تفسير سورة الممتحنة

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الممتحنة
قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة وفي جمال القراء تسمى أيضا الأمتحان وسورة المودة وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة وهي ثلاث عشرة آية بالأتفاق ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيها قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الأفتتاح بسبح

سورة الممتحنة
قال ابن حجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة: الفاضحة، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق.
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين، وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا: إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح-.
259
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة- وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى-
أخرج الإمام أحمد والبخاري مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي من كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه: من خاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»
إلخ.
وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها
، وفيه- على ما في الدر المنثور- أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش، وفي الكشاف يقال لها: سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي ابن هاشم، وفي صحة خبر أنس تردد، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد، وقيل: إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا فرسانا، والمعول عليه ما قدمنا، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب المذكور، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال: كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته.
وصورة الكتاب- على ما في بعض الروايات- أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده، وفي الخبر السابق على ما قيل: دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلّى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا- وفيه بحث- وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم، وفيه رمز إلى معنى قوله:
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
والعدو فعول من عدا كعفو من عفا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد، ونصب أَوْلِياءَ على أنه مفعول ثان- لتتخذوا- وقوله تعالى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الاعراب، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز.
260
وقيل: الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس، وقيل: هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم، وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل، وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله، وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا أو صفة- لأولياء- ولم يقل- تلقون إليهم أنتم- بناء على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما في شرح التسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس.
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك، وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية، أو يقال: إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى:
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ حال من فاعل لا تَتَّخِذُوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تُلْقُونَ حالية أيضا أو من فاعل تُلْقُونَ وهي متداخلة على تقدير حاليتها، وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا.
وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم- لما- باللام أي لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكم بالله عز وجل، والجار متعلق- بيخرجون- والجملة قيل: حال من فاعل كَفَرُوا أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل:
كيف كفروا؟ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر، وهذا أرجح من الوجه الاول لطباقه للمقام وكثرة فوائده، والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة، والاستمرار غير مناسب للمعنى، وفي تُؤْمِنُوا قيل: تغليب للمؤمنين، والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال: بي إلى ما في النظم الجليل للإشعار بما يوجب الايمان من الألوهية والربوبية إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي متعلق بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إلخ كأنه قيل: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم، وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي، واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد المذكور أولى- كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك- وما هنا ليس كذلك.
وأجيب بأن ابن جني جوزه، وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك: لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجا للحمية، وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور، ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة، فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول، وقوله تعالى: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تُسِرُّونَ إلخ، وجوز أن يكون بدلا من تُلْقُونَ بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية، أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر.
وقال أبو حيان: هو شبيه ببدل الاشتمال، وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم تُسِرُّونَ
261
والكلام استئناف للإنكار عليهم، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم، وقوله تعالى: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ في موضوع الحال، وأَعْلَمُ أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أي منكم، وأجاز ابن عطية كونه مضارعا، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة، وما موصولة أو مصدرية، وذكر ما أَعْلَنْتُمْ مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل، ولذا قدم بِما أَخْفَيْتُمْ وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل: تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ أي الإسرار.
وقال ابن عطية وجمع: أي الاتخاذ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سَواءَ من إضافة الصفة إلى الموصوف، ونصبه على المفعول به- لضل- وهو يتعدى كأضل، وقيل: لا يتعدى وسَواءَ ظرف كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يظفروا بكم، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه رجل ثقف لقف، وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى:
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري، فوقوع يَكُونُوا إلخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في صدر السورة، ومثله قول بعضهم: أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها، وقيل: المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل: إن يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم، وقوله تعالى: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب، ويؤول كما أول سابقه بأن يقال- على ما في الكشف- المراد ودادة يترتب عليها القدرة على الرد إلى الكفر، أو يقال- على ما قال البعض- المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه، والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم.
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الأفراد، فعبر بالماضي نظرا للأول وجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر: ١٢] في السورة قبل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: ٣٤] عند جمع قال: لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجوابه يعلم مما ذكرنا، وقريب منه ما قيل: إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة. وقال بعض الأفاضل: إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء: الأول أن يكون كل منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك. الثاني أن يكون الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه.
الثالث أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب. ومنه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
262
[الفتح: ١، ٢] الآية، وما في النظم الجليل هنا قيل: محتمل للأول لاستقبال الودادة من بعض الاعتبارات كما تقدم، وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث إن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه، وأهم شيء عند العدو أن يقصد أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأن يكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة، قيل: وللثاني أيضا بأن يكون الجزاء هو- يبسطوا- وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة الارتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادة المسبب وهو مضار الدارين، وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكم مضار الدنيا والدين، وما ذكر دليله أقيم مقامه، وقيل: عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها، وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح.
وعن بعضهم أن الواو واو الحال لا واو العطف، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أن العطف هو المتبادر، وكونه على الجزاء أبعد مغزى، وإخراج الشرط والجزاء على نحو ذلك أكثر من أن يحصى.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ دفع لما عسى أن يتخيلوا كونه عذرا نافعا من أن الداعي للاتخاذ وإلقاء المودّة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك. والرحم في الأصل رحم المرأة، واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها، فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازا عن القريب، أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم، ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى: وَلا أَوْلادُكُمْ أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بدفع ضر أو جلب نفع يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: ٣٤] الآية فلا ينبغي أن يرفض حق الله تعالى وتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه، وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو الظاهر، وجوز تعلقه- بيفصل- بعده.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب- يفصل- بضم الياء وتشديد الصاد مبنيا للفاعل، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا، وطلحة والنخعي- نفصل النون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل، وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل، وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة.
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر «يفصّل» بالياء والتشديد والبناء للمفعول، وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا، ونائب الفعل إما بَيْنَكُمْ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل، وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به.
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان، وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الائتساء والاقتداء، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها. وعلى نفس الشخص المؤتسى به، ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو:
وللضعفاء في الرحمن كاف وفي البيضة عشرون منا حديد وكل من ذلك قيل: محتمل في الآية، ورجح إرادة الخصلة لان الاستثناء الآتي عليها أظهر، ولَكُمْ للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك، أو هو متعلق بكان على رأى من
263
يجوز تعلق الظرف بها، وأُسْوَةٌ اسمها وحَسَنَةٌ صفته، وفِي إِبْراهِيمَ خبرها، أو لَكُمْ هو الخبر، وفِي إِبْراهِيمَ صفة بعد صفة- لأسوة- أو خبر بعد خبر- لكان- أو حال من المستكن في لَكُمْ على ما قيل، أو في حَسَنَةٌ ولم يجوز كونه صلة أُسْوَةٌ بناء على أنها مصدر، أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل، قيل: وإذا قلنا: إنها ليست مصدرا ولا اسمه، أو قلنا: إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك.
والظاهر أن المراد- بالذين معه- عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري وجماعة: المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرؤوا منهم، فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ: ما على الأرض من يعبد الله تعالى غيري وغيرك، وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد، ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إلخ وقت وجودهم، وإِذْ قيل: ظرف لخبر كانَتْ والعامل الجار والمجرور أو المتعلق، أو- لكان- نفسها على ما مر، أو بدل من أُسْوَةٌ وبُرَآؤُا جمع بريء كظريف وظرفاء.
وقرأ الجحدري «براء» كظراف جمع ظريف أيضا، وقرأ أبو جعفر «برّاء» بضم الباء كتؤام وظؤار، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر، وقال الزمخشري: إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل، وتعقب بأنه ضم أصلي، والصيغة من أوزان أسماء الجموع، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة ورويت هذه القراءة عن عيسى، قال أبو حاتم: زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه «براء» على فعال كالذي في قوله تعالى:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ في [الزخرف: ٢٦]، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره، وتأكيد الجملة لمزيد الاعتناء بشأنها، أو لأن قومهم المشركون مستبعدون ذلك شاكون فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ.
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والكواكب وغيرها كَفَرْنا بِكُمْ بيان لقوله سبحانه: إِنَّا بُرَآؤُا إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله، ويكون المراد بِكُمْ القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين، والكفر بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل: إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء.
وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به، ثم اكتفى- بكفرنا بكم- لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لا سيما وقد تقدمه إِنَّا بُرَآؤُا فسر بأنا لا نعتد إلخ تنبيها على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفرا لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الاستهجان والذم، وما ذكرناه أقرب، وهو معنى ما في الكشاف دونه، وأما ما قيل: إن في الكلام معطوفا على الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون، وحذف اكتفاء بدلالة السياق فليس بشيء.
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة، وفسر الفيروزآبادي الْبَغْضاءُ بشدة البغض ضد الحب، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة، وفسر الصداقة بالمحبة، فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان، وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الالتئام قلبا، وقال: البغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب، ثم قال:
264
يقال: بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء، وهو نحو كلام الفيروزابادي، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيرا ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب.
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله تعالى: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كما قاله قتادة. وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا- لأسوة- بالاقتداء منقطع بلا ريب، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل:
هو متصل وقيل: منقطع، وإليه ذهب الأكثر، وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكي عنه عليه السلام بقوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: ٨٦] الآية مع أنه المراد قيل: لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه، ويعلم من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى، وجعلها بعضهم كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم كما لا يخفى، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة [مريم: ٤٧] في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها وحكيت هاهنا على سبيل الاستثناء.
وفي الإرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها على طريق التوكيد القسمي، واستثناء ذلك في الأسوة الحسنة قيل: لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت على الكفر كما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلا إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى بعد: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاستثناؤه عما سبق إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجوّ إيمانه، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل، وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا، وزعم الإمام علي ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية لأن كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع.
وعن الطيبي ما حاصله: إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: ٤٦] بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رحمة ورأفة به، ولم يكن عارفا بإصراره على الكفر وفى بوعده، وقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه، فظهر أن استغفاره لم يكن منكرا، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ إلخ وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل: لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى، وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة، وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره، والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر، وقد كان استغفاره عليه السلام قبله، ومنبىء عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة، وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق.
واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إلخ، وجزم باتصال الاستثناء عليه، وكذا جزم الطيبي
265
باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، ولا يخفى أن التقدير خلاف الظاهر، ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور، بقي أنه قيل: إن الآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الاستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى السابق أعني طلب الإيمان له لا منع عنه.
وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على أن الاستغفار ليس مما يجب الائتساء به حتما لا على منعه وحرمته، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الاستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده، وقد تقدم في سورة التوبة قول: بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الاخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنه عليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة، وهي استغفار أي استغفار فيه، ولو كان تبين أنه يموت كافرا في الدنيا لم يكن ليشفع، ويطلب على أتم وجه المغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل، والذاهبون إلى أن التبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة- وهو الصحيح الذي أجزم به اليوم- أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار، وأتهموا وأنجدوا في الجواب عنها، وقد تقدم جميع ما وجدته لهم فارجع إليه واختر لنفسك ما يحلو.
ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أن الاستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان، والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك.
والتزم أن امتناع جواز الاستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم، وأنه عليه السلام لم يكن إذ استغفر عالما بالوحي امتناعه، ومعنى الآية- والله تعالى أعلم- إن لكم الاقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة من الكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه وما له يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الاستغفار وإبداء الرأفة، فليس لكم الذي اعتبرناه في الاستثناء من باب قوله تعالى:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] إلخ، ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ما قدمناه، ووراءه كلام مبني على قول من قال: ليس لله عز وجل قضاء مبرم، ونقل ذلك عن القطب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره، وشيد بعض الأجلة أركانه في رسالة مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلك لكنها لا تخلو عن بحث والله تعالى أعلم، وقوله سبحانه: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل لَأَسْتَغْفِرَنَّ ومورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده فإنه في نفسه من خصال الخير لكون إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى الله تعالى، فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دون القيد.
وفي الكشف أنه وإن كان في نفسه كلاما مطابقا للواقع حسنا أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ تحقيقا للوعد كأنه قيل: لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة، وفيه أنه لو ملك أكثر من ذلك لفعل، وعلى هذا فهو حقيق بالاستثناء، وقوله عز وجل: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب متصلة معنى لقبصة إبراهيم عليه السلام ومن معه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز وجل وقشر العصا، ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز وجل لا لحظ نفسي، وقيل: اتصالها بما تقدم لفظي على أنها بتقدير قوله معطوف على قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا أي وقالوا: ربنا إلخ، وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمرا منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليما منه عز وجل لهم وتتميما لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهم وتنبيها على الإنابة
266
إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنه أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل: وجه حسن لا يأباه النظم الكريم، وفيه شمة من أسلوب انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: ١٧١] لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله، ثم قال سبحانه ما يدل على اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهيا عن الأول وأمرا بالثاني.
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على لا تَتَّخِذُوا أي وقولوا ربنا إلخ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل: ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا- قاله ابن عباس- فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذا أذابها فكأنه قيل: ربنا لا تجعلنا معذبين للذين كفروا، وقال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم، أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك.
وقال قريبا منه قتادة وأبو مجلز، والأول أرجح، ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل المعدودة، وكذا الجملة الآتية، وقيل: إن هذه الجملة بدل مما قبلها، ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء وَاغْفِرْ لَنا ما فرط منا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الكلام فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصا، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة- لحسنة- أو صفة، وجوز كونه بدلا من لَكُمْ بناء على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب- وكذا من ضمير المتكلم- بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب، وأن يبدل من الكل بدل البعض وبدل الاشتمال وبدل الغلط.
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض والاشتمال والغلط.
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [المائدة: ١١٤] وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء، وجملة لَقَدْ كانَ إلخ قيل: تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي: إن لم ينظر لقوله تعالى: إِذْ قالُوا فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما بعد تخصيص، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير.
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا إلخ، وفي قوله سبحانه:
لِمَنْ كانَ إلخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من أقاربكم المشركين مَوَدَّةً بأن يوافقكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم
267
بينهم من التحابّ والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال وَاللَّهُ قَدِيرٌ مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لما فرط منكم في موالاتهم رَحِيمٌ مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز وجل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المقت مقة، وقيل: يغفر سبحانه لمن أسلم من المشركين ويرحمهم، والأول أفيد وأنسب بالمقام.
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى عن البر بهؤلاء كما يقتضيه كون أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل اشتمال من الموصول وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل، فالفعل مضمن معنى الإفضاء ولذا عدي بإلى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين.
أخرج البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أأصلها؟
فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ، فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم صلي أمك»
وفي رواية الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا.
أخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير وابن مردويه بسند حسن وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن: كانت المرأة إذا جاءت النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت
268
رغبة بأرض عن أرض. وبالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله،
وفي رواية عنه أيضا كانت محنة النساء أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال:
قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا
إلخ اللَّهُ أَعْلَمُ من كل أحد أو منكم بِإِيمانِهِنَّ فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن، والجملة اعتراض فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد الامتحان مُؤْمِناتٍ في نفس الأمر فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم، والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول. والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية.
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين: إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاما بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانا بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: ١٨٧] ولعل الأول أولى، واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف، والقول: بأن المخاطب في حق المؤمنة هي وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله، وقرأ طلحة- لا هن يحللن لهم- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل: وجوبا، وقيل: ندبا،
روي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب: باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فرد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان مسلما، ثم جاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وكانت أول المهاجرات، فخرج أخواها عمار، والوليد حتى قدما على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه الصلاة والسلام ثم أنكحها صلّى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحارث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية، وروي أنها كانت تحت صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها.
وقتيلة هذه- على ما في التحرير- كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء
269
حقيقة، وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أما مجازا، والأول هو المعول عليه، وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس.
وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة، وقال مجاهد: في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة، وقيل: في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة- أي مع القدرة عليها- وقال النحاس والثعلبي: نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، وعلى ذلك قال الكيا: فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب وعلى وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي لوجوب قتله، ويخطر لي أني رأيت في الفتاوى الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الاستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه، لكن راجعت تلك الفتاوى عند كتابتي هذا البحث فلم أظفر بذلك، ومع هذا وجدته نقل في آخر الفتاوى الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى، ولم يتعقبه بشيء، ثم إن في كون القيام من البر مطلقا ترددا، وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية:
وللميل أو للمال يخدم كافر وللميل للإسلام لو قام يغفر
ومن الناس من يجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيما، والله تعالى أعلم، ونقل الخفاجي عن الدر المنثور أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] الآية، والاستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إن تم إنما يتم على بعض الأقوال فيها.
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين أَنْ تَوَلَّوْهُمْ تدل من الموصول بدل اشتمال أيضا أي إنما ينهاكم سبحانه عن أن تتولوهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية موضع العداوة أو هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي الحصر من المبالغة ما لا يخفى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي بحسب الظاهر مُهاجِراتٍ من بين الكفار، وقرىء «مهاجرات» بالرفع على البدل من الْمُؤْمِناتُ فكأنه قيل: إذا جاءكم «مهاجرات» فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان.
مسافر المخزومي وأنه أعطي ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة والسلام، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل، ولعل سبب النزول متعدد، وأيا ما كان فالآية على ما قيل: نزلت بيانا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دون النساء، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومن وافقه، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات، والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام، والحنفية يجوزونه لا يقال: إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العمل بالخطاب كان بعد
270
مجيء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش، وهذا ذهب إليه بعض الشافعية أيضا، ومنهم من زعم أن التعميم كان منه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه، ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال: نسخ بالآية، ومن لم يجوز قال:
بالسنة أي امتناعه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام.
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الشرط مثل ذلك، وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة، أما نسخ العهد فلما أمر فيها من النبذ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير ثابتة، وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة، والقول بالتخصيص، والقول: بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: وأما على قول الضحاك- أي السابق- فهو مشكل، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفار إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي وقت إيتائكم إياهن مهورهن- فإذا- لمجرد الظرفية، ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن، وليس المراد بإيتاء الأجور إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها، وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد مع ذلك من إصداقهن، وقيل: لا يخلو إما أن يراد بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر، وهذا ما ذكرناه أولا من الظاهر وهو الأصح في الحكم، والوجهان الآخران ضعيفان فقها ولفظا.
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة. ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملا، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز بمثله الزيادة على النص
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره»
ومذهب الشافعي على ما قيل: إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما بمجرد الخروج فلا فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر، نعم قد احتج بها على عدم العدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة، ووجه بأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر، ولم يقيد جل شأنه بمضي العدة فلولا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثانيا، ومع هذا فقد قيل: الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليس تعرضا للعدم، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع، وكونها حاملا بالاتفاق فتأمل وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ جمع كافرة، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث، وقال الكرخي: الْكَوافِرِ يشمل الإناث والذكور، فقال له الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة، فقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة. قال الفارسي: فبهت، وفيه أنه لا يقال: كافرة في وصف الذكور إلا تابعا للموصوف، أو يكون محذوفا
271
مرادا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان، وعصم- جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق الزوجية أصلا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناء على أنه لا عدة لهن قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه، وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا إلخ في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برىء منها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة، وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية والشافعية، وأما عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام، وأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حين اللفظ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر، فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية، وقرأ أبو عمرو ومجاهد بخلاف عنه وابن جبير والحسن والأعرج «تمسكوا» مضارع مسك مشددا، والحسن أيضا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ «تمسّكوا» مضارع تمسك محذوف إحدى التاءين، والأصل تتمسكوا.
وقرأ الحسن أيضا «تمسكوا» بكسر السين مضارع مسك ثلاثيا وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليسألكم الكفار مهور نسائهم المهاجرات إليكم، وظاهره أمر الكفار، وهو من باب وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: ١٢٣] فهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازا، وقيل: المراد التسوية ذلِكُمْ الذي ذكر حُكْمُ اللَّهِ أي فاتبعوه، وقوله عز وجل: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف أو حال من حُكْمُ بحذف الضمير العائد إليه، وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم، أو العائد إليه الضمير المستتر في يَحْكُمُ بجعل الحكم حاكما مبالغة كأن الحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي أحد من أزواجكم، وقرىء كذلك، وإيقاع شَيْءٌ موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصا، وفي الكشف لك أن تقول: أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان، وكانت الفائتات ستا على ما نقله في الكشاف وفصله، أو أن فاتَكُمْ شَيْءٌ من مهور أزواجكم على أن شَيْءٌ مستعمل في غير العقلاء حقيقة، ومِنْ ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول فَعاقَبْتُمْ من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، أو شبه الحكم بالأداء المذكور بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب، وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار.
272
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصا، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة، وهذا كما تقول: إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك، وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال:
يعطى من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم.
وعن الزجاج أن معنى فَعاقَبْتُمْ فغنمتم، وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق، وقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما روي عن ابن عباس- يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئا، وقال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: فَعاقَبْتُمْ فأصبتم عقبا منهم يقال: عاقب الرجل شيئا إذا أخذ شيئا وهو في المعنى كالوجه قبله.
وقرأ مجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني- فعقّبتم- بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يفقي صاحبه، والزهري والأعرج وأبو حيوة أيضا والنخعي وابن وثاب بخلاف عنه- فعقبتم- بفتح القاف وتخفيفها، والزهري والنخعي أيضا بالكسر والتخفيف، ومجاهد أيضا- فأعقبتم- أي دخلتم في العقبة وفسر الزجاج هذه القراءات الأربعة بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أريد به على ما قال غير واحد: وأد البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي «ولا يقتّلن» بالتشديد
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.
قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي الكشاف كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقة بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، وقيل: كني بذلك عن الولد الدعي لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرا لتينك الحالتين وتهجينا لما كن يفعلنه، وأيا ما كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعض الأجلة: معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين ببهتان ينشئنه في ضمائرهم وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي والأرجل، والكلام على الأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن، وعلى الثاني كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا يبهتن الناس كفاحا ومواجهة كما يقال للأمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن
273
كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه: هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع الأيدي تبعا فلا، والكلام قيل: كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل: بين أيديهن قبلة أو جسة وأرجلهن الجماع، وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن فروجهن بالجماع، وهو- وكذا ما قبله- كما ترى.
وقيل: البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جدا فنهين عنه وليس بشيء وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أن طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا، وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما
أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنة وابن ماجة وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا تنحن» الحديث
، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة، ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا فَبايِعْهُنَّ بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه وهذه الآية نزلت- على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل- يوم الفتح فبايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء أيضا بنفسه الكريمة.
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله حتى بلغ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال:
«فيما استطعن وأطقن قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة».
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد عن الشعبي قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا
وفي بعض الروايات أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوي
، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة،
وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه
وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته.
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان،
ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلّى الله تعالى عليه وسلم عليهن الآية فلما قال: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً قالت هند:
وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه فلما قال وَلا يَسْرِقْنَ قالت: والله إني
274
لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: وَلا يَزْنِينَ فقالت: أو تزني الحرة؟
تريد أن الزنا في الإماء بناء على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبا وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد بالغالب لما قيل: إن ذوات الرايات كن حرائر، فقال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا- تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم-
وفي رواية- أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد؟! فضحك صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء
وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، وروي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، قيل: هم اليهود والنصارى، وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش. وقال غير واحد:
هم عامة الكفرة وهذه الآية على ما قال الطيبي: متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] وهي قوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: ٩] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إلخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي الانتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول:
بأن المراد بالقوم اليهود أو أهل الكتاب مطلقا، وقوله تعالى: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ استئناف، والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها.
كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن مِنَ بيانية، والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل: كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة، وكون مِنَ بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد، وهو اختيار ابن عطية وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا، وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة، فالمراد بالكفار أولئك القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا لكفرهم وإشعارا بعلة يأسهم، وقرأ ابن أبي الزناد كما يئس الكافر- بالإفراد على إرادة الجنس.
هذا «ومن باب الاشارة في بعض الآيات» ما قيل: إن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
275
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
إلخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الإمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل:
أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وهي لا تزال كارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وقوله سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ اشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة، وإليه الإشارة بما
روي أن «لنفسك عليك حقا»
وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إلخ إشارة إلى مبايعة المرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر السري خاطر الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده، وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
276
Icon