تفسير سورة الممتحنة

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

والأحزاب والمائدة والحج والحجرات والطلاق والتحريم والمدّثر والمزمل. ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» من دوني دون المؤمنين، فتغتروا بهم، وتصيروا «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» فتفشون أسراركم إليهم وتعلمونهم بأخبار رسولكم وجيوشكم وتطلعونهم على أموركم، كيف يليق بكم أن تفعلوا هذا «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» على لسان رسولكم، وهو القرآن المنزل إليكم من ربكم، ويريدون بكل جهدهم «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ» من أوطانكم ودياركم لشدة عداوتهم لكم لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله من أجل «أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» وترككم ما هم عليه من الذين ليس لسبب آخر فاحذروا أيها المؤمنون من أن توالوهم «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ» من مقركم مكة وتركتم أموالكم وأتباعكم «جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» فإن لم يكن خروجكم وجلاؤكم لهذين السببين فشأنكم وإياهم. واعلموا أني أنا الله ربكم غني عنكم وعن الخلق أجمع، أقول لكم على سبيل التقريع والتعنيف لتذكروا أمركم وتدبروا عاقبته كيف «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» وتظهرون لهم المحبة وتبدون لهم النصيحة بقصد الصحبة معهم خفية عن نبيكم «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ» من ذلك واني مخبر نبيكم بما يقع منكم، فانتهوا عن هذا ولا تفعلوه أبدا «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي فيسر إليهم بشيء من ذلك «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» (١) وبقي تائها في عماه لا يهتدي إلى خير.
مطلب الاخبار بالغيب في كتاب حاطب لأهل هكة ونصيحة الله للمؤمنين في ذلك:
وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (بقرب حمراء الأسد من أرض المدينة) فان بها ظعينة أي المرأة المسافرة سارة مولاة ابي عمرو بن صيفي بن هاشم حليف بني أسد بن عبد العزى معها كتاب فخذوه منها
500
قال فانطلقنا تتعادى بنا الخيل حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي من كتاب، فقلنا أخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله قالوا وفيه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم، فقال صلّى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا؟ فقال يا رسول الله لا تعجل علي اني كنت أمرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام، فقال صلّى الله عليه وسلم انه صدقكم، فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلّى الله عليه وسلم انه شهد بدرا وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وهذا من الإخبار بالغيب ودلائل النبوة ومعجزاتها. وجاء في خبر أنهم لما قالت لهم ما عندي من كتاب رجعوا، ثم قالوا كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم ان معها كتابا وهو لا ينطق عن هوى؟
فرجعوا إليها وقالوا لها ما قالوا بالحديث من التهديد، فأخرجته لهم. والمراد بإلقاء الثياب ما عندها من أشياء ولباس كي يتحروه لا غير، إذ لا يظن بأصحاب رسول الله ما يتصوره الغير من هذا الكلام، قال تعالى مبيّنا ما ننطوي عليه قلوب الكفرة على المؤمنين «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ» يظفروا بكم هؤلاء الذين تتقربون إليهم «يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً» ولا يقدرون مودتكم لهم بل يعدونها نفاقا منكم لهم وخوفا منهم لأنهم يتربصون بكم الدوائر وعند سنوح الفرصة ينتقمون منكم «وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بالقتل والسلب والسبي «وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ» من سب وشتم وتحقير وإهانة ونسبة الكذب والخيانة، لأن العدو إذا عرفكم خنتم قومكم بما تطلعونه عليه من أخباركم لا يأمن لكم ولا يولونكم من أمرهم شيئا ويقولون لكم إن الذي يخون قومه فهو لغيرهم أخون فلا يركن إليكم ولا يأمنكم، فتبقون محقرين عندهم أذلاء مهانين مهددين بالقتل والسبي إن لم يقتلوكم حالا «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» (٢) وترجعون إلى دينهم، وانهم لاسمح الله لو ظفروا بكم لقسروكم على الكفر لتكونوا
501
مثلهم وإذ ذاك «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» ولا أقاربكم وأصحابكم الذين يحتجون بهم في الدنيا، إذ لا فائدة لكم منهم ولا ينفعونكم أبدا «يَوْمَ الْقِيامَةِ» غدا عند الله ولا يقونكم شيئا من عذابه، فلا يحملنكم وجود أحد عندهم من ذويكم على الرأفة بهم وتخونون رسول الله من أجلهم، فإنهم لن يغنوا عنكم من الله شيئا هو الذي «يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» وبينهم يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وليعلم أن من في الأرض جميعا لا ينجيه من الله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (٣) لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإذا أحببتم أيها المؤمنون بما فيكم حاطب المخصوص في هذه الآيات أن تتأسوا بمن قبكلم في أعمال الخير فإنه «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ» خليل الله «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من المؤمنين به «إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ» المشركين «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» حيث تبين لهم كفرهم وقالوا «كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» وقاطعوهم في كل شيء فكيف توادونهم وأنتم خير أمة أخرجت للناس، ألا تعتقدون بأفعال هؤلاء الكرام كلها «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» فلا تتأسوا به إذ لا يجوز الاستغفار للمشركين، لأن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها من ذكر ابراهيم عليه السلام وما بينهما اعتراض تدبر، وإن ابراهيم لم يقل هذا إلا بعد أن وعده بالإيمان، قال تعالى دفاعا عن خليله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية ١٠٥ من سورة التوبة الآتية، وأنتم قد تبين لكم أن المشركين أعداء الله ورسوله واعداء لكم فكيف تواصلونهم وتفشون إليهم أسراركم؟ وقد قال ابراهيم لأبيه بعد أن وعده بالاستغفار «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» لأنه هو ولي التوفيق وكان ابراهيم وأصحابه يقولون في دعائهم «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (٤) في الآخرة الدائمة ويقولون أيضا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» في الدنيا لأنهم يعذبوننا إذا تسلطوا علينا ليصرفونا عن ديننا، ولهذا فإنا نبرأ إليك منهم يا ربنا لا تجعل لهم علينا يدا «وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ
502
أَنْتَ الْعَزِيزُ»
الغالب لكل أحد «الْحَكِيمُ» (٥) بما يقع منك على عبادك «لَقَدْ كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون حاطب فمن دونه إلى يومنا هذا، وما بعد إلى قيام الساعة «فِيهِمْ» أي إبراهيم وأصحابه «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وقدوة جميلة نافعة «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» فيخاف عذابه ويأمل ثوابه أن يقتدي بهم لا بأفعال الكفار وما يؤدي إلى الكفر بأي قصد كان «وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن نصح الله وارشاد رسله، ولم ينزجر عن موالاة الكافرين «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عنه وعن غيره فليفعل ما يشاء وإن مرده إليه وهو يعلم كيف يعاقبه على ذلك، وهو «الْحَمِيدُ» (٦) لفعل أهل طاعته فيثيبهم ثوابا كريما فلما سمع المؤمنون هذه الآيات اشتدت عداوتهم لأقربائهم الكفار ووجدوا عليهم وتبرؤوا منهم، وأراد الله تعالى أن يطمعهم فيهم، فأنزل «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ» من أقاربكم الكفار وغيرهم «مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ» على إنشاء المودة بينكم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تاب منهم وأصلح «رَحِيمٌ» (٧) بعباده كلهم يحببهم بعضهم
لبعض، وقد حقق الله لهم ذلك وأسلم كثير منهم، ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين بقوله عز قوله «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ» بقصد صدكم عنه أو عدم القيام به والتحلي بشعائره ولا يخاصمونكم من أجله «وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» قسرا فيجلوكم عنها «أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» وتعاملوهم بالإحسان والعدل والإنصاف وتصلوهم بالسراء والضراء «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (٨) العادلين في ذلك الذين يقابلون المعروف بمثله وأحسن. روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت قدمت عليّ أمي (فتيلة بنت عبد العزى) وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله وحدتهم فاستفتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم صليها، زاد في رواية فأنزل الله هذه الآية. أنظر أيها القارئ إلى عظيم إيمان هذه المرأة إذ لم يمل قلبها إلى صلة أمها الكافرة ولا قبولها في بيتها إلا بعد إفتاء الرسول لها بذلك. وقال ابن عباس نزلت في خزاعة إذ صالحوا حضرة الرسول على أن
503
لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا مشاحة في تعدد أسباب النزول وإن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث، ثم ذكر الله الذين لا تجوز صلتهم ولا مقاربتهم وهم في ذلك الزمن أهل مكة. فقال جل قوله «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا» اليهود وغيرهم «عَلى إِخْراجِكُمْ» من المدينة واستئصالكم. إذ جاءت الآية عامة فيدخل فيها كل من يفعل ذلك مع المؤمنين إلى آخر الزمان، فلا يجوز للمؤمن مصافاة من هذا شأنهم فيحرم عليكم أيها المؤمنون «أَنْ تَوَلَّوْهُمْ» أبدا وتفكروا فيما هدد به تعالى من يواليهم بقوله «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ» منكم «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (٩) أنفسهم الآيسون من رحمتي الآئبون بالندم وسوء العاقبة لأنهم وضعوا ثقتهم في غير محلها فلا يلومون إلا أنفسهم عند حدوث ما يسوءهم منهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ» اختبروهن لتعلموا هل هن مؤمنات حقا أم لا فإن ظهر لكم أنهن مؤمنات فاقبلوهن ولا تقولوا إنهن باطنا غير مؤمنات «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» منكم لأن لكم الظاهر والله عليم بما في الصدور «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ» بعد الفحص «مُؤْمِناتٍ» بحسب الظاهر ولم تروا ريبة في مجيئهن وإبقائهن بين أظهركم «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ» بعد ذلك «إِلَى الْكُفَّارِ» أزواجهن الأول «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ» لأنهم مشركون «وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» لأنهن مسلمات، فتقع الفرقة بينهم، راجع الآية ٢٢٢ من سورة البقرة المارة «وَآتُوهُمْ» أي أزواجهم الكفار «ما أَنْفَقُوا» عليهن من المهور لأنه حقهم ولم يعطوه إلا لحق الزوجية، وقد انقطعت بغير إرادة الأزواج، فيكون بمثابة بدل الخلع «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» بعد ذلك «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «وَلا تُمْسِكُوا» أيها المؤمنون «بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» اللاتي بقين مشركات في دار الحرب أو اللاتي قد ارتددن ولحقن بدار الحرب «وَسْئَلُوا» من يتزوجهن من الكفّار أن يعطوكم «ما أَنْفَقْتُمْ» عليهن من المهر «وَلْيَسْئَلُوا» الكفار أيضا فيطلبوا منكم «ما أَنْفَقُوا» على نسائهم المهاجرات اللاتي تزوجتم بهن من
504
المهور أيضا «ذلِكُمْ» الأمر الذي أمرتم به بإعادة المهر منكم ومنهم على السواء هو «حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» بالعدل لأنه رب الكل «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (١٠) نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية، ولذلك أمر الله تعالى بالتسوية بين المؤمنين والكافرين رعاية لعهد الصلح الواقع بينهم ولولاه لم يرد لهم الصداق كما منع فيمن جاء من المسلمات قبل المعاهدة، لأن الوفاء بالعهد واجب قديما، وقد اشتد وجوبه في الإسلام.
مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات:
روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله قال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلّى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد ولو كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، وكره المؤمنون ذلك، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي على ذلك فرد يومئذ أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته، أي رسول الله يومئذ أحد من الرجال إلّا ردّه في تلك المدّة وإن كان مسلما، وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ وهي عاتق شابة بأول عمرها وإدراكها، ويقال للّتي بين الإدراك والتّعنيس أو التي لم تتزوج عاتق أيضا، فجاء أهلها يسألون النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرجعها لهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن هذه الآية، قال عروة قالت عائشة ان رسول الله كان يمتحنهن بهذه الآية (أي الآتية بصيغة المبايعة)، قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذه الشروط (المذكورة في الآية) منهن قال لها قد بايعت، كلاما يكلمها، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله. قال ابن عباس امتحانهنّ أن يستحلفهن ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا لا لتماسي دينا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحب الله ورسوله، وهذا هو الصواب في معنى الامتحان، وما جاء عن عائشة فهو صيغة المبايعة ليس إلا، وإنما كان كذلك لأن رد النساء المؤمنات لم يدخل في المعاهدة، وما قيل
505
إن النساء كن داخلات فنسخ الله ردهن فهو تعسف عفا الله عن أمثال هذا القائل لأنه وأمثاله شديد والرغبة في النسخ، وقد استقصوا فيه قدرتهم من كل ما تصورته أذهانهم حتى حدا بهم الحال إلى هنا، وما أرى هذا إلا من باب الجرأة على الله لأن من يتورع أو يقارب الورع يبعد عليه هذا الخوض إلى هذا الحد. هذا وقد امتثل المؤمنون ما أمر الله به حتى أن عمر طلق زوجتيه المشركتين القاطنتين في مكة وهما فاطمة بنت أميه بن المغيرة وتزوجها معاوية، وكلثوم بنت عمرو الخزاعية وتزوجها أبو جهم بن حذافة، وطلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة وتزوجها بعد في الإسلام خالد بن سعد بن العاص، وأسلمت زينب بنت رسول الله فتركت زوجها أبو العاص بن الربيع على كفره في مكة ولحقت بالمدينة ثم أتى وأسلم فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ولما أبى المشركون أن يقروا بحكم الله ورسوله في ذلك أنزل الله جل شأنه «وَإِنْ فاتَكُمْ» أيها المؤمنون «شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» بأن ذهبن مرتدات ولم يردوا إليكم مهوركم لاهن ولا أوليائهن ولا الذين تزوجوا بهن بعدكم «فَعاقَبْتُمْ» به المشركين بأن غزوتموهم وغنمتم منهم أموالا وغيرها «فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا» عليهن من هذه الغنيمة وما بقي فاقسموه بينكم كما أمر الله «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (١١) واعلموا أنكم محاسبون على عملكم إذا خالفتم أمره فاعملوا بحكمه فيكم تفوزوا وتنجحوا. قالوا إن النساء اللاتي ارتددن ستة، أم الحكم بنت أبي سفيان تركت زوجها عاصي بن شداد الفهري وفاطمة بنت أمية تركت زوجها عمر بن الخطاب ومروع بنت عقبة تركت زوجها شماس بن عثمان وعبدة بنت عبد العزى تركت زوجها عمرو بن عبد ودّ هند بنت أبي جهل تركت زوجها هشام بن العاص وكلثوم بنت عمرو تركت زوجها عمر بن الخطاب لأنها لما أبت الإسلام وأصرت على الكفر طلقها هي وزوجته الأولى فاطمة كما مرت الإشارة إليها آنفا، فأعطاهم رسول الله مهورهن من الغنيمة، فلو فرض وقوع معاهدة كهذه بين المسلمين والكافرين فيكون العمل بحق النساء اللاتي يتركن أزواجهن من الطرفين على هذا، لأن الآية محكمة ولا دليل على نسخها البتة. وخلاصة القصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
506
بعد أن وفقه الله في حادثة الأحزاب وفعل ما فعل في بني قريظة وبرد ظهره من الأعداء المجاورين له اشتاق لزيارة البيت الشريف وأمر الناس أن يتجهزوا ففعلوا وخرج بهم من المدينة يوم الاثنين من ذي القعدة سنة ست من الهجرة الشريفة في بضع عشر مئة من أصحابه بقصد الزيارة وساقوا معهم البدن، فلما وصلوا ذا الخليفة قادوا الهدى وأشعروه وأحرموا بعمرة وبعث عينا (جاسوسا) يخبره عن قريش، ولما بلغوا غدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه عتبة الخزاعي، وقال إن قريشا قد بلغها مقدمك، وقد هاجت وماجت وأجمعت على صدك عن البيت فأمر صلّى الله عليه وسلم بالنزول، ونزل القوم، فقال وهو عازم على زيارة الحرم رغم كل مقاومة أشيروا علي أيها الناس، أتريدون أن أميل أولا على ذراري من انضمّ إلى قريش من الأحابيش وغيرهم يوم الخندق دعا وعاونوهم علينا، فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله أو تريدون أن نؤم البيت أولا لا نريد قتالا ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه؟ فقال أبو بكر يا رسول الله إنما جنت عامدا للزيارة فتوجه لقصدك فمن صدنا قاتلناه، قال امضوا على اسم الله. ثم إن رسول الله قال لقومه ان خالد بن الوليد بالتنعيم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فأخذوا قال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم والله ما شعر خالد إلا وهو في قترة أي غبار الجيش، وهذه معجزة له صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم به قبل أن يصلوا إليه، فلما رآهم انطلق ينذر قريشا، وكان ذلك قصد الرسول، ولما وصلوا إلى الثنية التي يهبط منها بركت راحلته فقالوا فلأت القصوى أي حرنت ناقة رسول الله، فقال ما فلأت ولكن حبسها حابس الفيل، ثم زجرها فوثبت وعدل عن الثنية، ونزل بأقصى الحديبية وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة سميت باسم بئر فيها قليل الماء، فنزلوا ونزح الماء وشكوا العطش، فقال صلّى الله عليه وسلم إلى ناجية سائق بدنه خذ هذا السهم واغرزه فيها ففعل ففاضت وما زالت تجيش بالري أي الماء حتى صدروا، وهذه معجزة أخرى ثم قال لأصحابه لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها وأجبتهم إليها وإن كان فيها مشقة. وفي هذه الجملة تعليم لأمته وإرشاد لها إلى مكارم الأخلاق ولو كانت من أحرج المواقف، فلما
507
رأى بديل بن ورقاء الخزاعي خروج قريش إلى اعداد مياه الحديبية وتصميمهم على صد محمد وأصحابه وعرف عزم محمد صلّى الله عليه وسلم على دخول البيت، وكانت خزاعة حليفة لبني هاشم، جاء بنفر من قومه إلى حضرة الرسول وأخبره خبر قريش وانهم أخرجوا معهم النياق ذوات اللبن وذوات الحيران بما يدل على عزمهم على طول الإقامة وقصدهم القتال وإنك غوّرت أي بعدت عن المدينة
ولا سلاح معك، فقال صلّى الله عليه وسلم إنا لم نأت لقتال وإن قريشا نهكتهم الحرب وقد جئنا معتمرين، فإن شاءوا ماددتهم مدة تترك فيها الحرب، وإلا فإن لم يفعلوا وأصروا على صدي فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا حتى تنفرد سالفتي (السالفة صفحة العنق وكنى عنها بالموت) ولينفّذن الله أمره. فرجع بديل إلى قومه وعرض عليهم ما قاله، فقال عمرو بن مسعود الثقفي قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقالوا له ائته وكلمه، فجاء عروة وقال يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أو أوقع المكروه في أصله قبلك؟ ثم قال له إن المسلمين أصحابك ليسوا من قبيلة واحدة فلا رابطة بينهم ولا يؤمن فرارهم وعظم من قريش، فقال له أبو بكر رضي الله عنه امضض بظر اللات (البظر من المرأة كالقلقة من الرجل) فقال لولا يدك عندي لأجبتك يا أبا بكر، وكان المغيرة بن شعبة مصلتا سيفه وعليه المغفر واقفا على رأس رسول الله، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله يتودده بالكف والرجوع حقنا للدماء ضربها بنصل السيف، ويقول أخر يدك عن لحية رسول الله فقال له عروة أغدر، وإنما قال له هذه الكلمة لأنه صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم أسلم، فقال له صلّى الله عليه وسلم أقبل إسلامك، أما المال فلست منه في شيء، وصار عروة يرمق أصحاب رسول الله ورجع إلى قومه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك فما وجدت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحاب محمد، وما هو يملك، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل فيدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، وإني رأيت قومه لا يسلمون بشيء أبدا، وما أراكم إلا
508
ستصيبكم قارعة، فانظروا رأيكم فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته، فلما أشرف قال صلّى الله عليه وسلم هذا رجل من قوم يعظمون البدن فابعثوها إليه، فلما رآها واستقبله الناس يلبون وقد بعثت إليه البدن قال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه وقال إن البدن قلدت وأشعرت فلا أرى أن يصدوا عن البيت، ثم بعثوا رئيس الأحابيش الحليس بن علقمة، فلما رآه صلّى الله عليه وسلم قال هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه فبعثت، فلما رأى الهدي يسيل بالوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش وقال لهم إني رأيت ما لا يحلّ صده، لأن القوم زائرون معتمرون ليسوا بمقاتلين ولا محاربين، فقالوا له أنت أعرابي لا علم لك بشيء، فغضب وقال ما على هذا حالفناكم، والذي نفسي لنخلّين بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرنّ بالأحابيش، فقالوا له كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا من محمد ما نرضى به. وأرسلوا إليه مكرز بن حفص، فلما أشرف قال صلّى الله عليه وسلم هذا رجل فاجر، فلما وصل وصار يكلم محمدا فلم ينته بشيء، ورجع فلما رأى رسول الله اخفاق مساعي سفراء قريش الخمسة المذكورين، استدعى عمر بن الخطاب وأمره بالذهاب إلى مكة لاستطلاع خبر أهلها، فقال يا رسول الله ليس بمكة من بني عدي أحد، وقد علمت قريش عداوتي لها، وإن عثمان أعزّ بها مني، فبعث أولا خراشة بن أمية الخزاعي فانبعث عليه عكرمة ابن أبي جهل وعقر ناقته وهمّ بقتله، فتداركه القوم وأنقذوه وردوه إلى قومه، وهذا الفرق بين الكفر والإيمان خمسة سفراء من قريش لم يتعرض لهم المسلمون وسفير واحد فعلوا به ذلك، فدعا صلّى الله عليه وسلم عثمان وبعثه إلى أبي سفيان بأن يخبره سبب قدومهم، وزوده بكتاب شرح فيه ما وقع، وأمره أن يزور المسلمين بمكة ويغريهم ويصبرهم حتى يأتي فرج الله، فذهب وفعل ما أمره به، وغاية ما سمحوا له أن يطوف البيت، وحبسوه عن الرجوع، وأشيع أنهم قتلوه، فقال صلّى الله عليه وسلم إن كان حقا فلا نبرح حتى نتاجزهم، ودعا الناس إلى البيعة على مقاتلتهم، فأجابوه، وأول من بايعه سنان الأسدي وقال أبايعك على ما في نفسي، قال
وما في نفسك؟ قال سنان أضرب بسيفي حتى يظهرك الله أو أقتل، وبايعه الآخرون على مثل هذا، ومنهم من
509
بايعه على أن لا يفر وقبل صلّى الله عليه وسلم مبايعتهم كلها. روى البخاري ومسلم عن يزيد بن عبيد قال قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله؟ قال على الموت وروى مسلم عن معقل بن يسار قال لقد رأيتني يوم الشجرة (التي وقعت تحتها المبايعة في الحديبية) والنبي صلّى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة، قال لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ. وروى البخاري عن ابن عمر قال إن الناس كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبة وتفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس يحدقون بالنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر يا عبد الله أنظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله؟ فذهب فوجدهم يبايعون، فبايع، ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع، وكان أول من بايع سفيان بن وهب من بني أسد، وهذا بالنسبة لما رأى فلا تنافي بين القول بأن أول من بايع سنان الأسدي، ولم يتخلف إلّا جدّ بن قيس من بني سلمة مختفيا بإبط ناقته. ولما بلغ قريشا خبر هذه المبايعة خفضت من غلوائها وأمرت بإطلاق عثمان، وأرسلت سهيل ابن عمرو العامري، وحويطب بن عبد العزى لعقد معاهدة بينهم وبين محمد صلّى الله عليه وسلم، فلما رآهما ورأى عثمان جاء سالما قال لقومه لقد سهل الله لكم من أمركم. وبعد المداولة معهما تم الصلح على وضع الحرب عشر سنين على الشروط المبينة في نص المعاهدة، وهي هذه (باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سهيل ابن عمرو العامري، على أن تخلي قريش بيننا وبين البيت نطوف به من العام المقبل، وان من جاءنا منهم رددناه، وإن كان مسلما، ومن جاء قريشا ممن اتبعنا لا يرد إلينا) وان من دخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن دخل في عقد قريش وعهدها دخل (أي بان يقر كل على ما هو عليه قبل هذه المعاهدة). فانتقد المسلمون هذه المعاهدة لا سيما وإن سهيلا لم يرض أن يكتب المعاهدة كاتب النبي أوس بن خولة، ولا ان يكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم لأنهم لا يعرفون هذه الجملة، ولا يذكر فيها أن محمدا رسول الله، لأنهم لو علموا أنه رسوله ما صدوه ولا حاربوه، وكان المتفق عليه عليا كرم الله وجهه فأبى أن يمحو اسم رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم أرنيه، فأراه فمحاه بيده قاتلا أنا رسول الله وان كذبتموني، وهذا يدل دلالة كافية على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يحسن
510
القراءة، وإلا لما قال لعلي أرنيه، راجع الآية ٤٨ من سورة العنكبوت في ج ٢ وإنما وافق صلّى الله عليه وسلم على هذه المعاهدة مع ما فيها من الحيف وعدم رضاء أصحابه بها وفاء بقوله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وشيء من حرمات الله إلا أجبتهم إليها. ومن الشروط أن يرجعوا دون زيارة، وانهم إذا أتوا من العام القابل لا يدخلون البيت إلا بجلباب السلاح والقوس. هذا ولم يكد يستلم كل فريق نسخة من هذه المعاهدة التي أغاظت أصحاب محمد لأنها أمليت بإرادة سفير قريش الذي أصر على عدم دخولهم البيت لئلا يقال ان محمدا ضغط عليهم، وإذا أبو جندل بن السفير نفسه جاء يرسف بحديدة، لأن أباه حبسه بسبب إسلامه، ولما سمع بمقدم رسول الله وأصحابه صار هو ورفقاؤه وضعفاء المسلمين يتدبرون الحيل للهرب من مكة والالتحاق بنبيهم، فقال سهل هذا أول واحد ترّده، فقال أبو جندل يعذبوني يا رسول الله، فطلبه منه فلم يفعل، فقال صلّى الله عليه وسلم له احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا، لأنا عقدنا الصلح ولا نغدر، فازداد غضب المسلمين حتى قال عمر والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ. ورسول الله يثبطهم ويعدهم بحسن العاقبة وهم يتمزقون غيظا مما لحقهم من الحيف في هذه المعاهدة، ويقولون نحن على الحق فلم نرض الدنية؟ فقال أبو بكر إن محمدا لن يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسكوا بغرزه فإنه على الحق. وبعد أن تكفل حويطب بن عبد
العزّى بأبي جندل وأجاره من أبيه وتعهد بأن لا يوقع به أذى، قال يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين وجئت مسلما؟ فتأثر المسلمون من ذلك، وقالوا يا رسول الله كيف ترد من جاءنا ولا يردون من جاءهم؟ قال نعم من ذهب منا إليهم فقد أبعده الله ومن جاء منهم فسيجعل الله له بعد عسر يسرا. وأمرهم بنحر الهدي والرجوع إلى المدينة. وقد ذكر الله هذه الحادثة في سورة الفتح عند قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الآية ١٠ الآتية وسترى نتيجة هذه المعاهدة وما ينتج عنها وأول خير وقع بسببها كما سيأتي بيانه في الآية ٧٥ من سورة النساء الآتية، ونزلت هذه السورة بعد رجوعهم كما نبيّنه إن شاء الله تعالى في الآيتين المذكورتين آنفا.
511
مطلب مبايعة النساء، وبقاء أثر نياحة الجاهلية حتى الآن في الفرات وغيرها:
قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ» من بيوتهن ولا بيوت غيرهن شيئا «وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ» وأدا ولا بصورة أخرى «وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ» بأن يلصقن أولادهن بغير آبائهم افتراء «بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ» أمامهن، لأن كل ما هو بين يديك فهو أمامك «وَأَرْجُلِهِنَّ» تحتهن، وذلك أن الولد إذا وضعته أمه يكون ساقطا بين يديها ورجليها، فإذا قالت ولدي منك وليس منه فقد أتت ببهتان بين يديها ورجليها فضلا عن قولها وهذا زيادة في التحريض لهن على العفاف والصدق «وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» تأمرهن به «فَبايِعْهُنَّ» يا سيد الرسل على هذه الشروط «وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ» عما مضى منهن مهما كان «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق من عباده «رَحِيمٌ ١٢» بمن اتبع دينه وآمن بنبيه. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية وما مسّت يده يد امرأة لا يملكها.
ورويا عن أم عطية قالت بايعنا رسول الله فقرأ علينا الآية (أي هذه) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت فلانة اسعدتني (أي بكت وناحت معها على فقيد لها) أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ثم رجعت فبايعها.
وهذه العادة التي ذكرتها أم عطيه موجودة حتى الآن في محافظة الفرات، حتى أن النائحة تقول (يا من تدبني دموع أبكاها اليوم تبكي لي وغدا ابكى لها) وكذلك يوجد كلمات من كلمات الجاهلية مثل (يا عزاه) وغيرها، وكذلك في أعراب البادية وبعض المدن، حتى ان الدروز إذا مات رجل معروف ألبسوا ثيابه خشبة وزينوا فرسه وصاروا يندبون عليه، الرجال والنساء، فيخمشون وجوههم ويسخمونها ويشقّون ثيابهم ويقصون شعورهم ويصيحون بالويل والثبور ويعددون صفات الميت بما فيه وما ليس فيه ويتقابلون بالسيوف، حتى ان نساء العراق يسلخن ثيابهن لحد الصّرة حالة الندب، وهناك عوائد أخرى من بقايا الجاهلية سنأتي على ذكرها في الآية الثانية فما بعدها من سورة النساء إن شاء الله، وقد ألمعنا إلى شيء منها في
512
الآية ١٣٦ من سورة الأنعام فما بعدها ج ٢، وإنما ذكرنا الضمير لأن الرجال يشتركون معهن عند موت كبير فيهم فيندبون ويثأرون بالسيوف والرماح. ورويا عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. وأخرج أبو داود عن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجهها، ولا ندعو ويلا، ولا نشق جيبا، ولا ننشر شعرا. وأخرج النسائي عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن، فقلن يا رسول الله نساء أسعدتنا في الجاهلية فنسعدهن، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا إسعاد في الإسلام. وروى مسلم عن مالك الأشعري قال: قلال رسول الله صلّى الله عليه وسلم البائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: لعن رسول الله النائحة والمستمعة.
وأخرج الترمذي عن أمية بنت رقية قالت: بايعت رسول الله في نسوة فقال لنا فيما استطعتنّ واطعتن، قلنا الله ورسوله ارحم بنا منّا بأنفسنا، قلت يا رسول الله بايعنا (قال سفيان يعني صافحنا) فقال صلّى الله عليه وسلم إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة. وهذه الآية نزلت مع سورتها في المدينة. وما قيل أنها نزلت بمكة بعد الفتح لا صحة له وهو أوهى من بيت العنكبوت، وما استند إليه صاحب هذا القيل من أن هند زوجة أبي سفيان فيما بايعت رسول الله مع نساء مكة على الصفا قالت وهي مقنعة لئلا يعرفها حضرة الرسول بسبب ما فعلت بحمزة رضي الله عنه في واقعة أحد المارة في الآية ١٢٢ من آل عمران، إنك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال وقالت إن البهتان لقبيح وإنك تأمرنا بالرشد ومكارم الأخلاق، وقالت وما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، ثم قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا حينما قال (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) وقالت إن أبا سفيان لشحيح وأنا أحتسب في ماله قالوا وإن الرسول عرفها فقال إنك لهند قالت نعم فاعف يا رسول الله قال قد عفا الله عنك، وما قيل إنه قال لها هند أكالة الكبود، وإنها قالت له أني وحقود قد لا يصح، وقد يصح، والميل لعدم
513
Icon