداء الرسالة روي عن الشعبي ولا ينافي ما ذكر والباء عليهما للتعدية إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وَقُرْآنَهُ
أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن هنا وكذا فيما بعد مصدر كالرجحان بمعنى القراءة كما في قوله:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
مضاف إلى المفعول وثم مضاف مقدر وقيل قُرْآنَهُ
أي تأليفه والمعنى إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أي حفظه في حياتك وتأليفه على لسانك. وقيل: قُرْآنَهُ
تأليفه وجمعه على أنه مصدر قرأت أي جمعت ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد ما قرأت سلى قط وقول عمرو بن كلثوم:
ذراعي بكرة أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
ويراد من جَمْعَهُ
الأول جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ومن قُرْآنَهُ
بهذا المعنى جمعه في ذهنه صلّى الله عليه وسلم وكلا القولين لا يخفى حالهما وإن نسب الأول إلى مجاهد فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنا فالإسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نون العظمة مبالغة في إيجاب التأتي فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
فكن مقفيا له لا مباريا، وقيل: أي فإذا قرأناه فاتبع بذهنك وفكرك قرآنه أي فاستمع وأنصت وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس وعنه أيضا وعن قتادة والضحاك أي فاتبع في الأوامر والنواهي قرآنه وقيل اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه على ما قيل واستدل به القاضي أبو الطيب ومن تابعه على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لمكان ثُمَّ وتعقب بأنه يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل وقد صح من رواية الشيخين وجماعة عن الحبر أنه قال في ذلك ثم إن علينا أن نبينه بلسانك وفي لفظ علينا أن تقرأه، ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع القرآن والمجمل بعضه كَلَّا إرشاد لرسوله صلّى الله عليه وسلم وأخذ به عن عادة العجلة وترغيب له عليه الصلاة والسلام في الأناة وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه قوله تعالى بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة، وفيه أيضا أن الإنسان وإن كان مجبولا على ذلك إلّا أن مثله عليه الصلاة والسلام ممن هو في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا نهي صلّى الله عليه وسلم عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ديدنهم حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منزلة من لا ينجع فيهم النهي فإنما
157
يعاتب الآدمي ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فإنه ملوح إلى معنى بَلْ تُحِبُّونَ إلخ وقوله عز وجل لا تُحَرِّكْ
إلخ متوسط بين حبي العاجلة: حبها الذي تضمنه بل يريد تلويحا وحبها الذي آذن به بل تحبون تصريحا لحسن التخلص منه إلى المفاجأة والتصريح. ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج وإن كان يحصل لو لم يؤت بقوله سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ في البين أيضا إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد يؤدي مؤدى الاعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الاعتراض. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري «يحبون» و «يذرون» بياء الغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم وهي أبلغ من حيث إن فيها التفاتا وإخراجا له عليه الصلاة والسلام من صريح الخطاب بحب العاجلة مضمنا طرفا من التوبيخ على سبيل الرمز لطفا منه تعالى شأنه في شأنه صلّى الله عليه وسلم. وأما القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والالتفات وهو عكس الأول هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد.
وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرذمة من قدماء الرافضة أنه لا وجه لوقوع لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه، وجعلوا ذلك دليلا لما زعموه من أن القرآن قد غيّر وبدّل وزيد فيه ونقص منه وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع كلام كثير منه ما تقدم وللإمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما ليس كذلك بالمرة وقال الطيبي إن قوله تعالى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ متصل بقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة، وكان من عادة الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة وقد أنفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أوحى إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة والسلام ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الاستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ إلخ مثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درسا أو يلقي إليه فصلا ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطرب يقول له لا تعجل ولا تضطرب فإني إذ فرغت إن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتا فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى. فما في البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحى به، وخصه بعضهم لهذا بالاستطراد وأطلق آخر عليه الاعتراض بالمعنى اللغوي وهذا عندي بعيد لم يتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة. وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها:
وبضدها تتبين الأشياء انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن لا تُحَرِّكْ
إلخ وقع في البين وقال القفال قوله تعالى لا تُحَرِّكْ
إلخ خطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
وذلك
158
حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: ١٤] فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان أمره وشرح عقوبته، والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى. فضمير بِهِ
وكذا الضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
وكذا قوله تعلى بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
على قول من فسّر البصيرة بالكتابين، ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مفروع يُنَبَّأْ بتقدير القول كأنه قيل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ
عند أخذ كتابه بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
مقولا له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له صلّى الله عليه وسلم. والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة والسلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية. وقال الإمام: لعل ذلك الاستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة والسلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالإذن الإذن الصريح المخصوص وفيه بعد ما
وعن الضحاك أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ
إلخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم إنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو أنه يكون الخطاب في لا تُحَرِّكْ
إلخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير بِهِ
ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامه ما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما وقد استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتم وجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
ما يكون فيه من الجمع وَقُرْآنَهُ
ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن.
فَإِذا قَرَأْناهُ
ما يتعلق به فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى وحاصله لا تسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا
159
معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فإذا سألت فقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى. وفيه ما فيه وما كنت أذكره لولا هذا التنبيه واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز وجل. ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وُجُوهٌ مبتدأ وناضِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ منصوب ب ناضِرَةٌ وناظِرَةٌ في قوله تعالى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ خبر ثان للمبتدأ أو نعت ل ناضِرَةٌ وإِلى رَبِّها متعلق ب ناظِرَةٌ وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل كما في قوله:
فيوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسرّ
لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضِرَةٌ صفة لها والخبر ناظِرَةٌ كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال فيه أبو حيان هو قول سائغ. ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز وجل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام في جميع تجلياته. واعترض بأن تقديم المعمول يعني إِلى رَبِّها يفيد الاختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى. وحيث كان الاختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للاختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والاهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لالتفات إلى ما سواه جل جلاله
فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم».
وفي حديث جابر وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم».
ومن هنا قيل:
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
وكثيرا ما يحصل نحو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع الكون:
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
وقيل الكلام على حذف مضاف أي إلى ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الانتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن
160
الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى بل بنفسه وبأنه لا يسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر، والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأني إرادة الذات من الوجه وتفصّى الشريف المرتضى في الدرر عن بعض هذا بأن إِلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به ل ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فيكون الانتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الانتظار ليتعقب عليه بما تعقب، بل أراد أن النظر بالمعنى المتعارف كناية عن التوقع والرجاء، فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلّا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلّا إياه سبحانه وتعالى. ويرد عليه أنه يرجع إلى إدارة الانتظار لكن كناية والانتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الانتظار موت أحمر والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»
فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام: ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما
أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقرأه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقال: «والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل»
وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز وجل وأنشدوا:
وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلّا إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب الكلام وكذا أدلة القدوم على الصحة وكأني بك بعد الإحاطة وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعشعاني الذي لا يطاق. وقرأ زيد بن عليّ «وجوه يومئذ نضرة» بغير ألف وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي شديدة العبوس وباسل أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته فعدل عنه لإيهامه غير المراد وعنى بهذه الوجوه وجوه الكفرة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقِرَةٌ من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل تَظُنُّ ضمير (الوجوه) بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعا إليها على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد. والظن قيل أريد به اليقين واختاره الطيبي وأن المصدرية لا تقع بعد فعل التحقيق الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء
161
بفعل الظن هاهنا دلالة على أن ما هم فيه وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه مما إذا كان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الإتيان بفعل الظن ولم يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنهم وصلوا إلى ما لا مطلوب وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له أسبغ الله علينا برؤيته فضله كَلَّا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي تنقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة إِذا بَلَغَتِ أي النفس أو الروح الدال على سياق الكلام كما في قول حاتم:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس التَّراقِيَ أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة:
ورب عظيمة رافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ما هو ظاهر فيه والاستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت وروي ذلك عن عكرمة وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذا عن ابن عباس أيضا وسليمان التيمي والاستفهام عليه حقيقي وتعقب بأن اعتبار ملائكة الرحمة يناسب قوله تعالى بعد فَلا صَدَّقَ إلخ ودفع بأن الضمير للإنسان والمراد به الجنس والاقتصار بعد ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافي العموم فيما قبل ووقف حفص رواية عن عاصم على من وابتدأ راقٍ
وأدغم الجمهور قال أبو علي: لا أدري ما وجه قراءته وكذلك قرأ بَلْ رانَ [المطففين: ١٤] وقال بعضهم كأنه قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة فسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهما كلمتان وإلّا فكان ينبغي أن يدعم في مَنْ راقٍ
فقد قال سيبويه إن النون تدغم في الراء وذلك نحو من راشد والإدغام بغنة وبغير غنة ولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعل الإظهار رأي كوفي فعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو، وأما بَلْ رانَ فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهار اللام وإدغامها مع الراء حسنان، فلعل حفصا لما أفرط في إظهار الإظهار فيه صار كالوقف القليل واستدل بقوله تعالى إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ على أن النفس جسم لا جوهر مجرد إذ لا يتصف بالحركة والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفس المسند إليها بلوغ التراقي هي النفس الحيوانية لا الروح الأمرية وهي الجوهر المجرد دون الحيوانية وآخر بأن المراد ببلوغها التراقي قرب انقطاع التعلق وهو مما يتصف به المجرد إذ لا يستدعي حركة ولا تحيزا ولا نحوهما مما يستحيل عليه. وزعم أنه لا يمكن إرادة الحقيقة ولو كانت النفس جسما ضرورة أن بلوغها التراقي لا يتحقق إلّا بعد مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولا يقال مَنْ راقٍ
كما هو ظاهر
162
على الوجه الأول فيه ولا يتأنى أيضا ما يذكر بعد على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا أن النفس وهي الروح الأمرية جسم لطيف جدا ألطف من الضوء عند القائل بجسميته والنفس الحيوانية مركب لها وهي سارية في البدن نحو سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وسريان السيال الكهربائي عند القائل به في الأجسام والأدلة على جسميتها كثيرة وقد استوفاها الشيخ ابن القيم في كتاب الروح وأتى فيه بالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغ التراقي مشارفة الموت وقرب خروج الروح من البدن سلمت الضرورة التي في كلام ذلك الزاعم أم لم تسلم لقوله تعالى وَقِيلَ مَنْ راقٍ
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وظن الإنسان المحتضر أن ما نزل به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمها وقيل فراق الروح الجسد، والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين قال الإمام ولعله إنما سمي اليقين هاهنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل الظن الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند هلع الموت وقلبه كما روي عن الشعبي وقتادة وأبي مالك وقال الحسن وابن المسيب هما ساقا الميت عند ما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما يراد فيهما يعني موتهما وقيل يبسهما بالموت وعدم تحرك إحداهما عن الأخرى حتى كأنهما ملتفتان فهما أول ما يخرج الروح منه فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقي وأل فيها عهدية أو عوض
عن المضاف إليه وقال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد. وهو رواية عن الحسن أيضا الْتَفَّتِ شدة فراق الدنيا لشدة إقبال الآخرة واختلطتا ونحوه قول عطاء: اجتمع عليه بشدة مفارقة المألوف من الوطن والأهل والولد والصديق وشدة القوم على ربه جل شأنه لا يدري بماذا يقدم عليه، فالساق عبارة عن الشدة وهو مثل في ذلك والتعريف للعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك الْتَفَّتِ أسوق حاضريه من الإنس والملائكة هؤلاء يجهزون بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى المساء فكأنهم للاختلاف في الذهاب والإياب والتردد في الأعمال قد التفّت أسوقهم وهذا الالتفاف على حد اشتباك الأسنة إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى الله تعالى وحكمه سوقه لا إلى غيره على أن المساق مصدر ميمي كالمقال وتقدم الخير للحصر والكلام على تقدير مضاف هو حكم وقيل هو موعد والمراد به الجنة والنار وقيل ليس هناك مضاف مقدر على أن الرب جل شأنه هو السائق أي سوق هؤلاء مفوض إلى ربك لا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن كان هذا في أن الفاجر أو فيما يعمه والبر يراد بالسوق السوق المناسب للمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمن حسن ظنه بربه وعلم أنه الرب الذي سبقت رحمته غضبه:
قالوا غدا نأتي ديار الحمى... وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي... بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم... لا سيما عمن ترجاهم
ثم إن جواب إِذا محذوف دل عليه ما ذكر أي كان ما كان أو انكشفت للمرء حقيقة الأمر أو وجد الإنسان ما عمله من خير أو شر فَلا صَدَّقَ أي ما يجب تصديقه من الله عز وجل والرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن الذي أنزل عليه وَلا صَلَّى ما فرض عليه أي لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كما في قوله:
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ والجملة عطف على قوله سبحانه
163
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ على ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت من أن السؤال سؤال استهزاء واستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهم فروعه وهو الصلاة ثم أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى نفيا لتوهم السكوت أو الشك أي ومع ذلك أظهر الجحود والتولي عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر افتخارا بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله تعالى به فيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للاستبعاد ويَتَمَطَّى من المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظني من الظن وأصله تظنن أو من المطا وهو الظهر فإن المتبختر يلوي مطاه تبخترا فيكون معتلا بحسب الأصل
وفي الحديث «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم»
وجعل الطيبي عطف هذه الجملة للتعجب على معنى يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ وما استعد له إلّا ما يوجب دماره وهلاكه. وقال إن قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إلخ جواب عن السؤال أقحم بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام وأن قوله سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ استطراد على ما سمعت وجعل صَدَّقَ من التصدق هو المروي عن قتادة وقال قوم: هو من التصديق أي فلا صدّق ماله ولا زكاه. قال أبو حيان: وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب كما في قوله تعالى قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: ٤٣- ٤٦] وحمله على نفي التصديق يقتضي أن يكون ولكن كذب تكرارا ولزم أن يكون استدراكا بعد وَلا صَلَّى لا بعد فَلا صَدَّقَ لأنهما متوافقان وفيه نظر يعلم مما قررناه ثم إنه استبعد العطف على قوله تعالى يَسْئَلُ إلخ وذكر أن الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرح به في قوله تعالى يَتَمَطَّى فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها ولم يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبي حديث النزول في أبي جهل وقد قيل إن قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ نازل فيه أيضا والحكم على الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفراده في حكم منها نعم لا شك في بعد هذا العطف لفظا لكن في بعده معنى مقال ولعل فيما بعد ما يقوي جانب العطف على ذاك أَوْلى لَكَ فَأَوْلى من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل هلاكا أولى لك بمعنى أهلكك الله تعالى هلاكا أقرب لك من كل شر، وهلاك وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد:
فعادى بين هاديتين منها وأولى أن نزيد على الثلاث
أي قارب ثم قال قال ثعلب: ولم يقل أحد في أَوْلى أحسن مما قاله الأصمعي وعلى هذا أَوْلى فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق واللام مزيدة على ما قيل وقيل هو فعل ماض دعائي من الولي أيضا إلّا أن الفاعل ضميره تعالى واللام مزيدة أي أولاك الله تعالى ما تكرهه أو غير مزيدة أي أدنى الله الهلاك لك وهو قريب مما ذكر عن الأصمعي وعن أبي علي أن أَوْلى لَكَ علم للويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن فهو مبتدأ ولَكَ خبره وفيه أن الويل غير منصرف فيه ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة وأن القلب على خلاف الأصل لا يرتكب إلّا بدليل وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، وقيل اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر. واختار جمع أنه أفعل تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تكرير للتأكيد وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. والظاهر أن الجملة
164
تذييل للدعاء لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى مقولا له أَوْلى لَكَ إلخ ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير ابن المنذر وغيرهم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال: بل قال من قبل نفسه ثم أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى إلخ. على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال: إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي ضيعتها ولم أعتن بها. قال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليم ين ما خلق الله شيئا سدى
ونصب سُدىً على الحال من ضمير يُتْرَكَ وأَنْ يُتْرَكَ في موضع المفعولين ليحسب والاستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلّا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى إلخ استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق. وقرأ الحسن «ألم تك» بباء الخطاب على سبيل الالتفات وقرأ الأكثر «تمنى» بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء وهي قراءة حفص وأبي عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: ١٤] فَخَلَقَ أي فقدر الله عز وجل بأن جعلها سبحانه مخلقة فَسَوَّى فعدل وكمل فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان وقيل من المني الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما. وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أَلَيْسَ ذلِكَ العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بِقادِرٍ أي قادرا وقرأ زيد «يقدر» مضارعا عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وهو أهون من البدء في قياس العقل. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان «على أن يحيي» بسكون الياء وأنت تعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلّا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم «يحيي» بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة، والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا، وبالجملة القراءة شاذة
وجاء في عدة أخبار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» وفي بعضها «سبحانك فبلى»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله».
165
Icon