تفسير سورة الممتحنة

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ.
نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِ أَوْلِيَاءَ، وَلَفْظُ الْعَدُوِّ مُفْرَدٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْفَرْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [٢٠ ١١٧] يَعْنِي بِالْعَدُوِّ إِبْلِيسَ.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [١٨ ٥٠]، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ لِمَا فِي السِّيَاقِ مِنَ الْقَرَائِنِ مِنْهَا قَوْلُهُ (أَوْلِيَاءَ) بِالْجَمْعِ، وَمِنْهَا: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ، وَمِنْهَا: وَقَدْ كَفَرُوا بِوَاوِ الْجَمْعِ، وَمِنْهَا يُخْرِجُونَ أَيْضًا بِالْجَمْعِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا [٦٠ ٢] وَكُلُّهَا بِضَمَائِرِ الْجَمْعِ.
أَمَّا الْعَدُوُّ الْمُرَادُ هُنَا فَقَدْ عَمَّ وَخَصَّ فِي وَصْفِهِ فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَخَصَّ بِوَصْفِهِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ، وَالْوَصْفُ بِالْكُفْرِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُمَا مَعًا لِلتَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْخَاصِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [٢ ٩٨] فَفِي ذِكْرِ الْخَاصِّ هُنَا وَهُوَ وَصْفُ الْعَدُوِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلتَّهْيِيجِ عَلَى مَنْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [٢ ١٩١].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [٤٧ ١٣] أَيْ: مَكَّةَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
79
[٩ ٤٠] الْآيَةَ.
فَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِعَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ هُنَا خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقِصَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الظَّعِينَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِإِخْبَارِهِمْ بِتَجَهُّزِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْمُرَادَ بِالْعَدُوِّ هُنَا، وَلَكِنْ، وَإِنْ كَانَتْ بِصُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُهْمَلُ، فَقَوْلُهُ: عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ تَجَدَّدَ مِنَ الطَّوَائِفِ الْحَدِيثَةِ.
وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَفِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ [٥٨ ١٤].
وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ -.
وَعَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [٥ ٥١].
وَمِنَ الطَّوَائِفِ الْمُحْدَثَةِ كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ مِنْ شُيُوعِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَالْهِنْدُوكِيَّةِ، وَالْبُوذِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا الْعُمُومَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [٥ ٥٧ - ٥٨].
فَكُلُّ مَنْ هَزِئَ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أَوِ اتَّخَذَهُ لَعِبًا وَلَهْوًا فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ تَنَاوُلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِيَّاهُ.
تَنْبِيهٌ
ذِكْرُ الْمُقَابَلَةِ هُنَا بَيْنَ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ فِيهِ إِبْرَازُ صُورَةِ الْحَالِ وَتَقْبِيحُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تَتَنَافَى مَعَ الْمُوَالَاةِ وَالْمُسَارَّةِ لِلْعَدُوِّ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ نَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَضِيَّةَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي تَقْدِيمِ عَدُوِّي أَوَّلًا، وَعَطْفِ عَدُوِّكُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: التَّقْدِيمُ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِدُونِ عِلَّةٍ، وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ لِعِلَّةٍ، وَمَا كَانَ بِدُونِ عِلَّةٍ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
80
مَا كَانَ بِعِلَّةٍ. اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَبَلَاغِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هِيَ الْأَصْلُ، وَهِيَ أَشَدُّ قُبْحًا، فَلِذَا قُدِّمَتْ، وَقُبْحُهَا فِي أَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ خَالِقِهِمْ، وَشَكَرُوا غَيْرَ رَازِقِهِمْ، وَكَذَّبُوا رُسُلَ رَبِّهِمْ وَآذَوْهُمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَا نَصُّهُ: «إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبُدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي» وَفِيهِ «خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي» كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُؤَكِّدُ بِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمَا كَانَ سَبَبًا فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ.
وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ الْأَصْلُ، أَنَّ الْكَفَّارَ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَانْتَفَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ لَأَصْبَحُوا إِخْوَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَانْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا كَوْنُهُ مُغَيًّا بِغَايَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [٤ ٨٩]، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [٦٠ ٤] فَإِذَا هَاجَرَ الْمُشْرِكُونَ وَآمَنَ الْكَافِرُونَ، انْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ وَجَاءَتِ الْمُوَالَاةُ.
وَمِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ، هُوَ الْكُفْرُ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ عَدَاوَةٌ لَا لِسَبَبِ الْكُفْرِ فَلَا يُنْهَى عَنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ؛ لِتَخَلُّفِ الْعِلَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [٦٤ ١٤]، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٦٤ ١٤].
فَلَمَّا تَخَلَّفَ السَّبَبُ الْأَسَاسِيُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، جَاءَ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ لِسَبَبٍ آخَرَ هُوَ مَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [٦٤ ١٥]، فَكَانَ مُقْتَضَاهَا فَقَطِ الْحَذَرُ مِنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ، وَكَانَ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ نَصَّ صَرَاحَةً عَلَى عَدَمِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي خُصُوصِ مَنْ لَمْ يُعَادُوهُمْ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
81
الْآيَةَ [٦٠ ٨].
وَلِلْمُوَالَاةِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَضْوَاءِ:
مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [٥ ٥١]، وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِيهَا.
وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عُرِضَ ضِمْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩]، وَبَيْنَ رَوَابِطِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ بِتَوَسُّعٍ.
وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ [١٨ ٥٠] الْآيَةَ.
وَمِنْهَا فِي مَخْطُوطِ السَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ [٤٧ ٢٦]، وَأَحَالَ فِيهَا عَلَى آيَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» هَذِهِ.
وَمِنْهَا أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [٤٧ ٢٦]، وَأَحَالَ عِنْدَهَا عَلَى مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ سُورَةِ «الشُّورَى» «وَبَنِي إِسْرَائِيلَ».
وَمِنْهَا فِي سُورَةِ «الْمُجَادِلَةِ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [٥٨ ١٤].
وَفِيمَا كَتَبَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - بَيَانٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَجِدْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - تَعَرَّضَ لِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ خُصُوصِ التَّخْصِيصِ لِلْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ الْآيَةَ [٦٠ ٨].
وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِيهَا شَيْئًا مَعَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي لَهَا بَيَانٌ لِذَلِكَ عِنْدَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
تَنْبِيهٌ
رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ؛
82
لِأَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِضَلَالِهِمْ عَنْ عُمُومِ إِيمَانِهِمْ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الضَّلَالَ هُنَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لَا مُطْلَقَ السَّبِيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ.
(يَثْقَفُوكُمْ) أَيْ: يُدْرِكُوكُمْ، وَأَصْلُ الثَّقْفِ الْحِذْقُ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، وَالرُّمْحُ الْمُثَقَّفُ الْمُقَوَّمُ.
قَالَ الرَّاغِبُ: ثُمَّ يُتَجَوَّزُ بِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ ثَقَافَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [٢ ١٩١]، وَقَالَ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [٨ ٥٧] اهـ.
فَهَذِهِ نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي أَنَّ الثَّقَافَةَ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً الْآيَةَ، نَصَّ عَلَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَبَسْطَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ بِالسُّوءِ يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَثْقَفُوهُمْ مَعَ أَنَّ الْعَدَاءَ سَابِقٌ بِإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَشِدَّةِ التَّحْذِيرِ، وَأَنَّ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ هُوَ بَسْطُ الْأَيْدِي بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّهُمُ الْآنَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى وُجُودِ الْعَدَاوَةِ بِالْفِعْلِ لَدَى عُمُومٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [٣ ١١٨] فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِكُمْ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَهْلَ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ، أَيْ: فِي الْحَاضِرِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي إِنْ يَثْقَفُوكُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءٌ، وَقَدْ بَدَتْ مِنْهُمُ الْبَغْضَاءُ قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ إِعْلَانَ الْمُقَاطَعَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ دُونَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ، قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْحَسَدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [٢ ١٠٩].
وَقَالَ تَعَالَى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا إِلَى قَوْلِهِ:
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [٤ ٨٨ - ٨٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ.
الْأَرْحَامُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ لِعُمُومِ الْقَرَابَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [٨ ٧٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أَيْ: بِتَقَطُّعِ الْأَنْسَابِ بَيْنَهُمْ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [٢٣ ١٠١].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَتِيجَةَ هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [٨٠ ٣٤ - ٣٧]، وَقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [٧٠ ١٢]، فَعَمَّتْ جَمِيعَ الْأَقَارِبِ وَبَيَّنَتْ سَبَبَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ذَوِي أَرْحَامِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ فِي أَمْرِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فِي إِرْسَالِهِ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ بِأَمْرِ التَّجَهُّزِ لَهُمْ.
وَمَفْهُومُ الْوَصْفِ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يَدُلُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَفْهُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [٥٢ ٢١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [٤٠ ٨].
وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ رَوَابِطَ الدِّينِ أَقْوَى وَأَلْزَمُ مِنْ رَوَابِطِ النَّسَبِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩] وَالْآيَةُ الْآتِيَةُ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِحَقِيقَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَشُمُولِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.
الْأُسْوَةُ كَالْقُدْوَةِ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْغَيْرِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١]، وَهُنَا أَيْضًا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [٦٠ ٤].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا التَّأَسِّي الْمَطْلُوبَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ.
فَالتَّأَسِّي هُنَا فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: التَّبَرُّؤُ مِنْهُمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
ثَانِيًا: الْكُفْرُ بِهِمْ.
ثَالِثًا: إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَإِعْلَانُهَا وَإِظْهَارُهَا أَبَدًا إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَبَدًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ انْتَفَى كُلُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ.
وَهُنَا سُؤَالٌ، هُوَ مَوْضِعُ الْأُسْوَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ فَقَائِلُ الْقَوْلِ لِقَوْمِهِمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا مَحَلُّ التَّأَسِّي بِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ لِقَوْمِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ مَوْضِعَ التَّأَسِّي، وَمَوْضِعُ التَّأَسِّي الْمَطْلُوبِ فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ مَا قَالَهُ مَعَ قَوْمِهِ الْمُتَقَدِّمِ جُمْلَةً، وَمَا فَصَّلَهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [٤٣ ٢٦ - ٢٧] وَهَذَا التَّبَرُّؤُ جَعَلَهُ بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [٤٣ ٢٨].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ هَذَا
85
الِاسْتِثْنَاءِ وَهَلْ هُوَ خَاصٌّ بِإِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، أَمْ لِمَاذَا؟
وَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [٩ ١١٤]، تِلْكَ الْمَوْعِدَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ فِي بَادِئِ دَعْوَتِهِ حِينَمَا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [١٩ ٤٦ - ٤٧]، فَكَانَ قَدْ وَعَدَهُ وَوَفَّى بِعَهْدِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكَانَ مَحَلُّ التَّأَسِّي فِي إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا التَّبَرُّؤِ مِنْ أَبِيهِ، لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ.
وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ وَلَيْسَتْ خَاصَّةً فِي إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [٩ ١١٣]، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ فِيهِ تَبَعِيَّةُ أَحَدٍ لِأَحَدٍ، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى.
وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يَأْتِيَ نَظِيرَ مَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ مَوَاقِفُ مُمَاثِلَةٌ فِي أُمَمٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا مَوْقِفُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنِ ابْنِهِ لَمَّا قَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [١١ ٤٥]، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [١١ ٤٦] قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ الْآيَةَ [١١ ٤٧]، فَكَانَ مَوْقِفُ نُوحٍ مِنْ وَلَدِهِ كَمَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ.
وَمِنْهَا: مَوْقِفُ نُوحٍ وَلُوطٍ مِنْ أَزْوَاجِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [٦٦ ١٠].
وَمِنْهَا: مَوْقِفُ زَوْجَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٦٦ ١١]، فَتَبَرَّأَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا، وَهَذَا التَّأَسِّي قَدْ بَيَّنَ تَمَامَ الْبَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ [٦٠ ٣] أَيْ: وَلَا آبَاؤُكُمْ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَقْرِبَائِكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
86
بَيَّنَهُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ فِيهِ تَبَعِيَّةٌ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [٦ ١٥٨]، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [٨٢ ١٩].
وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مُحَاضَرَةً فِي كَنُو بِنَيْجِيرْيَا فِي مُجْتَمَعٍ فِيهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ، فَعَرَضَ هَذَا الْمَوْضُوعَ، وَبَيَّنَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ نَفْعَ أَحَدٍ فَكَانَ لَهَا وَقْعٌ عَظِيمُ الْأَثَرِ فِي النُّفُوسِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ طَبْعَهَا مَعَ طَبْعِ جَمِيعِ مُحَاضَرَاتِهِ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْمَيْمُونَةِ.
مَسْأَلَةٌ
جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا بِدَلِيلِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هُوَ شَرْعٌ لَنَا قَطْعًا، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا كَآيَةِ الرَّجْمِ، وَكَهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمُوَالَاةِ، وَإِمَّا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا قَطْعًا كَتَحْرِيمِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَتَحْرِيمِ بَعْضِ الشُّحُومِ، إِلَخْ.
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ نَنْهَ عَنْهُ.
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا لِذِكْرِهِ لَنَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ لَنَا فَائِدَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [٤٢ ١٣]، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَالشَّافِعِيُّ يُعَارِضُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَيَقُولُ: الْآيَةُ فِي الْعَقَائِدِ لَا فِي الْفُرُوعِ، وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [٥ ٤٨]، وَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ
87
الْمَذْكُورِ، فَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّنَا أُمِرْنَا بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي مُعَيَّنٍ جَاءَ فِي شَرْعِنَا الْأَمْرُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
تَنْبِيهٌ
يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ يَكَادُ يَكُونُ شَكْلِيًّا، وَكُلٌّ مَحْجُوجٌ بِمَا حَجَّ بِهِ الْآخَرَ، وَذَلِكَ كَالْآتِي:
أَوَّلًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شِرْعَةٍ وَعَلَى وُجُودِ مِنْهَاجٍ، فَإِذَا جِئْنَا لِاسْتِدْلَالِ الْجُمْهُورِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، لَمْ نَجِدْ فِيهِ ذِكْرَ الْمِنْهَاجِ، وَنَجِدْ وَاقِعَ التَّشْرِيعِ، أَنَّ مِنْهَاجَ مَا شَرَعَ لَنَا يُغَايِرُ مِنْهَاجَ مَا شَرَعَ لِمَنْ قَبْلَنَا كَمَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [٢ ١٨٣]، وَهَذَا يَتَّفِقُ فِي أَصْلِ الشِّرْعَةِ، وَلَكِنْ جَاءَ مَا يُبَيِّنُ الِاخْتِلَافَ فِي الْمِنْهَاجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [٢ ١٨٧] وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا، وَهُوَ ضِمْنُ مِنْهَاجِ مَنْ قَبْلَنَا وَشِرْعَتِهِمْ فَاتَّفَقْنَا مَعَهُمْ فِي الشِّرْعَةِ، وَاخْتَلَفَ مَنْهَجُنَا عَنْ مَنْهَجِهِمْ بِإِحْلَالِ مَا كَانَ مِنْهُ حَرَامًا، وَهَذَا مُلْزِمٌ لِلْجُمْهُورِ، وَهَكَذَا بَقِيَّةُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلْجَمِيعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [٢ ١٢٥]، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [١٤ ٣٧] وَقَوْلِهِ عَنْ عِيسَى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [١٩ ٣١]، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَجِّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [٣ ٩٧]، وَقَوْلُهُ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا الْآيَةَ [٢٢ ٢٧]، فَجَمِيعُ الْأَرْكَانِ، وَهِيَ فُرُوعٌ لَا عَقَائِدُ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَاشْتَرَكْنَا مَعَهُمْ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَلَكِنْ هَلْ كَانَتْ كُلُّهَا كَمَنْهَجِهَا عِنْدَنَا فِي أَوْقَاتِهَا وَأَعْدَادِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا، لَقَدْ وَجَدْنَا الْمُغَايَرَةَ فِي الصَّوْمِ وَاضِحَةً، وَهَكَذَا فِي غَيْرِهَا، فَالشِّرْعَةُ عَامَّةٌ لِلْجَمِيعِ وَالْمِنْهَاجُ خَاصٌّ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغِنَيُّ الْحَمِيدُ.
إِعَادَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَأْكِيدٌ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى.
وَقَوْلُهُ: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي [٦٠ ١] ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيهَا فِي الْمَاصَدَقَ، وَهُنَا جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ، وَتَكُونَ قَضِيَّةً عَامَّةً فِيمَا بَعْدُ لِكُلِّ مَنْ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، أَنْ يَتَأَسَّى بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي مَوْقِفِهِمِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، التَّوَلِّي هُنَا الْإِعْرَاضُ عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ عُمُومًا.
وَهُنَا يَحْتَمِلُ تَوَلِّي الْكُفَّارِ وَمُوَالَاتَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ حَمِيدٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [٦٤ ٦].
وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ عَنْ طَاعَةِ الطَّائِعِينَ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَجَاءَ فِي خُصُوصِ الْحِجِّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [٣ ٩٧].
وَجَاءَ فِي الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [١٤ ٨] ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [٢٩ ٦].
وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا».
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى غِنَاهُ الْمُطْلَقَ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [٣١ ٢٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ جَعَلَ الْمَوَدَّةَ بِالْفِعْلِ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَنْ عَادَوْهُمْ وَأُمِرُوا بِمُقَاطَعَتِهِمْ وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ عَسَى مِنَ اللَّهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاللَّهُ قَدِيرٌ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِعْلًا فِي سُورَةِ «النَّصْرِ» حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَّةَ وَكَانُوا طُلَقَاءَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَعَامِ الْوُفُودِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَفِي التَّذْيِيلِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ، يُشْعِرُ بِأَنَّ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَمَوَدَّتَهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا الْآيَةَ [٨ ٦٣].
وَلِأَنَّ الْمَوَدَّةَ الْمُتَوَقَّعَةَ بِسَبَبِ هِدَايَةِ الْكُفَّارِ، وَالْهِدَايَةُ مِنْحَةٌ مِنَ اللَّهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأُولَى رُخْصَةً مِنَ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَكِنْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ صِنْفَانِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَقِسْمَانِ مِنَ الْمُعَامَلَةِ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عَدُوٌّ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ.
إِذًا فَهُمَا قِسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَحُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَانِ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ عُمُومِ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأَوْلَى رُخْصَةً بَعْدَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَاعْتَبَرَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ الْأَوَّلِ، وَنَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ دَعْوَى النَّسْخِ فِي الْأُولَى، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ وَمَنَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَقْسِيمٌ لِعُمُومِ الْعَدُوِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [٦٠ ١]، مَعَ بَيَانِ كُلِّ قِسْمٍ وَحُكْمِهِ، كَمَا تَدُلُّ لَهُ قَرَائِنُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَائِنُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا التَّقْسِيمُ فَقِسْمَانِ: قِسْمٌ مُسَالِمٌ لَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ،
90
فَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِرِّهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ، وَقِسْمٌ غَيْرُ مُسَالِمٍ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيُظَاهِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ بِالْبَرِّ وَالْقِسْطِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُوَالَاةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قَرَائِنَ، وَهِيَ عُمُومُ الْوَصْفِ بِالْكُفْرِ، وَخُصُوصُ الْوَصْفِ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَإِيَّاكُمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِخْرَاجَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ كَانَ نَتِيجَةً لِقِتَالِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاتِهِ لِمَوْقِفِهِ الْمُعَادِي؛ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ تُنَافِي الْمُوَالَاةَ.
وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأَيُّ ظُلْمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ الْفَرْدِ لِأَعْدَاءِ أُمَّتِهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْعَامُّ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَادُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ لَا بِقِتَالٍ، وَلَا بِإِخْرَاجٍ، وَلَا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَا ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ جَانِبٍ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْمُوَالَاةِ لِكُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَا يَمْنَعُ بِرَّهُمْ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا جَدِيدُ بَحْثٍ بَعْدَ الْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَقِيَ الْبَحْثُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَمِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: بَيَانُ مَنِ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهَا، وَهَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ نُسِخَتْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ وَحَاجَةِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَشَدِّ مَا تَكُونُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِقُوَّةِ تَشَابُكِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعُمْقِ تُدَاخُلِهَا، وَتَرَابِطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِ دَوْلَةٍ عَنْ أُخْرَى مِمَّا يَزِيدُ مِنْ وُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ.
وَإِنِّي مُسْتَعِينُ اللَّهِ فِي إِيرَادِ مَا قِيلَ فِيهَا، ثُمَّ مُقَدِّمٌ مَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَاُ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ زَمَنَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ، قِيلَ بِآيَةِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [٩ ٥] قَالَهُ قَتَادَةُ.
91
وَقِيلَ: كَانَتْ فِي أَهْلِ الصُّلْحِ فَلَمَّا زَالَ زَالَ حُكْمُهَا وَانْتَهَى الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَقِيلَ: هِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَهْدِ حَتَّى يَنْتَهِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ وَمُرْتَبِطَةً بِقَوْمٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاجِزِينَ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ حِينَمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَعَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ قَدْ نُسِخَتْ، بِفَوَاتِ وَقْتِهَا وَذَهَابِ مَنْ عُنِيَ بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ قَالَهُ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنَقَلَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَاءَتْ إِلَيْهَا وَهِيَ لَمْ تُسْلِمْ بَعْدُ وَكَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتْ لِابْنَتِهَا بِهَدَايَا فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنْهَا وَأَنْ تَسْتَقْبِلَهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَرَهَا بِصِلَتِهَا وَعَزَاهُ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَذَكَرَ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ قُدُومَهَا كَانَ فِي وَقْتِ الْهُدْنَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ أَيْ بِانْتِهَائِهَا، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ دَائِرَةٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ بَيْنَ الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ.
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ وَتَقَيَّدْنَا بِصُورَةِ السَّبَبِ، نَجِدُ أَوَّلَهَا نَزَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَهْدِ بِنَقْضِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ، وَعِنْدَ تَهَيُّئِ الْمُسْلِمِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَمَجِيءِ أُمِّ أَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ فَهَلْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْعَهْدِ أَمْ لَا؟ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِنَّ.
وَعَلَيْهِ فَلَا دَلَالَةَ فِي قِصَّةِ أُمِّ أَسْمَاءَ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ.
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ نَجِدِ الْآيَةَ صَرِيحَةً شَامِلَةً لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُنَاصِبِ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاءَ، وَلَمْ يُظْهِرْ سُوءًا إِلَيْهِمْ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ أَقْرَبُ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ دَعْوَى النَّسْخِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ يُقَاوِمُ صَرَاحَةَ هَذَا النَّصِّ الشَّامِلِ، وَتَوَفُّرَ شُرُوطِ النَّسْخِ الْمَعْلُومَةِ فِي أُصُولِ التَّفْسِيرِ.
وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ النَّسْخِ مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [٣ ٢٨] بِأَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَالضَّعْفِ مَعَ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ
92
أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَبَاقٍ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ اللُّزُومِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَعَدَمِ خَوْفٍ وَفِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُسَالَمَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ بِرِّهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِقْسَاطِ مَعَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَفِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمِ مُعَادَاةِ مَنْ لَمْ يُعَادِهِمْ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي نَوَّهْنَا عَنْهَا سَابِقًا مَا جَاءَ فِي التَّذْيِيلِ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فَهَذَا تَرْشِيحٌ لِمَا قَدَّمْنَا كَمَا قَابَلَ هَذَا بِالتَّذْيِيلِ عَلَى الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَفِيهِ مُقَابَلَةٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ فَالْعَدْلُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْقِسْطُ لِمَنْ يُسَالِمُكَ، وَالظُّلْمُ مِمَّنْ يُوَالِي مَنْ يُعَادِي قَوْمَهُ.
وَمِمَّا يَنْفِي النَّسْخَ عَدَمُ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ، لِأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ التَّعَارُضُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَمَعْرِفَةُ التَّارِيخِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ وَالتَّعَارُضُ مَنْفِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لَا يَمْنَعُ الْإِحْسَانَ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا لِيُفَاجِئُوا قَوْمًا بِقِتَالٍ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ قَطْعًا، وَلِأَنَّهُمْ قَبِلُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ، وَعَامَلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ بِكُلِّ إِحْسَانٍ وَعَدَالَةٍ.
وَقِصَّةُ الظَّعِينَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ لَمْ يُقَاتِلُوهَا أَوْ يَأْسِرُوهَا أَوْ يَسْتَبِيحُوا مَاءَهَا بَلِ اسْتَاقُوهَا بِمَائِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ مِنْ مَزَادَتَيْهَا قَلِيلًا، وَدَعَا فِيهِ وَرَدَّهُ، ثُمَّ اسْتَقَوْا وَقَالَ لَهَا: اعْلَمِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَقَانَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنْ مَزَادَتَيْكِ شَيْئًا، وَأَكْرَمُوهَا وَأَحْسَنُوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، وَأَرْسَلُوهَا فِي سَبِيلِهَا فَكَانَتْ تَذْكُرُ ذَلِكَ، وَتَدْعُو قَوْمَهَا لِلْإِسْلَامِ.
وَقِصَّةُ ثُمَامَةَ لَمَّا جِيءَ بِهِ أَسِيرًا وَرُبِطَ فِي سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَكَانَ يُرَاحُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَلِيبِ سَبْعِ نِيَاقٍ حَتَّى فُكَّ أَسْرُهُ فَأَسْلَمَ طَوَاعِيَةً، وَهَكَذَا نَصَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ الْآيَةَ [٧٦ ٨ - ٩].
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَسِيرٍ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مِنَ الْكُفَّارِ.
وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ، فَكَانَ يَقْدِمُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَلَقَّوْنَ الْجَمِيعَ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ كَوَفْدِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ وَهَاهُو ذَا وَفْدُ تَمِيمٍ جَاءَ يُفَاخِرُ
93
وَيُفَاوِضُ فِي أُسَارَى لَهُ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ - صلّى الله عليه وسلم - وَيَسْتَمِعُ مُفَاخَرَتِهِمْ وَيَأْمُرُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي النِّهَايَةِ يُسْلِمُونَ وَيُجِيزُهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَوَائِزِ، وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ، لِأَنَّ وَفْدًا يَأْتِي مُتَحَدِّيًا مُفَاخِرًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَجَاءَ فِي أَمْرٍ جَارٍ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ فَجَارَاهُمْ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بِالْمُفَاخَرَةِ بُعِثَ، وَلَكِنْ تَرَفُّقًا بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فَأَسْلَمُوا، وَهَذَا مَا تُعْطِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.
وَقَدْ بَحَثَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ نَوَاحِي النَّقْلِ وَأَخِيرًا خَتَمَ بَحْثَهُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتَصِلُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، جَمِيعَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتُهُ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ أَوْ مِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَلَا نَسَبَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَهُ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَأُمِّهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، يَقُولُ إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُنْصِفِينَ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ النَّاسَ وَيُعْطُونَهُمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَبِرُّونَ مَنْ بَرَّهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، انْتَهَى مِنْهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْحَثٌ هَامٌّ نَسُوقُهُ أَيْضًا بِنَصِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ:
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، قَالَ: يُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ تَأَثَّرَ مِنْ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ أَحْسَبُ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ فَرْضُ جِهَادِهِمْ وَقَطْعُ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَنَزَلَ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [٥٨ ٢٢]، فَلَمَّا خَافُوا أَنْ تَكُونَ الْمَوَدَّةُ الصِّلَةَ بِالْمَالِ أَنْزَلَ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
94
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَتِ الصِّلَةُ بِالْمَالِ، وَالْبِرِّ، وَالْإِقْسَاطِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَالْمُرَاسَلَةِ بِحُكْمِ اللَّهِ غَيْرَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَنْ نُهُوا عَنْ وَلَايَتِهِ مَعَ الْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبَاحَ بِرَّ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ بَلْ ذَكَرَ الَّذِينَ ظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ فَنَاهُمْ عَنْ وَلَايَتِهِمْ إِذْ كَانَ الْوَلَايَةُ غَيْرَ الْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادَى بَعْضَ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلِسَانِهِ، وَمِنْ بَعْدِ بَدْرٍ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَسْرِهِ وَأَسْلَمَ ثُمَامَةُ وَحَبَسَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُمِيرَهُمْ فَأَذِنَ لَهُ فَمَارَهُمْ.
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [٧٦ ٨]، وَالْأَسْرَى يَكُونُونَ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. اهـ مِنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي تَقْتَضِيهِ رُوحُ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، أَمَّا وِجْهَةُ النَّظَرِ الَّتِي وَعَدْنَا بِتَقْدِيمِهَا فَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مُشْتَرِكَةٌ مَصَالِحُهُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَمُرْتَبِطَةٌ بِمَجْمُوعِ دُوَلِ الْعَالَمِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّةٍ الْيَوْمَ أَنْ تَعِيشَ مُنْعَزِلَةً عَنِ الْمَجْمُوعَةِ الدَّوْلِيَّةِ؛ لِتَدَاخُلِ الْمَصَالِحِ وَتَشَابُكِهَا، وَلَاسِيَّمَا فِي الْمَجَالِ الِاقْتِصَادِيِّ عَصَبِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ مِنْ إِنْتَاجٍ أَوْ تَصْنِيعٍ أَوْ تَسْوِيقٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُسَاعَدَةً عَلَى جَوَازِ التَّعَامُلِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُسَالِمِينَ وَمُبَادَلَتِهِمْ مَصْلَحَةً بِمَصْلَحَةٍ عَلَى أَسَاسِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي حَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي عِدَّةِ مُنَاسَبَاتٍ مِنْ مُحَاضَرَاتِهِ وَمِنَ الْأَضْوَاءِ نَفْسِهِ، وَبِشَرْطِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مِنْ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ أَيْ: عَدَمُ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ، وَلَوْ قِيلَ بِشَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ يَتَعَاوَنُ أَوَّلًا مَعَ بَعْضِهِ، فَإِذَا أَعْوَزَهُ أَوْ بَعْضَ دُوَلِهِ حَاجَةٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَدُوًّا عَلَى قِتَالِهِمْ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ عَمَلِيًّا مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِلْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ.
فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
95
[٦٠ ١]، وَمَنْصُوصٌ عَلَى عَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٥ ٥١].
وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْرَجَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ وَحَاصَرَهُمْ بَعْدَهَا فِي خَيْبَرَ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَصْبَحُوا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ فَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمُقَاتِلِينَ، وَلَا مُظَاهِرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ عَامَلَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِسْطِ فَعَامَلَهُمْ عَلَى أَرْضِ خَيْبَرَ وَنَخِيلِهَا وَأَبْقَاهُمْ فِيهَا عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ كَأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لِحِسَابِهِ وَحِسَابِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَّخِذْهُمْ عَبِيدًا يُسَخِّرُهُمْ فِيهَا، وَبَقِيَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْقِسْطِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ ابْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ذَهَبَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا عَرَضُوا مِنَ الرِّشْوَةِ؛ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: وَاللَّهِ لِأَنْتَمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ وَجِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَنْ يَحْمِلَنِي بُغْضِي لَكُمْ، وَلَا حُبِّي لَهُ أَنْ أَحْيَفَ عَلَيْكُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنِصْفِ مَا قُدِّرَتْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا قُدِّرَتْ، فَقَالُوا لَهُ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ: بِالْعَدَالَةِ وَالْقِسْطِ، وَقَدْ بَقُوا عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةَ زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافَةَ الصِّدِّيقِ، وَصَدَرَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عَنْهَا.
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَعْطَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَعْطَاهُمُ الصِّدِّيقُ حَتَّى مَنَعَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهَمِّيَّتِهَا وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا الْيَوْمَ.
وَفِي الْخِتَامِ إِنَّ أَشَدَّ مَا يَظْهَرُ وُضُوحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ فِيهِ نَسْخًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [٣١ ١٥].
فَهَذِهِ حُسْنُ مُعَامَلَةٍ، وَبِرٍّ، وَإِحْسَانٍ لِمَنْ جَاهَدَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ وَلَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ حَقُّ الْأُبُوَّةِ مُقَدَّمًا، وَلَوْ مَعَ الْكُفْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ عَلَى الشِّرْكِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي نِهَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [٦٠ ١٠].
96
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [٦٠ ١٠] أَيْ: آتُوا الْمُشْرِكِينَ أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مَا أَنْفَقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِنَّ، فَبَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ وَهَاجَرَتْ وَانْحَلَّتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ، وَبَعُدَتْ عَنْهُ بِالْهِجْرَةِ وَفَاتَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤْتُوا أَزْوَاجَهُنَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، مَا أَنْفَقُوا مِنْ صَدَاقٍ عِنْدَ الزَّوَاجِ وَنَحْوِهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِرْجَاعِ الزَّوْجَاتِ، وَعَدَمِ جَوَازِ مُوَالَاتِهِمْ قَطْعًا لِكُفْرِهِمْ، وَهَذَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ بِالْقِسْطِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، نَصَّ عَلَى امْتِحَانِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُهُنَّ مَا خَرَجَتْ كُرْهًا لِزَوْجٍ، أَوْ فِرَارًا لِسَبَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ: كَانَ امْتِحَانُهُنَّ بِالْبَيْعَةِ الْآتِيَةِ: لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ [٦٠ ١٢] الْآيَةَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرِّجَالَ الْمُهَاجِرِينَ لَا يُمْتَحَنُونَ.
وَفِعْلًا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ وَالسَّبَبُ فِي امْتِحَانِهِنَّ دُونَ الرِّجَالِ، هُوَ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ، كَأَنَّ الْهِجْرَةَ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي فِي حَقِّهِنَّ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُمْ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ بِالْهِجْرَةِ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٥٩ ٨]، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ مُهَاجِرًا يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ تَبِعَةَ الْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ فَلَا يُهَاجِرُ إِلَّا وَهُوَ صَادِقُ الْإِيمَانِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى امْتِحَانٍ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ جَانِبِيٌّ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُهِمَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْهِجْرَةِ الْمُنَوِّهِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي [٦٠ ١] الْآيَةَ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ وَلَا يَلْزَمُهُنَّ بِالْهِجْرَةِ أَيَّةُ تَبَعِيَّةٍ، فَأَيُّ سَبَبٍ يُوَاجِهُهُنَّ فِي حَيَاتِهِنَّ سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ بِاسْمِ الْهِجْرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا
97
لِلتَّوَثُّقِ مِنْ هِجْرَتِهِنَّ بِامْتِحَانِهِنَّ لِيُعْلَمَ إِيمَانُهُنَّ، وَيُرَشِّحُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، وَفِي حَقِّ الرِّجَالِ: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٥٩ ٨]، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هِجْرَةَ الْمُؤْمِنَاتِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حَقٌّ مَعَ طَرَفٍ آخَرَ، وَهُوَ الزَّوْجُ فَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا مِنْهُ، وَيُعَوَّضُ هُوَ عَمَّا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَإِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي النِّكَاحِ وَإِيجَابُ حَقِّهِ فِي الْعِوَضِ قَضَايَا حُقُوقِيَّةٌ، تَتَطَلَّبُ إِثْبَاتًا بِخِلَافِ هِجْرَةِ الرِّجَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ لَا يَنْبَغِي إِرْجَاعُهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَهُنَّ إِنْ رَجَعْنَ إِلَيْهِمْ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يَأْتِي النَّصُّ عَلَيْهِ؟
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا جَاءَ فِي مُعَاهَدَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ مُسْلِمًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدُّوهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرًا لِلْمُشْرِكِينَ لَا يَرُدُّونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأُخْرِجَتِ النِّسَاءُ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ وَأَبْقَتِ الرِّجَالَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَتَخْصِيصُ السُّنَةِ بِالْقُرْآنِ، وَتَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَةِ مَعْلُومٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ مِنْ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَخُصِّصَ الْكِتَابُ وَالْحَدِيثُ بِهِ أَوْ بِالْحَدِيثِ مُطْلَقًا فَلْتَنْتَبِهْ
وَمِمَّا ذَكَرَهُ لِأَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالْكِتَابِ قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلم: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ»، أَيْ: مُحَرَّمٌ، جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا [١٦ ٨٠] أَيْ: لَيْسَ مُحَرَّمًا.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [٥ ٣] جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ» الْحَدِيثَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ بَعْدُ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا وَكَانَ كَافِرًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ شَرَطْتَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مُخَصِّصَةً لِلْمُعَاهَدَةِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِيهَا ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَقَطْ.
98
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَتْ فَارَّةً مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدَّهَا عَلَيْنَا لِلشَّرْطِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِمُعَاهَدَةِ الْهُدْنَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثِلَةِ لِتَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ عَنْ عُرْوَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالسُّدِّيِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ أَمْرَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْآيَةِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّهَا أَحْدَثَتْ حُكْمًا جَدِيدًا فِي حَقِّهِنَّ وَهُوَ عَدَمُ الْحِلِّيَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا مَحَلَّ لِإِرْجَاعِهِنَّ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ مُعَاهَدَةِ الْهُدْنَةِ مَعَ هَذَا الْحُكْمِ فَخَرَجْنَ مِنْهَا وَبَقِيَ الرِّجَالُ.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّهَا جَعَلَتْ لِلْأَزْوَاجِ حَقَّ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنَّ دَاخِلَاتٍ أَوَّلًا لَمَا كَانَ طَلَبُ الْمُعَاوَضَةِ مُلْزِمًا، وَلَكِنَّهُ صَارَ مُلْزِمًا، وَمُوجِبُ إِلْزَامِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ مَنْعَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ بِمُقْتَضَى الْمُعَاهَدَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا خَرَجْنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَزْوَاجِ كُنَّ كَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فَلَزِمَهُنَّ الْعِوَضُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، فِيهَا تَحْرِيمُ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْهِجْرَةِ لَا بِالْإِسْلَامِ قَبْلَهَا، وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَقِيَتِ الْعِصْمَةُ إِلَى نِهَايَةِ الْعُدَّةِ، فَإِنْ هَاجَرَ الطَّرَفُ الْآخَرُ فِيهَا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا الْأَوَّلِ.
وَهُنَا مَبْحَثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ.
وَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ فِي أَمْرِ رَدِّهَا إِلَيْهِ هَلْ كَانَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، أَوْ جَدَّدَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْدًا جَدِيدًا، وَمِنْ أَسْبَابِ كَثْرَةِ الْخِلَافِ الرَّبْطُ بَيْنَ تَارِيخِ إِسْلَامِهَا وَتَارِيخِ إِسْلَامِهِ، وَبَيْنَهُمَا سِتُّ سَنَوَاتٍ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ لَمْ يَقَعْ تَحْرِيمٌ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَكَافِرٍ، وَنُزُولُهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِسْلَامُهَا كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا يُوَافِقُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ كَانَتْ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ نِكَاحَهَا
99
وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتِ انْتَظَرَتْ. اهـ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهَا لَمْ يَكُنْ كُفْأً لَهَا وَإِذَا انْتَفَتِ الْكَفَاءَةُ أُعْطِيَتِ الزَّوْجَةُ الْخِيَارَ، كَقِصَّةِ بَرِيرَةَ لَمَّا عُتِقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا مَمْلُوكًا، وَلَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ كُفْرِ الزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ إِذَا جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ أَنَّ عَلَيْهَا رَدَّ مَا أَنْفَقَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا، وَكَوْنُهُ الصَّدَاقَ أَوْ أَكْثَرَ قَدْ بَحَثَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مَبْحَثِ الْخُلْعِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَكِّ عِصْمَةِ زَوْجَاتِهِمِ الْكَوَافِرِ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَئِذٍ زَوْجَتَيْنِ، وَطَلَّقَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ زَوْجَتَهُ أَرْوَى بِنْتَ رَبِيعَةَ، وَعِصَمُ الْكَوَافِرِ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرَةٍ، فَيَشْمَلُ الْكِتَابِيَّاتِ لِكُفْرِهِنَّ بِاعْتِقَادِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - وَلَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ قَدْ خُصِّصَ بِإِبَاحَةِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [٥ ٥] أَيْ: الْحَرَائِرُ، وَبَقِيَتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكَةِ بِالْعَقْدِ عَلَى التَّأْبِيدِ.
وَمَفْهُومُ الْعِصْمَةِ لَا يَمْنَعُ الْإِمْسَاكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمُشْرِكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ حُرْمَةُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ مُطْلَقًا مُشْرِكًا كَانَ أَوْ كِتَابِيًّا عَلَى التَّأْبِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، أَيْ: فِي الْحَاضِرِ، وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ فَصَّلَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَسْأَلَةَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّكَاحِ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ [٤ ٢٥].
تَنْبِيهٌ
هُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ: إِذَا كَانَ الْكُفْرُ هُوَ سَبَبَ فَكِّ عِصْمَةِ الْكَافِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَتَحْرِيمِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَلِمَاذَا حَلَّتِ الْكَافِرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِ، وَلَمْ تَحِلَّ الْمُسْلِمَةُ لِلْكَافِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ جَانِبَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ وَالْقَوَامَةُ فِي الزَّوَاجِ لِلزَّوْجِ قَطْعًا لِجَانِبِ الرُّجُولَةِ، وَإِنْ تَعَادَلَا فِي الْحِلِّيَةِ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ التَّعَادُلَ لَا يُلْغِي الْفَوَارِقَ كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ،
100
فَإِذَا امْتَلَكَ رَجُلٌ امْرَأَةً حَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا امْتَلَكَتْ عَبْدًا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَسْتَمْتِعَ مِنْهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلِقَوَامَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى أَوْلَادِهَا وَهُوَ كَافِرٌ لَا يَسْلَمُ لَهَا دِينُهَا، وَلَا لِأَوْلَادِهَا.
وَالْجَانِبُ الثَّانِي: شُمُولُ الْإِسْلَامِ وَقُصُورُ غَيْرِهِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرٌ اجْتِمَاعِيٌّ لَهُ مَسَاسٌ بِكِيَانِ الْأُسْرَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً، فَهُوَ يُؤْمِنُ بِكِتَابِهَا وَبِرَسُولِهَا، فَسَيَكُونُ مَعَهَا عَلَى مَبْدَأِ مَنْ يَحْتَرِمُ دِينَهَا لِإِيمَانِهِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَسَيَكُونُ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلتَّفَاهُمِ، وَقَدْ يَحْصُلُ التَّوَصُّلُ إِلَى إِسْلَامِهَا بِمُوجِبِ كِتَابِهَا، أَمَّا الْكِتَابِيُّ إِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، فَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِدِينِهَا، فَلَا تَجِدُ مِنْهُ احْتِرَامًا لِمَبْدَئِهَا وَدِينِهَا، وَلَا مَجَالَ لِلْمُفَاهَمَةِ مَعَهُ فِي أَمْرٍ لَا يُؤْمِنُ بِهِ كُلِّيَّةً، وَبِالتَّالِي فَلَا مَجَالَ لِلتَّفَاهُمِ وَلَا لِلْوِئَامِ، وَإِذًا فَلَا جَدْوَى مِنْ هَذَا الزَّوَاجِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَمَنَعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، يَعْنِي صَدَاقَهُنَّ.
وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ النِّكَاحَ بِدُونِ الْأُجُورِ فِيهِ جُنَاحٌ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [٣٣ ٥٠]، فَهِبَةُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِدُونِ صَدَاقٍ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُحِلُّهُ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِتْيَانِ الْأُجُورِ.
وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ بِدُونِ إِتْيَانِ الصَّدَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ الْآيَةَ [٢ ٢٣٦].
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الْمُفَوَّضَةِ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهُ صَدَاقُ الْمِثْلِ، وَيَدُلُّ لِإِطْلَاقِ الْأُجُورِ عَلَى الصَّدَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ طَوْلًا لِلْحَرَائِرِ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، إِلَى قَوْلِهِ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [٤ ٢٥] وَفِي نِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ الْآيَةَ [٥ ٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى
101
لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [٣٣ ٥٠]، وَبِهَذَا كُلِّهِ يُرَدُّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ الْأُجُورِ عَلَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [٤ ٢٤] وَتَقَدَّمَ مَبْحَثُ الْمُتْعَةِ مُوجَزًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ.
الْقَيْدُ بِالْمَعْرُوفِ هُنَا لِلْبَيَانِ وَلَا مَفْهُومَ لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْرُوفٌ، وَفِيهِ حَيَاتُهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [٨ ٢٤]، فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [٥٩ ٧]، وَلَكِنْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لَا طَاعَةَ لَهُ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [٦٠ ١٣].
يَرَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي خِتَامِ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْآيَةِ الْأُولَى فِي أَوَّلِهَا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَمَّا افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَفَّارِ أَوْلِيَاءَ خَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ، وَتَنْفِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَنْهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا نَهَى عَنْهَا فِي أَوَّلِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنًى جَدِيدًا، وَذَلِكَ لِلْآتِي:
أَوَّلًا: أَنَّهَا نَصٌّ فِي قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ حَمَلَهَا الْبَعْضُ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَحَمَلَهَا الْبَعْضُ عَلَى خُصُوصِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ صَارَ عُرْفًا لَهُمْ، هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَمِمَّا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُقَدِّمَةِ الْأَضْوَاءِ، أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ مُرَجَّحًا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ مُحَقَّقٌ هُنَا، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، أَصْبَحَ عُرْفًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ خَصَّهُمْ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ
102
[٥ ٦٠]، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [٢ ٩٠]، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [١ ٧]، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، لَمَا كَانَ بَعِيدًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى غَضَبِهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا الْخُصُوصِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٣٠ [٥٨ ١٤]، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ خَاصَّةً فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْغَرَضُ مِنْ تَخْصِيصِهَا بِهِمَا وَعَوْدَةِ ذَكَرِهِمَا بَعْدَ الْعُمُومِ الْمُتَقَدِّمِ فِي عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، كَمَا أَسْلَفْنَا هُوَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، لَمَّا نَهَى أَوَّلًا عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَأَمَرَ بِتَقْطِيعِ الْأَوَاصِرِ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، جَاءَ بَعْدَهَا مَا يُشِيعُ الْأَمَلَ بِقَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [٦٠ ٧]، وَعَادَيْتُمْ عَامَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ، وَالْمُنَافِقِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مَدْلُولٍ عَسَى تِلْكَ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِخُصُوصِهِمْ لِئَلَّا يَطْمَعَ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَنْتَظِرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَيْأَسَهُمْ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، كَيَأْسِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: بِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَابِطَةُ الرَّجَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فِي عَسَى، وَفِعْلًا كَانَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ، فَقَدْ جَعَلَ الْمَوَدَّةَ مِنْ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا الْيَهُودِ، فَهِيَ إِذًا مُؤَسِّسَةٌ لِمَعْنًى جَدِيدٍ، وَلَيْسَتْ مُؤَكِّدَةً لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
103
Icon